الفصل السابع والثلاثون
اتّضاع المسيح
1 - ما هو التعليم الإنجيلي في اتضاع المسيح؟
* قال الرسول إن المسيح وضع نفسه (في 2: 8) فقد تقلَّد وظيفة الوساطة بأتمّ الرضى. ولكي يؤدي واجباتها وُلِد تحت الناموس، وأكمله كل التكميل، واحتمل أشد العذاب في ذات نفسه، وأشد الأوجاع في جسده، فصُلِب ومات وقُبر، وبقي تحت سلطان الموت، ولكنه لم يرَ فساداً. ويقوم اتضاع المسيح بولادته في حالٍ متواضع، وتحت الناموس وبحمله مشقات هذه الحياة، وغضب الله ولعنة موت الصليب، وبدفنه ومكثه تحت سلطان الموت إلى حين.
2 - كيف يتّضح اتضاع المسيح في ولادته؟
* يتضح ذلك من أنه وهو ابن الله الأزلي وُلد من امرأة. قال الرسول إنه كان معادلاً لله، فجُعل في شِبه الناس، ووُجد في الهيئة كإنسان (في 2: 7، 8) وكان تحت الناموس (غل 4:4). وورد في العهد القديم أن عذراء تحبل وتلد ابناً يُدعى اسمه عمانوئيل الإله القدير. وغاية ما نعلمه من هذا أن في الحبَل يُضَم مبدأ غير مادي (أي النفس البشرية) إلى خلية جسد بشري لإيجاد الحياة. وعند كمال العمل التكويني يولد طفل تام. وأما الحبَل بالمسيح فقد أعلن الكتاب المقدس أن جسده ونفسه كانا بقوة الروح القدس الفائقة الطبيعة من أول الأمر متحدين بالكلمة اتحاداً شخصياً، حتى أن المولود من العذراء كان بالحقيقة ابن الله.
3 - لماذا يُعتبر التجسد جزءاً من اتضاع المسيح؟
* لأن تجسد ابن الله واتخاذه طبيعة أدنى من طبيعته بما لا يُقاس على نوع الاتحاد الشخصي الدائم، هو تنازل فائق الوصف يصح ذكره بين الأمور التي يقوم بها اتضاعه. وهذا ما ذكره الكتاب المقدس.
4 - لماذا تُحسب أحوال ولادة المسيح اتضاعاً؟
* لأن اتضاع المسيح في تجسده حسب تعليم الكتاب لا يقتصر على مجرد اتّخاذه الطبيعة البشرية، بل يشمل أيضاً كل ما يتعلق بحياته على أرضنا. ولما صار عبداً كان مهده مذوداً وصار فقيراً حتى لم يكن له أين يسند رأسه، وظهر بلا صورة ولا جمال، محتقراً ومخذولاً من الناس، كان ذلك من التنازل الذي يفوق كل إدراك. وله في العقل والقلب قوة أعظم جداً مما لو ظهر في صورة ملك أرضي، ثوبه من أرجوان وتاجه من ذهب. فنسجد عند قدمي الجليلي المتَّضع باحترام ومحبة أكثر جداً مما لو ظهر كسليمان في كل مجده.
قيل في رسالة فيلبي «وإذ وُجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت، موت الصليب» (في 2: 8) وقد أخطأ البعض في تفسير قول الرسول «وضع نفسه» وقالوا إن المسيح أخلى نفسه من اللاهوت وصار إنساناً فقط مدة بقائه في حال الاتضاع. والصحيح أن فيلبي 2: 8 تقول إن ابن الله صار في حال الاتضاع مدة حياته على الأرض، أي أن تجسده كان من باب الاتضاع. على أن لاهوت المسيح لم يزل كما هو بدون تغيير في جوهره، لكنه اقترن بطبيعةٍ بشرية في حال الاتضاع. فيكون المسيح وضع نفسه باعتبار ناسوته، لا لاهوته. فإن لاهوته لم يخسر شيئاً من مجده وقدرته، لكن شخصه المتجسد اتضع للطاعة والموت.
5 - لماذا يُحسَب وضع المسيح تحت الناموس جزءاً من اتضاعه؟
* لأن ذلك مما يُنزله منزلة الناس، فإن الناموس يشتمل على ثلاثة أمور:
(1) عهد الأعمال الذي أعطاه الله لآدم، وجعل شرط الحياة فيه الطاعة التامة.
(2) شريعة موسى التي فُرضت على بني إسرائيل.
(3) الشريعة الأخلاقية، وهي قانون الواجبات على الإنسان. وقد خضع المسيح لهذه الثلاثة، لأنه تعهد بإكمال كل البر، أي بعمل كل ما يطلبه الناموس على أنواعه المختلفة.
وكان هذا الخضوع اختيارياً بدلياً. فهو اختياري لأن المسيح تجسد باختياره وتعهد بكل ما يقتضيه تجسده من تلقاء إرادته. ولم يكن بسبب اتخاذ طبيعتنا مطالَباً بالخضوع للناموس، لأن الناموس فُرض على الناس، والمسيح لم يكن إنساناً فقط بل بقي بعد التجسد إلهاً كما كان منذ الأزل، فعلاقته بالناموس تشبه علاقة الله به، إلا من حيث تعهده الطوعي، لأن واضع كل النواميس غير مطالَب بالخضوع لها، بمعنى أنه ليس تحت سلطتها، ولا يمكن أن يكون خضوعه لها إلا على سبيل الاتضاع. فإن ملوك الأرض ذوي السلطان المطلق هم أعلى من النواميس التي يسنّونها، بل إنها تكتسب سلطانها منهم فيطلبونها أو يغيّرونها كما يشاؤون، ولا يخضعون لشيء من حيث علاقتهم بالناس إلا لما يريدونه. ولما قبل المسيح أن يقوم بشروط العهد المصنوع مع آدم، وحفظ جميع أوامر الناموس الموسوي، وخضع للناموس الأخلاقي مع مواعيده وعقابه، كان ذلك اتضاعاً اختيارياً.
وكان خضوع المسيح للناموس بدلياً أيضاً، لأنه قام مقامنا نائباً عنا ولأجل فائدتنا. فجُعل تحت الناموس ليفدي الذين هم تحت الناموس (غل 4:4، 5) وقبِل هذا الخضوع لأنه الفادي، لا لأنه كان ملتزماً به، لأنه كما كان رب السبت كان أيضاً رب الناموس بجملته وأنواعه، فكانت كل حياة المسيح على الأرض حياة الطاعة الاختيارية، إذ جاء ليعمل إرادة أبيه، ودُعي في نبوات العهد القديم باسم «العبد» وهو نفسه قال «نزلت من السماء ليس لأعمل مشيئتي، بل مشيئة الذي أرسلني» (يو 6: 38) وقال الرسول : «مع كونه ابناً تعلم الطاعة» (عب 5: 8) وقال «إذ وُجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت، موت الصليب» (في 2: 8). فكان كل ذلك اختيارياً بدلياً لأجل البشر ولأجل خلاصهم.
6 - لماذا تُحسب آلام المسيح وموته اتضاعاً؟
* لأنه الطبيب الشافي وقد تألم، ورب الحياة وقد مات! فآلامه ولا سيما موته المهين على الصليب من الأمور الجوهرية في اتضاعه. ودامت تلك الآلام من بداية حياته الأرضية إلى نهايتها. فبعضها نشأ عن ضعف الطبيعة التي اتخذها، وبعضها عن حالة الفقر التي عاش فيها، وبعضها عن قربه الدائم إلى الخطاة الذي سبَّب لنفسه حزناً متصلاً، وحمله أن يقول «إلى متى أكون معكم؟ إلى متى أحتملكم؟» وبعضها عن الإهانة والعار والمقاومة التي عومل بها، وبعضها عن فظاعة الشتم والهزء وآلام الصلب التي لا يفوقها شيءٌ من الوجع والعار! وبعضها عن الألم الناشئ عن المعرفة السابقة بالحكم الهائل الآتي على كل الشعب اليهودي، وبعضها عن الحزن الصادر من حمل خطايا شعبه وانحجاب وجه أبيه عنه حتى صار عرقه كالدم في البستان، وصرخ صرخة الويل على الصليب.
فهذه هي عجائب المحبة وإنكار الذات والاتضاع التي حاول الملائكة أن يطلعوا عليها، والتي لا يدركها العقل البشري ولا يعرف مقدارها. فالحق أنه لم يكن قط حزن مثل حزنه ولا يكون أبداً.
7 - ما معنى غضب الله الذي احتمله المسيح، وكيف يُحسَب ذلك من الاتضاع؟
* معناه في الكتاب المقدس إظهار كل أنواع غضبه على الخطية، فقيل إن المسيح حمل خطايانا. على أن قداسته تامة وقيل إن الله جعله خطية، أي عامله معاملة الخاطئ (2كو 5: 21) وإنه أُحصي مع أثمة (إش 53: 12) ولم يكن ذلك في حكم البشر فقط بل في معاملة الله إياه، لأنه قام مقام الخطاة. وذُكر في مزمور 16 و22 و40 (التي موضوعها آلام المسيح) أنه اختبر كل عقاب الخطية. ويدل صراخ المسيح على الصليب «إلهي إلهي، لماذا تركتني؟» على احتجاب وجه أبيه عنه. على أننا لا نقدر أن ندرك ما اختبره من هذا القبيل، فغاية ما نعلمه أنه كما قاسى الهمّ والخوف والاضطراب وغيرها مما هو طبيعي للإنسان في الأحوال التي كان فيها، قاسى كل ما يمكن أن يقاسيه في احتمال عقاب الخطية لأجل شعبه. ونعجز عن أن نفهم علاقة طبيعته الإلهية بطبيعته البشرية (على ما ظهر في هذه الاختبارات) ولا يفيدنا البحث فيها شيئاً. غير أنه لا يوجد تناقض في هذه العلاقة باعتبار طبيعته البشرية قاصرة في المعرفة متقدمة في العلم، ذات عواطف طبيعية شاعرة بالخوف عند وقوع الخطر وقرب الموت. كذلك لم يكن فيها شيء من التناقض لما حزن وتألم عند احتجاب الرضا الإلهي عنه.
8 - ما معنى بقاء المسيح تحت سلطان الموت إلى حين؟
* وضع المسيح نفسه حتى الموت، وبقي زماناً تحت سلطانه. وهذا هو المقصود بما قيل في قوانين الإيمان القديمة من أنه «نزل إلى الهاوية» (أو الجحيم) أي اتضاع المسيح بدفنه ومكثه في حال الأموات وتحت سلطة الموت إلى اليوم الثالث. وعبارة «نزل إلى الهاوية» لم توجد أصلاً في القوانين القديمة للإيمان، ولكن أُدخلت فيها نحو القرن الخامس الميلادي. وقد اشتهر لها أربعة معان: (انظر فصل 8 س 4) (1) نزوله إلى القبر: ولكن هذا مردود لأن نفسه لم تنزل إلى القبر. (2) إنه هبط إلى حيث كان قديسو العهد القديم: باقين تحت الحفظ بعد موتهم في مكان خاص ينتظرون أن ينقذهم المسيح عند مجيئه وإتمامه عمل الفداء على الصليب. فتكون الغاية من نزول المسيح إلى الهاوية إنقاذ أولئك الأفاضل من ذلك السجن الذي طال عليهم سكنه. وهذا تعليم لا برهان عليه في الإعلانات الإلهية، لأن الذبيحة التي قدمها المسيح وفائدتها في الخلاص كانت لقديسي العهد القديم كما للمؤمنين في العهد الجديد. (3) إن المسيح ذهب إلى جهنم محل العذاب: ليُظهر سلطته على الهالكين ويُظهر انتصاره أمام عيونهم. فعلى ذلك يكون النزول إلى الهاوية جزءاً من ارتفاع المسيح، لا اتضاعه. ولكن هذا التعليم منقوض بما جاء في لوقا 23: 43. (4) إنها إشارة إلى عالم الأرواح غير المنظور الذي دخلته نفوس الموتى، بغضّ النظر عن جهنم أو السماء: فالمقصود بهذه العبارة أنه «مكث تحت سلطان الموت إلى حين» أو أنه ذهب إلى عالم النفوس المنتقلة. والمعنى أن المسيح بعد موته دُفن جسده في القبر ومكثت نفسه في عالم الأرواح حتى قيامته.
ونرجح صحة هذا التعليم الرابع من ثلاثة أمور: (أ) الهاوية هي العالم غير المنظور، وأصلها في العبرانية شأول، ومعناها دار الموتى أو حالهم، فإن جميع الموتى الأبرار والأشرار ينتقلون جميعاً إلى العالم غير المنظور. وعلى هذا يكون النزول إلى القبر والنزول إلى الهاوية عبارتين مترادفتين في الكتاب المقدس. قال يعقوب «إني أنزل إلى الهاوية» (تك 37: 35) وقال داود «أصعدتَ من الهاوية نفسي» وفسّر معناها بقوله «أحييتني من بين الهابطين في الجب» (مز 30: 3). فالنزول إلى الهاوية في الكتاب هو النزول إلى مكان الأموات، أي العبور من العالم المنظور إلى العالم غير المنظور. وهو ما يحدث لجميع البشر متى ماتوا ودُفنوا. (ب) لم تكن تلك العبارة في قانون الإيمان الرسولي من أول الأمر، وإنما أُضيفت إليه في نحو القرن الخامس، كتفسيرٍ لما سبقها من كلمتي «مات ودُفن». فالعبارتان مترادفتان. ومن ورود إحداهما في بعض النسخ، والأخرى في غيرها، والاثنتين معاً في غيرهما، يتضح لنا أن المعنى المقصود منهما واحد. (ج) الآيات التي يوردونها لإثبات نزول المسيح إلى الهاوية لا تعني أنه نزل إلى جهنم، وهي أربع آيات:
الآية الأولى: «لأنك لم تترك نفسي في الهاوية. لن تدع تقيَّك يرى فساداً» (مز 16: 10) ومعناها ثقة المرنم بأن الله لا يتركه تحت سلطان الموت. فكأنه قال: إنك لا تسلّمني إلى سلطة الهاوية ولا تتركني أرى فساداً. وهكذا فسّر بطرس وبولس هذه العبارة (أع 2: 27-31 و13: 34، 35) فقد اقتبساها كبرهانٍ على قيامة الأموات، بمعنى أن داود تُرِك في حال الموتى ورأى جسده الفساد، وأما المسيح فأُنقِذ من القبر قبل حلول الفساد في جسده الطاهر.
والآية الثانية: «وأما أنه صعد، فما هو إلا أنه نزل أيضاً (أولاً) إلى أقسام الأرض السفلى» (أف 4: 9). فقالوا إن أقسام الأرض السفلى أقسام أسفل الأرض. ونرد على ذلك بثلاثة ردود. (أ) لا موجب لهذا التفسير، لاحتمال أنه لا يُقصَد بتلك الأقسام سوى الأرض نفسها كما ورد في آيات كثيرة، ومنها قول النبي «ترنّمي أيتها السموات. اهتفي يا أسافل الأرض» (إش 44: 23). و(ب) لا يظهر من قرينة الكلام في هذه الآية ولا في مزمور 68 الذي اقتبسها الرسول منه شيءٌ من المقابلة إلا بين السماء والأرض، فكأنه قال إن الذي صعد إلى السماء هو الذي نزل أولاً إلى الأرض. و(ج) كلام الرسول لا يستلزم ولا يرجح شيئاً من الإشارة إلى ما حدث بعد موت المسيح، بل كل ما قاله هو أن موضوع المزمور المذكور هو الانتصار الضروري للمسيح، لأنه ذكر الصعود إلى السماء الذي يُستفاد منه النزول إلى الأرض أولاً.
والآية الثالثة: «الله ظهر في الجسد.. تراءى لملائكةٍ» (1تي 3: 16). فقالوا إن هذا يدل على أن المسيح ظهر في العالم السفلي بمحضر إبليس وملائكته. وللرد نقول إن كلمة ملائكة (حسب الأصل) إذا أُطلقت لا يُقصد بها الملائكة الساقطين أبداً. فضلاً على أن كلام الرسول لا يناقش هذا الأمر، بل يبرهن لاهوت المسيح، فيقول إنه تبرر في الروح وتراءى لملائكة وكُرز به بين الأمم وأُومن به في العالم ورُفع في المجد، أي أن جميع أنواع الخلائق صارت شهوداً بظهور الله في الجسد.
والآية الرابعة: «مماتاً في الجسد ولكن محيىً في الروح، الذي فيه أيضاً ذهب فكرز للأرواح التي في السجن» (1بط 3: 18، 19). وللرد نقول: تفسير هذه الآية متعلّق بمعنى قوله «محيىً في الروح» في القسم الأخير من آية 18. فقال معظم المفسرين إنه يشير إلى طبيعة المسيح الإلهية، وإن قوله «مماتاً في الجسد» يشير إلى طبيعته البشرية. وقد أوضح بولس هذا التمييز بقوله «الذي صار من نسل داود من جهة الجسد وتعيّن ابن الله بقوة من جهة روح القداسة..» (رو 1: 3، 4). إذاً ذهب المسيح وكرز للأرواح التي في السجن وهو في طبيعته الإلهية، وليس بالضرورة أنه فعل هذا بعد موته، فعبارة الرسول لا تؤكد أن المسيح ذهب بعد موته وكرز للأرواح التي هلكت في الطوفان. فيكون المعنى أن المسيح ذهب في الطبيعة الإلهية وكرز للأشرار في أيام نوح. وأما القول إن هذه الأرواح كانت في السجن فلا يُلزمنا أن نؤمن أن المسيح ذهب إلى السجن وكرز للأرواح هناك، وإنما هو وصفٌ للحالة التي كانوا فيها في زمن موت المسيح، والزمن الذي كتب بطرس رسالته فيه.