الفصل الأول
علم اللاهوت النظامي
1 - ما هو علم اللاهوت؟
* هو علمٌ يبحث عن الله وصفاته وشرائعه وأعمال عنايته، والتعاليم التي يجب أن نعتقدها، والأعمال التي يجب أن نقوم بها. وهو قسمان: وَحْييٌّ، وطبيعي.
2 - لماذا سُمِّي علم اللاهوت «علماً» لا «معرفة»؟
* لأن العلم إدراك الكليات أو المركبات، والمعرفة إدراك المفردات والقضايا البسيطة. وبعلم اللاهوت نعرف العقائد الدينية وما بينها من العلاقات، حتى يستلزم التسليم بواحدةٍ منها التسليم بالأخرى.
3 – ما هو مصدر تلك العقائد؟
* نجدها متفرقةً في الكتاب المقدس، غير أن اللاهوتي يجمعها وينظمها ويبيّن علاقة بعضها ببعض وما بينها من الاتفاق. ولا يخفى ما في هذا من الصعوبة، والأهمية. وعلى هذا لا يكون الكتاب المقدس هو كتاب علم اللاهوت بل مصدره وأساسه، أي أن علم اللاهوت مأخوذٌ منه ومبنيٌّ عليه.
4 - لماذا لا نكتفي بأخذ تلك العقائد الدينية على ما أعلنها الله، دون التكلُّف ببيان علاقاتها واتفاقها؟
* (1) لأن طبيعة تفكير عقل الإنسان تتوقف على ترتيب وتنظيم ما تحقَّقه من الحوادث والحقائق. فإذا كان لا يكتفي بأحكام علمٍ دون جمعها على ترتيبٍ ونظام، فبالأَوْلى لا يُكتفى بدُرر الكتاب المقدس بدون نَظمها في عقدٍ واحد لفائدته.
(2) بالنظام يحصل الإنسان على معرفةٍ أفضل مما يحصل عليها بدونه. وهذا واضح في كل العلوم الطبيعية والعقلية والطبية وغيرها. فلا يمكن أن نتمكن من توضيح معلَنات كتاب الله للآخرين إلا بمعرفة تلك المعلنات مفردةً، ثم معرفة علاقتها بعضها ببعض. فلم تصل الكنيسة لمعرفة ما يتعلق بشخص المسيح إلا بعد معاناة الدرس المدقِّق زمناً طويلاً، وجمع كل التعاليم المتفرّقة المختصّة به في كتاب الله ومقارنتها معاً.
(3) لبيان الحق للناس وإقناعهم به. فالذي يقوم بخدمة الحق وتعليمه والدفاع عنه لا يقدر أن يُظهره واضحاً للناس ويُقنعهم به، كما لا يقدر أن يردّ على كل معاندٍ دون أن يجمع تعاليم الكتاب المقدس وينظمها.
(4) من مقاصد الله أن ينظم تعاليم كتابه بواسطة البشر. فكما أن الله لا يعلّم الناس علم الأحياء أو الكيمياء، بل يُظهر لهم الحقائق التي يتألف منها هذان العِلمان، كذلك لا يعلّمنا الله علم اللاهوت، بل أعلن لنا في كتابه الحقائق التي بتنظيمها ينتظم هذا العِلم. وكما أن الحوادث الطبيعية ترتبط ببعضها حسب القوانين الطبيعية، هكذا كل حقائق الكتاب المقدس ترتبط ببعضها وفقاً لطبيعة الله وطبيعة خلائقه. وكما شاء الله أن يتأمل الناس في أعمال الخليقة ويتعلمون علاقاتها واتفاقها، هكذا سُرَّت مشيئته أن ندرس كتابه لنرى أن حقائقه مثل النجوم، ليست أنواراً مستقلة، بل أجزاء من كونٍ عظيم منظم، لا يوصف سموُّه وجلاله.
5 - ما الذي يجب أن يُسلِّم به كل طالب علمٍ طبيعي قبل تنظيم مسائله؟
* لا بد له أن يُسلِّم أولاً ببعض المبادئ الأولية:
(1) يركن إلى صدق حواسه، لأن الأمور الطبيعية تظهر له بواسطتها، فإن كذَّب حواسه لا يمكنه أن يتحقّق شيئاً من أمر الكون.
(2) صِدق قُواه العقلية، فيسلّم أنه يقدر أن يدرك ويقارن ويتذكر ويستنتج واثقاً بصحة هذه الأفعال.
(3) البديهيات التي لا تحتاج إلى دليل، كقولنا إنه لابد من وجود علَّة لكل معلول.
وبإقرار هذه المبادئ الثلاثة يمكن أن يتقدم إلى التأمل في مسائل العلم ويجمعها، وينظمها بعد أن يتحقّق من صحتها وكفايتها لإثبات ما يستنتجه منها أو يبنيه عليها من التعاليم. وعلى ذلك لا ينشئ هو المسائل من نفسه، ولا يزيد عليها، بل يرويها كما جاءت.
6 - ماذا يمكن استنتاجه من الحقائق بعد جمعها وترتيبها؟
* يستنتج منها الأصول أو القواعد، فمثلاً نستنتج من ملاحظة سقوط الأثقال على الأرض أن هناك قانون جاذبية، وأن جاذبية مادة ما تزيد بزيادة مقدار المادة. وأن ثبوت تلك القوانين في الماضي يبرهن ثبوتها على الدوام. ولما كانت جميع العلوم الطبيعية الصحيحة قد بُنِيت على ملاحظة الحقائق على هذا المنوال واستنتاج القواعد منها، ولما كان الكتاب المقدس خزانة الحقائق الدينية، كما أن الكون خزانة الحقائق الطبيعية للفيلسوف الطبيعي، فيحقَّ له أن يتصرف بجمع وتنظيم هذه كما يتصرف الفيلسوف بتلك.
7 - ما هي الأشياء التي يجب على اللاهوتي أن يسلِّم بها؟
* يجب عليه أن يسلم أولاً بكل المبادئ التي يجب على الفيلسوف الطبيعي أن يسلم بها، ثم ببعض الأوّليات التي لا يجدها في العلوم الطبيعية، كالتمييز بين الحرام والحلال، وأن الله لا يمكن أن يأمر بعملٍ يخالف الحق، وأنه لا يجوز ارتكاب السيئات لتأتي الصالحات، وأن الخطية تستوجب القصاص، وغير ذلك مما غرسه الله في فطرة الإنسان.
8 - ما هي الحقائق التي يجب على اللاهوتي أن يبحث عنها ويجمعها ويرتّبها؟
* هي الحقائق التي أظهرها الله في كتابه وفي الخليقة بخصوص ذاته الكريمة وعلاقتنا به، وكل ما نجده في الخليقة، وفي نفس تركيبنا أو خارجاً عنه مما يشهد لله ولعلاقتنا به. وبهذا يُقال إن الكتاب المقدس وحده يتضمَّن الديانة المسيحية الحقيقية، لأنه لما كانت الحقائق التي ينظمها اللاهوتي في علم اللاهوت بعضها واضح في أعمال الله خارج الإنسان، وبعضها الآخر واضح في طبيعة الإنسان، وبعضها الثالث واضح في ضمير المؤمنين الديني، أعلن الله لنا في كتابه (إما صريحاً أو ضمنيّاً) كل ما نقدر أن نتعلّمه منها في شأنه، دفعاً للخطإِ في ما نستنتجه من أعماله ومن شعورنا وطبيعتنا.
فعلم اللاهوت المسيحي هو الكلام في الله، وفي الإنسان، وفي العلاقة بينهما، وفي علاقته بالمخلوقات كافةً، ومعلَنات الوحي، ولا سيما شخص المسيح، ذلك الشخص السامي الفريد، الذي هو غاية تلك الإعلانات ومجدها.
9 - ما الذي يجب أن يراعيه اللاهوتي في بحثه عن الحقائق الدينية وجمعها؟
* هو نفس ما يجب أن يراعيه الفيلسوف في بحثه عن الحقائق الطبيعية وجمعها:
(1) جمْع الحقائق الدينية، محترساً من أي خطإٍ، فيراجع القضية مراتٍ عديدة قبل أن يعلن صحتها، لأن الخطأ في العلوم الطبيعية ينشأ غالباً عن التسليم بقضايا وهمية كأنها يقينية.
(2) جَمْع كل الحقائق. فكما أن عدم مراعاة هذا الشرط في الطبيعيات حمل الناس على الظن عدة قرون أن الشمس تدور حول الأرض، وأن الأرض مسطحة، كذلك النظر في بعض الحقائق اللاهوتية دون غيرها، يوقع الناس في الضلالات التي شاعت في تاريخ الكنيسة، مثل التعاليم الفاسدة عن شخص المسيح ولاهوته.
10 – كيف نستخرج الكليات من الجزئيات؟
* نستخرجها بالتأمل المدقق في الحقائق المفردة بجملتها. ولما كانت مبادئ علم اللاهوت تصدر عن الحقائق كما هي، لا عن تصوُّرات العقل، كان تصوُّر اللاهوتي وتفسيره للكتاب المقدس بموجب هذا التصور مخالفاً لقوانين العلوم. ولذلك يجب عليه أن يعتبر أن أقوال الله وتعاليمه هي المصدر الوحيد لعلم اللاهوت. والأجدر به أن يدرس الكتاب المقدس بدون اعتقادات سابقة، ولا أغراض شخصية يريد أن يثبتها. بل يأتي بعقل منفتح وقلب سليم ليتعلّم ما يعلّمه الله في كتابه، قائلاً: «تكلَّمْ يا رب لأن عبدك سامع» (1صم 3: 9).