البحث عن يسوع المفقود
الجزء الثالث: مجئ الملكوت
آندي بانيستر، 2002
أرحب بمراستلك لي باللغة الأنجليزية على عنواني andybannister@mac.com
اقرأ المقالة السابقة في هذه السلسلة
ملخص ما سبق....
في الجزء الأول من سلسلة البحث عن يسوع المفقود بحثنا في السبب الذي يدعو المسلمين إلى اكتشاف المزيد عن يسوع التاريخي من الناصرة. فالقرآن يتضمن قدرا صغيرا من المعلومات عنه بحيث إذا شاء المسلمون أن يقولوا حقا إنهم يكرمونه ويحترمونه، فمن المهم أن يحاولوا إدراك ما يقوله التاريخ. ولما كانت حتى القراءة الخاطفة للواقع التاريخي المتعلق بيسوع الناصري تظهر أنه بلا ريب لم يعتبر نفسه مجرد واحد من سلسلة الأنبياء، فإن السؤال الحيوي بالنسبة لأي دارس للتاريخ هو: من كان يسوع في نظر نفسه؟
الجواب هو أن يسوع اعتبر نفسه أنه المسيح [المسيّا] ــ وهو لقب أقرّه الكتاب المقدس والقرآن معا. في المرة السابقة وفي الجزء الثاني من سلسلة البحث عن يسوع المفقود بحثنا في سؤال مهم يهمله المسلمون أحيانا وهو، ما معنى قولنا إن يسوع كان المسيح؟ ماذا تعني كلمة المسيح؟ ماذا كان الدور الذي رأى يسوع أن عليه أن يقوم به باعتباره المسيح؟ وماذا يعني ذلك لنا نحن اليوم؟
الآن، في الجزء الثالث من سلسلة البحث عن يسوع المفقود نتحول إلى سؤال هام آخر، وهو سؤال لا يلقى ضؤًا على هوية يسوع المسيانية فحسب، لكنه يلقى الضؤ أيضا على خدمته التي يجب عليه القيام بها؟ السؤال الحيوي هنا هو ما الذي أنجزه يسوع ؟ يجيب المسلمون بقولهم إنه كان مجرد نبي عظيم، يتكلم بما أمره الله أن يقوله لشعب إسرائيل. غير أن تعاريف المسلمين ليسوع تقصِّرٌ عن الحقيقة في كثير من الأحيان، لأنها لا تستند إلى التاريخ. ولكي يدرك المرء كيف فهم يسوع نفسه العمل الذي دعاه الله إلى القيام به يلزمه النظر إلى ناحيتين منفصلتين :
وعظ يسوع وتعليمه
تصرفاته وأفعاله
من الواضح أن المرء حين يدرس تعاليم يسوع المدونة في أناجيل العهد الجديد يبرز أمر يستأثر باهتمامه. فهناك تعبير ربما ورد على لسان يسوع أكثر من أي تعبير آخر وهو تعبير ملكوت الله. لقد أشار يسوع إلى ملكوت الله أكثر من 100 مرة، لأن الملكوت كان في نظره مفهوما هاما بصورة حيوية:
كان الجزء المركزي في تعليم يسوع هو الجزء المتعلق بملكوت الله. وهذا أمر لا يتطرق إليه الشك، وفي الواقع ما من عالم اليوم يشك فيه. وقد اتضح أن يسوع معلم ينادي بالملكوت. وكل ما عدا ذلك في رسالته وخدمته إنما كان يخدم جانبا يتعلق بتلك المناداة ويستمد معناه منها.[1]
لقد روى يسوع أمثاله الرئيسية ليشرح جوانب ملكوت الله، فأشار إلى مجيء الملكوت وتكلم عن أفعاله باعتبارها علامات الملكوت، وهلم جرًّا. فإذا أراد المسلمون أن يفهموا ما عمله يسوع وما علّمه فإن من المهم أن يستوعبوا ما قصده يسوع بهذه العبارة الغامضة. فما هو ملكوت الله؟ للإجابة عن هذا السؤال يلزمنا أن نكتشف ما الذي يقوله العهد القديم عن هذه الفكرة ـ ماذا كان يمكن أن تعنيه هذه الفكرة ليهودي عاش في القرن الأول؟
ملكوت الله في العهد القديم
يزخر العهد القديم باللغة المجازية التي اعتمد عليها يسوع كثيرا عندما تحدث عن ملكوت الله. إن الفكرة المركزية لمجمل رسالة العهد القديم هي أن الله ليس ملك إسرائيل فحسب لكنه ملك العالم أيضا:
يارب [2] إله آبائنا أما أنت هو الله في السماء وأنت المتسلط على جميع ممالك الأمم؟ وبيدك قوة وجبروت وليس من يقف معك. (2 أخبار 20: 6)
أما الرب فحق. هو إله حي وملك أبدي. من سخطه ترتعد الأرض ولا تطيق الأمم غضبه. (إرميا 10: 10)
غير أنه مثلما يتحدث العهد القديم عن الله باعتباره ملك جميع الأمم، كذلك يوجد تعليم متصل الحلقات في كتابات أنبياء العهد القديم يتحدث عن يوم يصير فيه الله ملكا. وفي حين أن الله، كما يُظهِر العهد القديم، هو بالحقيقة ملك كل أمة، فما الذي تراه إذا نظرت إلى العالم من حولك؟ إنك ترى خطيئة الإنسان وعصيانه، كبرياءه وتمرده، ترى الظلم والمرض والجوع والحرب. كان أنبياء العهد القديم يتطلعون إلى اليوم الذي يبين الله حكمه الملكي بقوة، فيرفع الجور ويعالج الظلم والخطيئة ويؤكد ملكه. من أفضل الأمثلة على ذلك ما قاله زكريا أحد أنبياء العهد القديم:
هوذا يوم للرب يأتي فيُقسَم سلبك في وسطك. وأجمع كل الأمم على أورشليم للمحاربة فتؤخذ المدينة وتنهب البيوت وتُفضَح النساء ويخرج نصف المدينة إلى السبي وبقية الشعب لا تُقطع من المدينة. فيخرج الرب ويحارب تلك الأمم كما في يوم حربه يوم القتال. وتقف قدماه في ذلك اليوم على جبل الزيتون الذي قدام أورشليم من الشرق فينشق جبل الزيتون من وسطه نحو الشرق ونحو الغرب واديا عظيما جدا وينتقل نصف الجبل نحو الشمال ونصفه نحو الجنوب. وتهربون في جواء جبالي لأن جواء الجبال يصل إلى آصل وتهربون كما هربتم من الزلزلة في أيام عزيا ملك يهوذا ويأتي الرب إلهي وجميع القديسين معك. ويكون في ذلك اليوم أنه لا يكون نور. الدراري تنقبض ويكون يوم واحد معروف للرب. لا نهار ولا ليل بل يحدث أنه في وقت المساء يكون نور. ويكون في ذلك اليوم أن مياها حية تخرج من أورشليم نصفها إلى البحر الشرقي ونصفها إلى البحر الغربي. في الصيف وفي الخريف تكون. ويكون الرب ملكًا على كل الأرض؛ في ذلك اليوم يكون الرب وحده واسمه وحده. (زكريا 14: 1-9)
وبينما راح التاريخ يطوي صفحاته كان هذا الرجاء، بأن يقوم الله بعمل درامي في التاريخ ليؤكد حكمه وملكه، يزداد في اليهودية. وبينما عانى شعب الله من صدمة السبي والعودة ثم ظلم الشعوب الأقوى منه المحيطة به، اتخذ هذا الرجاء شكله وتنقى. وتدريجيا نما اعتقاد اليهود بأن الأمور على الأرض كانت رديئة إلى حد أن الخطيئة والجور والظلم خرجت عن نطاق السيطرة حتى إذا ما تصرف الله بصورة درامية في التاريخ فإن ما سيحدث سيكون نهاية للتاريخ نفسه. ومتى جاء ملكوت الله، حسبما كان يعتقد، فسوف يكون هذا الخط الفاصل في التاريخ الإنساني. (يمكن إلى حد ما مقارنة هذه الفكرة بالاعتقاد القوي لدى المسلمين بيوم الدينونة الأخير الذي كثيرا ما يتحدث عنه القرآن . ووفقاً للاعتقاد الإسلامي عندما يحل ذلك اليوم يبلغ التاريخ الإنساني نهايته).
لقد تضمن ملكوت الله في العهد القديم اقتحام الله للتاريخ حينما يتحقق غرض الله الفدائي بتمامه. كان ملكوت الله دوما رجاءً أرضيا، مع أن الأرض ستفدى من لعنة البشر. إلا أن رجاء العهد القديم كان دوما رجاء أخلاقيا، لا تأمليا. فهو يدع نور المستقبل يضيء الحاضر. وسيقوم الله في المستقبل القريب بتخليص إسرائيل أو محاكمته... سوف يعمل الله لأجل شعبه. [3]
كان هذا الاعتقاد قويا لدى معاصري يسوع في القرن الأول كما يتضح من فحص الأدلة التاريخية التي تعود إلى تلك الحقبة، كأدراج البحر الميت، مثلا، التي كتبتها جماعة الأسينيين في قمران. هذا الاعتقاد اليهودي بسيادة ملكوت الله وبمجئ هذا الملكوت يمكن أن يلخص بما يلي:
• اعتقد يهود القرن الأول أن الله كان ملكا وحاكما ليس في إسرائيل وحدها فحسب، بل في العالم كله.
• إلا أن الجور والظلم يحدقان بشعب الله. أما في العالم على نطاق واسع فقد سادت الخطيئة والعصيان على الله في كل مكان.
• لذلك كان هناك يوم آت يقوم فيه الله بصورة درامية برفع المظالم بردّ شعبه. وبالاختصار سوف يوضع حكمه الملكي موضع التطبيق النهائي.
• متى جاء ملكوت الله لن تكون تلك نهاية الأرض بل بالأحرى سوف تتطهر الأرض من الخطية والشر. وسيحكم الله شعبه مباشرة منذ ذلك الحين فصاعدًا.
لقد وضع جورج لاد، الذي اقتبسنا عنه من قبل، مخططا يوضح أن فهم التاريخ بهذه الصورة هو موضع اهتمام بالغ في العهد القديم وفي الفكر اليهودي. ويظهر هذا المخطط كيف اعتقدت يهودية عصر يسوع بما يمكن أن يوصف ب: دهرين؛ هذا الدهر الذي يتصف بالشر والخطية والألم، والدهر الآتي الذي سيحل عندما يأتي ملكوت الله بقوة.
علامات الملكوت
رأينا كيف كانت اليهودية المعاصرة ليسوع تتطلع إلى اليوم الذي يُحْدِثُ فيه الله تغييرا حاسما في التاريخ، حين يمارس ملكه على نحو درامي. لكنه لم يكن رجاءً غامضا غير محدد خاليا من المعنى ـ لقد فهم اليهود الذين عاصروا يسوع ما سيستلزمه هذا الملكوت. لقد وجدوا تلك المعلومات حقائق في كتابات أنبياء العهد القديم، وعبروا عن رجائهم بما كتبوه هم. إن واحدا من أثمن الاكتشافات التي أطلعتنا على المزيد من تاريخ القرن الأول هو اكتشاف الدّرجات [اللفائف] في منطقة البحر الميت في أربعينيات القرن العشرين. كانت تلك نسخا من العهد القديم ومن كتابات دونتها جماعة من شيعة يهودية عرفت باسم الأسينيين، وهم جماعة انفصالية راديكالية عاشت منعزلة في الصحراء في منطقة قمران في الوقت الذي عاش فيه يسوع تقريبا. ونظرا إلى أن الكثير من كتاباتهم قد حُفِظت، فقد زودت المؤرخين [4] بنافذة فريدة أخرى يطلون منها عى آمال وعقائد اليهود الذين عاصروا يسوع.
فيما يلي قطعة من مخطوطة من قمران تعطينا تبصرا في بعض الآمال الكبيرة التي كان اليهود في زمن يسوع يعلقونها على مجيء ملكوت الله، وهو حدث ربطته جماعة قمران بوضوح بعمل المسيّا:
السموات والأرض ستصغي إلى مسيّا الله،
وما من أحد في ذلك المكان سيضل عن وصايا القديسين.
يا طالبي الرب تشددوا في خدمته!
يا جميع الراجين في قلوبـ (كم) ألن تجدوا الرب في هذا؟
لأن الرب سينظر إلى الأتقياء ويدعو الأبرار بأسمائهم.
سوف يرفرف روحه على المساكين وسوف يجدد الأمناء بقوته.
وسوف يمجد الأتقياء على عرش ملكوته الأزلي.
هو الذي يحرر الأسرى ويرد البصر إلى العمي، ويقوّم المنحنـ (ين)
وإلى الأبد سألتصق بالراجيـ [ن] وفي رحمته.
ولن يتأخر الثمر لأي واحد.
وسينجز الرب أعمالا مجيدة لم تكن من قبل فيما [هو]..
لأنه سيشفي الجرحى ويحي الموتي ويبشر
المساكين فيما [هو].. (4 Q521)
لاحظ بعض الأفكار الرئيسية.... العمي سيبصرون والمساكين سيمتلئون من روح الله، الجرحى سيبرأون، والموتى سيقومون والمساكين سيمنحون رجاء و يُبَشّرون. رسالة الرجاء والتوقع هذه لم يخترعها يهود القرن الأول ولكنها أُخِذت من أنبياء العهد القديم. فنجد أنبياء كأشعياء الذي تنبأ قائلا:
روح السيد الرب علي
لأن الرب مسحني لأبشر المساكين
أرسلني لأعصب منكسري القلوب،
لأنادي للمسبيين بالعتق
وللمأسورين بالإطلاق
لأنادي بسنة مقبولة للرب
وبيوم انتقام لإلهنا؛
لأعزي كل النائحين،
لأجعل لنائحي صهيون ـ لأعطيهم جمالا عوضا عن الرماد،
ودهن فرح عوضا عن النوح.
ورداء تسبيح عوضا عن الروح اليائسة؛
فيُدْعَوْن أشجار البر،
غرس الرب للتمجيد. (أشعياء 61: 1-3)
حينئذ تتفقح عيون العمي وآذان الصم تتفتح،
حينئذ يقفز الأعرج كالأُيل ويترنم لسان الأخرس.
لأنه قد انفجرت في البرية مياه وأنهار في القفر.
ويصير السراب أجما والمعطشة ينابيع ماء.
في مسكن الذئاب في مربضها دار للقصب والبردي.
وتكون هناك سكة يقال لها الطريق المقدسة.
لا يعبر فيها نجس بل هي لهم، من سلك في الطريق حتى الجهال لا
يضل.
لا يكون هناك أسد. وحش مفترس لا يصعد إليها؛
لا يوجد هناك، بل يسلك فيها المفديون.
ومفديو الرب يرجعون ويأتون إلى صهيون بترنم؛
وفرح أبدي على رؤوسهم.
ابتهاج وفرح يدركانهم، ويهرب الحزن والتنهد. (اشعياء 35: 5-10)
كان هذا إذًا الرجاء الذي يضطرم في قلوب معاصري يسوع في فلسطين في القرن الأول. كانوا يؤمنون بالله الذي عمل بصورة درامية في التاريخ فيما مضى وسوف يعمل مرة أخرى في المستقبل. وبالرغم من ظلم الحكم الروماني التصقوا بإيمانهم بملكوت الله الآتي. إن التحدث عن ملكوت الله الآتي هو التحدث عن ...
عَمَلِ إله العهد، خلال تاريخ إسرائيل، ليرد إسرائيل إلى الصلاح، وليضع نهاية لحقبة الظلم المرة وليدحر، عن طريقها الشر الذي يسود العالم. هذا الرد لإسرائيل، الذي كان يحتفل به في الطقو س [كالمزامير]، هو جزء من معنى صيرورة إلهها ملكا. وإسرائيل ذاتها هي الشعب الذي سيحكم الله من خلاله. [5]
قبالة هذه الخلفية علّم يسوع وخدم. وعندما تكلم يسوع عن "ملكوت الله" مرة بعد مرة، كان هذا أول ما أثاره حديث يسوع في أذهان سامعيه. ولكن السؤال التالي هو: هل علّم يسوع شيئا جديدا حول ملكوت الله؟ أم أنه آمن بالضبط بما آمن به معاصروه تماما؟ عندما ينظر المرء بعمق إلى ما قاله يسوع عن هذا الموضوع الحيوي، نجد أن يسوع كان فريدا في موقفه منه مثلما كان فريدا في موقفه من أمور أخرى.
يسوع وملكوت الله
الأمر الجديد في تعليم يسوع عن ملكوت الله لم يكن مضمونه ـ حيث تكلم عن الغفران والشفاء ورد شعب الله. ليس الأمر كذلك. الأمر الجديد الذي جاء به يسوع يتمثل في ناحيتين هما: الوسيلة التي سيأتي ملكوت الله عن طريقها وتوقيت مجيء هذا الملكوت. فقد اختلفت نظرته إلى هاتين الناحيتين اختلافا جذريا عن نظرة معاصريه في القرن الأول.
الوسيلة التي سيأتي ملكوت الله عن طريقها
رأينا كيف أن يهود القرن الأول عرفوا أن ملكوت الله آتٍ. فليس السؤال هوما إذ ا كان الله سيقوم بعمل درامي في التاريخ، وإنما كيف سيتم ذلك وعن طريق من؟ كانت الحركات المسيانية منتشرة في القرن الأول وفي حين أن المسيحيين والمسلمين يوافقون على أن يسوع هو المسيا (المسيح) [6] فقد وُجِدَ في فلسطين كثيرون ممن رشحوا أنفسهم ليكونوا المسيح. واختلفت المجموعات اليهودية اختلافا شديدا بشأن الوسيلة التي سيأتي ملكوت الله عن طريقها.
• جماعة الأسينيين في قمران التي التقينا بها من قبل، وقد اعتقدت أن بقية العالم شرير وفاسد تماما. فالطريقة الوحيدة على الإطلاق التي تجعل الملكوت يأتي هي بأن ينسحب الأبرار تماما ويقللوا من اختلاطهم بهذا العالم جهد استطاعتهم. ولهذا أقامت جماعتهم بعيدا في الصحراء بانتظار ما سيفعله الله بصورة مؤكدة.
• مجموعات أخرى كهيرودس والطبقة الأرستقراطية الحاكمة. وقد جربت هذه المجموعات طريق الحل الوسط. فعملت مع الحكام الرومان محاولة أن تحافظ على علاقة سلمية بين الأسياد الرومان وجماهير الفلاحين، آملة في أن يقوم الله بعمل ويبارك جهودها السياسية الحميدة.
• الخيار الثالث، خيار الحرب الذي أيدته مجموعات، كمجموعة الغيورين ومجموعة السيكاري . وشعارهم : صلوا بقوة، اشحذوا سيوفكم واستعدوا لخوض الحرب المقدسة ضد الرومان الظالمين وضد المتعاونين معهم. لقد آمنت هذه المجموعات بأن الله سيمنحها الظفر الحربي على أعدائها وهكذا يأتي ملكوته. [7]
غير أن يسوع، بالمقابل، رفض تلك الخيارات الشعبية الثلاثة. وفي حين أنه شارك في الرأي القائل بأن المجتمع المعاصر كان خاطئا وشريرا فإنه لم يعتقد بأن الطريق لمعالجة ذلك الوضع ستكون بالانسحاب. بالحقيقة كان خصوم يسوع مغرمين بمهاجتمه بسبب عادته في الاختلاط مع منبوذي المجتمع:
وأما الكتبة والفريسيون فلما رأوه يأكل مع العشارين والخطاة قالوا لتلاميذه " ما باله يأكل ويشرب مع العشارين والخطاة". فلما سمع يسوع قال لهم :"لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى، لم آت لأدعو أبرارا بل خطاة إلى التوبة". (مرقس 2: 16-17).
وسأله واحد من الفريسيين أن يأكل معه، فدخل بيت الفريسي واتكأ. وإذ امرأة في المدينة كانت خاطئة إذ علمت أنه متكىء في بيت الفريسي جاءت بقارورة طيب، ووقفت عند قدميه من ورائه باكية وابتدأت تبل قدميه بالدموع وكانت تمسحهما بشعر رأسها وتقبل قدميه وتدهنهما بالطيب. فلما رأى الفريسي الذي دعاه ذلك تكلم في نفسه قائلا "لو كان هذا نبيا لعلم من هذه المرأة التي تلمسه وما هي، إنها خاطئة". فأجاب يسوع وقال له "يا سمعان عندي شيء أقوله لك." فقال "قل يا معلم"، "كان لمُداين مدينونان. على الواحد خمسمئة دينار وعلى الآخر خمسون. وإذ لم يكن لهما ما يوفيان سامحهما جميعا. فقل أيهما يكون أكثر حبا له ؟ " فأجاب سمعان وقال : "أظن الذي سامحه بالأكثر." فقال : "بالصواب حكمت" ثم التفت إلى المرأة وقال لسمعان: "أتنظر هذه المرأة؟ إني دخلت بيتك وماء لأجل رجلي لم تعط. وأما هي فقد غسلت رجلي بالدموع ومسحتهما بشعر رأسها. قبلة لم تقبلني وأما هي فمنذ دخلت لم تكف عن تقبيل رجلي. بزيت لم تدهن رأسي أما هي فقد دهنت بالطيب رجلي. من أجل ذلك أقول لك قد غفرت خطاياها الكثيرة لأنها أحبت كثيرا. والذي يغفر له قليل يحب قليلا" ثم قال لها "مغفورة خطاياك" فابتدأ المتكئون معه يقولون في أنفسهم: "من هذا الذي يغفر خطايا أيضا؟" (لوقا 7: 36-49).
ربما كان خيار "الحرب المقدسة" للتعجيل بمجيء ملكوت الله أكثر الخيارات شعبية في ذلك الوقت. وكان يُنظَر إلى قادة الثوار كأبطال شعبيين، يلقون الدعم على نطاق واسع من عامة الشعب. مع ذلك نجد أن يسوع نأى بنفسه عن فكرة استخدام العنف والثورة للتعجيل بملكوت الله. ومثلما كان يسوع صريحاً بشأن موضوعات أخرى كان صريحا تجاه هذا الموضوع.
"سمعتم أنه قيل، ’عين بعين وسن بسن‘. أما أنا فأقول لكم، ’لا
تقاوموا الشر. بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخرأيضا. ومن أراد أن يخاصمك
ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضا. ومن سخّرك ميلا واحدا فسر معه اثنين."
سمعتم أنه قيل للقدماء ’تحب قريبك وتبغض عدوك‘. أما أنا فأقول
لكم أحبوا أعداءكم و صلوا لأجل الذين يضطهدونكم". (متى 5: 38-39، 41، 43-44)
كان من الواضح جدا لأي إنسان عاش في فلسطين خلال القرن الأول وسمع العظة على الجبل أن يدرك من الذي عناه يسوع. فهو واحد من أولئك الأشخاص الذين يحتمل أن يسخروك ميلا واحدا ـ إنه الجندي الروماني. لقد كان جنود القوة المحتلة على نحو منتظم يسخرون الشبان اليهود ليحملوا لهم متاعهم الثقيل، فلا عجب أن ينتشر الحديث عن الثورة إذ لم تكن مسألة التسخيرهذه سوى واحدة من بين عدة إهانات. إلا أن يسوع لم يقف في صف قضية الثورة. ولم يطلق أي صرخة لحشد القوى للحرب المقدسة، لكنه بالأحرى أعطى تعليما صعبا يدعو إلى محبة الأعداء والصلاة لأجلهم. ونظرته إلى الحرب وسفك الدم على الخصوص مشهورة:
وفيما هو يتكلم إذا يهوذا أحد الاثني عشر قد جاء ومعه جمع كثير بسيوف وعصي من عند رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب. والذي اسلمه أعطاهم علامة قائلا "الذي أقبله هو هو. أمسكوه." فللوقت تقدم إلى يسوع وقال: "السلام يا سيدي" وقبله. فقال له يسوع "يا صاحب لماذا جئت؟ " حينئذ تقدموا وألقوا الأيادي على يسوع وأمسكوه. وإذا واحد من الذين مع يسوع مد يده واستل سيفه وضرب عبد رئيس الكهنة فقطع أذنه. فقال له يسوع "رد سيفك إلى مكانه. لأن كل الذين يأخذون بالسيف بالسيف يهلكون" (متى 26: 47-52)
فإذا كان يسوع قد رفض الخيارين الشعبيين، خيار الثورة العنيفة أو خيار الانسحاب التام ، فماذا اعتقد بشأن الكيفية التي سيقتحم بها ملكوت الله التاريخ؟ كيف سيُسْكَبُ التحرير والغفران والشفاء والرجاء على شعب الله ومن ثم على العالم على نطاق واسع؟ اعتقد يسوع ببساطة أن ملكوت الله سوف يقتحم التاريخ ليس عن طريق الحرب وليس عن طريق الانسحاب بل عن طريقه هو.
وبعدما أٌسلم يوحنا جاء يسوع إلى الجليل يكرز ببشارة ملكوت الله ويقول قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله فتوبوا وآمنوا بالانجيل. (مرقس 1: 14-15)
يعلق جورج بيسلي موراي على هذه الآية قائلا:
ثمة سلسلة كاملة من أقوال يسوع تجبرنا على أن نفسر هذه الآية باعتبارها إعلان استهلال ملكوت الله من خلال حضور يسوع وكلمته وأعماله كأداة للملكوت... كثير من أفعال يسوع تشير إلى اقتحام ملكوت الله من خلال فعله وكلمته الملوكية. [8]
سنفحص في هذه العجالة بعض الأمثلة عن "سلسلة الأقوال" التي يشير إليها جورج بيسلي موراي. لقد أظهر يسوع على نحو متسق أنه اعتقد بأن ملكوت الله سيأتي خصوصا ضمن تعليمه وخدمته وعجائبه. فهو لم يكن مجرد نبي يعلن كجميع أولئك الأنبياء الذين جاءوا قبله بأن ملكوت الله آت في يوم من الأيام وأن آمال إسرائيل ستبلغ أوجها في آخر الأمر ـ لكن يسوع بالأحرى أعلن أن ملكوت الله يقتحم التاريخ الآن في شخصه هو. فبوسعك أن ترفضه وترفض الملكوت، أو تقبله وتقبل الملكوت.
حينئذ أتي إليه تلاميذ يوحنا قائلين "لماذا نصوم نحن والفريسون
كثيراً وأما تلاميذك فلا يصومون؟"
فقال لهم يسوع "هل يستطيع بنو العرس أن ينوحوا ما دام العريس
معهم؟ ولكن ستأتي أيام حين يٌرفع العريس عنهم فحينئذ يصومون." (متى 9: 14-15)
الفكرة التي يشير إليها يسوع هي أن الصيام هو لأولئك الذين ينتظرون مجيء ملكوت الله، لكنه ليس لائقا بمن جلب هذا الملكوت بالفعل.
وسأله رئيس قائلا "أيها المعلم الصالح، ماذا أعمل لأرث الحياة
الأبدية؟" فقال له يسوع "لماذا تدعوني صالحا؟ ليس أحد صالحا إلا واحد وهو الله. أنت
تعرف الوصايا: ’لا تزن لا تقتل لا تسرق لا تشهد بالزور، أكرم أباك وأمك.‘"
فقال "هذه كلها حفظتها منذ حداثتي."
فلما سمع يسوع ذلك قال له "يعوزك أيضا شيء. بع كل مالك ووزع
على الفقراء فيكون لك كنز في السماء وتعال اتبعني."
فلما سمع هذا الرجل ذلك حزن لأنه كان غنيا جدا.
فلما رآه يسوع قد حزن قال: "ماأعسر دخول ذوي الأموال إلى ملكوت
الله! لأن دخول جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله."
فقال الذين سمعوا، "فمن يستطيع أن يخلص؟ "
فقال "غير المستطاع عند الناس مستطاع عند الله." (لوقا 18: 18-27)
مرة أخرى نرى أن الموضوعات الرئيسية في كرازة يسوع وفي تعليمه تسير جنبا إلى جنب ـ فالدخول إلى ملكوت الله يرتبط باتباع يسوع. لقد عُرِضت على الرئيس الشاب الغني فرصة اتباع يسوع والدخول إلى الملكوت؛ لكن غناه الوافر أمسكه عن الدخول. فما يعنينا هنا ليس موضوع الغنى، ولكن اللافت بالأحرى هو الطريقة التي ادعى بها يسوع أنه ليس الوحيد الذي يجلب الملكوت فحسب ولكنه أيضا الوحيد الذي يتحكم في الدخول إليه.[9]
وكان يُخرِج شيطانا وكان ذلك أخرس. فلما أُخرِج الشيطان تكلم
الأخرس فتعجب الجموع. وأما قوم منهم فقالوا، "ببعلزبول رئيس الشياطين يخرج
الشياطين. " وآخرون طلبوا منه آية من السماء يجربونه.
فعلم يسوع أفكارهم، وقال لهم، "كل مملكة منقسمة على ذاتها تُخرب.
وبيت منقسم على بيت يسقط. فإن كان الشيطان ينقسم على ذاته فكيف تثبت مملكته؟ لأنكم
تقولون إني ببعلزبول أُخرِج الشياطين. فإن كنت ببعلزبول أخرج الشياطين فأبناؤكم
بمن يخرجون؟ لذلك هم يكونون قضاتكم. ولكن إن كنت أنا بإصبع الله أخرج الشياطين فقد
أقبل عليكم ملكوت الله." (لوقا 11: 14-20)
هنا يقرن يسوع خدمته بمجيء ملكوت الله على نحو بيّن، فالأمران لا ينفصلان. وهذا لا يجعل يسوع فريدا بين معاصريه في القرن الأول فحسب، ولكنه يجعل منه شخصية فريدة في التاريخ. لقد تكلم أنبياء العهد القديم مرة بعد أخرى عن الوقت الذي سيقتحم فيه ملكوتُ الله التاريخَ ـ أما يسوع فذهب إلى أبعد من ذلك بكثير، مدعيا أن ذلك الرجاء العظيم قد تحقق به [يسوع].
اعتقد يسوع بوضوح أن شيئا جديدا على نحو درامي كان يحدث مرافقا لما كان هو يقوم به. لقد انتهت أيام الاستعداد؛ وراح إله اسرائيل يعمل الآن بالطريقة التي وعد بها منذ القديم.[10]
توقيت الملكوت
رأينا سابقا كيف أن معظم اليهود في زمن يسوع كانوا يفكرون على أساس "دَهْرَيْنِ" ـ دهر حاضر شرير، ملئ بالخطيئة والظلم الذي يعاني منه شعب الله على أيدي أعدائهم، ودهر مجيد في المستقبل عندما يقتحم الله التاريخ، ويزيل كل المظالم وينهي الألم ويبرئ شعبه. كان ذلك أمرا يتطلع إليه اليهود أيضا، لأنهم نظروا إلى ملكوت الله باعتباره أمرا سيحدث في المستقبل. فإذا جاء فستكون تلك نهاية التاريخ كما نعرفه. وهو مفهوم يشبه يوم الدين في التفكير الإسلامي. مع ذلك نرى مرة أخرى أن يسوع اختلف بشأن هذه الفكرة عن معاصريه. فقد أفاد في تعليمه أن ملكوت الله ليس ساكنا في مرحلة بعيدة في التاريخ، بل كان يقتحم التاريخ على نحو درامي في ذلك الزمان والمكان.
[قال يسوع لتلاميذه] "ولكن طوبى لعيونكم لأنها تبصر. ولآذانكم لأنها تسمع. فإني الحق أقول لكم؛ إن أنبياء وأبرارا كثيرين اشتهوا أن يروا ما أنتم ترون ولم يروا وأن يسمعوا ما أنتم تسمعون ولم يسمعوا." (متى 12: 16-17)
لم يكن يسوع مجرد شخص يشير إلى أمر أعظم سوف يأتي لكنه كان هو نفسه بالأحرى مَنْ جاء فعلا بالملكوت. وهذه الحقيقة تتضح في مواضع أخرى من الأناجيل.
أما يوحنا فلما سمع في السجن بأعمال المسيح أرسل اثنين من
تلاميذه . وقال له "أنت هو الآتي، أم ننتظر آخر؟"
أجاب يسوع وقال لهما "اذهبا وأخبرا يوحنا بما تسمعان وتنظران.
العمي يبصرون والعرج يمشون والبرص يطهّرون والصم يسمعون والموتى يقومون والمساكين
يبشرون." (متى 11: 2-5)
إنك الآن تميز بعضا من قائمة العجائب التي استخدمها يسوع ليشرح لتلميذي يوحنا ما الذي كان يفعله – العمي يبصرون والموتي يقومون وهلم جرّا. كانت هذه بعض الأمور التي وُعِدَ في العهد القديم بأنها سوف تميّز مجيء ملكوت الله. لم ينظر يسوع إلى ملكوت الله باعتباره أمرا مستقبليا على نحو صرف، بل باعتباره حقيقة ملموسة في حينه وواقعية جدا.
ولما سأله الفريسيون متى يأتي ملكوت الله، أجابهم وقال "لا يأتي ملكوت الله بمراقبة؛ ولا يقولون،’هوذا ههنا أو هوذا هناك‘ لأن ها ملكوت الله في داخلكم." (لوقا 17: 21-22)
اعتبر يسوع أن ملكوت الله كان يقتحم التاريخ عن طريق خدمته وتعليمه. وخلافا لأي نبي سبقه، لم يتكلم يسوع عن الملكوت كحقيقة مستقبلية صرفة، كرجاء يُلتصَقُ به ويشتاق إليه. لكنه بالأحرى رأى أن ملكوت الله يقتحم التاريخ من خلاله هو. فالمرض والموت والخطية والألم وقوة الشر ـ كلها أمور اعتبرها يسوع مهزومة وخاضعة له باعتباره مُفتَتِحَ ملكوت الله. فأمثال يسوع واحدٌ تلو الآخر تتحدث عن طبيعة هذا الملكوت، وعن الطريقة التي جاء بها، برغم توقعات الجمهور، فلم يأت ملكوت الله بانفجارات درامية تشق عنان السماء، بل جاء بهدؤ. لقد اعتقد يسوع أنه آذن بملكوت الله، وأن طبيعة هذا الملكوت هي أن ينمو ببطء وبهدوء بين أولئك الذين كانوا أتباعه الأمناء.
وقال يسوع "هكذا ملكوت الله كأن إنسانا يلقي البذار على الأرض
وينام ويقوم ليلا ونهارا والبذار يطلع وينمو وهو لا يعلم كيف. لأن الأرض تأتي من
ذاتها بثمر. أولا نباتا ثم سنبلا ثم قمحا ملأن في السنبل. وأما متى أدرك الثمر
فللوقت يرسل المنجل لأن الحصاد قد حضر."
وقال "بماذا نشبه ملكوت الله أوبأي مثل نمثله؟ مثل حبة خردل متى
زرعت في الأرض فهي أصغر جميع البذور التي على الأرض. ولكن متى زرعت تطلع وتصير أكبر من
جميع البقول وتصنع أغصانا كبيرة حتى تستطيع طيورالسماء أن تتآوى تحت ظلها. " (مرقس
4: 26-32)
علّم يسوع باستمرار أن ملكوت الله كان حقيقة ماثلة، وعمل على إظهار أنه يعمل الآن وبيّن بأعمال القوة ــ الشفاء والعجائب وإخراج الأرواح الشريرة ــ أن الملكوت كان حاضرا الآن. نرى الملكوت أيضا في تقديمه الغفران لمنبوذي المجتمع، واستعداده لتناول الطعام مع الخطاة وتحديه للسلطة الدينية في أيامه. ومن ناحية ثانية مضى يسوع إلى أبعد من ذلك:
فالملكوت يُرى في يسو ع وعن طريقه. كان يسوع من الجرأة بحيث أعلن أنه هو الذي كان يعلن اقتراب الملكوت، وليس الآخرون. وسواء أراد المرء أن يسمي هذا تمركزا حول الذات أو سمّاه علم المسيح الأولي فهذا أمر خارج عن الموضوع؛ لقد اعتقد يسوع بصورة ثابتة أنه هو المعيّن من الله ليعلن اقتراب الملكوت. [11]
مع ذلك فإن الاعتقاد بأن يسوع اعتبر أن ملكوت الله كان بكليته في الحاضر هو إفراط في التبسيط يؤدي إلى سؤ فهم. لقد قدّم يسوع أيضا بعض التعليم الواضح حول المظاهر المستقبلية لملكوت الله. مثال ذلك:
1. اعتبر يسوع أن موته وقيامته يلعبان دورا حاسما في كشف ملكوت الله (سوف يغطى موضوع موت المسيح في جزء آخر من هذه السلسلة ينشر في المستقبل، ولكن يكفي في هذه المرحلة أن نشير إلى النصوص العديدة التي يتنبأ يسوع فيها عن آلامه وموته على يد أعدائه؛ على سبيل المثال متى 12: 40؛ 20: 18؛ 27: 63؛ مرقس 8: 31؛ 9: 31؛ 10: 33-34؛ لوقا 9: 22؛ يوحنا 2: 19-22).
2. علّم يسوع تلاميذه أن يسهروا وينتظروا علامات ملكوت الله الذي يقترب من اكتماله:
[قال يسوع] "وتكون علامات في الشمس والقمر والنجوم. وعلى الأرض
كرب أمم بحيرة . البحر والأمواج تضج،
والناس يغشى عليهم من خوف وانتظار ما يأتي على المسكونة؛ لأن
قوات السموات تتزعزع.
وحينئذ يبصرون ابن الانسان آتيا في سحابة بقوة ومجد كثير. ومتى
ابتدأت هذه تكون فانتصبوا وارفعوا رؤوسكم لأن نجاتكم تقترب."
وقال لهم مثلا: "انظروا إلى شجرة التين وكل الأشجار؛ متى أفرخت
تنظرون وتعلمون من أنفسكم أن الصيف قد قرب. هكذا أنتم أيضا متى رأيتم هذه الأشياء
صائرة فاعلموا أن ملكوت الله قريب." (لوقا 21: 25-31)
3. تطلع يسوع إلى وقت ما في المستقبل حيث سيشارك الذين تبعوه في منافع الملكوت الذي كان بصدد افتتاحه:
وكانت بينهم أيضا مشاجرة من منهم يظن أنه يكون أكبر. فقال لهم "ملوك الأمم يسودونهم والمتسلطون عليهم يدعون محسنين. أما أنتم فليس هكذا. بل الكبير فيكم ليكن كالأصغر. والمتقدم كالخادم. لأن من هو أكبر، الذي يتكئ أم الذي يخدم؟ أليس الذي يتكئ؟ ولكني بينكم كالذي يخدم. أنتم الذين ثبتوا معي في تجاربي؛ وأنا أجعل لكم ملكوتا كما جعل لي أبي ملكوتا، لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي وتجلسوا على كراسيّ تدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر." (لوقا 22: 24-30)
4. رفض يسوع أن يظهر لتلاميذه متى بالضبط سيأتي ملكوت الله بتمامه أخيرا – باختصار متى يقع يوم الدينونة. وقد حاول التلاميذ بأستمرار أن يستخلصوا منه هذه المعلومة:
أما هم المجتمعون فسألوه قائلين "يا رب هل في هذا الوقت ترد
الملك لإسرائيل؟"
قال لهم يسوع "ليس لكم أن تعرفوا الأوقات والأزمنة التي جعلها
الآب في سلطانه. لكنكم ستنالون قوة متى حل الروح القدس عليكم؛ وتكونون لي شهودا في
أورشليم وفي كل اليهودية والسامرة وإلى أقصى الأرض." (أعمال 1: 6-8)
فكيف نستطيع أن نلخص ما علمه يسوع عن الجدول الزمني للملكوت؟ مهما فكرنا بشأن يسوع والملكوت – ونظرا إلى أن الملكوت كان أكثر أمر علم عنه يسوع بانتظام، كما رأينا من قبل، ومن المهم بالنسبة للمسلمين أن يبدأوا في التفكير فيه ـ فإنه من المهم الاعتقاد بهذه العناصر المستقبلية والحاضرة.
لقد قدم جورج لاد مخططا آخر ليوضح وجهة نظر يسوع، بدلا من النمط التقليدي اليهودي ذي الدهرين الذي صادفناه من قبل: [12]
اعتقد يسوع بوضوح أنه كان يفتتح ملكوت الله الموعود منذ زمن طويل. وأن الدخول إليه كان محددا بكيفية استجابة الانسان له، وأن الذين دخلوا إليه وتمتعوا بالحياة الأبدية في ملكوت الله عندما جاء أخيرا بكل روعته وبهائه هم الذين تبعوه. لقد اقتحم الملكوت التاريخ الآن. وكانت الاستجابة ليسوع الآن أمرًا مُلحًا، إلا أن الملكوت سوف يكمِّل نهائيا اقتحامه للتاريخ في المستقبل، عند مجئ يسوع ثانية.
قال يسوع "انسان صنع عشاء عظيما ودعا كثيرين. وأرسل عبده في
ساعة العشاء ليقول للمدعوين ’تعالوا؛ لأن كل شيء قد أُعد‘. فابتدأ الجميع برأي واحد
يستعفون. قال له الأول، ’إني قد اشتريت حقلا وأنا مضطر أن أخرج وأنظره. أسالك أن
تعفيني.‘
وقال آخر ’إني اشتريت خمسة أزواج بقر وأنا ماض لأمتحنها؛ أسالك
أن تعفيني.‘
وقال الثالث ’إني تزوجت بامرأة فلذلك لا اقدر أن أجيء‘
فأتى ذلك العبد وأخبر سيده بذلك. حينئذ غضب رب البيت وقال لعبده
’اخرج إلى شوارع المدينة وأزقتها وأدخل إلى هنا المساكين والجدع والعرج والعمي.‘
فقال العبد ’يا سيد قد صار كما أمرت ويوجد أيضا مكان‘
فقال السيد للعبد ’اخرج إلى الطرق والسياجات وألزمهم بالدخول
حتى يمتلئ بيتي. لإني أقول لكم إنه ليس واحد من أولئك الرجال المدعوين يذوق عشائي‘"
(لوقا 14: 16-24)
كانت رسالة يسوع واضحة ومباشرة في هذا المثل وفي أمثال أخرى مشابهة. ويستطيع المرء أن يلخص ذلك بما يلي:
كان من الصعب أن يفوت زخمُ المثل جمهورَ مستمعي يسوع. كان يسوع يقول لهم، إن مسيا الله هنا. وهو يدعوكم إلى وليمة يوم الخلاص المسيانية. الوليمة الآن جاهزة. فلا ترفضوا! لأنكم إن فعلتم ذلك (بتقديم أعذاركم التي تدعو للسخرية) فسيملأ الآخرون من منبوذي اسرائيل مكانكم، و(في المستقبل) ستوجه الدعوة إلى الأمم. سوف تقدم الوليمة بدونكم. إنها لن تلغى ولن تؤجل. لقد انبلج [ملكوت الله]. فاستجيبوا لدعوة الاشتراك في خلا ص الله. [13]
ربما كان قراء اليوم يواجهون سؤالا مشابهًا: "ما الأعذار الواهية التي ربما أضعها تجاه دعوة يسوع لي للاشتراك في ملكوت الله؟ " إنني أرجو وأصلي لأجلك وأنت تقرأ هذه السلسلة من المقالات أن تقودك قراءتُها إلى التفكير من جديد بيسوع التاريخي، اليهودي بلحمه ودمه الذي عاش في القرن الأول وكرز وعلم وبيّن بكلامه وأعماله قوة ملكوت الله، كي لا يكون العذر، الذي يمنعك من التمتع بالوليمة المسيانية التي يدعو يسوع إليها كل من يتبعونه، هو قولك: "إن فكرتي عن يسوع لا تتعدى قط ما تقوله عنه الشواهد القليلة الواردة في القرآن"، كما أرجو أن يكون لك نصيب في الوليمة يوم الخلاص عندما يقتحم ملكوت الله بكل قوته مسرح التاريخ.
خلاصة
لكي تفهم يسوع الناصري التاريخي يلزمك أن تفهم كرازته بملكوت الله، التي كانت جزءا مركزيا في رسالته. لقد علم يسوع أن الملكوت كان يقتحم التاريخ الآن عن طريق خدمته، وإن الانسان يستطيع أن يدخل ذلك الملكوت باتباع يسوع.
في مناداته بملكوت الله كان يسوع يقف بقوة على أرضية العهد
القديم. وكان في الوقت نفسه ينادي بموضوع جعل كل قلب يهودي يخفق. إلا أن يسوع أخذ
هذا المفهوم وحوله من رجاء وطني ضيق الأفق إلى نظام روحي عالمي، يجد فيه الجنس
البشري إتماما لذروة أشواقه إلى البر والعدالة والسلام والسعادة والتحرر من الخطية
والشعور الذنب، واستعادة علاقته مع الله. فإذا سملنا بأن مشكلة الانسان الأساسية
التي هي خطيئته واغترابه عن الله، حقيقية اليوم كما كانت دائما، وجب أن تكون رسالة
ملكوت الله ذات دلالة عظيمة اليوم مثلما كانت دائما.
هذا يثير مرة أخرى أسئلة خطيرة لدى المسلمين عندما يفكرون في يسوع، ولا سيما على ضؤ ما يقوله القرآن عنه. وحتى لو نحينا جانبا مسألة علاقة يسوع بالله – وهي سؤال يشغل لب النقاش بين المسيحيين والمسلمين – فيسوع التاريخي لا يمكن مطلقا أن يطابق الحيز الذي يخصصه القرآن له. فلقب "نبي عادي" لا يلائم أبدا مكانة يسوع، فقد اعتبر نفسه أعظم من ذلك ، بل أعظم من ذلك بما لا يقاس. وقد رأينا فيما سبق من هذه السلسلة كيف أن يسوع لم يعتقد بأن نبيا مستقبليا كمحمد سوف يأتي من بعده، فإذا فهمت ما معنى أن تطلق لقب "المسيح" على يسوع، فإنك لن تستطيع أن تعتقد بأن ثمة بعد حاجة إلى أي نبي مستقبلي كمحمد. مرة أخرى نواجه هذه المسألة: يمكنك أن تلتصق بيسوع وتعاليمه وكرازته أو يمكنك أن تلتصق بمحمد. ولكنك لا تستطيع أن تلتصق بهما كليهما، فهما ضدان لا يتفقان.
لقد ادعى يسوع الناصري التاريخي أن ملكوت الله كان يقتحم التاريخ وأن الانسان يستطيع أن يتبعه فيكون جزءا من ذلك الملكوت. ومع الملكوت يأتي الوعد بغفران الخطايا، وبكسر قوة الخطيئة والشر، والوعد برجاء بعد الموت في العيش في ملكوت الله في النهاية. بوسع الإنسان أن يقبل يسوع ورسالته، أو أن يكون كأولئك الذين قدموا الأعذار الواهية في المثل، فيرفض رسالة يسوع وبذلك لا يكون له نصيب في ملكوت الله في يوم الخلاص المجيد.
انضم إلينا في شهر تموز (يوليه) لتطلع على الجزء الرابع من سلسلة البحث عن يسوع المفقود حيث سنبحث في موضوع موت يسوع. ما الأدلة التاريخية على موت يسوع الناصري على صليب روماني حوالى عام 30 م؟ ماذا اعتقد يسوع بشأن ما سينجزه موته؟ لماذا أراد أعداؤه أن يقتلوه؟ المزيد من ذلك سينشر في موقع الرد على الإسلام قريبا.
البحث عن يسوع المفقود سلسلة جديدة منتظمة على موقع الرد على الإسلام سأحاول أن أقدم مقالات جديدة ضمن هذه السلسلة بمعدل مقالة واحدة كل 8 أسابيع. في غضون ذلك إن كانت لديك أسئلة أو تعليقات، أرجو ان تشعر بملء الحرية في مراسلتى باللغة الأنجليزية على عنواني andybannister@mac.com ومع أنني مشغول جداً وقد لا أتمكن من الرد على رسالتك مباشرة، لكنني دوما سأرد على أي رسائل ألكترونية بأسرع ما يمكنني ذلك. شكراً لأجل قراءتك للمقال وأصلي إلى الله ليقودك بينما تسعى إلى دراسة واكتشاف المزيد عمن كان يسوع حقاً.
تذييلات ومراجع
1. John P. Meier, A Marginal Jew (Volume 2) : Mentor, Message, and Miracles (New York: Doubleday, 1994) p237.
2. يهوه هو اسم الله ، حسبما جاء في العهد القديم، الذي أعلنه الله لموسى أولاً في العليقة المحترقة (خروج 3). ويستعمل هذا الاسم في العهد القديم ما يزيد عن 6000 مرة.
3. George E. Ladd, A Theology of the New Testament (Cambridge: The Lutterworth Press, 1994) p58.
4. نقول نافذة أخرى فريدة لأن لدينا أيضا بالطبع كتابات يوسيفوس، وهي المادة الرابينية التي تعكس تلك الفترة، وكتابات مؤرخين رومان كتاسيتوس، ولدينا بالطبع الأناجيل نفسها. ونشكر الله لأن الايام التي نظر فيها المؤرخون إلى الأناجيل بشكوكية تاريخية مفرطة قد خلفناها وراءنا.
5. N. T. Wright, The New Testament and the People of God (London: SPCK, 1997) p307.
6. مع أن كثيرين من المسلمين لا يفهمون ما معنى أن نطلق على يسوع لقب "المسيح". راجع الجزء الثاني من سلسلة البحث عن يسوع المفقود حيث يوجد تفسير عميق لمعنى تعبير"المسيح" وما فهمه يسوع منه.
7. See N. T. Wright, The Challenge of Jesus (London: SPCK, 2000) p20-21. This book is recommended reading for those following this series.
8. George R. Beasley-Murray, 'The Kingdom of God and Christology in the Gospels' in Joel B. Green & Max Turner (editors), Jesus of Nazareth: Lord and Christ: Essays on the Historical Jesus and New Testament Christology (Carlisle: Paternoster Press, 1994) 22-36, p26-27.
9. موضوع يرد أيضا في مقطع مشهور في إنجيل آخر
قال يسوع لتلاميذه ، "لا تضطرب قلوبكم؛ أنتم تؤمنون بالله ، فآمنوا بي. في بيت أبي منازل كثيرة ؛ وإلا فإني كنت قد قلت لكم إني أمضي لأعد لكم مكانا وإن مضيت وأعددت لكم مكانا آتي أيضا وآخذكم إلي حتى حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضا. وتعلمون حيث أنا أذهب وتعلمون الطريق."
قال له توما : "يا سيد لسنا نعلم أين تمضي فكيف نعرف الطريق؟
قال له يسوع: "أنا هو الطريق والحق والحياة ، ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي." (يوحنا 14: 1-6)
10. N. T. Wright, Jesus and the Victory of God (London: SPCK, 1999) p467.
11. Scot McKnight, A New Vision for Israel: The Teachings of Jesus in National Context (Grand Rapids: Eerdmans, 1999) p118.
12. George Ladd, A Theology of the New Testament, p67.
13. Kenneth E. Bailey, Through Peasant Eyes: A Literary-Cultural Approach to the Parables in Luke (Grand Rapids: Eerdmans, 1980) p111.
14. Chrys C. Caragounis, 'Kingdom of God/Heaven' in Joel B. Green, Scot McKnight & I. Howard Marshall (editors), Dictionary of Jesus and the Gospels (Leicester: IVP, 1992) 417-430, p430.
اقرأ المقالة السابقة من سلسلة "البحث عن يسوع المفقود"