شبهات وهميَّة حول رسالة رومية
قال المعترض: »الآيات الست الواردة في رومية 3:3-18 »حنجرتهم قبر مفتوح، بألسنتهم قد مكروا، سم الأصلال تحت شفاههم، وفمهم مملوء لعنة ومرارة. أرجلهم سريعة إلى سفك الدم. في طرقهم اغتصاب وسحق، وطريق السلام لم يعرفوه. ليس خوف الله قدام عيونهم« وردت في مزمور 14:3 في الترجمة اللاتينية والحبشية والعربية ونسخة الفاتيكان اليونانية. ولكنها لم ترد كلها في بعض النسخ القديمة، بل سقطت منها«.
وللرد نقول: الآيات الست هذه لم تسقط كما ادَّعى المعترض، وإنما وضعها بعض المترجمين بعد الآية الثالثة من مزمور 14، وجاءت في الترجمة السبعينية التي عنها أخذت الفولجاتا. وقد أخذ الرسول بولس نصَّه اليوناني من السبعينية. وهناك آيات كتابية أخرى تقول نفس الكلمات مثل ما ورد في مزمور 5:9 و140:3 و10:7 وإشعياء 59:7 و8 ومزمور 36:1.
قال المعترض: »جاء في رومية 3:10 »ليس بار ولا واحد« وهذا وصفٌ لكل الناس في كل زمن. ولكن جاء في رومية 7:8 »بدون الناموس الخطية ميتة« مما يعني أن الذين عاشوا قبل نزول الناموس أبرار«.
وللرد نقول: الناس في كل عصر ومصر خطاؤون، ولكنهم لا يشعرون أنهم كذلك، لعدم وجود شريعة توضح الخير والشر. فالخطية موجودة دائماً، إلا أنها لم تظهر كشرٍّ عظيم إلا بعد أن نهانا الناموس عنها، كما يقول: »لم أعرف الخطية إلا بالناموس، فإنني لم أعرف الشهوة لو لم يقُل الناموس: لا تشتهِ« (رومية 7:7 و8). ونزول الشريعة جعل الناس يفكرون في كسرها، لأن »الخطية وهي متَّخذة فرصة بالوصية أنشأت فيَّ كل شهوة« (رومية 7:8).
قال المعترض: »جاء في رومية 3:28 »إذاً نحسب أن الإنسان يتبرَّر بالإيمان بدون أعمال الناموس«. ولكن الرسول يعقوب يناقض قول الرسول بولس هذا، فيقول في يعقوب 2:24 »ترون إذاً أنه بالأعمال يتبرر الإنسان لا بالإيمان وحده«.
وللرد نقول: يظن كثيرون أن بولس ويعقوب يناقض أحدهما الآخر في قضية مغفرة الخطايا، لأن بولس يقول إن الإنسان يتبرر بالإيمان بدون أعمال، بينما يعلِّم يعقوب أن الإنسان يتبرر بالإيمان والأعمال معاً. ولكن على القارئ أن يقرأ كل ما كتبه بولس عن التبرير، فيرى أنه لا يناقض أحدهما الآخر، بل كلاهما يعلّم حقاً واحداً، ولكن موضوع حديثهما في الآيتين المقتبسَتين هنا ليس واحداً. فبولس يتكلم عن التبرير أمام الله بغفران الخطايا، أما يعقوب فيتكلم عن التبرير أمام الناس بالعمل الصالح. بولس يستعمل كلمة »تبرير« للدلالة على عمل الله الذي به تُغفر خطايا الإنسان على أثر إيمانه بالمسيح وقبوله إياه مخلِّصاً، أما يعقوب فيستعمل كلمة »تبرير« للدلالة على البر العملي الذي وصل إليه المؤمن بواسطة الإيمان. وهذا لا دَخْل له مطلقاً بالخلاص.
إن التبرير أمام الله هو اعتبار الإنسان باراً أمامه على أثر قبوله النعمة المجانية المقدَّمة له. وهذا بالإيمان لا غير. وبعد أن يقبل الإنسان نعمة الله في المسيح لا يمكن أن يكون قد عمل بعد عملاً يُشار إليه كأساس لتبريره. أما التبرير الذي يتكلم عنه يعقوب فيشمل الإيمان بالفادي، والحياة الصالحة التي تتبع هذا الإيمان. ولا غبار على قول يعقوب إن الإيمان الذي لا يكون مقترناً بحياة التقوى إيمان ميت.
فنرى إذاً أنه لا تناقض البتة بين كلام الرسولين في قضية التبرير، فكلاهما يعلّم عن حق واحد. أحدهما يشير إلى وجهٍ من هذا الحق، وهو التبرير أمام الله، والثاني يشير إلى وجهٍ آخر، وهو التبرير أمام الناس. فبولس ينهى عن الاعتماد على الأعمال الصالحة للقبول أمام الله، بينما يعقوب يحرّض على الأعمال الصالحة كبرهانٍ على الإيمان. نقرأ في أفسس 2:8 »لأنكم بالنعمة مخلَّصون بالإيمان، وذلك ليس منكم، هو عطية الله. ليس من أعمالٍ كيلا يفتخر أحد. لأننا نحن عمله، مخلوقين في المسيح يسوع لأعمالٍ صالحة قد سبق الله فأعدَّها لكي نسلك فيها«.
قال المعترض: »جاء في رومية 5:12 »كأنما بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم، وبالخطية الموت. وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس، إذ أخطأ الجميع«. ولكن جاء في رومية 5:14 »ملك الموت من آدم إلى موسى، وذلك على الذين لم يخطئوا على شبه تعدي آدم«. فإن لم يكونوا قد أخطأوا كما أخطأ آدم، فلماذا يعاقبهم بالعقاب الذي حلَّ بآدم؟.. وهل من العدل أن يعاقب الله البشر بسبب خطية آدم؟«.
وللرد نقول: هناك نوعان من الناس لا يحل بهم العقاب الذي حلَّ بآدم، هما الأطفال، والذين أخطأوا سهواً بغير تعمُّد. فقد قيل: »قبل أن يعرف الصبي أن يرفض الشر ويختار الخير« (إشعياء 7:15)، وقال المسيح: »لو كنتم عمياناً لم تكن لكم خطية« (يوحنا 9:41) وقال بولس في رومية 5:19 إنه بإطاعة الواحد الذي هو المسيح سيُجعَل الكثيرون أبراراً، بمن فيهم الأطفال.
ويعتبر الكتاب المقدس أن الكل مخطئون في آدم نائبهم الأول، ولكن موت المسيح لأجل البشر رفع هذه اللعنة عن البشر جميعاً »لأنه كما بمعصية الإنسان الواحد جُعل الكثيرون خطاة، هكذا ببرٍّ واحدٍ (الذي هو بر المسيح) صارت الهبة إلى جميع الناس لتبرير الحياة، لأنه كما بمعصية الإنسان الواحد جُعِل الكثيرون خطاة، هكذا أيضاً بإطاعة الواحد سيُجعَل الكثيرون أبراراً« (رومية 5:18 و19). ولذلك يُعتَبر الذين لم يخطئوا على شبه تعدي آدم (من آدم إلى موسى- أي قبل نزول شريعة موسى) مخطئون في نائبهم الأول، ولأنهم كسروا ناموس الله الواضح في الطبيعة، بالرغم من أن شريعة موسى لم تكن قد أُعطيت بعد. ولكن رومية 5 يعلِّمنا أن الخطية خاطئة جداً، وأنه بسببها يأتي غضب الله على أبناء المعصية، لكن رحمة الله الواسعة تعطيهم فرصة الخلاص بكفارة المسيح إن هم قبلوا هذه الكفارة.
قال المعترض: »جاء في رومية 8:26 »الروح أيضاً يعين ضعفاتنا، لأننا لسنا نعلم ما نصلي لأجله كما ينبغي، ولكن الروح نفسه يشفع فينا بأنّات لا يُنطَق بها«. ولكن 1تيموثاوس 2:5 يقول: »لأنه يوجد إله واحد ووسيط واحد بين الله والناس: الإنسان يسوع المسيح«.
وللرد نقول: شفاعة الروح القدس فينا معناها واضح من أول الآية، وهو أن الروح يعين ضعفاتنا، فهو يشفع لا بالصلاة لأجلنا، بل في صلواتنا وضعفاتنا، فيحرك في قلوبنا الشوق لنُرضي الله ونتشبَّه بالمسيح. شفاعة الروح القدس فينا هي هنا على الأرض، لكن شفاعة المسيح فينا هي في السماء.
قال المعترض: »جاء في رومية 9:17 »لأنه يقول الكتاب لفرعون: إني لهذا بعينه أقمتُك، لكي أُظهر فيك قوتي، ولكي يُنادَى باسمي في كل الأرض«. ويقول الخروج 4:21 و7:3 إن الله قسَّى قلب فرعون. فلماذا يعاقب الله فرعون؟«.
وللرد نقول: علم الله العليم أن فرعون سيقسّي قلبه ويرفض أن يطيع أمره ويطلق بني إسرائيل أحراراً، وقال لموسى في خروج 3:19 »ولكني أعلم أن ملك مصر لا يدعكم تمضون، ولا بيدٍ قوية«. فترك الرب فرعون لقساوة قلبه، وحقَّق بتلك القساوة مقاصده الصالحة. وفي قساوة قلبه قال فرعون: »من هو الرب حتى أسمع لقوله فأُطلق إسرائيل؟ لا أعرف الرب، وإسرائيل لا أطلقه« (خروج 5:2). وقد اقتبس بولس في رومية 9:17 ما قاله الرب بعد تصرفات فرعون الظالمة، وهو من خروج 9:16 »ولكن لأجل هذا أقمتك، لكي أُريك قوتي، ولكي يُخبَر باسمي في كل الأرض« وبعد ذلك ضربه بالضربة السابعة، وهي البَرَد.
فرعون إذاً مسؤول مسؤولية كاملة عن أفعاله، ولكن الله حوَّل قساوة قلب فرعون لتحقيق مقاصده، كما قال يوسف لإخوته: »أنتم قصدتم لي شراً، أما الله فقصد به خيراً، لكي يفعل كما اليوم، ليحيي شعباً كثيراً« (تكوين 50:20).
قال المعترض: »جاء في رومية 9:20 و21 »ألعلَّ الجبلة تقول لجابلها: لماذا صنعتني هكذا؟ أم ليس للخزّاف سلطان على الطين أن يصنع من كتلة واحدة إناءً للكرامة وآخر للهوان؟«. فما هو ذنب الإنسان الذي يصنع منه الفخاري إناءً للهوان؟«.
وللرد نقول: نعم، إن للفخاري سلطاناً على الطين أن يصنع منه ما يشاء، إناءً للكرامة، أو إناءً للهوان. وليس للطينة أن تقول: لماذا صنعتني هكذا؟ فإن هذا من أعمال السيادة.
ولكن الفخاري أيضاً حكيم وعادل. فمع كامل حريته وسلطانه، إلا أنه ينظر بحكمة إلى قطعة الطين. فإن رآها جيدة وناعمة وليّنة، جعل منها آنية للكرامة، لأن صفاتها تؤهلها لذلك، فمن غير المعقول أن تقع طينة رائعة في يد فخاري حكيم، فيصنع منها إناءً للهوان، وإلا أساء التصرُّف. أما إذا كانت الطينة خشنة ورديئة، ولا تصلح إناءً للكرامة، فإن الفخاري (بما يناسب حالتها) سيجعلها إناءً للهوان. وهو على قدر الإمكان يحاول أن يصنع من كل الطين الذي أمامه أواني للكرامة، بقدر ما تساعده صفات الطين على ذلك.. الأمر إذاً وقبل كل شيء، يتوقف على حالة الطينة ومدى صلاحيتها، مع اعترافنا بسلطان الفخاري وحريته، ومع ذكرنا لعدله وحكمته.
ولذلك قال الرب: »هوذا كالطين بيد الفخاري، أنتم هكذا بيدي يا بيت إسرائيل. تارة أتكلم على أمة وعلى مملكة بالقَلْع والهدم والهلاك. فترجع عن شرّها تلك الأمة التي تكلمت عليها، فأندم على الشر الذي قصدت أن أصنعه بها. وتارة أتكلم على أمة وعلى مملكة بالبناء والغَرْس، فتفعل الشر في عينيَّ ولا تسمع لصوتي، فأندم على الخير الذي قلت إني أحسن إليها به« (إرميا 18:6-10). إذاً بإمكان الطينة أن تصلح مصيرها.
ويذكرنا هذا بمثل الزارع الذي خرج ليزرع (متى 13:3-8) فالزارع هو نفس الزارع، والبذار هي نفس البذار، وهو يريد للكل إنباتاً. ولكن النتيجة تكون حسب طبيعة الأرض التي سقطت عليها البذار. إن الزارع لم يجهِّز بذاراً لتجف أو لتحترق، أو لتختنق بالشوك، أو ليأكلها الطير. ولكن طبيعة الأرض هي التي تحكمت في الأمر.
قال المعترض: »جاء في رومية 12:20 »إن جاع عدوّك فأطعمه، وإن عطش فاسقِه«. وهذا تعبير عظيم عن المحبة، ولكن بقية الآية تعبِّر عن البغضة للعدو، إذ تقول: »لأنك إن فعلت هذا تجمع جمر نار على رأسه«.
وللرد نقول: على المسيحي أن يُظهر الرقة لعدوّه. ونتيجةً لفعل هذا الواجب المقدس يثور ضمير عدوّه على الفعل السيّئ الذي فعله مع شخص صالح جازى الشر بالإحسان. والعمل الصالح يحرق قلب المسيء. فليس الهدف من العمل الصالح الإساءة للعدو، لكن نتيجة العمل الصالح إيقاظ ضمير العدو.
قال المعترض: »جاء في رومية 14:14 »إني عالم ومتيقّن في الرب يسوع أن ليس شيئاً نجساً بذاته، إلا مَن يحسب شيئاً نجساً، فله هو نجس«. فيكون أن هذه الآية نسخت كل ما حرَّمته شريعة موسى من الحيوانات الكثيرة«. وكذلك نسختها تيطس 1:15 »كل شيء طاهر للطاهرين، وأما للنجسين وغير المؤمنين فليس شيء طاهراً، بل قد تنجس ذهنهم أيضاً وضميرهم«. وكذلك نسختها 1تيموثاوس 4:4 »لأن كل خليقة الله جيدة، ولا يُرفض شيء إذا أُخذ مع الشكر، لأنه يُقدَّس بكلمة الله والصلاة«.
وللرد نقول: كان في روما بعض مؤمنين موسوسين، أو كما قال الرسول »ضعاف الإيمان«. فهؤلاء تمسكوا بالقشور وتركوا جوهر الدين، فحرَّموا بعض الأطعمة، حتى قال لهم الرسول في رومية 14:2 »وأما ضعيف الإيمان فيأكل بقولاً«. ولكنه أوضح في رومية 14:17 أن ملكوت الله ليس أكلاً وشرباً، بل هو بر وسلام وفرح في الروح القدس. وأمر بوجوب احتمال الضعفاء، وأن لا نضع للأخ مصدمة أو معثرة. ثم أوضح أن الموسوَس يحسب كل شيء نجساً، مع أن الأشياء هي في حدّ ذاتها طاهرة. ثم قال في رومية 14:15 »فإن كان أخوك بسبب طعامك يُحزَن، فلست تسلك بعد حسب المحبة. لا تُهلِك بطعامك ذلك الذي مات المسيح لأجله«، ثم قال في الآية 21 »حسن أن لا تأكل لحماً ولا تشرب خمراً ولا شيئاً يصطدم به أخوك أو يعثر أو يضعف«. فيظهر من هذا أن غاية الرسول توثيق المحبة بين المسيحيين، وحثّهم على احتمال الضعفاء ومراعاة إحساساتهم وعدم تعييرهم، فإن ضعيف الإيمان ربما يتشكك في ذات الحيوانات الطاهرة. ولذا أمره بولس الرسول ليقتصر على أكل البقول. وعلى كل حال فلا ناسخ ولا منسوخ.
وعبارة الرسول في تيطس تشير إلى البِدع، فإنه قال في آية 14 (أي قبل الآية التي أتى بها المعترض): »لا تُصْغوا إلى خرافات يهودية ووصايا أناسٍ مرتدّين عن الحق«. ثم قال: »كل شيء طاهر« فلم ينسخ شريعة موسى، بل حذّر المؤمنين من الخرافات وبدع المرتدّين عن الحق. وقصد الرسول من 1تيموثاوس 4:4 أن يرد على أصحاب البِدع، فإنه قال قبلها (آية 1-3) »ولكن الروح يقول صريحاً إنّه في الأزمنة الأخيرة يرتدّ قومٌ عن الإيمان، تابعين أرواحاً مضلَّة وتعاليم شياطين، في رياء أقوالٍ كاذبة، موسومة ضمائرهم، مانعين عن الزواج، وآمِرين أن يُمتنَع عن أطعمة قد خلقها الله لتُتناوَل بالشكر من المؤمنين وعارفي الحق . ثم قال لأن كل خليقة الله جيدة«.