آدم واحد أم اثنان
يبدو هذا العنوان غريبا لأول وهلة، نظرا إلى أن القرآن يتحدث عن آدم واحد. أما الكتاب المقدس فيتحدث عن آدمين، الأول من التراب والثاني من السماء. فأي الرأيين هو الصحيح؟ هذا المقال يستعرض ما يقوله القرآن وما يقوله الكتاب المقدس بهذا الخصوص، بغية التوصل إلى جواب شافٍ.
آدم في القرآن
تذكر آيات القرآن عددا من صفات آدم. فتصف كيف خلق، ومن أي مادة خلق، وغرض الله من خلق آدم. يروي القرآن أن الله خلق آدم من طين: " إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ. فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (38: 71-72). فامتثلت الملائكة لأمر الله ما عدا إبليس: "فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ." (38: 73-74؛ انظر 2: 6). وتفيد آيات أخرى أن الله خلق آدم من تراب (3: 59)، أو من صلصال من حمأ مسنون (15: 26).
أما كيفية خلق آدم فتبينها ثلاث آيات: بحسب الآية الأولى، خلقه الله بيديه، "قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَأَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ" (38: 75). وبحسب الآية الثانية، خلقه بكلمته: "إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ." (3: 59) أما الآية الثالثة فتقول، أن الله خلقه بنفخة من روحه، "فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ" ( 38: 72)
تشير الآيات (38: 71-74) إلى أمرين حدثا بعدما خلق الله آدم، أولهما طاعة الملائكة لأمر الله، وثانيهما عصيان إبليس.
أولا، طاعة الملائكة. قبلما خلق الله آدم دعا الملائكة وأخبرهم عن عزمه على خلقه و أمرهم أن يقعوا له ساجدين. (38: 72) فامتثل الملائكة لأمر الله، "فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ." (38: 73) وتشير آيات أخرى إلى نفس الواقعة:(2: 34؛ 7: 11؛ 15: 28-29؛ 17: 61؛ 18: 50؛ 20: 116). وطاعة الملائكة جديرة بالثناء. وهنا يتساءل المرء، أليس السجود جزءا من العبادة التي ينبغي أن تقدم لله وحده الذي يملك وحده صفتي الكمال والجلال؟
ثانيا، عصيان الشيطان (إبليس). بخلاف الملائكة، أبى إبليس أن يسجد لآدم، "وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ"(2: 34) وتشير آيات أخرى إلى هذا الرفض، "وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ." (18: 50) ونظرا إلى أن إبليس كان من الجن، فهل كان ينبغي عليه أن يطيع أمر الله للملائكة؟
على أي حال لقد رفض إبليس أمر الله، فسأله الله عن سبب عدم إطاعته: "قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ؟ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ" (7: 12) فسأله الله ثانية، "قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَأَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِين؟ (38: 75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ" (38: 76)
إبليس يجادل الله. لقد مضى الشيطان إلى أبعد من ذلك في مجادلته مع الله، " وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا؟ قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا" (17: 62)
وهكذا قدم إبليس سببين لرفضه السجود لآدم. أولهما، أصله المتفوق، أي أنه خلق من نار (7: 12)، بينما خلق آدم من طين. وثانيهما، ادعاؤه بأنه سوف يستولي على ذرية آدم ويضلهم، فيما لو قدر الله له أن يحيا إلى يوم القيامة (62: 17). وهذا الإدعاء يعني أنه أقوى من آدم. ومن الواضح أن سؤاله الساخر بشأن إكرام آدم يفترض ضمنا أنه اعتبر نفسه جديرا بسجود الملائكة له أكثر من جدارة آدم بذلك. ووضع الله حدا لهذا الجدل فطرد إبليس من الجنة، "قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ" (7: 13)
المقصود بالسجود: ننتقل الآن إلى بحث مسألة سجود الملائكة لآدم. قد يبدو هذا غريبا لكثير من القرّاء. فكيف يأمر الله الملائكة بالسجود للمخلوق، في حين أن السجود جزء من العبادة الواجبة للخالق؟ هناك آيات قرآنية تبين بوضوح أن الله ينهى عن عبادة المخلوق أيا كان: "لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (41: 37). لاحظ هنا أن السجود متصل بحكم طبيعته بالعبادة. فالسؤال الأساسي الآن هو هل أمر الله الملائكة فعلا أن يسجدوا لآدم؟
ليس هدف هذا المقال الدخول في تفاصيل الفقه الإسلامي لمعرفة مفهوم السجود. وإنما هدف المقال هو أن نستعرض بإيجاز وجهة النظر الإسلامية في تفسير معنى سجود الملائكة لآدم، بغية تفنيد حججهم بهذا الخصوص، وأن ننتقل بعد ذلك إلى تبيين حقيقة المسألة. وحقيقة المسألة هي أن الله قد أمر الملائكة بالسجود لذاك الذي يستحق السجود.
المفسرون المسلمون: يقول معظم المفسرين أن السجود المقدم لآدم لا يخص العبادة لكنه مجرد تعبير عن الاحترام والتعظيم.
ويستشهد بعضهم بأن السجود ليوسف الذي ذكره القرآن يشبه السجود لآدم، ويصح القول في تفسيرهما كليهما بأن ذلك السجود ليس عبادة ولكنه احترام وإكرام. ومهما يكن من أمر فإن مسالة السجود ليوسف إنما تضيف مزيدا من التعقيد إلى المشكلة الأولى عوضا عن حلها. ويمكنك الاطلاع على بحث مفصل لقصة يوسف وصلتها بمسألتي السجود والعبادة الوارد في this article.
هل الإكرام هو المقصود من السجود؟ يربط بعضهم سؤال الشيطان الساخر الذي وجهه إلى لله بقوله: "قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا." (17: 62 ) وبين سؤال الله له، "قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَأَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ." (38: 75) ويخلصون من ذلك الربط إلى القول إن الله أمر الملائكة بالسجود لآدم تكريما له.
إن مسألة إكرام آدم تطرح سؤالا: لما كان خلق آدم عملا قام به الله، فأي فضل لآدم في ذلك؟ وهل المنطق السليم يقضي بإعطاء الفضل للمخلوق أم للخالق الذي أبدعه؟ مهما يكن من أمر فإن تفسير العلماء المسلمين لهذا الأمر يبدو غير مقنع.
وماذا بشأن حواء؟ هناك سؤال هام آخر: هل كان آدم المخلوق الوحيد الذي خلقه الله بيديه؟ وهل خلقت حواء بكلمة الله كباقي الخلائق، من حيوانات ونباتات؟ وما الذي يقوله القرآن عن خلق حواء؟
من الغرابة بمكان أن القرآن لا يخبر كيف خلقت حواء ولا يذكر حتى اسمها، لكنه يذكر فقط ان الله خلقها:
"هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (7: 189)
"وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ." (16: 72)
"وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ." (30: 21)
"خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا." (39: 6)
"يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا." (4: 1)
يذكر الطبري في تفسيره لقوله تعالى: "وخلق منها زوجها" 4: 1، يَعْنِي أن حَوَّاء خُلِقَتْ مِنْ آدَم , مِنْ ضِلْع مِنْ أَضْلَاعه . 6703 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْن هَارُون , قَالَ : أَخْبَرَنَا عَمْرو بْن حَمَّاد , قَالَ : ثنا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ, قَالَ: ’أُسْكِنَ آدَم الْجَنَّة, فَكَانَ يَمْشِي فِيهَا وَحِشًا لَيْسَ لَهُ زَوْج يَسْكُن إِلَيْهَا; فَنَامَ نَوْمَة, فَاسْتَيْقَظَ فَإِذَا عِنْد رَأْسه اِمْرَأَة قَاعِدَة خَلَقَهَا اللَّه مِنْ ضِلْعه, فَسَأَلَهَا مَا أَنْتِ ؟ قَالَتْ اِمْرَأَة, قَالَ: وَلِمَ خُلِقْت ؟ قَالَتْ: لِتَسْكُن إِلَيّ‘.َ
ثمة شبه بين سبب خلق حواء، كما يدل جوابها لآدم وهو (لتسكن إلي) وبين ما نقرأه في التوراة : "وَقَالَ الرَّبُّ الإِلَهُ:’لَيْسَ جَيِّداً أَنْ يَكُونَ آدَمُ وَحْدَهُ فَأَصْنَعَ لَهُ مُعِيناً نَظِيرَهُ‘." (تكوين 2: 18)
. - 6704 حَدَّثَنَا اِبْن حُمَيْد, قَالَ: ثنا سَلَمَة, عَنْ اِبْن إِسْحَاق, قَالَ: أُلْقِيَ عَلَى آدَم صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السِّنَة فِيمَا بَلَغَنَا عَنْ أَهْل الْكِتَاب مِنْ أَهْل التَّوْرَاة وَغَيْرهمْ مِنْ أَهْل الْعِلْم, عَنْ عَبْد اللَّه بْن الْعَبَّاس وَغَيْره, ثُمَّ أَخَذَ ضِلْعًا مِنْ أَضْلَاعه مِنْ شِقّه الْأَيْسَر, وَلَأَمَ مَكَانه, وَآدَم نَائِم لَمْ يَهُبّ مِنْ نَوْمَته. حَتَّى خَلَقَ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنْ ضِلْعه تِلْكَ زَوْجَته حَوَّاء, فَسَوَّاهَا اِمْرَأَة لِيَسْكُن إِلَيْهَا, فَلَمَّا كُشِفَتْ عَنْهُ السِّنَة وَهَبَّ مِنْ نَوْمَته رَآهَا إِلَى جَنْبه, فَقَالَ فِيمَا يَزْعُمُونَ وَاَللَّه أَعْلَم: لَحْمِي وَدَمِي وَزَوْجَتِي! فَسَكَنَ إِلَيْهَا.
التفسير الأخير يكاد يكون اقتباسا عن قصة خلق حواء كما وردت في التوراة:
" فَأَوْقَعَ الرَّبُّ الإِلَهُ سُبَاتاً عَلَى آدَمَ فَنَامَ فَأَخَذَ وَاحِدَةً مِنْ أَضْلاَعِهِ وَمَلَأَ مَكَانَهَا لَحْماً. وَبَنَى الرَّبُّ الإِلَهُ الضِّلْعَ الَّتِي أَخَذَهَا مِنْ آدَمَ امْرَأَةً وَأَحْضَرَهَا إِلَى آدَمَ. فَقَالَ آدَمُ: "هَذِهِ الْآنَ عَظْمٌ مِنْ عِظَامِي وَلَحْمٌ مِنْ لَحْمِي. هَذِهِ تُدْعَى امْرَأَةً لأَنَّهَا مِنِ امْرِءٍ أُخِذَتْ." (تكوين 2: 21-23)
يتضح إذا من التوراة ومن تفسير الطبري أن حواء خلقت بيدي الله كما خلق آدم. ونظرًا إلى أن الملائكة قد أُمِرتْ بالسجود لآدم لأن الله خلقه بكلتا يديه، فلماذا لم تؤمر الملائكة بالسجود لحواء أيضا؟
وماذا بخصوص المسيح؟ لقد ملك المسيح صفات تجعله يتبوأ مكانة أسمى بكثير من مكانة آدم: "الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ..." (4: 171)
وذكر جبريل في بشارته لمريم العذراء أنه سيكون لابنها مقام فريد: "إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ." (3: 45) ويفسر البيضاوي الوجاهة في الدنيا بأنها تعني النبوة، أما الوجاهة في الآخرة فتعني الشفاعة.
كما أن المسيح لم يخلق من تراب كآدم، بل كان من روح الله. وكذلك أعطاه الله وأمه مكانة فريدة، "وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ." (21: 91) وقد كان المسيح حقا آية للعالمين: في ولادته وحياته الخالية من الخطيئة وتعاليمه ومعجزاته، وفي الكيفية التي غادر بها هذا العالم وعاد إلى السماء حيث كان قبل تجسده ـ وهذه موضوعات سوف نتناولها بالتفصيل فيما بعد. فكل من يتأمل في هذه الحقائق يرى أن يسوع المسيح أجدر من آدم بالتكريم، فلماذا لم يذكر القرآن أن الله أمر الملائكة بالسجود له؟
وخلاصة القول أننا لا نجد في القرآن ولا في كتابات المفسرين المسلمين تفسيرا مقنعا لسجود الملائكة لآدم. لذلك يلزمنا أن نطلع على ما قاله الكتاب المقدس عن آدم الترابي وعن آدم السماوي.
آدم الأول وآدم الأخير
لقد كتب بولس الرسول رسالته الأولى إلى كنيسة كورنثوس عام 55 للميلاد. ودافع فيها عن
قيامة المسيح من الأموات. ولكي يدعم رأيه تحدث عن آدم الآول وعن آدم الأخير:
صَارَ آدَمُ الإِنْسَانُ الأَوَّلُ نَفْساً حَيَّةً وَآدَمُ الأَخِيرُ رُوحاً مُحْيِياً.
لَكِنْ لَيْسَ الرُّوحَانِيُّ أَوَّلاً بَلِ الْحَيَوَانِيُّ وَبَعْدَ ذَلِكَ الرُّوحَانِيُّ.
الإِنْسَانُ الأَوَّلُ مِنَ الأَرْضِ تُرَابِيٌّ. الإِنْسَانُ الثَّانِي الرَّبُّ مِنَ السَّمَاءِ.
" (1 كورنثوس 15: 45-47)
إذا بحسب الكتاب المقدس ليس هناك آدم واحد بل اثنان: وهما يختلفان حسب ما يعلمنا الكتاب المقدس، من حيث الأصل والسيرة والمقام.
آدم الأول
يقول بولس الرسول عن آدم الأول أنه " مِنَ الأَرْضِ تُرَابِيٌّ" (1 كو 15: 47). وبذلك يرجع بالقراء إلى البداية، " فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ. وَقَالَ اللهُ: "لِيَكُنْ... . وَكَانَ كَذَلِكَ" (تكوين 1: 6-7). فكل الأشياء أوجدها الله بكلمته (مزامير 33: 6، 9؛ 145: 5؛ عبرانيين 11: 3). ولكن الكتاب يقول شيئا مختلفا عن آدم. لقد خلق الله آدم بكيفية مختلفة: "وَجَبَلَ الرَّبُّ الإِلَهُ آدَمَ تُرَاباً مِنَ الأَرْضِ وَنَفَخَ فِي أَنْفِهِ نَسَمَةَ حَيَاةٍ. فَصَارَ آدَمُ نَفْساً حَيَّةً. " (تكوين 2: 7). كان ذلك فضلا من الله أسبغه على آدم، ولم يسبغه على باقي المخلوقات. فآدم لم يأت إلى الوجود بأمر من الله، بل جاء بالأحرى بنفخة من الله، وهبته الحياة.
كذلك منحه الله ميزة عظيمة أخرى، " فَخَلَقَ اللهُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ." (تكوين 1: 27). وتتضمن "الصورة" صفات كالبر والقداسة (أفسس 4: 24) والمعرفة (كولوسي 1: 10). ثم "َأَخَذَ الرَّبُّ الإِلَهُ آدَمَ وَوَضَعَهُ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ لِيَعْمَلَهَا وَيَحْفَظَهَا." (تكوين 2: 15). أي أن الله عيّن آدم وكيلا عنه. وأوصاه بأن يأكل من كل شجر الجنة عدا شجرة واحدة:
وَأَوْصَى الرَّبُّ الإِلَهُ آدَمَ قَائِلاً: ’مِنْ جَمِيعِ شَجَرِ الْجَنَّةِ تَأْكُلُ أَكْلاً
وَأَمَّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَلاَ تَأْكُلْ مِنْهَا لأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتاً تَمُوتُ.‘
(تكوين 2: 16-17)
كان على آدم أن يطيع أمر الله. أما إذا خالف أمره، فسيكون عقابه الموت، أي أنه سوف يحرم من علاقته الروحية مع الله التي هي مصدر الحياة الحقيقية. فيموت روحيا، ومن ثم يموت جسديا. وهكذا يعود إلى الأرض التي أخذ منها، كما قال له الله فيما بعد، "لأَنَّكَ تُرَابٌ وَإِلَى تُرَابٍ تَعُودُ" (تكوين 3: 19).
واقتربت الحية (التي هي إبليس والشيطان، راجع رؤيا 20: 2) من حواء محاولة تضليلها، وزعمت لها، بصورة غير مباشرة، أن الحقيقة هي بخلاف ما قاله الله لهما: " لَنْ تَمُوتَا!
بَلِ اللهُ عَالِمٌ أَنَّهُ يَوْمَ تَأْكُلاَنِ مِنْهُ تَنْفَتِحُ أَعْيُنُكُمَا وَتَكُونَانِ كَاللهِ عَارِفَيْنِ الْخَيْرَ وَالشَّر." (تكوين 3: 4- 5). وكم كانت الحقيقة بعيدة عما ادعاه الشيطان من أنهما سوف يصيران كالله! لقد خُدِعت حواء بادعاء إبليس وصدقت كذبه. فنظرت إلى الشجرة ثم اشتهت ثمرها، "فَأَخَذَتْ مِنْ ثَمَرِهَا وَأَكَلَتْ وَأَعْطَتْ رَجُلَهَا أَيْضاً مَعَهَا فَأَكَلَ." (تكوين 3: 6). وانفتحت أعينهما، كما قال إبليس، ليس إلا لكي يبصرا حقيقة ما صارا إليه.
"فَانْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا وَعَلِمَا أَنَّهُمَا عُرْيَانَانِ. فَخَاطَا أَوْرَاقَ تِينٍ وَصَنَعَا لأَنْفُسِهِمَا مَآزِرَ." (تكوين 3: 7).
لقد كانا من قبل يعيشان في الجنة سعيدين بوجودهما في حضرة الله غير خائفين، لا يعرفان أن يميزا بين الخير والشر؛ وإنما كانا في حالة من البراءة حتى أنهما "َكَانَا كِلاَهُمَا عُرْيَانَيْنِ آدَمُ وَامْرَأَتُهُ وَهُمَا لاَ يَخْجَلاَنِ." (تكوين 2: 25). أما بعد أن عصيا أمر الله فقد خافا من مواجهة الله. لذلك عندما "سَمِعَا صَوْتَ الرَّبِّ الإِلَهِ مَاشِياً فِي الْجَنَّةِ" هربا من وجهه،"فَاخْتَبَأَ آدَمُ وَامْرَأَتُهُ مِنْ وَجْهِ الرَّبِّ الإِلَهِ فِي وَسَطِ شَجَرِ الْجَنَّةِ." (تكوين 3: 8).
ولكن الله، الذي لا يخفى عليه شيء، رأى ما فعلا وعلم أنهما مختبآن، "فَنَادَى الرَّبُّ الإِلَهُ آدَمَ: ’أَيْنَ أَنْتَ؟‘ فَقَالَ: ’سَمِعْتُ صَوْتَكَ فِي الْجَنَّةِ فَخَشِيتُ لأَنِّي عُرْيَانٌ فَاخْتَبَأْتُ.‘"(تكوين 3: 9، 10). وعندما سأله الله عما إذا كان قد أكل من الشجرة، تهرب آدم من مسؤوليته. وبدلا من الإقرار بذنبه ألقى باللوم على حواء (3: 12). وبذلك عكر سلام العلاقة الزوجية بينه وبين امرأته. وحذت حواء حذو آدم، وبدلا من الإقرار بذنبها ألقت باللوم على الحية.
وعاقب الله الحية (أي إبليس)، كما عاقب كلا من آدم وحواء (تكوين 3: 14- 19). ثم طردهما من جنة عدن، "فَأَخْرَجَهُ الرَّبُّ الإِلَهُ مِنْ جَنَّةِ عَدْنٍ." (تكوين 3: 23).
إن أي محاولة للتقليل من شأن مخالفة آدم وحواء لأمر الله بأكلهما من ثمر شجرة معرفة الخير والشر، إنما هي إغفال لدلالة تلك المخالفة. فلم يكن تصرف آدم مجرد سهو أو نسيان لوصية الله؛ إذ أنه من غير المحتمل أن ينسى آدم الوصية الوحيدة التي أوصاه الله بها وبيّن له نتيجة مخالفتها. وبالإضافة إلى ذلك، لو نظر الله إلى عملهما هذه النظرة لما طردهما من الجنة.
ولكن آدم خالف أمر الله عامدا متعمدا وانقاد لرغبة امرأته حواء التي انقادت من قبله لخداع إبليس. لقد اقتنعت حواء بمزاعم إبليس وطمحت إلى أن تكون كالله، وأن تملك معرفة مماثلة لمعرفته.
ومع أن آدم جارى حواء في أكلها من الثمرة، فإنه أيضًا عبر عن رغبة شريرة في أعماق نفسه. أراد آدم، أن يتجاوز مدى الحرية التي منحها الله له؛ وأراد أن تكون له حرية مطلقة. كان تصرف آدم عصيانا لأمر الله, وتمردا على سلطته. فلذلك سأله الله : "هَلْ أَكَلْتَ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي أَوْصَيْتُكَ أَنْ لاَ تَأْكُلَ مِنْهَا؟ " (تكوين 3: 11). من الواضح إذًا أن آدم رفضَ أن يبقى في حالة البراءة، ورفض أن يسير في طريق الله. وسار بدلا من ذلك في طريق الشر.
لكن عصيان آدم بدأ في الواقع، في اللحظة التي أصغت فيها حواء لإبليس (وجاراها آدم في ذلك)، فشككت في صدق كلام الله وصدقت كلام الكذب. لقد فضلت اتباع نصيحة الشيطان على اتباع أمرالله، وهكذا سارت حواء و سار آدم معها في طريق الشيطان، طريق العصيان والتمرد وما ترتب على ذلك من نتائج.
لم تقتصر نتيجة عصيان آدم عليه وحده. فقد جرّ اللعنة على الأرض التي سيعمل بها ويتعب فيها كل أيام حياته، حسبما قال الله له: "مَلْعُونَةٌ الأَرْضُ بِسَبَبِكَ. بِالتَّعَبِ تَأْكُلُ مِنْهَا كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِكَ. وَشَوْكاً وَحَسَكاً تُنْبِتُ لَكَ." (تكوين 3: 17- 18). كما أن روح العصيان انتقلت إلى ذريته. يتضح ذلك من حسد قايين لأخيه هابيل وغيرته منه، لأن الله قَبِل تقدمة أخيه هابيل دون تقدمته هو، مما جعل قلبه يمتلئ بالغيظ من جراء ذلك. ومع أن الله حذر قايين من الخطية التي كانت بانتظاره، لكنه أقدم على قتل أخيه (تكوين 4: 3- 10).
"مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَأَنَّمَا بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ الْخَطِيَّةُ إِلَى الْعَالَمِ وَبِالْخَطِيَّةِ الْمَوْتُ وَهَكَذَا اجْتَازَ الْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ إِذْ أَخْطَأَ الْجَمِيعُ." (رومية 5: 12)
والخلاصة إن آدم الأول كان في علاقة طيبة مع الله؛ لكنه بسبب عصيانه خسر تلك العلاقة.
أما آدم الأخير، أي يسوع المسيح، فقد أرسله الله من السماء. وأطاع الله تماما خلال حياته، ولذلك استطاع أن يعيد الانسان إلى علاقة طيبة مع الله.
آدم الأخير
جاء يسوع من السماء. كتب يوحنا أحد تلاميذ المسيح عنه: "اَلَّذِي يَأْتِي مِنْ فَوْقُ هُوَ فَوْقَ الْجَمِيعِ، وَالَّذِي مِنَ الأَرْضِ هُوَ أَرْضِيٌّ، وَمِنَ الأَرْضِ يَتَكَلَّمُ. اَلَّذِي يَأْتِي مِنَ السَّمَاءِ هُوَ فَوْقَ الْجَمِيعِ." (يوحنا 3: 31). كذلك قال يسوع لليهود: "لأَنِّي قَدْ نَزَلْتُ مِنَ السَّمَاءِ، لَيْسَ لأَعْمَلَ مَشِيئَتِي، بَلْ مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي. وَهَذِهِ مَشِيئَةُ الآبِ الَّذِي أَرْسَلَنِي: أَنَّ كُلَّ مَا أَعْطَانِي لاَ أُتْلِفُ مِنْهُ شَيْئاً، بَلْ أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ." ( يوحنا 6: 38-39؛ راجع أيضا 6: 41، 50، 51؛ ويوحنا 3: 13)
لذلك كان يسوع فريدًا في كل شيء، منذ بداية حياته على الأرض، حتى عودته إلى الآب في السماء، حيث كان قبل تجسده.
كان فريدا في وجوده السابق لولادته. ففي مجادلته مع اليهود، أشار يسوع إلى وجوده الأزلي: "الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ " (يوحنا 8: 58). وكتب يوحنا عنه، " فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللَّهَ. هَذَا كَانَ فِي الْبَدْءِ عِنْدَ اللَّهِ. كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ." (يوحنا 1: 1-3). وفي صلاته لأجل تلاميذه، أشار يسوع إلى علاقته الخاصة بالله: "أَنَا مَجَّدْتُكَ عَلَى الأَرْضِ. الْعَمَلَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي لأَعْمَلَ قَدْ أَكْمَلْتُهُ. وَالآنَ مَجِّدْنِي أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ عِنْدَ ذَاتِكَ بِالْمَجْدِ الَّذِي كَانَ لِي عِنْدَكَ قَبْلَ كَوْنِ الْعَالَمِ." (يوحنا 17: 4-5)
كان فريدًًا في ولادته. لقد ولد يسوع من عذراء دون أن تعرف رجلا. إذ جاء الملاك جبرائيل إلى مريم العذراء، وبشرها بأنها ستحبل وتلد ابنا وتسميه يسوع وسيكون عظيما (لوقا 1: 26، 31-32 ). وعندما استفسرت مندهشة عن كيفية حدوث ذلك أجابها الملاك: "اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ ،وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ ، فَلِذَلِكَ أَيْضاً الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللهِ. " (لوقا 1: 35).
كان فريدًا في حياته. لقد وُلِدَ كباقي البشر، ولكن بلا خطيئة، ونما وكبر فصار صبيا ثم فتى ثم رجلا؛ وعمل في مهنة النجارة وعاش كباقي الناس، فأكل وشرب، وأحس بالجوع والتعب؛ وحزن وبكى؛ لكنه مع ذلك اختلف عن باقي الناس على نحو فريد .
كان يسوع فريدا في كلامه. فلم يذهب إلى مدرسة دينية كباقي معلمي الشريعة ولكن معرفته كانت أفضل من معرفتهم. وكان بوسعه أن يجادلهم في مسائل الشريعة، "فَتَعَجَّبَ الْيَهُودُ قَائِلِينَ: ’كَيْفَ هَذَا يَعْرِفُ الْكُتُبَ، وَهُوَ لَمْ يَتَعَلَّمْ؟‘ أَجَابَهُمْ يَسُوعُ وَقَالَ:’تَعْلِيمِي لَيْسَ لِي بَلْ لِلَّذِي أَرْسَلَنِي.‘" (يو 7: 15-16). وعنما أرسل رؤساء الكهنة خدامهم ليقبضوا على يسوع، لم ينفذ الخدام أمر رؤساء الكهنة، بل عادوا دون أن يقبضوا عليه، وقالوا لرؤساء الكهنة: "لَمْ يَتَكَلَّم ْ قَطُّ إِنْسَانٌ هَكَذَا مِثْلَ هَذَا الإِنْسَانِ !" (يوحنا 7: 46).
وبينما كانت عادة معلمي الشريعة الرجوع والإسناد إلى من سبقهم من علماء الشريعة، كان يسوع يتكلم بسلطانه هو دون حاجة إلى دعم من أحد. فعندما دخل المجمع في كفر ناحوم وصار يعلم، "َبُهِتُوا مِنْ تَعْلِيمِهِ لأَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ كَمَنْ لَهُ سُلْطَانٌ وَلَيْسَ كَالْكَتَبَةِ. " (مرقس 1: 22). أضف إلى ذلك أنه عندما كان يوضح مسائل الشريعة تجرأ على القول، "قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ.... وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ..." (متى 5: 21-22، 27- 28، 31-32، 38-39، 43-44). في إحدى المناسبات حدّث يسوع تلاميذه عن نفسه بأنه " الْخُبْزُ الْحَيُّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ" (يوحنا 6: 51)، وأنه الوسيلة لنوال الحياة الأبدية (يوحنا 6: 54- 55). فتذمر كثيرون من تلاميذه من كلامه، لكن يسوع قال لهم مؤكدًا: "اَلْكلاَمُ الَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ هُوَ رُوحٌ وَحَيَاةٌ" (يو 6: 63).
كان فريدا في سلطانه على المرض: فشفى حماة بطرس المصابة بالحمى (مرقس 1: 29- 31)، كما شفى أعمى منذ ولادته ( يوحنا 9: 1- 7 راجع متى 9: 27- 29)، ورجلا مفلوجًا (مرقس 2: 1- 12). وشفى أيضًا امرأة ظلت تعاني من نزف دمها اثنتي عشرة سنة (مرقس 5: 25- 34)، وأبرأ رجلا أبرص (متى 8: 2- 4 راجع لوقا 17: 11-19). ولم تقتصر معجزات شفاء المرضى على أنحاء فلسطين فقط، بل أحضروا إليه السقماء المصابين بأمراض وأوجاع مختلفة من جميع أنحاء سورية فشفاهم (متى 4: 24).
كان له سلطان فريد على الأرواح النجسة: فعندما زار بلدة كفرناحوم دخل المجمع وكان يعلّم. "وَكَانَ فِي الْمَجْمَعِ رَجُلٌ بِهِ رُوحُ شَيْطَانٍ نَجِسٍ ، فَصَرَخَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلاً ’آهِ ! مَا لَنَا وَلَكَ يَا يَسُوعُ النَّاصِرِيُّ ؟أَتَيْتَ لِتُهْلِكَنَا! أَنَا أَعْرِفُكَ مَنْ أَنْتَ: قُدُّوسُ اللهِ !‘ فَانْتَهَرَهُ يَسُوعُ قَائِلاً: ’اخْرَسْ ! وَاخْرُجْ مِنْهُ !‘ فَصَرَعَهُ الشَّيْطَانُ فِي الْوَسْطِ وَخَرَجَ مِنْهُ وَلَمْ يَضُرَّهُ شَيْئاً. فَوَقَعَتْ دَهْشَةٌ عَلَى الْجَمِيعِ، وَكَانُوا يُخَاطِبُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً قَائِلِينَ:’مَا هَذِهِ الْكَلِمَةُ ؟لأَنَّهُ بِسُلْطَانٍ وَقُوَّةٍ يَأْمُرُ الأَرْوَاحَ النَّجِسَةَ فَتَخْرُجُ !‘". (لوقا 4: 33-36). (قارن مرقس 3: 11؛ 5: 1-13 ؛ 7: 25 ؛ 9: 25 ).
لقد استطاع بعض الأنبياء، كالنبي أليشع، اجتراح معجزات بعضها شبيه بمعجزات المسيح (2 ملوك 4: 1- 7؛ 4: 17- 35 ؛ 4: 42- 43)، لكن يسوع لم يملك السلطان على شفاء المرضى وإخراج الأرواح النجسة وإحياء الموتى فحسب، بل منح هذا السلطان لتلاميذه أيضًا، (متى 10: 1، 8؛ مرقس 16: 17، 18). فأخضعوا الشياطين وشفوا مرضى كثيرين (لوقا 10: 17؛ أعمال 5: 16؛ أعمال 8: 7).
وكان ليسوع سلطان فريد على الموتى. قال يسوع إنه يعطي حياة. "لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الآبَ يُقِيمُ الأَمْوَاتَ وَيُحْيِي، كَذَلِكَ الاِبْنُ أَيْضاً يُحْيِي مَنْ يَشَاءُ." (يوحنا 5: 21). في مدينة نايين أقام من الموت شابا وحيدًا لأمه (لوقا 7: 12- 15). وفي كفرناحوم استجاب لالتماس من أحد رؤساء المجمع لكي يشفي ابنته التي تحتضر. وعندما وصل يسوع إلى البيت وجد أن ابنة رئيس المجمع قد ماتت. لكنه شجع رئيس المجمع، ثم دخل البيت وأقام الفتاة الميتة (مرقس 5: 35- 42). وفي بيت عنيا أقام لعازر من القبر بعدما مرت أربعة أيام على دفنه (يوحنا 11: 38- 44).
بالإضافة إلى ذلك ادعى يسوع ما لم يدعه أحد سواه. إذ قال إنه يعطي حياة أبدية. ففي إشارته إلى الذين آمنوا به، قال: "خِرَافِي تَسْمَعُ صَوْتِي، وَأَنَا أَعْرِفُهَا فَتَتْبَعُنِي. وَأَنَا أُعْطِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً، وَلَنْ تَهْلِكَ إِلَى الأَبَدِ، وَلاَ يَخْطَفُهَا أَحَدٌ مِنْ يَدِي." (يوحنا 10: 27- 28)
وكان ليسوع سلطان فريد على الطبيعة. في مناسبتين منفصلتين أطعم يسوع جمعا غفيرا من كمية ضئيلة من الطعام. في المناسبة الأولى كان لدى التلاميذ سبعة أرغفة وقليل من السمك. "فأخذ السبع خبزات وشكر وكسر وأعطى تلاميذه ليقدموا فقدموا ثم أعطاهم من السمك فأكل الجمع وشبعوا وفضل عنهم سبع سلال من الكسر. وكان الآكلون نحو أربعة آلاف (مرقس 8: 1- 9). وبمعجزة مشابهة أطعم خمسة آلاف من خمسة أرغفة وسمكتين، "فَأَكَلَ الْجَمِيعُ وَشَبِعُوا. ثُمَّ رَفَعُوا مِنَ الْكِسَرِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ قُفَّةً مَمْلُوءَةً، وَمِنَ السَّمَكِ."( مرقس 6: 42- 43 ؛ اقرأ أيضا مرقس 8: 1-9 ؛ لوقا 9: 11- 17؛ يوحنا 6: 5- 13).
ذات مساء كان التلاميذ يبحرون على متن سفينة صيد في بحيرة طبرية ولم يكن يسوع معهم. واشتدت الريح وعلت الأمواج، "وَرَآهُمْ مُعَذَّبِينَ فِي الْجَذْفِ..." فمضى إليهم ماشيا على البحر. "فَلَمَّا رَأَوْهُ مَاشِياً عَلَى الْبَحْرِ ظَنُّوهُ خَيَالاً، فَصَرَخُوا. لأَنَّ الْجَمِيعَ رَأَوْهُ وَاضْطَرَبُوا. فَلِلْوَقْتِ كَلَّمَهُمْ وقَالَ لَهُمْ: ’ثِقُوا. أَنَا هُوَ. لاَ تَخَافُوا‘ فَصَعِدَ إِلَيْهِمْ إِلَى السَّفِينَةِ فَسَكَنَتِ الرِّيحُ فَبُهِتُوا، وَتَعَجَّبُوا فِي أَنْفُسِهِمْ جِدّاً إِلَى الْغَايَةِ،" (مرقس 6: 48- 51).
وفي مناسبة أخرى عندما أبحروا في السفينة ويسوع معهم هاج البحر هياجًا شديدا حتى كادت السفينة تغرق. وكان يسوع نائما "فَأَيْقَظُوهُ وَقَالُوا لَهُ: ’يَا مُعَلِّمُ، أَمَا يَهُمُّكَ أَنَّنَا نَهْلِكُ؟‘ فَقَامَ وَانْتَهَرَ الرِّيحَ، وَقَالَ لِلْبَحْرِ: ’اسْكُتْ! ابْكَمْ !‘ فَسَكَنَتِ الرِّيحُ وَصَارَ هُدُوءٌ عَظِيمٌ. فَخَافُوا خَوْفاً عَظِيماً، وَقَالُوا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: ’مَنْ هُوَ هَذَا؟ فَإِنَّ الرِّيحَ أَيْضاً وَالْبَحْرَ يُطِيعَانِهِ!‘" (مرقس 4: 38-41).
كان يسوع يعلم الغيب على نحو فريد. إن معرفة الغيب بصورة مطلقة صفة من صفات الله. إلا أن الإنجيل بيّن في عدة مناسبات أن يسوع أيضًا يعلم الغيب. فعندما جاء نثنائيل للقاء يسوع أول مرة قال له يسو ع: "قَبْلَ أَنْ دَعَاكَ فِيلُبُّسُ وَأَنْتَ تَحْتَ التِّينَةِ، رَأَيْتُكَ." (يوحنا 1: 48). وقبلما شفى الرجل المفلوج قال له: "يَا بُنَيَّ، مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ." (مرقس 2: 5)، ففكر الكتبة (معلمو الشريعة) في قلوبهم أن يسوع، بقوله هذا، قد تكلم بتجاديف، لأنه انتحل لنفسه قدرة الله على غفران الخطايا. ومع أنهم لم يقولوا ذلك صراحة لكن "شَعَرَ يَسُوعُ بِرُوحِهِ أَنَّهُمْ يُفَكِّرُونَ هَكَذَا فِي أَنْفُسِهِمْ" (مرقس 2: 8، راجع يوحنا 2: 24-25؛ لوقا 24: 38).
وتجلت معرفته الفائقة هذه على الخصوص عندما تنبأ عن موته وقيامته، "مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ ابْتَدَأَ يَسُوعُ يُظْهِرُ لِتَلاَمِيذِهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَذْهَبَ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَيَتَأَلَّمَ كَثِيراً مِنَ الشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلَ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومَ."(متى 16: 21 مرقس 8: 31؛ ؛ لوقا 9: 22). وقد حدث كل ذلك فعلا (متى 26: 66-67؛ 27: 35؛ لاحظ أيضًا متى 28: 5-6).
كان يسوع فريدا من حيث أنه لم يرتكب خطيئة قط. قال يسوع إنه كان يعمل إرادة الله دائما (يوحنا 8: 29). وهذا ما أكدته شهادة الآب عن يسوع عندما عمده يوحنا في نهر الأردن (متى 3: 17). وعندما كان يسوع مع تلاميذه على جبل التجلي حيث قال الله عنه: "هَذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ. لَهُ اسْمَعُوا" (متى 17: 1-5؛ راجع 2 بطرس 1: 16-18)
وعندما تحدى يسوعُ خصومَه من اليهود بقوله، "مَنْ مِنْكُمْ يُبَكِّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ؟ " (يوحنا 8: 46)، لم يجرؤ أحد من الخصوم على أن يرد على هذا التحدي.
وحتى أثناء محاكمة يسوع من قبل بيلاطس الحاكم الروماني، لم تثبت صحة أي من الشكاوى التي قدمها رؤساء الكهنة والجموع ضد يسوع، مما جعل بيلاطس يقول لرؤساء الكهنة واليهود:"إنِّي لاَ أَجِدُ عِلَّةً فِي هَذَا الإِنْسَانِ." (لوقا 23: 4).
كان ليسوع سلطان فريد أن يغفر الخطايا. فعندما أُحضِر إليه مفلوج ليشفيه (كما ذكرنا سابقًا)، قال له يسوع: "يَا بُنَيَّ، مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ.". ففكر رجال الدين الحاضرون أن يسوع يجدف، لأنه ادعى سلطانا لا يملكه إلا الله. لكن يسوع بين لهم بوضوح أن له سلطانا أن يغفر الخطايا. ثم شفى الرجل المفلوج. وجاء شفاء المفلوج دليلا على صحة ادعاء يسوع (مرقس 2: 1-12).
ليسوع سلطان فريد أعطاه الله له فهو الحَكَمُ في يوم الدين. نظرا إلى أن يسوع عاش على هذه الأرض بلا خطيئة لذلك أعطاه الله سلطانا فريدا لا يملكه إلا الله وهو سلطان الدينونة. قال يسوع: "لأَنَّ الآبَ لاَ يَدِينُ أَحَداً، بَلْ قَدْ أَعْطَى كُلَّ الدَّيْنُونَةِ لِلاِبْنِ، ... وَأَعْطَاهُ سُلْطَاناً أَنْ يَدِينَ أَيْضاً، لأَنَّهُ ابْنُ الإِنْسَانِ." (يوحنا 5: 22، 27).
كان يسوع فريدا في الانتصار على الشيطان. بعد معمودية يسوع اقتيد بالروح القدس مدة أربعين يوما وهو يجرب من إبليس. وقد رويت بالتفصيل ثلاث تجارب فقط. كان غرض إبليس خلال تلك التجارب، مشابها لغرضه عندما جرب حواء وآدم، أي أن يزرع بذور الشك في ذهن يسوع، بشأن هويته وبشأن إرادة أبيه السماوي، لكي يحرفه عن طريق الله (لوقا 4: 3، 6-7؛ 9-10). لكن يسوع كان يعي مخططات الشيطان فرفض اقتراحاته المغرية، واستخدم كلمة الله كسلاح ضده ونجح في دحره (لوقا 4: 4، 8، 12).
كان يسوع فريدا من حيث استحقاقه للسجود. كُتِبت نبؤة دانيال في القرن السادس قبل الميلاد. وجاء فيها أن النبي دانيال رأى ابنَ الانسان، أي يسوعَ المسيح، وهو يُعبَدُ ويُسجَد له، من قبل كل الشعوب والأمم.
"كُنْتُ أَرَى فِي رُؤَى اللَّيْلِ وَإِذَا مَعَ سُحُبِ السَّمَاءِ مِثْلُ ابْنِ إِنْسَانٍ أَتَى وَجَاءَ إِلَى الْقَدِيمِ الأَيَّامِ فَقَرَّبُوهُ قُدَّامَهُ. فَأُعْطِيَ سُلْطَاناً وَمَجْداً وَمَلَكُوتاً لِتَتَعَبَّدَ لَهُ كُلُّ الشُّعُوبِ وَالأُمَمِ وَالأَلْسِنَةِ. سُلْطَانُهُ سُلْطَانٌ أَبَدِيٌّ مَا لَنْ يَزُولَ وَمَلَكُوتُهُ مَا لاَ يَنْقَرِضُ." (دانيال 7: 13-14)
لدى مولد يسوع، قدم مجوس من الشرق وسجدوا له، "وَلَمَّا وُلِدَ يَسُوعُ فِي بَيْتِ لَحْمِ الْيَهُودِيَّةِ، فِي أَيَّامِ هِيرُودُسَ الْمَلِكِ، إِذَا مَجُوسٌ مِنَ الْمَشْرِقِ قَدْ جَاءُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ قَائِلِينَ:’أَيْنَ هُوَ الْمَوْلُودُ مَلِكُ الْيَهُودِ؟ فَإِنَّنَا رَأَيْنَا نَجْمَهُ فِي الْمَشْرِقِ وَأَتَيْنَا لِنَسْجُدَ لَهُ‘"... فدعا هيرودس المجوس سرا وتأكد منهم بشأن الوقت الذي ظهر فيه النجم، وأرسلهم إلى بيت لحم قائلا، "اذْهَبُوا وَافْحَصُوا بِالتَّدْقِيقِ عَنِ الصَّبِيِّ. وَمَتَى وَجَدْتُمُوهُ فَأَخْبِرُونِي، لِكَيْ آتِيَ أَنَا أَيْضاً وَأَسْجُدَ لَهُ." ... " فَلَمَّا رَأَوُا النَّجْمَ فَرِحُوا فَرَحاً عَظِيماً جِدّاً. وَأَتَوْا إِلَى الْبَيْتِ، وَرَأَوْا الصَّبِيَّ مَعَ مَرْيَمَ أُمِّهِ. فَخَرُّوا وَسَجَدُوا لَهُ." (متى 2: 1؛ 7-8؛ 10-11)
كذلك سجد له تلاميذه . فبعدما أنقذ يسوعُ بطرسَ من الغرق في بحيرة طبرية، صعد يسوع وبطرس إلى السفينة فسكنت الريح. فسجد له الذين كانوا في السفينة، قائلين، "بِالْحَقِيقَةِ أَنْتَ ابْنُ اللَّهِ!" (متى 14: 32-33؛ راجع أيضا متى 9: 18؛ مرقس 5: 6؛ لوقا 5: 8، 12؛ يوحنا 9: 35-38)
وبعد قيامة يسوع من الموت، وقبل صعوده إلى السماء،. سجد له تلاميذه. يروي متى كيف ظهر يسوع لمريم المجدلية ومريم الأخرى اللتين جاءتا إلى القبر حيث جلس الملاك على بابه. وبعد أن نظرتا إلى الداخل، كما قال الملاك لهما ولم تشاهدا يسوع لأنه كان قد قام. "فَخَرَجَتَا سَرِيعاً مِنَ الْقَبْرِ بِخَوْفٍ وَفَرَحٍ عَظِيمٍ ،رَاكِضَتَيْنِ لِتُخْبِرَا تَلاَمِيذَهُ. وَفِيمَا هُمَا مُنْطَلِقَتَانِ لِتُخْبِرَا تَلاَمِيذَهُ إِذَا يَسُوعُ لاَقَاهُمَا وَقَالَ: ’سَلاَمٌ لَكُمَا‘. فَتَقَدَّمَتَا وَأَمْسَكَتَا بِقَدَمَيْهِ وَسَجَدَتَا لَهُ." (متى 28: 8-9). وحدث مع الأحد عشر الأمر نفسه، "وَأَمَّا الأَحَدَ عَشَرَ تِلْمِيذاً فَانْطَلَقُوا إِلَى الْجَلِيلِ إِلَى الْجَبَلِ ،حَيْثُ أَمَرَهُمْ يَسُوعُ. وَلَمَّا رَأَوْهُ سَجَدُوا لَهُ ،وَلَكِنَّ بَعْضَهُمْ شَكُّوا." (متى 28: 16-17)
في كل هذه الحالات لم يعترض يسوع على السجود المقدم له، أما بطرس، الذي لم يكن سوى مجرد انسان، فقد رفض بحزم السجود المقدم له من قبل كرنيليوس. "وَلَمَّا دَخَلَ بُطْرُسُ اسْتَقْبَلَهُ كَرْنِيلِيُوسُ وَسَجَدَ وَاقِعاً عَلَى قَدَمَيْهِ. فَأَقَامَهُ بُطْرُسُ قَائِلاً: ’قُمْ أَنَا أَيْضاً إِنْسَانٌ‘ (أعمال 10: 25-26)
كان يسوع فريدًا من حيث نهاية حياته على الأرض. كان ليسوع سلطان على حياته، (يوحنا 10: 17- 18). فعندما أراد اليهود أن يجعلوه ملكًا رفض ذلك "وَأَمَّا يَسُوعُ فَإِذْ عَلِمَ أَنَّهُمْ مُزْمِعُونَ أَنْ يَأْتُوا وَيَخْتَطِفُوهُ لِيَجْعَلُوهُ مَلِكاً، انْصَرَفَ أَيْضاً إِلَى الْجَبَلِ وَحْدَهُ.." (يوحنا 6: 15) وفي مناسبة أخرى استاء الحاضرون في مجمع الناصرة من تعليمه، ولذلك أخرجوه خارج المدينة وأرادوا أن يطرحوه إلى أسفل الجبل، ولكنه "َجَازَ فِي وَسْطِهِمْ وَمَضَى." (لوقا 4: 29-30).
ولكن يسوع تصرف بطريقة مختلفة تماما عندما جاء الجند وخدام رؤساء الكهنة والفريسيين ليقبضوا عليه كما سبق وأنبأ تلاميذه:
فَخَرَجَ يَسُوعُ وَهُوَ عَالِمٌ بِكُلِّ مَا يَأْتِي عَلَيْهِ، وَقَالَ لَهُمْ: ’مَنْ تَطْلُبُونَ؟‘ أَجَابُوهُ: ’يَسُوعَ النَّاصِرِيَّ‘. قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: ’أَنَا هُوَ‘. وَكَانَ يَهُوذَا مُسَلِّمُهُ أَيْضاً وَاقِفاً مَعَهُمْ. فَلَمَّا قَالَ لَهُمْ: ’إِنِّي أَنَا هُوَ‘، رَجَعُوا إِلَى الْوَرَاءِ وَسَقَطُوا عَلَى الأَرْضِ. فَسَأَلَهُمْ أَيْضاً: ’مَنْ تَطْلُبُونَ؟‘ فَقَالُوا: ’يَسُوعَ النَّاصِرِيَّ‘. أَجَابَ: ’قَدْ قُلْتُ لَكُمْ: إِنِّي أَنَا هُوَ. فَإِنْ كُنْتُمْ تَطْلُبُونَنِي فَدَعُوا هَؤُلاَءِ [التلاميذ] يَذْهَبُونَ.‘ (يوحنا 18: 4- 8).
واستل بطرس سيفه، وقطع أذن عبد رئيس الكهنة. (يوحنا 18: 10) لكن يسوع قال له: "رُدَّ سَيْفَكَ إِلَى مَكَانِهِ." (متى 26: 52) و"َلَمَسَ أُذْنَهُ [أُذْنَ الْعَبْدِ] وَأَبْرَأَهَا." (لوقا 22: 51) وتابع مخاطبا بطرس: "أَتَظُنُّ أَنِّي لاَ أَسْتَطِيعُ الآنَ أَنْ أَطْلُبَ إِلَى أَبِي فَيُقَدِّمَ لِي أَكْثَرَ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ جَيْشاً مِنَ الْمَلاَئِكَةِ؟ فَكَيْفَ تُكَمَّلُ الْكُتُبُ: أَنَّهُ هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ؟" (متى 26: 53- 54).
كان موت يسوع إتماما للنبوات على نحو فريد. إن أحد الكتب التي كان يسوع يشير إليها هو كتاب إشعياء النبي (وتاريخ كتابته حوالى عام 600 ق.م). ويتحدث الاصحاح 53 من ذلك الكتاب عن دلالة وأهمية موت المسيح:
كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ وَالرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا.
مِنْ تَعَبِ نَفْسِهِ يَرَى وَيَشْبَعُ وَعَبْدِي الْبَارُّ بِمَعْرِفَتِهِ يُبَرِّرُ كَثِيرِينَ.
وَآثَامُهُمْ هُوَ يَحْمِلُهَا. (أشعياء 53: 6، 11)
وعلى غرار ذلك ما قاله بطرس الرسول أيضًا عن يسوع: "الَّذِي لَمْ يَفْعَلْ خَطِيَّةً، وَلاَ وُجِدَ فِي فَمِهِ مَكْرٌ." (1 بط 2: 22). لقد أراد يسوع البار، بدافع محبته الفائقة، أن يأخذ مكان الخطاة متحملا قصاصهم على الصليب، كما قال إشعياء النبي:
"... سَكَبَ لِلْمَوْتِ نَفْسَهُ وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ وَهُوَ حَمَلَ خَطِيَّةَ كَثِيرِينَ وَشَفَعَ فِي الْمُذْنِبِينَ." (أشعياء 53: 12).
بعد أن سمع قائد المائة الروماني ومن معه كلمات يسوع على الصليب، ورأوا الظلمة تغطي الأرض (عند الظهر) وشاهدوا الزلزلة، خافوا جدا وقالوا: "حَقّاً كَانَ هَذَا ابْنَ اللَّهِ!" (متى 27: 54).
انتصار يسوع المجيد كان فريدا. إن نهاية حياة كل إنسان على هذه الأرض هي الموت ثم القبر. لكن نهاية يسوع كانت مختلفة، فلم يبق في القبر بل قام. بالحقيقة إن نبوءة إشعياء بموت المسيح، أشارت أيضا إلى قيامته.
أَمَّا الرَّبُّ فَسُرَّ بِأَنْ يَسْحَقَهُ بِالْحُزْنِ. إِنْ جَعَلَ نَفْسَهُ ذَبِيحَةَ إِثْمٍ يَرَى نَسْلاً تَطُولُ أَيَّامُهُ وَمَسَرَّةُ الرَّبِّ بِيَدِهِ تَنْجَحُ. (أشعياء 53: 10)
جدير بالانتباه أن يسوع الذي جعل نفسه ذبيحة إثم سوف يرى نسلا تطول أيامه. ألا يعنى هذا أن يسوع لن يقوم فحسب بل أنه أيضا سيبقى إلى الأبد(رؤيا 1: 18), وأن من يؤمن بيسوع سيحيا حياة أبدية مع يسوع؟ (يوحنا 17: 24)
في فجر الأحد جاءت مريم المجدلية ومريم الأخرى لتنظرا القبر فشاهدتا الملاك الذي كان قد دحرج الحجر عن باب القبر جالسا عليه. فقال لهما: "لاَ تَخَافَا أَنْتُمَا، فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكُمَا تَطْلُبَانِ يَسُوعَ الْمَصْلُوبَ. لَيْسَ هُوَ هَهُنَا, لأَنَّهُ قَامَ كَمَا قَالَ! هَلُمَّا انْظُرَا الْمَوْضِعَ الَّذِي كَانَ الرَّبُّ مُضْطَجِعاً فِيهِ." (متى 28: 5- 6؛ قارن متى 16: 21). وبعد قيامته ظهر لتلاميذه مرارًا على مدى أربعين يوما (أعمال 1: 3). ثم صعد إلى السماء (أعمال 1: 9-11).
مقارنة بين آدم الأول وآدم الأخير
بعد استعراض صفات آدم الأول وآدم الأخير (يسوع المسيح) فإن مقارنة سريعة بينهما تبين من منهما يستحق أن تسجد له الملائكة.
آدم الأول جبل من التراب؛ أما آدم الأخير فهو الرب من السماء.
حياة آدم الأول كانت لها بداية ونهاية. أما آدم الأخير فكان منذ الأزل لأنه الكلمة، " فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللَّهَ."(يوحنا 1: 1-3)؛ وهو الآن حي إلى أبد الآبدين.
وَأَمَّا هَذَا فَمِنْ أَجْلِ أَنَّهُ يَبْقَى إِلَى الأَبَدِ، لَهُ كَهَنُوتٌ لاَ يَزُولُ.
فَمِنْ ثَمَّ يَقْدِرُ أَنْ يُخَلِّصَ أَيْضاً إِلَى التَّمَامِ الَّذِينَ يَتَقَدَّمُونَ بِهِ إِلَى اللهِ، إِذْ هُوَ حَيٌّ فِي كُلِّ حِينٍ لِيَشْفَعَ فِيهِمْ. (عبرانيين 7: 24، 25)
آدم الآول خُدِعَِ من قبل إبليس، وتبع مشورته. أما آدم الأخير فقد ميز خطط إبليس وأبى أن يتبع اقتراحاته المغرية.
آدم الترابي خالف وصية الله وحرم من علاقته مع الله. ولكن آدم السماوي عاش بانسجام تام مع إرادة الله وكان الله معه دائما (يوحنا 8: 29؛ راجع متى 3: 17؛ 17: 5).
والخلاصة: آدم الأول جُبِل من التراب وأخطأ ومات وعاد إلى التراب. أما آدم الأخير يسوع المسيح فنزل من السماء وعاش على الأرض بجسد بشري، خال من الخطية، ومات. لكنه قام من الموت وصعد بجسده المقام إلى السماء. وهو الآن مع الله.
بإنسان واحد، أي آدم الترابي، دخلت الخطيئة إلى العالم وبالخطيئة الموت أما آدم الأخير فهو القدوس البار الذي يخلصنا من الخطيئة.
لأَنَّهُ إِنْ كَانَ بِخَطِيَّةِ وَاحِدٍ مَاتَ الْكَثِيرُونَ فَبِالأَوْلَى كَثِيراً نِعْمَةُ اللهِ وَالْعَطِيَّةُ بِالنِّعْمَةِ الَّتِي بِالإِنْسَانِ الْوَاحِدِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ قَدِ ازْدَادَتْ لِلْكَثِيرِينَ! ... لأَنَّهُ كَمَا بِمَعْصِيَةِ الإِنْسَانِ الْوَاحِدِ [آدم الأول] جُعِلَ الْكَثِيرُونَ خُطَاةً هَكَذَا أَيْضاً بِإِطَاعَةِ الْوَاحِدِ [آدم الأخير] سَيُجْعَلُ الْكَثِيرُونَ أَبْرَاراً. (رومية 5: 15 , 19)
أراد آدم الأول الترابي، أن يصبح معادلا لله وأن يتحرر من سلطانه. أما آدم الأخير، الرب من السماء، الذي كان بطبيعته معادلا لله باعتباره ابن الله الأزلي، فقد أخلى نفسه وأخذ هيئة بشرية وخضع لسلطان الله خضوعا تاما.
تفوق المسيح
كانت طاعة المسيح كاملة في كل شيء وفي كل وقت. لكنها بلغت غايتها العظمى عندما قبل يسوع أن يموت على الصليب، لا لخطيئة فعلها بل بسبب خطايا البشر. وبذلك أكمل يسوع عمل الفداء الذي قصده الله منذ الأزل، فخلص الإنسان من عقاب الخطية وسلطانها. كما خلصه أيضًا من سلطان إبليس. وقد بين بولس الرسول أهمية طاعة يسوع بنظر الله في رسالته إلى كنيسة فيليبي:
فَلْيَكُنْ فِيكُمْ هَذَا الْفِكْرُ الَّذِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ أَيْضاً، الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً لِلَّهِ. لَكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِراً فِي شِبْهِ النَّاسِ.
وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ.
لِذَلِكَ رَفَّعَهُ اللهُ أَيْضاً، وَأَعْطَاهُ اسْماً فَوْقَ كُلِّ اسْمٍ، لِكَيْ تَجْثُوَ بِاسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى الأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ الأَرْضِ، وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ اللهِ الآبِ. (فيليبي 2: 5-11).
إن الاسم في الكتاب المقدس يعنى الشخص ذاته وما يستطيع أن يعمله. ولذلك فإن إعطاء الله ليسوع اسما فوق كل اسم يعني أنه جعل مقامه فوق الجميع في السماء وعلى الأرض ومن تحت الأرض. ولهذا فهو يستحق أن تجثو له كل ركبة، ليس بمعنى الاحترام أو التعظيم بل بمعنى العبادة التي تقدم لله. وليس هذا بمستغرب لأنه منذ الأزل كان معادلا لله.
ويتحدث الاصحاح الأول من الرسالة إلى العبرانيين عن نفس الموضوع. فهو يبيّن مركز المسيح ابن الله وكلمة الله، إذ أنه قدم نفسه ذبيحة لله ليطهرنا من خطايانا:
اَللهُ، ... بَعْدَ مَا كَلَّمَ الآبَاءَ بِالأَنْبِيَاءِ قَدِيماً، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُقٍ كَثِيرَةٍ، كَلَّمَنَا فِي هَذِهِ الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ فِي ابْنِهِ الَّذِي ....بَعْدَ مَا صَنَعَ بِنَفْسِهِ تَطْهِيراً لِخَطَايَانَا، جَلَسَ فِي يَمِينِ الْعَظَمَةِ فِي الأَعَالِي، صَائِراً أَعْظَمَ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ بِمِقْدَارِ مَا وَرِثَ اسْماً أَفْضَلَ مِنْهُمْ. (عبرانيين 1: 1- 4)
هذا النص يبين أن الاسم الذي ورثه يسوع أو الذي منحه له الله بسبب طاعته حتى الموت، موت الصليب، هو اسم أفضل من الملائكة. لذا يستحق أن تسجد له الملائكة بل أن تعبده. هنا ينجلي الغموض الذي واجهناه في مطلع هذا البحث، ونفهم تماما قول الله عن الابن:
مَتَى أَدْخَلَ الْبِكْرَ [آدم الأخير] إِلَى الْعَالَمِ يَقُولُ:
"وَلْتَسْجُدْ لَهُ كُلُّ مَلاَئِكَةِ اللهِ." (عب 1: 6)
لقد أُمرت الملائكة بالسجود للمسيح. وكذلك سوف تتعبد له أيضا كل الشعوب والأمم والألسنة بحكم ما أعطي له من سلطان ومجد.
الخلاصة:
أيها القارئ العزيز أمامك خياران:
فإما أن تكتفي بما يقوله القرآن عن آدم الأول، أو أن تؤمن بما يقوله الكتاب المقدس عن آدم الأول وآدم الأخير.
تذكر أن "الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا." (رومية 3: 23) وأن "لأَنَّ أُجْرَةَ الْخَطِيَّةِ هِيَ مَوْتٌ وَأَمَّا هِبَةُ اللهِ فَهِيَ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا." (رومية 6: 23). إن يسوع المسيح، الذي هو آدم الأخير، قد مات على الصليب ليخلص الخطاة. فكل من يومن به يخلص ولن يواجه العقاب الأبدي (يوحنا 3: 16)
لذلك إذا آمنت بما يقوله الكتاب المقدس عن آدم الأخير، الذي جاء من السماء وأطاع الله طاعة تامة، ومات لأجل خطاياك، فإنك تنال الخلاص والحياة الأبدية. أضف إلى ذلك أنك ستنعم بالعلاقة الحميمة معه الآن وفي الأبدية.
وائل التغلبي يرحب بأسئلتكم حول هذا الموضوع.
ملحق: هل يمكننا أن نثق بما يقوله الكتاب المقدس عن آدم الأول وآدم الأخير؟
ربما يعترض بعض القراء المسلمين على ما يقوم به الكتاب المقدس من توضيح أو تصحيح لمعلومات القرآن بهذا الخصوص لأنهم سمعوا من قبل الادعاء القائل أن الكتاب المقدس محرّف، ولا يمكن قبوله كمصدر موثوق لتوضيح وتصحيح ما ذكره القرآن بشأن آدم. سوف أقدم أولا ردًّا مختصرا على هذا الادعاء، ثم أتبع ذلك بحجة مفصلة تقدم الاقتباسات والشواهد اللازمة لدحضه.
أ.القرآن يشهد لصحة الكتاب المقدس. يبين القرآن أن الله هو الذي أعطى الكتاب المقدس وشهد بصدق محتوياته، وكلف القرآن بالمحافظة عليه، بل إن الله ذاته هو كتب الكتاب المقدس. كذلك يحث القرآن المسلمين على الإيمان بالتوراة والإنجيل. وهذا يثبت ـ حتى من وجهة نظر القرآن ـ صحة الكتاب المقدس الذي كان معروفا في زمن محمد. كما يبين القرآن أن الله سيحفظ الكتاب المقدس المعروف آنذاك من أي تبديل.
ب.يشهد التاريخ لصحة هذه الحقيقة. إن جميع المخطوطات من القرن الرابع الميلادي تتضمن النصوص نفسها التي يتضمنها الكتاب المقدس اليوم في جميع أنحاء العالم.
خلاصة القول، نظرا إلى أن القرآن يشهد بصحة الكتاب المقدس، كما تشهد المخطوطات لاستمراريته دون تبديل فيه، فبوسع المسلمين أن يدرسوا الكتاب المقدس ويؤمنوا بما يقوله عن آدم الأول وآدم الأخير: آدم الذي من التراب وآدم الذي من السماء.
ونقدم فيما يلي الأدلة على البيانات السابقة.
أ. الحقيقة الأولى، صحة الكتاب المقدس
1. ألآيات القرآنية تشهد بصحة الكتاب المقدس
يتضمن القرآن عددا من الآيات التي تشهد بصحة الكتاب المقدس، "وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ." (10: 37) يفسر الطبري هذه الآية بقوله: "يقول الله تعالى ’تصديق الذي بين يديه أي الكتب التي أعلنها الله لأنبيائه كالتوراة والإنجيل وبقية الكتب المعلنة لأنبيائه.‘ لاحظ أيضا الآيات القرآنية الأخرى التي تشير إلى نفس الحقيقة: (2: 89، 91، 97؛ 6: 92؛ 35: 31)
2. الله هو الذي أنزل (أوحى بِ) التوراة والإنجيل
تبين الآية 3 من السورة 3 أن الله نفسه هو الذي أنزل (أوحى ب) التوراة والإنجيل كما أنزل القرآن، "نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ." (3: 3)
3. القرآن يحافظ على الكتاب المقدس
لقد أعلن الله أن مهمة القرآن هي أن يصدق الكتب التي سبقته ويحافظ عليها "وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ..."(5: 48) وجاء في تفسير الطبري: أنزلنا إليك الكتاب، يا محمد، مصدقا للكتب التي سبقته وشاهدا بأنها الحق من عند الله، ومحافظا عليها بأمانة.
4. القرآن يؤكد أهمية محتوى التوراة
جاء في السورة 5 أن الله أنزل التوراة، " إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ..." (5: 44) وجاء في تفسير الطبري 9387: عندما جاء الناس إلى محمد ليستشيروه بشأن القصاص الذي يجب أن يوقعوه بزوجين يهوديين ارتكبا الزنى، قال: "أنني أحكم بما جاء في التوراة".
5. القرآن يؤكد أهمية الإنجيل
"وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ" (5: 46)
6. كتب الله في التوراة والمزامير (الزبور)
إن أقوى حجة قرآنية على صدق الكتاب المقدس واردة في السورة 21: " َلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ." (21: 105) تبين هذه الآية أن الله قد كتب هذين الكتابين، التوراة والمزامير. وبحسب تفسير الطبري 18806، الزبور في هذه الآية يعني مزامير داود؛ والذكر يعني توراة موسى (لاحظ 7: 145؛ 21: 7).
من المهم أن نلاحظ أن عبارة "يرثها عبادي الصالحون" شبيهة بعبارة في كتاب المزامير، "وَالَّذِينَ يَنْتَظِرُونَ الرَّبَّ هُمْ يَرِثُونَ الأَرْضَ." (مزمور 37: 9).
7. إن الله يأمر المسلمين بأن يصرحوا بأنهم يؤمنون بما في التوراة والإنجيل:
"قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ." (2: 136) وبحسب تفسير الطبري، ’"ما أنزل إلى موسى وعيسى" إشارة إلى التوراة التي اعطاها الله لموسى والإنجيل الذي أعطاه الله لعيسى (يسوع).‘
والخلاصة:
إن الكتاب المقدس الذي كان في زمن محمد أصيل وجدير بالتصديق
جميع الآيات الواردة أعلاه تثبت أن الكتاب المقدس الذي كان في زمن محمد هو بحسب شهادة القرآن أصيل وجدير بالتصديق. ولم ينزّله الله فحسب بل وكتبه أيضا.
ولكن هل الكتاب المقدس المعروف في زمن محمد هو الكتاب المقدس نفسه الموجود بين أيدينا اليوم؟ لكي نعرف الإجابة عن هذا السؤال نشير إلى دليلين: شهادة القرآن وشهادة المخطوطات.
القرآن يشهد بأن الله حفظ الكتاب المقدس
1. لا يستطيع أحد أن يبدل كلمات الله
ثمة عدد من الآيات التي تبين أن أحدا ما لا يستطيع أن يبدل كلمات الله: "وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ." (6: 34)؛ "وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (18: 27)؛ "وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ." (6: 115) وفسر الطبري هذه الآية بقوله: لا مغيّر لما أخبر الله في كتبه أنه كائن من وقوعه في حينه وأجله.
2. الله يحفظ الذكر
توجد في السورة 21 آية على قدر كبير من الأهمية: "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ." (15: 9) كلمة "الذِّكر" لا تعنى القرآن حصرًا (16: 43،44)، بل تشمل التوراة والإنجيل أيضا، كما يتضح من 21: 7، "وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ." (21: 7) وبحسب تفسير الطبري 18471، فإن "أهل الذكر هم أهل التوراة والإنجيل."
3. أضف إلى ذلك أن أهل الذكر (التوراة والإنجيل) جديرون بالثقة.
يوجد حث للمؤمنين كي يسألوا أهل الذكر (التوراة والإنجيل بحسب تفسير الطبري 16313) "وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ (التوراة والإنجيل) إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ." (16: 43) فلو كان الكتاب (التوراة والإنجيل) في زمن محمد محرَّفا لما أمر القرآنُ المؤمنين بأن يسألوا أهل الكتاب.
4. لم يحدث تبديل في الكتاب المقدس
لم يُشِرْ القرآن إلى أي تبديل في الكتاب المقدس. ولولا ذلك لما حث أهل الكتاب على التمسك بكتابهم: "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ... (5: 68) يفسرالطبري هذه الآية بقوله، "يقول تَعَالَى : قُلْ يَا مُحَمَّد لِهَؤُلَاءِ الْيَهُود وَالنَّصَارَى" يَا أَهْل الْكِتَاب" (أهل التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل) , لَسْتُمْ عَلَى شَيْء مِمَّا تَدَّعُونَ أَنَّكُمْ عَلَيْهِ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ مُوسَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْشَر الْيَهُود , وَلَا مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ عِيسَى مَعْشَر النَّصَارَى حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل...
كذلك حث القرآن المسلمين على الإيمان بالتوراة والإنجيل. "قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ." (2: 136) وبحسب تفسير الطبري "ما أوتي موسى وما أوتي عيسى إشارة إلى التوراة والإنجيل". وهذا يشير بوضوح إلى أن أيا من الكتابين لم يطرأ عليه أي تبديل. (للاطلاع على مناقشة هذه المسألة بمزيد من التفصيل راجع www.answering-islam.org/Quran/Bible
ب. المخطوطات تثبت صحة الكتاب المقدس
تاريخ ومضمون المخطوطات
يوجد عدد كبير من مخطوطات الكتاب المقدس. وقد حفظت تلك المخطوطات على شكل Codex . هذا المصطلح يعني مجلدا يحوي إما ورقة واحدة أو رزمة أوراق. وقد استعملت هذه الوسيلة لحفظ أجزاء الكتاب المقدس من قبل المسيحيين في مصر حوالى منتصف القرن الثالث. وبعض المخطوطات المجلدة تحوي أجزاء من الكتاب المقدس، ولكن توجد بعض المخطوطات تتضمن كل الكتاب المقدس أو معظمه. نكتفي بذكر تلاثة مخطوطات مجلدة.
1. المخطوطة الاسكندرانية وهي مخطوطة تتضمن الكتاب المقدس كله باللغة اليونانية، وترجع على الأرجح إلى القرن الخامس الميلادي، ومحفوظة الآن في المتحف البريطاني. وهي على العموم بحالة جيدة ولكن توجد ثغرات في بعض أجزاء الكتاب المقدس. وهذه المخطوطة شهادة هامة لنص الترجمة السبعينية للكتاب المقدس وللعهد الجديد.
2. المخطوطة السينائية. وتتضمن الكتاب المقدس كله؛ وكانت قبلا في سيناء، ثم نقلت إلى سان بطرسبرغ، ثم نقلت إلى المتحف البريطاني عام 1934. وربما يرجع تاريخها إلى القرن الرابع.
3. المخطوطة الفاتيكانية. مخطوطة تتضمن الكتاب المقدس بكامله، وهي في مكتبة الفاتيكان منذ 1475. يمكن أن يرجع تاريخها إلى القرن الرابع. (موسوعة زوندرفان المصورة، المجلد الأول الصفحات 899- 903)
إن الدليل المادي على تحريف أو صحة الكتاب المقدس يكمن في المخطوطات. وإن دراسة هذه المخطوطات لتؤكد صدق الكتاب المقدس ونزاهته. فبفضل وجود عدد كبير من المخطوطات تمكن العلماء من أن يؤكدوا، خلافا لما ذكر سابقا، أن نص الكتاب المقدس قد نقل بصورة أمينة تدعو للدهشة.
لقد عبر ابن تيمية في القرن الرابع عشر عن رأيه في هذه المسألة فذكر أن إثبات صحة الكتاب المقدس يتطلب فحص كل مخطوطة. ولم يكن هذا ممكنا في ذلك الوقت نظرا إلى أن تلك المخطوطات كانت متفرقة في جميع أنحاء العالم. أما اليوم فإن الأمر مختلف تماما. إذ أن العلماء يملكون وسائل للبحث والفحص لم تكن متيسرة من قبل، ويستطيعون الاتصال فيما بينهم لمقارنة نتائج دراساتهم. ويتفق خبراء المخطوطات، بغض النظر عن قناعاتهم الدينية، على أن الكتاب المقدس قد وصل إلينا بدقة استثنائية. ولا تستطيع الاختلافات النصّية بأي حال أن تلقي ظلا من الشك على النص الكتابي.
هذا وإن المخطوطات المذكورة أعلاه قد سبقت نشؤ الاسلام. وعندما تقارن تلك المخطوطات مع المخطوطات التي ترجع إلى تاريخ لاحق يتبين لنا أن نص الكتاب المقدس لم يتغير نتيجة إحجام اليهود والمسيحيين عن قبول محمد كنبي لله." (من كتاب شوكة مقري، "النبي والمسيح" ص 73- 74 المطبوع بالإنكليزية).