مقدمة عامة
قال المعترض: «لم تكن الكتابة معروفة في عهد موسى. فلا يكون موسى قد كتب الكتب الخمسة التي ينسبها اليهود إليه».
وللرد نقول: (1) قال جريبو في رسالته التي كتبها على رسالة شمبوليون الشهير (أول من قرأ اللغة الهيروغليفية) إن موسى النبي كان يكتب على البردي. ويوجد في متحف «تورين» بردية مكتوبة بالقلم المصري، تشتمل على وثيقة مكتوبة في عهد تحتمس الثالث الذي كان قبل موسى بقرنين. وهذا يبرهن أن الكتابة كانت معروفة قبل عصر موسى.
(2) في المتحف البريطاني رسالة على البردي، كتبها كاهن مصري اسمه «أحميس» تاريخها 3400 ق م، وعنوانها «حل المشكلات» وهي مجموع مسائل حسابية وهندسية بالكسور والدوائر ومقاييس الهرم وبعض مثلثات وإشارات جبرية. وهذه الرسالة بخط اليد وتُلقَّب برسالة «رند».
(3) في سنة 1888م اكتشف المنقّبون في دير العمارنة (محافظة المنيا في مصر) أكثر من ثلثمائة قالب طوب، مكتوب عليها بالقلم المخروطي، نقلوا أكثرها إلى برلين، ونقلوا باقيها إلى لندن، وتاريخها قبل موسى بنحو 150 سنة، مما يبرهن أن الكتابة كانت معروفة عند المصريين قبل النبي موسى. ويشهد الكتاب المقدس أن موسى تهذَّب في مدارس مصر الكبرى، وتعلَّم حكمة المصريين (أعمال 7: 22). وقال المؤرخ يوسيفوس إنه لما كان عمر موسى 40 سنة قاد فرقة عسكرية إلى الحبشة، واستولى على مدينة سبأ. فلا بد أنه كان يعرف الكتابة.
قال المعترض: «الدكتور اسكندر كيدس، الذي هو من أفاضل المسيحيين، قال ثلاثة أمور:
(1) قال إن أسفار موسى الخمسة الموجودة الآن ليست من تأليف موسى.
(2) وإنها كُتبت في كنعان أو أورشليم.
(3) وإن كتابتها ترجع إلى زمن سليمان، أي قبل ميلاد المسيح بألف سنة، وبعد وفاة موسى بخمسمائة سنة».
وللرد نقول: ليس إسكندر كيدس من أفاضل المسيحيين، بل هو من المنحرفين عن العقيدة المسيحية، وقال عن موسى كليم الله إنه نقل شريعته من المصريين بعد أن نقَّحها، كأن الديانة اليهودية وثنية. وأنكر معجزات موسى وتكليم الله له. فكيف يكون من أفاضل المسيحيين، وهو يُكذِّب كتب الأنبياء؟ ولا يمكن لمؤمنٍ بالوحي الإلهي أن يقبل أحكام إسكندر كيدس على الوحي الإلهي.
قال المعترض: «الفاضل نورتن من علماء المسيحية، وقال إنه لا يوجد فرقٌ يُعتدُّ به بين لغة التوراة ولغة سائر كتب العهد القديم التي كُتبت زمن إطلاق بني إسرائيل من سبي بابل، مع أنه بين هذين الزمانين 900 سنة، واللغة تختلف باختلاف الزمان. وإذا قسنا حال اللغة الإنجليزية الآن بما كانت عليه من 400 سنة وجدنا فرقاً كبيراً. ولعدم وجود فرق بين لغة الكتب المقدسة، تكون كلها قد كُتبت في زمن واحد».
وللرد نقول: يقتبس المعترض أقوال المنحرفين عن العقيدة المسيحية وينسب إليهم الفهم والعِلم. وقد قرر العلماء العارفون باللغة العبرية أن لغات الأسفار المقدسة متفاوتة تفاوتاً عظيماً بحسب الزمان والمكان، وقسموا أدوارها إلى أربعة عصور:
(1) من عصر إبراهيم إلى عصر موسى، عندما دخلت ألفاظ مصرية وعربية إلى اللغة الأرامية.
(2) من عصر موسى أو عصر التوراة إلى عصر سليمان، بلغت اللغة غاية الإتقان.
(3) من عصر سليمان إلى عصر عزرا، صارت اللغة رشيقة بليغة ودخلتها اصطلاحات أجنبية.
(4) من عصر عزرا إلى آخر عصر المكابيين، كانت لغة التوراة متفاوتة باختلاف هذه العصور.
ولما قارن العلماء المتخصصون في اللغة العبرية بين أجزاء التوراة وبعضها، وجدوا تفاوتاً في أساليب الكتابة، فقرَّروا أن بعضها كُتب في عصر اللغة الذهبي، وبعضها الآخر في عصرها الفضي، والآخر في عصرها النحاسي، مما يدل على أنها كُتبت في أزمنة مختلفة. ولهذا السبب جزم العلماء بأن أسفار موسى الخمسة لم تُكتب في زمن داود، ولا مزامير داود النبي كُتبت في زمن النبي إشعياء، ولا نبوّات إشعياء كُتبت في زمن النبي ملاخي. وجزموا بأن نبوات ملاخي كُتبت بعد سبي بابل، لأن اللغة العبرية بعد السبي انحطت، وكانت مؤلفات بني إسرائيل بعد ذلك العصر كلدية أو يونانية، وعجز بنو إسرائيل قبل المسيح عن فهم اللغة العبرية بدون تفسيرها باللغة الكلدية.
قال المعترض: «كتب موسى التوراة وسلّمها للكهنة، وأوصاهم أن يحفظوها في تابوت العهد، وأن يخرجوها منه كل سبع سنين لتُقرأ في يوم العيد. ولما انقرضت جماعة الكهنة هذه، تغيَّر حال بني إسرائيل، فكانوا تارة يعبدون الوثن وتارة أخرى يعبدون الرب. وكانت حالتهم حسنة في عهد داود وسليمان، إلى أن حصلت الانقلابات، فضاعت نسخة التوراة الموضوعة في تابوت العهد، بل إنها ضاعت قبل حكم سليمان، لأنه لما فتح سليمان تابوت العهد لم يجد فيه غير اللوحين المكتوب فيهما الوصايا العشر، فقد جاء في 1ملوك 8: 9 «لم يكن في التابوت إلا لوحا الحجر اللذان وضعهما موسى هناك في حوريب حين عاهد الرب بني إسرائيل عند خروجهم من أرض مصر».
وللرد نقول: (1) يقول المعترض إنه لم توجد من الشريعة سوى نسخة واحدة، وهذا خطأ، فقد كتب موسى نسخة خاصة وضعها بجانب تابوت عهد الرب لتكون شاهداً على بني إسرائيل، فإذا انحرفوا عنها حلّ بهم القصاص، وإذا تبعوها حصل لهم الخير العظيم (تثنية 31: 24-26). فإذا صدق قول المعترض إن التوراة ضاعت، فكيف كان يكلف الله بني إسرائيل بحفظ شريعة وإقامة فرائضها وحدودها، وهي غير موجودة؟ وكيف يأمرهم أن يعلّموها لأولادهم (كما في تثنية 6: 7) وهي ليست عندهم؟
(2) مما يبرهن خطأ الاعتراض أن بني إسرائيل كانوا يقرأون التوراة كل يوم سبت في المجامع، فكيف يقرأون ما لا وجود له؟
(3) مما يدل على وجود التوراة أن الله أمر كل ملك جديد يتولى المُلك أن يكتب لنفسه نسخة من الشريعة لتكون معه، ويقرأ فيها كل أيام حياته ليتعلم أن يتَّقي الرب إلهه ويحفظ فرائضه (تثنية 17: 18-20).
(4) قال يوسيفوس إن موسى أمر بكتابة نسخة من الشريعة، يوزِّعها على كل سبط من أسباط بني إسرائيل ليتناقلوها.
(5) هل يعقل أن ملكاً أرضياً يسنُّ قانوناً ولا يكتب منه سوى نسخة واحدة؟ فإذا فعل ذلك، كيف يتيسَّر لرعاياه معرفة أوامره؟ لا بد أنه يعمل على تعميم تداول شرائعه بين رعاياه، ويحتفظ عنده بنسخة منها. هكذا فعل موسى وهو المشهور بالحكمة، فنشر الشريعة على بني إسرائيل ووزعها على الكهنة واللاويين، وأمرهم بتعليمها للشعب، وكتب صورة منها لتكون شهادة عليهم.
(6) احتوت أسفار الشريعة على حدود أراضي كل سبط، فكانت وثيقة مِلكية للأسباط، يلزم نشرها وتعميمها، ولا يمكن الاستغناء عنها.
قال المعترض: «ارتدَّ سليمان في آخر عمره وعبد الأصنام وبنى لها المعابد، وبعد موته انقسم بنو إسرائيل إلى قسمين: مملكة شمالية عاصمتها السامرة وتتكوَّن من عشرة أسباط، وملك عليها يربعام، عبد الملك سليمان، ومملكة جنوبية عاصمتها أورشليم، وتتكوَّن من سبطين ملك عليهما رحبعام بن سليمان. وارتدَّ يربعام والعشرة أسباط معه، وهاجر الكهنة من مملكته إلى المملكة الجنوبية. وبقيت الأسباط العشرة 250 سنة، ثم سلط الله عليهم الأشوريين فأخذوهم سبايا، وتبدَّدوا واختلطوا مع الوثنيين فتزاوجوا وسُمّي نسلهم بالسامريين، وضاعت منهم التوراة».
وللرد نقول: مع أن أغلب ملوك المملكة الشمالية كانوا أشراراً، إلا أن الله كان يرسل إليهم الأنبياء لإرشادهم وهدايتهم، ولم تضِع منهم التوراة أبداً. ولو افترضنا صحة كلام المعترض في أن ملوك المملكة الشمالية أضاعوا الشريعة، فإنها باقية في المملكة الجنوبية، وقد أرسل الله لها أنبياء كثيرين، وكان أغلب ملوكها يخافون الله، وإليك أسماءهم ووصفاً لحياتهم الدينية:
(1) رحبعام بن سليمان وكان شريراً، غير أن النبي شمعيا كان معاصراً له.
(2) أبيام بن رحبعام، وسار في آثار أبيه.
(3) آسا بن أبيام كان قلبه كاملاً مع الرب وعمل المستقيم.
(4) يهوشافاط، وكان باراً صالحاً، وكان معاصراً له ياهو بن حناني النبي.
(5) يهورام بن يهوشافاط، كان شريراً سار في طرق ملوك المملكة الشمالية.
(6) أخزيا بن يهورام كان مثل والده.
(7) يوآش بن أخزيا عمل المستقيم.
(8) أمصيا وكان ملكاً صالحاً.
(9) عزريا كان صالحاً، وفي آخر أيامه قام الأنبياء إشعياء وهوشع وعاموس.
(10) يوثام وكان صالحاً وعمل المستقيم في عيني الرب، وكان معاصراً للنبي إشعياء وميخا.
(11) آحاز كان شريراً، وكان معاصراً له النبي إشعياء.
(12) حزقيا وكان من أتقى ملوك يهوذا، وكان معاصراً له النبي إشعياء.
(13) منسى كان شريراً، وفي أيامه تكلم الرب بفم الأنبياء عن خراب يهوذا.
(14) آمون كان شريراً.
(15) يوشيا بن آمون كان صالحاً، وعمل المستقيم أمام الله، وكان من أعظم المصلحين، وكان معاصراً له من الأنبياء خلدة النبية وإرميا وصفنيا.
(16) يهوآحاز كان شريراً.
(17) يهوياقيم كان شريراً.
(18) يهوياكين ابن يهوياقيم، وكان شريراً مثل أبيه.
(19) صدقيا كان مثل سلفه شريراً.
فهذه هي سيرة ملوك المملكة الجنوبية، منهم الأتقياء ومنهم الأشرار، لكن الله أرسل إليهم أنبياءه في أغلب عصورهم. وكان الكهنة وأئمة الدين يحافظون دائماً على كتب الله وعبادته.