شبهات وهميَّة حول سفر المزامير
قال المعترض: »يطلقون على سفر المزامير اسم مزامير داود، لكن هناك مزامير للنبي موسى والملك سليمان، وبني قورح وغيرهم. وهذا تخبُّط«.
وللرد نقول: أوحى الله بالروح القدس إلى مجموعة من أنبيائه بكتابة المزامير، لا نفرِّق بين أحدٍ منهم. ومن الأدلة على وحي هذا السفر أن أنبياء العهد القديم أشاروا إليه، وشهد له المسيح مصدر كل حكمة، كما شهد له رسله الكرام. وأقدم الترنيمات التي أُوحي بها كانت لكليم الله موسى (خروج 15) ثم ترنيمتي النبيتين دبورة (قضاة 5) وحنة (1صموئيل 2). سفر المزامير إذاً وحيٌ لداود ولبعض الأنبياء الذين كانوا قبله، ولبعض الأنبياء الذين أرسلهم الله بعده. وقد أُطلق عليه اسم »مزامير النبي داود« من باب التغليب، لأننا من دراسة عناوين المزامير نكتشف أن داود كتب 73 مزموراً، ولأنه اشتهر بهذه المزامير وبعزف الموسيقى، حتى سُمّي «مرنّم إسرائيل الحلو« (2صموئيل 23:1). وعلاوة على ما جاء في عناوين المزامير يتَّضح لنا من دراسة العهد القديم أن داود كتب مزموري 96 و105 (راجع 1أخبار 16:23-26 و1أخبار 16:7-22)، ويعزو العهد الجديد إليه أيضاً أنه كتب مزمور 2 (أعمال 4:25) ومزمور 95 (عبرانيين 4:7). وكتب آساف 12 مزموراً، وأولاد قورح 10 مزامير، وسليمان مزموري 72 و127، وهيمان مزمور 88، وإيثان مزمور 89، وموسى مزمور 90. وهناك 49 مزموراً لا نعرف من كتبها. وقد جمع النبي عزرا هذه المزامير بإرشاد الروح القدس في كتاب واحد.
ويُعزى سفر المزامير لداود لأسباب أخرى، منها أنه هو الذي نظّم ترتيل المزامير، فكلف بعض الأتقياء البارعين في الموسيقى بترتيلها في العبادة (1أخبار 6:31 و16:4-8). ونسج سليمان على هذا المنوال الحسن في الهيكل الأول (2أخبار 5:12 و13) ولمَّا بُني الهيكل ثانية جدد النبي عزرا هذه الفريضة المقدسة (عزرا 3:10 و11). وكان بنو إسرائيل يترنمون بالمزامير ويرتلونها (مزمور 137:3). وأيّد المسيح العبادة بالترتيل (متى 26:30 ومرقس 14:26) وحض عليه بولس الرسول (أفسس 5:19 وكولوسي 3:16). واستمرت هذه العادة إلى يومنا هذا، فإن الأقوال التي كان يتعبّد بها موسى وداود وسليمان وهيمان وآساف ويدوثون هي التي لازال يتعبد بها المسيحيون اليوم، لأنها تُصْدق على أحوال كل إنسان وتناسبه، ولا سيما أن المسيحيين يعبدون إله موسى وداود وسليمان بواسطة الفادي الكريم، وهو لا يزال يغدق عليهم المراحم التي أغدقها على أولئك الأنبياء، ويقاسون شدائد كالتي حلَّت بأولئك الأفاضل، فيرون العُسْر فيستغيثون، ويرون اليُسْر فيشكرون.
قال المعترض: »في سفر المزامير طلب انتقام، وهذا يناقض وصية المسيح في متى 5:44 بمحبة الأعداء«.
وللرد نقول: نجد في الكثير من المزامير صلوات طلب انتقام، ولعل أهمها مزامير 35 و69 و109 و137. وهي تتفق مع روح شريعة موسى التي نادت أن العين بالعين والسن بالسن (لاويين 24:19)، ولكنها تتعارض مع روح تعاليم المسيـح التي تنادي بالغفـران للأعداء والصلاة من أجل المسيئين (متى 5:43-48). وسبب ذلك أن أصحاب المزامير عاشوا في عهد الشريعة الموسوية، فرفعوا صلواتهم لله بضمائر صالحة بغير انفعال ولا تهوُّرٍ عاطفي، لأنهم كرهوا الخطية، وبالتالي كرهوا الخاطئ الذي يرتكبها. وقد طالب المرنم تسليم الخطاة للرب لينفِّذ فيهم عدالتـه (مزمور 37:8 و9) فيرى الصدّيقون ويخافون (مزمور 52:6). وكان اليهود يقولون إن السماء تفرح بخاطئ واحد يهلك لتستريح الأرض من شرِّه، بينما علَّمنا المسيح أن السماء تفرح بخاطئ واحد يتوب (لوقا 15:7 و10) فتستريح الأرض من شره بتوبته، وليس بهلاكه.
ولكن بعض المفسرين يرون أن المرنم كان يتحدث عن السبب والنتيجة، فالخاطئ لا بد أن ينال أجرة خطيته. وعلى هذا فاللعنات نبوّات عمّا سيحلُّ بالخاطئ. فيكون طلب الانتقام صلواتٍ مرفوعةً للإله العادل الذي لا بد ينصف المظلوم ويعاقب الظالم.
قال المعترض: »اختلف أهل الكتاب في عدد المزامير«.
وللرد نقول: عدد المزامير 150 مزموراً كما جاء في التوراة العبرية. وفي منتصف القرن الثاني قبل المسيح تُرجمت المزامير إلى اللغة اليونانية لخدمة اليهود الذين تشتَّتوا في أرجاء العالم المعروف وقتها، وهي الترجمة المعروفة باسم »السبعينية« والتي عنها أخذ القديس إيرونيموس (جيروم) ترجمته إلى اللاتينية، والمعروفة بـ »الفولجاتا«. وقد أدمجت »السبعينية« مزموري 9 و10 في مزمور واحد، كما أدمجت 114 و115 في مزمور واحد. وقسمت كلاًّ من مزموري 116 و147 إلى مزمورين، فبقي عدد المزامير 150 مزموراً.
واحتوت الترجمة السبعينية على مزمور إضافي هو مزمور 151، وله أصل عبري في المخطوطات التي اكتُشفت في الكهف الثاني من كهوف وادي قمران (ونُشرت في 1965-1967). إلا أن النص اليوناني يذكر أن مزمور 151 هو »خارج العدد«. وواضحٌ أن الاختلافات في الترجمة السبعينية عنها في الأصل العبري لا يؤثر على مضمون المزامير، ولكنه يؤثر على »الترقيم« الذي أخذت عنه الفولجاتا وباقي الترجمات التي نُقلت عن الفولجاتا.
قال المعترض: «جاء في مزمور 2:7 «أنت ابني. أنا اليوم ولدتك«. وقال علماء بني إسرائيل، كما قال علماء المسيحيين إن هذه الآية نبوَّة عن المسيح، لأن العبرانيين 1:5 يقول »لأنه لمن من الملائكة قال قطّ: أنت ابني، أنا اليوم ولدتُك؟ وأيضاً: أنا أكون له أباً، وهو يكون لي ابناً؟«. وهذا يدل على أن المسيح مخلوق، وليس الله».
وللرد نقول: الذي يتأمل في قول الله للمسيح: «أنت ابني. أنا اليوم ولدتك« يرى أن بنوّة المسيح لله غير متوقِّفة على الولادة، لكنها سابقة لها. فبنوّة المسيح لله هي قبل ولادته من العذراء القديسة مريم، للأسباب الآتية:
(1) لم يقل الله للمسيح: «أنا اليوم ولدتك. أنت ابني« بل قال له: «أنت ابني. أنا اليوم ولدتك». وهذا دليل على أن البنوّة سابقة للولادة، كما أنها بدون ولادة. والبنوّة التي بدون الولادة الخاصة بـ«الابن« هي البنوّة الأزلية التي يتميّز بها أزلاً، والتي تعني أن الابن أعلن اللاهوت.
(2) قول الوحي: «أنت ابني، أنا اليوم ولدتك« يعني أن المسيح هو «ابن الله« أولاً أو أصلاً، ثم بعد ذلك وُلد منه في يوم من الأيام. وكل نصف من هذه الآية قائم بذاته، ومستقل في معناه عن غيره، ولذلك يجب أن تُفهم كل منهما على حدة. والكلمة المترجمة «اليوم« في هذه الآية لا تدل على زمن من الأزمنة الأزلية، بل تدل على يوم من الأيام العادية، فلا يُفهم منها أن المسيح مولود من الله في وقت ما في الأزل، كما يقول بعض الهراطقة، بل يُفهم منها أنه موجود معه منذ الأزل، ولكن ظهر أو تجلى في يوم من الأيام، بميلاده في بيت لحم. ولنفهم معنى هذه »الولادة« علينا أن نتأمل كل الآيات التي وردت فيها مع ما قبلها وما بعدها من آيات، لأن هذه هي الوسيلة الصحيحة لفهم كل آية في الكتاب.
(أ) سجَّل داود النبي بالوحي خطاباً من الله إلى المسيح باعتباره ابن الإنسان، جاء فيه: «أنت ابني أنا اليوم ولدتك. اسألني فأعطيك الأمم ميراثاً لك وأقاصي الأرض ملكاً لك« (مزمور 2:1-9).
(ب) قال الرسول بولس لليهود: «إن الله أقام يسوع كما هو مكتوب أيضاً في المزمور الثاني: أنت ابني، أنا اليوم ولدتك« (أعمال 13:33).
ويتضح لكل من درس أعمال 13 الذي اقتبس هذه الآية، أن كلمة «أقام« هنا لا يُراد بها إقامة المسيح من بين الأموات، بل تنصيبه مخلِّصاً للعالم بعد إقامته من بين الأموات، مثلها في ذلك مثل كلمة «أقام« في الآية «أقام الله لهم مخلِّصاً« (أعمال 13:23) و«أقام« في الآية «وأقام لهم داود ملكاً« (أعمال 13:22). ولكن مما يسترعي الانتباه أن الفعل الخاص بإقامة المسيح مخلِّصاً، يرد في اللغة اليونانية بصيغة المضارع التام، ولذلك يكون المعنى الحرفي للآية أن الله أقام المسيح مخلِّصاً إلى الآن. أما الفعل الخاص بإقامة داود ملكاً فيرد في صيغة الماضي، للدلالة على أن خدمته قد مضت وانتهت. أما خدمة المسيح فباقية إلى انقضاء الدهر.
(ج) وقال لهم: «لمن مِن الملائكة قال قط، أنت ابني أنا اليوم ولدتك؟».. وأيضاً »متى أَدخَل البكرَ إلى العالم يقول: ولتسجد له كل ملائكة الله« (عبرانيين 1:5 و6).
(د) ثم قال لهم: «كذلك المسيح أيضاً لم يمجِّد نفسه ليصير رئيس كهنة، بل الذي قال له أنت ابني أنا اليوم ولدتُك« (عبرانيين 5:5).
فيتضح لنا أن العبارة «أنت ابني، أنا اليوم ولدتك قد استُعملت بمناسبة إعلان سلطان المسيح ومُلكه. ومن قول بولس في أعمال 13:33 يتضح لنا أنها استُعملت بمناسبة إعلان إقامة المسيح مخلِّصاً لجميع الناس. ومن عبرانيين 1:5 و6 يتضح لنا أنها استُعملت بمناسبة الإعلان عن سمو المسيح فوق الملائكة، ومن عبرانيين 5:5 يتضح لنا أنها استُعملت بمناسبة الإعلان عن كهنوت المسيح الذي يفوق كل كهنوت.
مما تقدم يتضح لنا أن الولادة في هذه الآية يُراد بها الإعلان والإظهار. وهذا المعنى ليس غريباً عن مسامعنا، فنحن نعلم أن الولادة يُراد بها معنوياً إظهار غير الظاهر، وإعلان غير المعلَن. والمسيح بسبب وجوده في الجسد كإنسان لم يكن ظاهراً ومعلَناً للناس، كما هو في ذاته، ولذلك كان من البديهي أن يُظهره الله ويعلنه للناس كما هو في حقيقة ذاته وأمجاده، أو بحسب التعبير المجازي أنه «يلده« لهم. والمسيح مولود غير مخلوق، مساوٍ للآب في الجوهر.
قال المعترض: «جاء في مزمور 2:9 «تحطّمهم بقضيبٍ من حديد. مثل إناء خزاف تكسّرهم«. وهذه نبوَّة عن المسيح الآتي. ولكن هناك نبوَّة أخرى في إشعياء 42:3 تناقضها، تقول: «قصبةً مرضوضة لا يقصف، وفتيلةً خامدة لا يطفئ».
وللرد نقول: لا يوجد تناقض، لكن الآيتين تقدِّمان المسيح في عقابه للخاطئ الذي يرفض التوبة، وفي رحمته على المتواضع التائب الراجع إلى الله. إن المسيح الذي نطق بالويل على الخطاة في لوقا 13:5 بقوله: »إن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون« هو نفسه الذي دعا المتعَبين للراحة في متى 11:28، قائلاً: »تعالوا إليَّ يا جميع المتعَبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم«.
قال المعترض: «جاء في مزمور 7:8 «الرب يدين الشعوب. اقضِ لي يا رب كحقي ومثل كمالي الذي فيَّ« ولكنه يناقض نفسه بقوله في مزمور 143:2 «ولا تدخل في المحاكمة مع عبدك، فإنه لن يتبرَّر قدامك حي».
وللرد نقول: في الكتاب المقدس آيات كثيرة تشبه مزمور 7:8 منها قول الملك حزقيا في إشعياء 38:3 »اذكُر كيف سرتُ أمامك بالأمانة وبقلب سليم، وفعلتُ الحسَن في عينيك«. يظن البعض أنها ترفع شأن البر الذاتي أو تفيد الاعتماد على الأعمال الصالحة. بينما نجد في الكتاب فصولاً لا عدد لها تفيد أنه لا يمكن أن يخلُص الإنسان إلا بالنعمة، وأن الأعمال الصالحة لا دخل لها مطلقاً بالخلاص، مثل أفسس 2:8 و9 »لأنكم بالنعمة مخلَّصون بالإيمان، وذلك ليس منكم. هو عطية الله. ليس من أعمال كي لا يفتخر أحدٌ«.. والتناقض بين هذه النصوص ظاهري فقط. في مزمور 7:8 لا يقول إنه بلا خطية، ولا يقول إن أعماله الصالحة تفتح له باب النعيم، ولا إنه معتمد على برّه الذاتي للخلاص الأبدي، ولكنه فقط يشير إلى براءته من اتهامات معينة. ولماذا لا يحق له هذا؟ إنه لم يرتكب الشرور التي نسبها إليه أعداؤه الوارد ذكرهم في الآيات المتقدمة. فطِلْبته هنا أن يحكم عليه الله وحده، ليبرره من الباطل المنسوب إليه، وليدافع عنه من سوء معاملة أعدائه له ظلماً وعدواناً. فيمكننا إذاً أن نتصور داود هنا كأنه يقول: «يا رب، أنت تعلم أني بريء مما يتهمني به أعدائي، فأظِهْر بِرِّي وصلاحي». ويجب أن لا ننسى أن المؤمن الحقيقي قد يصادف ظرفاً يضطره إلى إعلان براءته مما يُتَّهم به زوراً. وفي هذه الحال لا يكون عمله تباهياً أو تبجُّحاً. ومع أن طاعة المؤمن لله ليست كاملة، غير أن الله يقدّرها إن كانت صادرة عن صدق وإخلاص لله. وصلاة حزقيا في إشعياء 38:3 توضح هذه الحقيقة المهمة، فهو قد خدم الله بإخلاص، وكان يحقّ له أن يشير إلى سلوكه ليُثبت صدق إيمانه بالله. وعلينا أن نذكر قول الكتاب «إن الذين يعيشون بالتقوى يُضطهدون (2تيموثاوس 3:12) فلا يوجد إذاً في كل هذه الآيات ما ينفي أن جميع الناس خطاة، وأنه لا خلاص إلا بالنعمة على أساس الفداء بيسوع المسيح.
قال المعترض: »جاء في مزمور 10:1 »لماذا تقف بعيداً؟« بينما مزمور 46:1 يقول: »الله لنا ملجأ وقوة. عوناً في الضيقات وُجد شديداً«. فهل الله قريب وملجأ، أم هل يقف بعيداً؟«.
وللرد نقول: يتحدث المرنم هنا بأسلوب الكناية، كما يقول الرسول يعقوب: »اقتربوا إلى الله فيقتربَ إليكم« (يعقوب 4:8). فالاقتراب والابتعاد أمر روحي في مشاعر المؤمن وأحاسيسه، وليس مادياً. يُخيَّل للمؤمن في وقت ضيقه أن الله نسيه وابتعد عنه ولم يعُد يسمع صلاته، وذلك لنقص حكمة المؤمن، فإن لكل شيء زماناً، ولكل أمر تحت السماوات وقت (جامعة 3:1). والحقيقة أن الله هو الأمان والملجأ للمؤمن في كل وقت.
اعتراض على مزمور 16:8-11 - اقتباس بطرس الرسول من المزامير
انظر تعليقنا على أعمال 2:25-28
قال المعترض: «جاء في مزمور 18:41 «يصرخون ولا مخلّص. إلى الرب فلا يستجيب لهم«. ولكنه يقول في متى 7:8 «كل من يسأل يأخذ، ومن يطلب يجد، ومن يقرع يُفتَح له».
وللرد نقول: القارئ السطحي لهاتين الآيتين يجد بينهما تناقضاً ظاهرياً. فالمسيح يقول إن الصلاة لا تذهب عبثاً. بينما المزمور يفيد عدم استجابة كل صلاة. غير أن هذه الصعوبة يسهل حلها، بأن الله يسمع ويستجيب كل صلاة حقيقية (قارن 1يوحنا 5:14 ومتى 21:21 ولوقا 11:5-13)، وهي الصلاة المقترنة بالإيمان، ومن قلب نقي، وبحسب مشيئة الله.
وفي الوقت نفسه توجد صرخات تُرفع إلى الله ولكنها لا تُستجاب، وهي الصرخات الكاذبة، أو مجرد الطلبات الباطلة التي تصدر من الذين يخافون من قوة الرب مجرد خوف ولكنهم لا يهابونه ولا يطيعونه. هؤلاء هم في الواقع أعداء الله المشار إليهم في مزمور 18:41. والكتاب يؤكد لنا أن صلاة الأشرار مرذولة أمامه «إن راعيْتُ إثماً في قلبي لا يستمع لي الرب« (مزمور 66:18). وفي 1صموئيل 28:6 يُقال عن شاول «لم يُجِبه الرب لا بالأحلام ولا بالأوريم ولا بالأنبياء«. فصلاة هؤلاء الناس هي في الواقع ليست صلاة بالمرة لأنهم يهزأون بالصلاة في أوقات السعة، ولكن عندما تفاجئهم الكروب يلجأون إلى الصلاة التماساً للنجاة. فالله في حالة كهذه لا يقبل أن يُمكَر عليه.. وعليه يتلاشى التناقض الظاهري بين هاتين الآيتين. ولكن على القارئ أن يذكر أن الكتاب بقوله كل صلاة تُستجاب يقصد الطلبات الصادقة التي يرفعها إليه أولاده المخلصون.
قال المعترض: «جاء في مزمور 19:7 «ناموس الرب كامل يرد النفس». ويناقض هذا ما جاء في رسالة غلاطية 2:16 «بأعمال الناموس لا يتبرر جسدٌ ما».
وللرد نقول: هدف شريعة موسى أن تشير للإنسان إلى الصلاح، لكنها لا تساعده للوصول إليه. وعندما يحاول الإنسان عمل الصلاح يكتشف عجزه عن بلوغه. وهنا تصبح الشريعة له كالمسطرة التي تبرهن نقصه وعَوَجه، فتقنعه باحتياجه للتغيير والتجديد، فيلجأ إلى المسيح المخلّص ليجد هذا التغيير الذي يمكِّنه من عمل الصلاح الذي يريده الله.. أما«أعمال الناموس« فهي الذبائح التي تشير إلى المسيح الفادي، والتي ترمز إلى عمله الكفاري على الصليب. ومتى جاء المرموز إليه بطل الرمز. فأعمال الناموس هي ظل الشمس الكاملة التي هي فداء المسيح. ولما جاء الفداء بالمسيح بطُل الظل.
قال المعترض: «ورد في مزمور 22:16 «وكلتا يديّ مثل الأسد». وترجمها المسيحيون «ثقبوا يديّ ورجليَّ« ليبرهنوا أن المسيح قد صُلب».
وللرد نقول: الترجمة الصحيحة هي «ثقبوا يديَّ ورجليَّ« فهكذا ترجمتها السبعينية قبل صَلْب المسيح بمئتي سنة، وهكذا ترجمتها الإثيوبية والعربية والفولجاتا والسريانية. والفعل العبري المترجم «ثقبوا« هو «كآرو». أما ترجمة «كأسد« فيجب أن تكون «كآري». ولو أن ترجمة المعترض كانت صحيحة لكان ينقصها الفعل في جملة »لكلتا يديَّ.. مثل الأسد« فكان يجب أن يذكر ما جرى لكلتا يديه.
قال المعترض: »جاء في عنوان مزمور 34 »لداود عندما غيَّر عقله قدام أبيمالك، فطرده، فانطلق«. ولكننا في 1صموئيل 21:12 نرى أن الملك الذي تظاهر أمامه داود بالجنون هو الملك أخيش«.
وللرد نقول: معنى »أبيمالك« أب الملك، وهو لقب وليس اسماً. فيكون أن أخيش هو الملك أبيمالك. وربما كان لأخيش اسمان: أبيمالك وأخيش، كما كان للقاضي جدعون اسمان: جدعون ويربعل (قضاة 6:32 و7:1)، وكما كان للملك سليمان اسمان: سليمان ويديديا، بمعنى حبيب الرب (2صموئيل 15:25).
قال المعترض: «ورد في مزمور 40:6 «أذنيَّ فتحت». فنقل بولس الرسول هذه الجملة في عبرانيين 10:5 «هيَّأت لي جسداً«. وهذا خطأ من الرسول بولس«.
وللرد نقول: لم ينقل بولس الرسول عبارة المزمور بالحرف بل بالمعنى، لأن القول «أذنيّ فتحت« يعني »جعلتني مطيعاً باختياري«. فالأُذُن هو عضو السمع وبالتالي يدل على الطاعة والانقياد، ويقال للعصيان »لم يُمِل أذنه« كما جاء في إرميا 7:22-24 »اسمعوا صوتي.. فلم يسمعوا ولم يميلوا أذنهم«. وعبارة »أذنيًّ فتحت« مأخوذة من وصية في شريعة موسى جاءت في خروج 21:2 و5 تقول: «إذا اشتريتَ عبداً عبرانياً، فستّ سنين يخدم، وفي السابعة يخرج حراً مجاناً.. ولكن إن قال العبد: أحب سيّدي.. لا أخرج حراً.. يقرّبه إلى الباب أو إلى القائمة ويثقب سيده أذنه بالمثقب، فيخدمه إلى الأبد». فالمسيح، كلمة الله الأزلي، اتَّخذ جسداً باختياره (كما أن العبد يقدم أذنه للثَّقب باختياره) وقدّم نفسه ذبيحة وكفّارة عن خطايانا من تلقاء ذاته، فإن جميع الذبائح التي كانت تشير إليه لم تكن كافية للتكفير عن الخطايا. »فبهذه المشيئة (اختيار قبول الجسد للتكفير عن الخطايا) نحن مقدَّسون بتقديم جسد يسوع المسيح مرَّة واحدة« (عبرانيين 10:10).
فعبارة النبي داود وعبارة بولس الرسول تتفقان على أن المسيح تجسّد للتكفير عن الخطايا باختياره. إذاً عبارة النبي داود صحيحة، وبولس الرسول أعرب عن المعنى الذي قصده الروح القدس، وفسّر المعنى العبري.
قال المعترض: «من هو النبي المُشار إليه في مزمور 45:3-5 أنه «متقلدٌ سيفاً على فخذه«؟ لقد تحدَّث المزمور عن علاقة النبي المخاطَب بالعذارى والحظيات وابنة الملك التي في خدرها، وتحدَّث عن أعدائه الذين تخترق قلوبهم نَبْلُه«.
وللرد نقول: الذي يتقلَّد السيف على فخذه ليس نبياً ولا إنساناً، بل هو الرب صاحب العرش الأبدي، وذلك للأسباب التالية:
(1) يخاطب المرنم الله الذي يتقلَّد السيف بقوله في الآية 6 «كرسيُّك يا الله إلى دهر الدهور«. وسيف الله هو كلمته التي هي أمضى من كل سيف ذي حدَّين (عبرانيين 4:12).
(2) ما ورد في مزمور 45 عن العذارى والحظيات وابنة الملك التي في خدرها هو إشارة إلى عروس المسيح الروحية التي هي الكنيسة (رؤيا 21:2). أما أعداؤه في القول «نَبْلك المسنونة في قلب أعداء الملك« فهم إبليس وجنوده، والبشر الذين أثار إبليس غضبهم ليقاوموا المسيح وإنجيله (رؤيا 19:11-21).
(3) جاءت في المزامير نبوات أخرى عن المسيح تشبه هذه (مزمور 2 و72 و110).
قال المعترض: «جاء في مزمور 51:11 «روحك القدوس لا تنزعه منِّي». وهذا يناقض قول يوحنا 7:39 «الروح القدس لم يكن قد أُعطي بعد، لأن يسوع لم يكن قد مُجِّد بعد».
وللرد نقول: كان الروح القدس حاضراً على الدوام في أزمنة العهد القديم، وكان يعلّم الآباء الأتقياء وغيرهم من الصالحين والأنبياء، وقال الرسول بطرس: »لم تأتِ نبوَّةٌ قط بمشيئة إنسان، بل تكلم أُناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس« (2بطرس 1:21). ولما لم يسمع بنو إسرائيل صوت الله قيل عنهم في إشعياء 63:10 »ولكنهم تمرَّدوا وأحزنوا روح قُدسه«. والذي يطالع الأصحاحات الأولى من سفر أعمال الرسل يفهم معنى القول في إنجيل يوحنا «لأن الروح القدس لم يكن قد أُعطي بعد« فهو يشير إلى حلول الروح القدس بذلك المعنى الخصوصي، لأن رجال العهد القديم لم يشعروا بحضور الروح القدس بينهم وتأثيره كما شعر الرسل والكنيسة التي أسسوها (أعمال 2 و10:44 و45). والفرق بين بني إسرائيل والكنيسة المسيحية هو أن بني إسرائيل كانوا كبئر مختوم مقصور نفع مائه عليه. وأما الكنيسة فكانت مياهاً جارية لنفع العالم بأسره.
وهناك فرق آخر، هو أن الروح القدس كان لا يُعطى في العهد القديم إلا لفئة خاصة، كالأنبياء وخدام الله. أما في العهد الجديد فقد أُعطي للجميع على السواء: للعبيد والإماء، للرجال والنساء «لكل بشر« كما تنبأ يوئيل النبي (يوئيل 2:28) وتحقق في أعمال 2:17 و18.
قال المعترض: «سقطت آيةُ مزمور 72:20 التي تقول: «تمَّت صلوات داود بن يسّى». فإن الذين قالوا إن المزامير وحي لداود أسقطوها، والذين قالوا إنها وحي لداود وغيره ألحقوها بالمزمور».
وللرد نقول: قسم علماء الدين اليهود المزامير إلى خمسة أقسام، وتختم هذه الآية القسم الثاني منها، فالقسم الأول هو مزمور 1-41، والثاني 42-72. وقد تعني الآية أن هنا نهاية القسم الثاني من المزامير، أو أن القسمين اللذين يحويان أغلبية مزامير داود قد انتهيا. وواضح من عناوين المزامير أن داود كتب 73 مزموراً، منها مزامير ضمن القسمين الأوَّلين، وأخرى ضمن الأقسام الثلاثة الأخرى. وكتب معه آساف وبنو قورح وسليمان وموسى. وتوضح عناوين المزامير أن داود لم يكتب المزامير كلها. وهذا يوضح بطلان اعتراض المعترض. والآية التي يشير إليها المعترض لا تعطي شريعة ولا تؤيد عقيدة، ولا تناصر طائفة دينية على طائفة دينية أخرى، فليس هناك غرض لمن يضيفها، ولا غرض لمن يحذفها. وهي موجودة في ترجمتنا العربية، لأنها موجودة في أقدم النسخ العبرية. وقول المعترض إن المترجمين أسقطوها يدل على وجودها في الأصل، والأصل الذي يُرجَع إليه موجود. فإذا ذُكِر في بعض النُسخ أن مزمور 72 هو مزمور 71 فهذا لا يدلُّ على إسقاط شيء، بل إنه ضمَّ مزمورين معاً، وعوضاً عن أن يجعلوهما مزمورين جعلوهما واحداً بدون فاصل، اختفت من بينهما »تمت صلوات داود بن يسى«.
قال المعترض: «جاء في مزمور 76:10 «لأن غضب الإنسان يحمدك». وهذا يناقض ما جاء في يعقوب 1:20 «غضب الإنسان لا يصنع برَّ الله».
وللرد نقول: قصد المرنم أن الله صاحب السلطان في السماء والأرض، وأنه يحوّل غضب الإنسان وشرَّه إلى ما يمجّده، ويجلب الحمد لاسمه. وقد ذكر المرنم عبارته في المزامير ليعزّي شعب الله ويشجعهم إن ثار أعداؤهم عليهم، لأن الله سيحوّل غضب أعدائهم لخيرهم ولمجده. ومثال ذلك ما حدث مع فرعون عندما غضب على بني إسرائيل (خروج 9:16 و17).
أما الرسول يعقوب فيتكلم عن تأثير غضب الإنسان على نفس الإنسان الغضوب. إنه لا يصنع برّ الله لأنه يخالف أوامر الله ووصاياه.
قال المعترض: «ورد في مزمور 78:65 و66 «فاستيقظ الرب كنائم، كجبّار معيّط من الخمر، فضرب أعداءه إلى الوراء جعلهم عاراً أبدياً». وهذه صفات يجب ألاَّ تُنسب لله».
وللرد نقول: إن كل صفة تستحيل نسبتها إلى الله تُفسَّر بلازمها، والإمام فخر الدين الرازي قال: «إن جميع الأغراض النفسانية، أعني الرحمة والفرح والسرور والغضب والحياء والمكر والاستهزاء، لها أوائل، ولها غايات. مثاله: الغضب، فإن أوله غليان دم القلب، وغايته إرادة إيصال الضرر إلى المغضوب عليه. فلفظ الغضب في حق الله لا يُحمَل على أوَّله الذي هو غليان دم القلب، بل على غرضه: الذي هو إرادة الإضرار. وكذلك الحياء له أول وهو انكسارٌ يحصل في النفس، وله غرض هو ترك الفِعل. فلفظ الحياء في حق الله يُحمَل على ترك الفعل لا على انكسار النفس. وكذلك إسناد اليقظة إلى الله، فإن اليقظة لها أول ولها آخر، فأوَّلها إبعاد الغشية الثقيلة التي تهجم على القلب فتقطعه عن المعرفة بالأشياء، وغايتها إجراء المقاصد والأعمال والنظر في الأمور ومعرفتها. ولا تُحمَل اليقظة في حق الله على أولها، بل على غرضها وغايتها«. وعلى نفس القياس نقول إن المرنم في مزمور 78 شبَّه إمهال الله ولطفه للطاغين والمقاوِمين له وعدم إيصال الضرر إليهم بنائم، فإن النائم لا يضر ولا يغضب.
قال المعترض: «جاء في مزمور 82:6 «أنا قلت إنكم آلهة وبنو العلي كلكم». وهذا منقوض بقوله في إشعياء 45:5 «أنا الرب وليس آخر. لا إله سواي».
وللرد نقول: في آية المزامير تحدَّث الله إلى القضاة ودعاهم «آلهة« لأنهم يحكمون على الشعب، فيطلقون سراح واحد ويحكمون على الثاني بالموت. و«آلهة« في صيغة النكرة. أما الله فهو المعرَّف بأل، الذي لا إله سواه. ويحكم القضاة بحسب شريعة الرب، وبتكليف منه، كما قال الملك يهوشافاط للقضاة: «انظروا ما أنتم فاعلون لأنكم لا تقضون للإنسان بل للرب، وهو معكم في أمر القضاء (2أخبار 19:6). وقال موسى: «لا تنظروا إلى الوجوه في القضاء».. لا تهابوا وجه إنسان، لأن القضاء لله« (تثنية 1:17). وسُمّي الرئيس النائب عن الله إلهاً (خروج 4:16 و7:1). والله يقول للقضاة هنا: «أنا أحكم في القضاء في يوم الدين، وأنتم تحكمون في القضاء على الأرض الآن. وكما أني عادل كونوا أنتم أيضا عادلين. وضعتُ في يدكم ميزان العدل فلا تجعلوا كفةً تميل عن الأخرى، كما أن الميزان في يدي أنا لا يختل».
انظر تعليقنا على خروج 7:1 وخروج 23:20 و21 تحت رقم (2).
قال المعترض: «جاء في مزمور 89:39 «نقضْتَ عهد عبدك. نجّسْتَ تاجه في التراب». فهل يُخلِف الله وعده؟!«.
وللرد نقول: ورد في آية 34 أن الله لا ينقض عهده مع شعبه إذا وفّوا بعهودهم وأطاعوا أوامره. فوعد الله مشروط. فإذا حادوا عن الطريق القويم باقتراف الشرور، واستمروا على العناد تخلّى عنهم، ولا يكون إلهاً لهم. فالله لا يُخلف وعده، وإنما إخلاف الوعد هو منّا نحن الخطاة، لأننا نقترف الإثم كل يوم، وننسى ما تعهّدنا به لله من حفظ وصاياه. فإذا عاد الخاطئ إلى رُشده وتاب يجد أن الرب لا يزال يحفظ عهده.
قال المعترض: «هناك تناقض بين مزمور 102:24 «أقول: يا إلهي، لا تقبِضني في نصف أيامي« وهذا يُظهر أن عمر الإنسان محدَّد من الله. ولكن جاء في أفسس 6:2 و3 «أكرم أباك وأمك، التي هي أول وصية بوعد، لكي يكون لكم خير وتكونوا طوال الأعمار على الأرض« مما يُظهر أن العمر غير محدود».
وللرد نقول: معروفة عند الرب منذ الأزل جميع أعماله، وقد «حَتَمَ بالأوقات المعيَّنة وبحدودٍ مسكنهم« (أعمال 17:26)، ولا يخفى عن علمه السابق وعن قضائه شيء. وهناك عوامل لتنفيذ قضائه منها الطاعة التي تعطي طول العمر، كما قال: « لا تَنْسَ شريعتي، بل ليحفظ قلبك وصاياي، فإنها تزيدك طول أيام وسني حياة وسلامة« (أمثال 3:1 و2). لا تناقض هناك، بل معروف عند الله منذ الأزل أن الذي سيكرم والديه، هو الذي منحه الله منذ الأزل طول العمر.
غير أن طول الأيام لا يعني حقاً كثرة سني العمر، فقد يعيش إنسان خمسين عاماً تكون كلها مثمرة وراضية، يشعر الإنسان فيها أنه عاش ليس فقط خمسين سنة بل مائة وخمسين. وعندما يحين أجله يحمد الله ويشعر بالرضا، إذ أنه يموت شبعان الأيام، وكأنما أطال الله عمره. بينما هناك من طال عمره حتى بلغ المائة، وحين يحين أجله يشعر أنه مات ناقصاً عمراً، أو أن العمر فرّ من بين يديه. ومن يكرم أباه وأمه يعطيه الله حياة هانئة يطول معها شعوره بالسعادة.
قال المعترض: «في مزمور 112:1-3 «هللويا. طوبى للرجل المتقي الرب، المسرور جداً بوصاياه. نسله يكون قوياً في الأرض. جيل المستقيمين يُبَارك. رغَدٌ وغِنى في بيته، وبرُّه قائم إلى الأبد« ولكن هذا منقوض بقول المسيح في يوحنا 16:33 «قد كلمتُكم بهذا ليكون لكم فيَّ سلام. في العالم سيكون لكم ضيق. لكن ثقوا. أنا قد غلبت العالم».
وللرد نقول: (1) يُسَرُّ الله أن يبارك شعبه، لأنه إن كانت رحمته تشمل الأثمة والظالمين، فلا يمكن أن يغفل المتكلين عليه. ومزمور 112 يتضمن العطايا والبركات التي يسبغها الله على أولاده.
(2) الضيقات التي قصدها المسيح متنوعة، منها محاربة إبليس للمؤمن، فيجد المؤمن نفسه في حرب داخلية، إذ يشتهي جسده ما تبغضه روحه. وقد يكون الضيق عوزاً مادياً. وقد يكون اضطهاداً من البشر. وفي هذه جميعها ينتصر المؤمن بقوة الروح القدس، فيشكر في كل حين على كل شيء.
(3) مواعيد الله للكنيسة تختلف عن مواعيده لبني إسرائيل، فقد اعتبر اليهود بركات الله مادية وروحية، أما الكنيسة فقد يقتضي صالحها عدم تمتُّعها بالغِنى المادي وسائر الامتيازات الأرضية. وهل كان يمكن أن تمتد الكنيسة وتتسع بهذا المقدار لو كان المسيحيون الأولون ذوي ثروة طائلة ونفوذ سياسي؟ كلا! بل في بدء تاريخها لم يكن فيها كثيرون حكماء بحسب الجسد ولا كثيرون أقوياء ولا كثيرون شرفاء. وقد وضع المسيح أساس كنيسته في الضيقات والشدائد التي كان لا بد منها لبنائها وامتدادها. ولا يفوتنا أن دم الشهداء كان بذار الكنيسة. ولولا إراقة ذلك الدم لبقيت الكنيسة قاصرة على جماعة قليلة في أرض فلسطين. فكثيراً ما يستلزم امتداد ملكوت الله اجتياز أولاده في ضيقات شتى.
(4) كثيراً ما يقتضي صالح المؤمن كفرد حرمانه من الغنى المادي، لأنه يؤدي إلى الكبرياء. وقد دلَّ الاختبار على أن بعض المؤمنين إذا أُتيح لهم نجاح وقتي، ينسون حاجتهم إلى الاتكال على الله. وكثيراً ما يجعل الله المؤمنين فقراء بسطاء ليحفظهم من الانحطاط الروحي. وعلى المؤمن أن يذكر ما جاء في 1تيموثاوس 6:10 »لأن محبة المال أصلٌ لكل الشرور، الذي إذ ابتغاه قومٌ ضلّوا عن الإيمان، وطعنوا أنفسهم بأوجاعٍ كثيرة«. فبفضل تأملات كهذه يسهل جداً التوفيق بين هذه الآيات. ويستطيع المؤمن أن يقول من كل قلبه «فيملأ إلهي كل احتياجكم بحسب غناه في المجد في المسيح يسوع» (فيلبي 4:19). وإن كان بحسب حكمته الفائقة لا يعطيني إلا احتياجاتي الضرورية فأنا لا أشك في محبته.
(5) يكون نسل التقي قوياً في الأرض، يباركه الرب بالرضا والسعادة. وهذه أمور يدركها كل من يتَّقي الله ويحيا مستقيماً. ولكن هذا لا يعني أنهم سيعيشون في سلام، فما أكثر الحاقدين. غير أن المتقين لن ينالهم شر الأشرار، لأن الله يجعل سهام الأشرار تطيش، ويرتدّ شرّهم عليهم.
قال المعترض: »من المقصود بالقول الوارد في مزمور 118:22 »الحجر الذي رفضه البناؤون قد صار رأس الزاوية؟«.
وللرد نقول: فسَّر المسيح المقصود بالحجر المرفوض أنه يشير إلى شخصه الكريم، وذلك في المثل الذي ضربه في متى 21:33-46 عن الكرامين الأردياء. فقد أرسل الملك عبيده ليأخذوا ثمر الكرم، فجلدهم الكرامون ورجموهم وقتلوهم، فأرسل إليهم ابنه، لعلهم يهابونه. لكنهم قتلوا الابن ليأخذوا ميراثه.. وواضح أن الكرامين الأردياء في هذا المثل هم اليهود، والعبيد هم الأنبياء، وأخيراً الابن الذي هو المسيح. وقد فهم المستمعون أنه يقصدهم (متى 21:45) فحاولوا إلقاء القبض عليه، ولكنهم خافوا من الشعب.
قال المعترض: «جاء في مزمور 145:13 «مُلْكك مُلك كل الدهور، وسلطانك في كل دورٍ فدور». وهذا عن ملكوت المسيح، كما يستدل من عبرانيين 1:8 و2بطرس 1:11. ولكن هذا منقوض بما جاء في 1كورنثوس 15:24 أن المسيح سيسلِّم المُلك لله الآب، وفي آية 28 و»يخضع المسيح نفسه للذي أخضع له الكل، كي يكون الله الكل في الكل».
وللرد نقول: جاء ذكر مُلك المسيح في الكتاب المقدس بثلاثة معانٍ:
(1) ما يخصُّه بكونه إلهاً. فهذا مُلكٌ عام على كل المخلوقات، وهو باقٍ له أبداً، فلا يسلمه.
(2) ما له باعتبار كونه ابن الله المتجسد رأس شعبه المُفتدَى وربّه. وهذا أيضاً باقٍ إلى الأبد، فهو في وسط العرش يرعاهم (رؤيا 7:17).
(3) المُلك الذي أخذه بعد قيامته، جزاء اتضاعه الاختياري، وقيامه بعمل الفداء الكامل، والذي قال المسيح عنه: »دُفع إليَّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض« (متى 28:18)، والذي قال الرسول بولس عنه »فوق كل رياسة وسلطان وكل اسم يُسمَّى ليس في هذا الدهر فقط، بل في المستقبل أيضاً« (أفسس 1:21). وهذا هو المُلك الذي سيسلّمه المسيح، لأنه في حال تجسُّده أخذ قوة من الله تمكّنه من القيام بعمل الفداء الكامل. فلما كمل هذا العمل الخاص لم تعُد هناك حاجة للسلطان الخاص اللازم للقيام به. فيليق إذاً أن يسلّمه لله الآب. وهذا يعني أنه بعد إتمام عمل الفداء لا يبقى عمل خاص لكل أقنوم من أقانيم الثالوث الأقدس، فيكون السلطان كله كما كان قبل الشروع في عمل الفداء لله الواحد الأزلي مثلث الأقانيم أب الجميع.
أما قوله: «فحينئذ الابن نفسه أيضاً سيخضع للذي أخضع له الكل« فمعناه تسليم الابن السلطان الذي وُكِّل إليه وقتياً. وقوله: «كي يكون الله الكل في الكل« أي أن الواحد الأحد الأزلي الأبدي المثلث الأقانيم سيملك على الكل خلافاً لما كان منذ قيامة المسيح إلى الآن وما سيكون إلى يوم الدين، لأن الله في تلك المدة يسوس العالمين بواسطة المسيح.
قال المعترض: «مَن المقصود في مزمور 149، و ما هي الترنيمة الجديدة تسبيحته في جماعة الأتقياء المذكورة في أول المزمور، ومن هو الملك المكتوب عنه في الآية الثانية »ليبتهج بنو صهيون بملكهم«، وما هو السيف ذو الحدين المذكور في الآية السادسة؟».
وللرد نقول: المقصود بالرب الملك هو الله الخالق، فقد قالت الآية الثانية »ليفرح إسرائيل بخالقه. ليبتهج بنو صهيون بملكهم«. أما الترنيمة الجديدة فهي ترتيلة تعبِّر عن فرحة الأتقياء بالرب، لأن الترنيم مستعمل في العبادتين اليهودية والمسيحية، وهي ترنيمة جديدة قديمة الأصل. أما السيف ذو الحدين فهو كلمة الله حسب نص الآية السادسة »تنويهات الله (أي مدح الله) في أفواههم، وسيف ذو حدَّين في يدهم«. »لأن كلمة الله حيَّةٌ وفعَّالة وأمضى من كل سيف ذي حدَّين« (عبرانيين 4:12).