القسم الأول
تمهيد
الفصل الأول
بعض الافتراضات الأساسية عن المفردات
كل مؤلف وقارئ وشخص يشترك في مناقشة، يجيء عادةً إلى الكتاب أو المناقشة بأفكار يعتقد أنها صحيحة، ربما يمكنه أن يفحص صحّتها بمقاييس ثابتة، كما في العلوم، أو أن يفحصها بالحفريات أو بالرجوع إلى الوثائق التاريخية ولكن كثيراً ما يستحيل فحص صحة الأفكار التي نقول إنها (افتراضات أساسية) فمثلاً قد أعتقد أن المادة حقيقية، وأن الورق الذي طُبع عليه هذا الكتاب حقيقي وعندما درست الفلسفة قال أستاذنا الجامعي إن الفيلسوف زينو كان يعتقد أن العالم وهم، فرفعتُ يدي في براءة وسألت: (ولكن كيف استمتع بالحياة إن كان يعتقد أنها وهم؟) وأجاب الأستاذ: (ألا يقدر أن يستمتع بالوهم؟) ونظرياً يمكن للإنسان أن يستمتع بوهم، فأحلام يقظتنا أوهام! ولكن مشكلتي هي أني كنت أفترض أن العالم حقيقة.
ويفترض اليهود والمسيحيون والمسلمون أساساً أن الله موجود، وأنه خلق العالم الذي نلمسه ونقيسه من لا شيء ولكن عندما تختلف افتراضاتنا الأساسية نواجه المشاكل فمثلاً ذات مرة جاءني مريض مغربي لأفحصه ولما سألته عن وظيفته قال إنه من علماء الدين، فتحدثنا قليلاً عن الإنجيل، ودعاني لأزوره في بيته لنكمل الحديث ولما فعلتُ وردَت في حديثنا كلمة (المسيّا) من يوحنا 1:41 فقلت: (تجيء هذه الكلمة من أصلٍ عبري، وتُرجِمت في العربية (المسيح) فقال: (لا! بل هذا اسم آخر من أسماء محمد إنه يحمل أسماء كثيرة) وبعد مناقشة قلت له: (إذاً لنرجع للقاموس لا بد أن عندك قاموس المنجد) فقال: (لا! هذا غير ممكن) فسألت: (لماذا لا؟) فأجاب: (لأنك أنت الذي كتبتَ هذا القاموس) فسألته باستنكار: (كيف تقول إني كتبته؟ لا شأن لي بكتابته!) فقال: (لقد فعلتَ، فإن كاتبه مسيحي) وانتهت المناقشة ولم يكن في المغرب وقتها قاموس يُباع إلا (المنجد) الذي جهَّزه مؤلفون كاثوليك في لبنان، ولكن عالِم الدين المغربي رفض أن يعترف بصحته وهذا يعني أننا لا نقدر أن نحتكم للقاموس في معنى أية كلمة نختلف على معناها وسبب ذلك أننا قد اختلفنا في افتراضنا الأساسي عن صحة القاموس.
معنى المفردات:
واضح من المثل الذي ضربته أننا يجب أن نتفق على معاني المفردات قبل أن نبدأ أي مناقشة علمية أو دينية ذات فائدة وكتب د بوكاي فصلاً كاملاً عن كلمة (العَلَقَة) كما كتب أربع صفحات عن الكلمات اليونانية (لاليو) و(أكوو) و(باراكليتوس) فكيف نحدد معاني الكلمات؟ ومن هو الحَكَم على المعنى الصحيح والمعنى الخاطئ لأية كلمة؟ وكيف يجهّزون قواميس اللغات؟
والإجابة هي: أنت وأنا نجهّز قواميس اللغات، وذلك باستخدامنا للكلمات في فترة معينة من الزمن ويقوم علماء اللغة بدراسة الاستعمال الشفاهي أو المكتوب لكلمةٍ ما، ومنه يحددون معنى الكلمة ولما كنا سندرس مفردات من الكتاب المقدس والقرآن، فسأضرب أمثلة من المفردات المكتوبة وقد شرح الدكتور هاياكاوا أستاذ اللغات بجامعة سان فرانسيسكو طريقة تجهيز قاموس بقوله (1 - أرقام الهوامش في نهاية القسم):
(لكي يحدد محرّرو القاموس معنى كلمة ما، يبدأون بقراءة واسعة لكتاباتٍ من الفترة التي سيغطي القاموس مفرداتها، ويختارون الكلمات الهامة والنادرة ويكتبونها على كارتات، ثم يكتبون الجُمل التي وردت بها تلك الكلمات لتتضح لهم القرينة مثلاً يكتبون كلمة (دلو) والجملة التي جاءت فيها الكلمة: (دلو مزرعة إنتاج اللبن يجيء لبيوتنا بمزيد من اللبن) (جاءت الجملة في كتاب إندميون كيتس ج 1 ص 44 و45) ثم وبعد إكمال هذا العمل يجدون لكل كلمة مئتي أو ثلاث مئة استعمال في جُمل مختلفة- كل جملة على كارت ولكي يحدد محرّر القاموس معنى أو معاني الكلمة، يضع الكارتات أمامه، ويقدم كل كارت منها استخداماً للكلمة ذا أهمية أدبية أو تاريخية، فيقرأ الكارتات بتأنٍ ويستبعد بعضها، ويعيد قراءة البعض الآخَر، ويقسم الكارتات حسب ما يعتقد أنه المعاني المختلفة للكلمة، ثم يحدد معنى أو معاني الكلمة في نور أن كل معنى يجب أن يُبنى على ما يحدده الاقتباس الذي أمامه.
ويقول الأستاذ هاياكاوا:
(لا يحدد مؤلف القاموس بنفسه معاني الكلمات كما يروق له، بل هو يسجل بقدر إمكانه معاني الكلمة كما حدده المؤلفون في الماضي القريب أو البعيد فمؤلف القاموس مؤرخ وليس مشرّعاً).
استعمال الكلمة يحدد معناها
ونقدم هنا مثلاً لتحديد معنى كلمة (وِزْر) و (الوازرة) من الجذر (وَزَرَ) وذلك من استعمالها في جُمل وقد وردت (وزر) بتصريفاتها المختلفة في القرآن 24 مرة فلندرس ورود الكلمة في سورة طه 20:87 وذلك في منتصف الفترة المكية، تصف وزر بني إسرائيل في عبادة العجل الذهبي:
(قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ).
فإذا جئنا بكارت كتبنا عليه كلمة (وزر) بحسب المعنى الوارد في هذا الاقتباس، لحدَّدنا أن معناها (الثِقل) المفروض عليك أن تحمله: (حُمِّلنا)
ثم لنتأمل سورة محمد 47:4 (ويرجع استعمالها للسنة الأولى للهجرة) فقد أُمِر المسلمون أن يحاربوا الكافرين حتى يُخضِعوهم:
(فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ).
وكلمة (وزر) هنا جاءت بمعنى آخر، فهي تشير للذين جُرحوا وماتوا في الحرب، وربما تشير إلى الآلام النفسية التي أصابت أهلهم.
ولنناقش معاني أخرى لكلمة (وزر) كما جاءت في آيات قرآنية أخرى، ولنكتب كل استعمال على كارت خاص:
سورة فاطر 35:16 و18 (والآيتان من العهد المكي الأول) (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ... وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى)
سورة النجم 53:36-41 (وهي أيضاً من العهد المكي الأول) (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى)
سورة طه 20:100-102 (وهي من العهد المكي الوسيط) (مَنْ أعَرْضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ)
سورة الأنعام 6:31 (وهي من العهد المكي المتأخر) (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ)
سورة الأنعام 6:164 (من العهد المكي المتأخر) (وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)
سورة الزُّمَر 39:7 (من العهد المكي المتأخر) (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)
سورة النحل 16:25 (من العهد المكي المتأخر) (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاءَ مَا يَزِرُونَ)
سورة الإسراء 17:13-15 (من السنة الأولى للهجرة) (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً اِقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)
فإذا قارنا هذه الآيات اتَّضح لنا أن كلمة (وزر) تُستعمَل لنوعٍ آخر من الأحمال فإذا رفضت رسالة الله وقع على كاهلك حمل وإذا كفرت سيكون هناك يومُ حسابٍ تنوء تحته بالحِمل ويحمل كل إنسان حمل نفسه يراه مكتوباً في كتاب يقرأه بنفسه، ويحمله على ظهره، كما أن الله يعلم بذات الصدور (أي القلوب) ومن كل هذه الأفكار يتضح لنا أن الوزر يعني الخطأ.
فإذا قمت بدراسة هذه الآيات يتضح لك أن قبيلة قريش في شبه الجزيرة العربية كانت تستخدم كلمة (وزر) لتعني حِملاً ثقيلاً جسدياً أو نفسياً كما أنهم استعملوها للخطية أو الكفر.
وإذا درست كلمة (وزر) في (معجم اللغة العربية المعاصرة) تأليف (هانزير) 2 ستجده يقول إن معناها: حمل ثقيل ثِقل مرهق خطية جريمة مسئولية.
وهكذا تجد أن معنى كلمة (وزر) ليس فقط (مسئولية) ولكنه أيضاً خطية وحمل ثقيل.
أما إذا درست (وزر) في قاموس فقهي فستجد المزيد من المعاني: فالخاطئ لا يقدر أن يساعد خاطئاً آخر، مهما كان قريباً له وكل خاطئ سيجد عقابه مسجلاً في كتاب وإذا أضللت أحداً نالك عقابٌ مضاعف ولكن لا يوجد في هذه الآيات ما يؤكد أن من لا وزر له يقدر أن يشفع في المخطئ.
اللغة دائمة التغيُّر
أكّد عالِم اللغة السويسري فرديناند دي ساسير (ويُعتبَر أب علماء اللغويات) في محاضرات له عامي 1910 و1911 هذه الحقيقة بقوله لتلاميذه:
(تنحلّ اللغة أو بالحري تتطور تحت تأثير عوامل تطول الصوت والمعنى ولا مفرّ من هذا التطور، ولا توجد لغة تقاوم هذا ونقدر أن نرى هذا التغيير واضحاً بمرور الزمن) 3
ويكرر عالِم اللغة الفرنسي أندريه مارتينيه الفكرة نفسها في كتابه (مبادئ عامة في علم اللغة) (نُشر عام 1964) فيقول:
(نلاحظ أن اللغات تتغيّر باستمرار دون أن تتوقف عن أداء وظيفتها وكل لغة ندرسها نجدها في حالة تحوُّل (حتى في وقت دراستها) ويصدق هذا على كل لغة في كل وقت)
ويوضح د لويس سولومون أستاذ اللغة الإنكليزية في كلية بروكلين في كتابه (علم دلالات الألفاظ والفطرة السليمة) أنه بسبب هذا التغيير المستمر توجد طريقة واحدة لمعرفة معنى أي كلمة، فيقول:
(المعنى المعتَرَف به لأية كلمة في زمن معيَّن هو المعنى الذي استخدمه لها من استعملوها في ذلك الزمن) 4
وبإيجاز نقول: يتغير معنى بعض الكلمات بمرور الزمن، بينما يبقى معنى البعض الآخر بدون تغيير واليوم إذا عرَّفنا كلمة قد نحتفظ بمعناها القديم، وقد نعطيها معنى جديداً واستعمالنا وحده هو الذي يحدد المعنى القديم أو يعطي المعنى الجديد.
الاشتقاق الخاطئ في الدراسات المعنيَّة بأصل اللغة وتاريخها
قال الدكتور سولومون:
(الاشتقاق الخاطئ في دراسة أصل اللغة وتاريخها هو الذي ينادي بأن المعنى القديم للكلمة هو وحده المعنى الصحيح، والذي ينادي بأن المعاني المتأخرة فسادٌ يجب استئصاله بأول فرصة ممكنة)
وعليه فإننا يجب أن نجد معنى الكلمة في استخدام الناس لها، لأننا نخدع أنفسنا لو حاولنا تعريف الكلمة بالرجوع إلى الأصل القديم، فهذا الرجوع للقديم لا يعطينا المعنى المعاصر، كما أن المعنى الحديث لا يعطينا المعنى القديم فإذا وردت كلمة مرة واحدة في وثيقة واحدة أو على لوح فخاري واحد يعود تاريخه إلى 500 سنة مضت، فإن المعاني القديمة (أو الحديثة) للكلمة قد تساعدنا في تخمين معنى تلك الكلمة، ولكنه لا يؤكد ذلك ويجب أن نفحص استعمالات كلمة ما لنعرف ما قصده بها المسيحيون في القرن المسيحي الأول، أو ما قصده المسلمون بها في القرن الهجري الأول.
ولكن د بوكاي لا يتفق مع هؤلاء المتخصصين في علم اللغة، فيقول في أحد كتبه 5:
(هناك قانون عام برهن صحّته الكاملة بالنسبة للمعارف الحديثة: فالمعنى الأصلي لكلمة ما، المعنى القديم، هو الذي يعطي بوضوح كامل ما يتفق مع المعارف العلمية، بينما المعاني المشتقَّة تقود لمعاني خاطئة أو باطلة)
غير أن قانون د بوكاي هذا يؤدي بنا إلى الباطل! ولنعطِ مثلاً من كلمة (طائر) فقد جاء في سورة الإسراء 17:13 (وترجع للسنة الأولى للهجرة) (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ (أي ما كُتب عليه) فِي عُنُقِهِ) ولكن المعنى الأصلي القديم لكلمة (طائر) هو (ذو الجناح) وكان العرب والرومان يحاولون معرفة المستقبل من اتجاه طيران الطيور، كفأل حسن أو سيء فإذا استخدمنا قانون د بوكاي لصار معنى آية الإسراء 17:13: (ربط الله ذا جناح كل إنسان في عنقه)! وهذا يفسد معنى الآية.
وكمثَلٍ آخر لفساد قانون د بوكاي نقدم اسم طائر (الرَّخَم) وهو نوع من الطيور يحتفظ بزوج واحد مدى الحياة، وجاء ذكره في سفر التثنية 14:17 وبالرجوع إلى جذر الكلمة في اللغة العبرية نجد أنه يعني (رحمة) ومن المرعب أن نترجم آية سفر التثنية أن (الرحمة) تطير في الجو لترى جثةً تنهشها! ولكن ربط المعنى القديم بكل كلمة يؤدي إلى الخلط بين الطائر والرحمة! وهكذا لا يقدر أحد أن يقول إن المعنى الأصلي القديم للكلمة هو الذي يتفق مع المعارف العلمية.
ونقدم مثالاً ثالثاً من كلمة (كحول) المأخوذة من جذر كلمة تعني (كُحل) لتكحيل العيون، وقد أَخذت الكلمة عند الرومان بعد ذلك معنى (النقاء) وعندما أُنتِج الكحول أول مرة بالتقطير كان نقياً، فأطلقوا عليه اسم (كحول) والكحول والكحل من ذات الجذر ومن الحماقة أن نتساءل: أي المعنيين يتفق مع المعارف العلمية!
وأقتبس ما قاله عبد الله يوسف علي الذي ترجم القرآن للإنكليزية:
(لكل كاتب ومفكر جادّ الحق أن يستخدم كل معارفه وخبرته في خدمة القرآن، ولكن لا حقَّ له أن يخلط نظرياته واستنتاجاته، مهما كانت معقولة، ليفسّر النص الكامل كل الكمال وتقوم صعوباتنا في تفسير النص إلى أسباب عدّة أذكر منها:
(1) اكتسبت الكلمات العربية معاني أخرى غير التي فهمها الرسول وصحابته وكل لغة حية تجوز في تغييرات وقد أدرك المفسرون الأقدمون ذلك، ويجب علينا أن نقبل ما وصلوا إليه وعندما يختلفون في ما بينهم، علينا أن نستخدم حسَّنا التمييزي والتاريخي لنتبنَّى التفسير الذي نرضاه ولكن ليس لنا أن نبتكر معاني للألفاظ)
وهذا يعني أننا يجب ألّا نخترع معانٍ جديدة للكلمات لأننا نواجه صعوبات في الفقرة التي ندرسها.
أهمية القرينة
ذكرنا أن القرينة تساعدنا أن نفهم الكلمة من استعمالاتها والآن ندرس أهمية القرينة في تحديد معنى كلمة أو عبارة أو جملة وردت في وثيقة رأينا أن الكلمة تحمل أحياناً أكثر من معنى، كما قلنا إن كلمة (وزر) تحمل معنى الخطأ، والثقل، والمسئولية فإذا سألَنا أحدٌ عن (الوزير في الوزارة) فإننا لا نجد عندنا جواباً هل نقول خطية الوزارة، أو ثقل الوزارة! هنا نحتاج لدراسة القرينة، لأنها تصحح لنا المعنى ويقول الأستاذ ساسير:
(اللغة نظام تتوقف فيه المصطلحات بعضها على بعض، فيكون المصطلح بلا قيمة بدون وجود المصطلح الآخر) 6
ويقول الأستاذ سولومون:
(لا تُستعمَل الكلمات بمعزل عن بعضها، فكل كلمة تتأثر بقرينتها من كلمات تحيط بها في الجملة أو الفقرة أو الخطاب كله فلنفهم استعمال كلمة عام 1787 يجب أن نلاحظ ما قصده بها مستخدموها عام 1787) 7
قدَّم د داود رهبار في كتابه (إله العدل) عدة أمثلة لأهمية القرينة 8، فقال إن سورة الصافات 37:96 تقول: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) وهذا يحتمل معنيين: (أ) الله خلقكم وما تقومون به، و (ب) الله خلقكم وما تصنعون فكيف نميّز بينهما؟ نحتاج للعودة للقرينة فإذا رجعنا لآية 37:91-96 وجدنا المعلومات التالية:
(فَرَاغَ (أي مال إبرهيم بحيلة) إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لاَ تَنْطِقُونَ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ فَأَقْبَلُوا (أهل المدينة) إِلَيْهِ يَزِفُّونَ قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) - تقومون به أو تصنعونه؟ توضح القرينة أن الله خلقهم وخلق أعمالهم ولقد عزل الإمام الغزالي الآية من القرينة فجعل المعنى (ما تقومون به) فيكون الله نفسه خالق البشر وكل ما يقومون به!
جميع القرائن
ولكي ندرس كل القرائن نحتاج أحياناً أن نجمع الجُمَل من فصول أخرى، أو كل الإشارات الواردة في الكتاب كله وكمثال لذلك نذكر مقالاً للكاتب الأردني الأستاذ حسن عبد الفتاح كَتْكَت نُشر في مجلة (منار الإسلام) (يناير وفبراير 1981) عنوانه (عُرف الرسول من قبل مولده) اقتبس فيه برهاناً على دعواه ما جاء في التثنية 18:18 و19 قول الله في التوراة (أُقِيمُ لَهُمْ نَبِيّاً مِنْ وَسَطِ إِخْوَتِهِمْ مِثْلَكَ، وَأَجْعَلُ كَلَامِي فِي فَمِهِ، فَيُكَلِّمُهُمْ بِكُلِّ مَا أُوصِيهِ بِهِ وَيَكُونُ أَنَّ الْإِنْسَانَ الَّذِي لَا يَسْمَعُ لِكَلَامِي الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ بِاسْمِي أَنَا أُطَالِبُهُ) ثم اقتبس جزءاً من التثنية 34:10 (وَلَمْ يَقُمْ بَعْدُ نَبِيٌّ فِي إِسْرَائِيلَ مِثْلُ مُوسَى) ثم لخَّص كلامه بأن: (أ) وعد الله أن يقيم نبياً آخر مثل موسى (ب) ولم يقُم نبي مثل موسى ثم استنتج الأستاذ كتكت أنه لما لم يقُم نبي مثل موسى في بني إسرائيل، تكون كلمة (إخوتك) تعني نسل إسمعيل وليس نسل إسحق، وتكون هذه نبوة عن محمد.
ولنعرف إن كان استنتاج الأستاذ كتكت صحيحاً يلزمنا أن نعرف كيف استعملت التوراة التعبير (إخوتك) وكيف وصفت موسى ولما ندرس التوراة نجد معلومات أخرى عن الموضوع فلو درسنا التثنية 18:15-18 لوجدنا (15 يُقِيمُ لَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَبِيّاً مِنْ وَسَطِكَ مِنْ إِخْوَتِكَ مِثْلِي لَهُ تَسْمَعُونَ 16‚حَسَبَ كُلِّ مَا طَلَبْتَ مِنَ الرَّبِّ إِلهِكَ فِي حُورِيبَ (أي جبل سيناء) يَوْمَ الِاجْتِمَاعِ قَائِلاً: لَا أَعُودُ أَسْمَعُ صَوْتَ الرَّبِّ إِلهِي وَلَا أَرَى هذِهِ النَّارَ الْعَظِيمَةَ أَيْضاً لِئَلَّا أَمُوتَ 17‚قَالَ لِيَ الرَّبُّ: قَدْ أَحْسَنُوا فِي مَا تَكَلَّمُوا 18‚أُقِيمُ لَهُمْ نَبِيّاً مِنْ وَسَطِ إِخْوَتِهِمْ مِثْلَكَ) ومن هذه القرينة نفهم أن موسى كان يكلم بني إسرائيل الذين سمعوا صوت الله على جبل سيناء، ووعدهم أن يجيب طلبهم وهذا يعني أن (إخوتك) تعني بني إسرائيل وحدهم الذين كانوا حاضرين (يوم الاجتماع) كما أن الأصحاح السابق (تثنية 17:14 و15) يوضح لنا أكثر ما هو المقصود بالعبارة (من بين إخوتك) فيقول:
(مَتَى أَتَيْتَ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ، وَامْتَلَكْتَهَا وَسَكَنْتَ فِيهَا، فَإِنْ قُلْتَ: أَجْعَلُ عَلَيَّ مَلِكاً كَجَمِيعِ الْأُمَمِ الَّذِينَ حَوْلِي فَإِنَّكَ تَجْعَلُ عَلَيْكَ مَلِكاً الَّذِي يَخْتَارُهُ الرَّبُّ إِلهُكَ مِنْ وَسَطِ إِخْوَتِكَ تَجْعَلُ عَلَيْكَ مَلِكاً لَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَجْعَلَ عَلَيْكَ رَجُلاً أَجْنَبِيّاً لَيْسَ هُوَ أَخَاكَ) وهذا يوضح أن الأخ إسرائيليٌّ وليس إسماعيلياً.
والفكرة نفسها موجودة في سورة الأعراف 7:65 و73 (وَإِلَى عَادٍ (أرسلنا) أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ... وَإِلَى ثَمُودَ (أرسلنا) أَخَاهُمْ صَالِحاً) ويقول محمد حميد الله (مترجم القرآن إلى الفرنسية): (الكلمة العربية أخ تعني الشقيق أو عضو القبيلة) وهذا هو نفس معنى ما اقتبسناه من التثنية: شقيق أو من القبيلة نفسها.
والآن لنتأمل ما جاء في التثنية 34:10-12 وتقول: (وَلَمْ يَقُمْ بَعْدُ نَبِيٌّ فِي إِسْرَائِيلَ مِثْلُ مُوسَى الَّذِي عَرَفَهُ الرَّبُّ وَجْهاً لِوَجْهٍ، فِي جَمِيعِ الْآيَاتِ وَالْعَجَائِبِ الَّتِي أَرْسَلَهُ الرَّبُّ لِيَعْمَلَهَا فِي أَرْضِ مِصْرَ بِفِرْعَوْنَ وَبِجَمِيعِ عَبِيدِهِ وَكُلِّ أَرْضِهِ) وتوضح التوراة هذا أكثر في سفر العدد 12:6-8 (فَقَالَ (الرب) اسْمَعَا كَلَامِي إِنْ كَانَ مِنْكُمْ نَبِيٌّ لِلرَّبِّ، فَبِالرُّؤْيَا أَسْتَعْلِنُ لَهُ فِي الْحُلْمِ أُكَلِّمُهُ وَأَمَّا عَبْدِي مُوسَى فَلَيْسَ هكَذَا، بَلْ هُوَ أَمِينٌ فِي كُلِّ بَيْتِي فَماً إِلَى فَمٍ وَعَيَاناً أَتَكَلَّمُ مَعَهُ).
فما أوضح الضوء الذي تكشفه القرينة في هذه الآيات لمعنى كلمة (مثلك) لقد كان موسى فريداً، وحتى كتابة سفر التثنية لم يكن قد قام نبي مثله عرفه الرب (وجهاً لوجه) وكلّمه (فماً لفم) ويؤيد القرآن التوراة في هذا فيقول في سورة النساء 4:163 و164 (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ (يا محمد) كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعَقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً... وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً) فقد أفرد ذكر موسى وميَّزه عن محمد وسائر الأنبياء، لأن الله كلم موسى (تكليماً) أي مباشرة.
لقد كان محمد نذيراً لقومه من عُبّاد الوثن في مكة، ولكن القرآن لا يقول إنه أجرى معجزات كموسى، ولا كلّم الله محمداً فماً لفم ومنذ موسى لم يتميّز نبيٌّ بالميزتين الفريدتين لموسى إلا المسيح، الذي أجرى معجزات عديدة سجّل الوحي منها نحو خمسين أما معرفته لله (وجهاً لوجه) فهو كلمة الله الذي كان في البدء عند الله وفي (حضن الله) (يوحنا 1:1 و18).
فإذا قلنا إن التثنية 18:18 و19 تتنبّأ بمحمد نكون قد أهملنا القرينة التي جاءت في التوراة وفي القرآن.
الخاتمة
هناك إذاً سبيل واحد لتحديد معنى كلمةٍ استُعمِلت في عصر الإنجيل أو القرآن، هي أن نأتي بنماذج من استعمالات هذه الكلمة في كتاباتٍ تعود إلى القرن الأول الميلادي أو القرن الأول الهجري، من شعرٍ ورسائل ومكاتبات حكومية وهذا يتطلب اكتشاف وثائق جديدة مثل ألواح نوزي التي تعود للقرن الخامس عشر قبل الميلاد، التي ساعدتنا لنفهم العادات زمن إبرهيم الخليل.
ثم أننا إن أردنا أن نقتبس من التوراة أو القرآن أو أي كتاب آخر، فإننا نحتاج للقرينة وليس فقط للكلمات وكمسيحي يجب أن أقتبس من التوراة والقرآن بذات الأمانة التي أقتبس بها من الإنجيل، وهكذا يجب أن يفعل المسلم مع التوراة والإنجيل ذلك أن تغيير معنى كلمة من الوحي الإلهي أو نزعها من قرينتها أمر خطير، لأنه يعني أني جعلتها تقول ما أريده أنا لا ما يريده الله، وعلى أقل تقدير هذا (تحريف للمعنى) وهو نوع من الشِرك، لأني أكون قد أشركت أفكاري مع أفكار الله.
فلنقتبس بأمانة، ولنرجع دائماً إلى القرائن.
1. S I Hayakawa, LANGUAGE IN THOUGHT AND ACTION, New York, Harcourt, Brace and World, Inc
2. Hans Wehr, A DICTIONARY OF MODERN WRITTEN ARABIC, Otto Harrassowitz, Wiesbaden
3. Ferdinand de Saussure, COURS DE LINGUISTIQUE GENERALE, Payot, Paris
4. Louis B Solomon, SEMANTICS AND COMMON SENSE, Holt, Reinhart and Winston, inc New York
5. LHOMME, DOU VIENTIL, Seghers, Paris
6. De Saussure, op cit
7. Solomon, op cit
8. Daud Rahbar, GOD OF JUSTICE, EJ Brill, Leiden