الفصل الثامن والأربعون
مجيء المسيح ثانية وسوابقه التاريخية
1- ما هو تعليم الكتاب المقدس في مجيء المسيح ثانية؟
* تعلمنا الأسفار المقدسة أن المسيح سيجيء ثانيةً بالمجد، مجيئاً حقيقياً منظوراً. والحوادث التالية تسبق هذا المجيء:
(1) ينتشر الإنجيل في كل العالم، وتصل الدعوة للأمم فينضمون إلى الكنيسة المسيحية.
(2) يرجع اليهود إلى المسيحية وينضمون إلى الكنيسة بعد شتاتهم وابتعادهم مدة طويلة.
(3) يحدث ارتداد عظيم في الكنيسة ويظهر «ضد المسيح» أي «إنسان الخطية» ويُباد.
(4) تدخل الكنيسة في عصير جديد (عُبِّر عن طول مدته بألف سنة) فيه تمتد المسيحية إلى كل العالم وتتسلط على قلوب البشر، ويُقيَّد إبليس فيستريح العالم من مكائده.
(5) يُحَلّ الشيطان مدة وجيزة عند نهاية الألف السنة، فيحارب الكنيسة، ثم يأتي المسيح.
2- ماذا يقول الكتاب المقدس بخصوص انتشار الإنجيل في العالم قبل مجيء المسيح ثانيةً؟
* الآيات في شأن ذلك كثيرة وواضحة، منها «يملك المسيح من البحر إلى البحر، ومن النهر إلى أقاصي الأرض. ويسجد له كل الملوك. كل الأمم تتعبد له» (مز 72: 8، 11). «يباركنا الله وتخشاه كل أقاصي الأرض» (مز 67: 7). «ويكون في آخر الأيام أن جبل بيت الرب يكون ثابتاً في رأس الجبال، ويرتفع فوق التلال، وتجري إليه كل الأمم. وتسير شعوب كثيرة ويقولون: هلم نصعد إلى جبل الرب» (إش 2: 2-4). «جعلتك نوراً للأمم لتكون خلاصي إلى أقصى الأرض» (إش 49: 6). «لأن الأرض تمتلىء من معرفة مجد الرب كما تغطي المياه البحر» (حب 2: 14). «في ذلك الزمان يسمون أورشليم كرسي الرب، ويجتمع إليها كل الأمم إلى اسم الرب إلى أورشليم، ولا يذهبون بعد وراء عناد قلبهم الشرير» (إر 3: 17). وشبه المسيح ملكوته بخميرة تمتد وتخمر العجين كله، وبحبَّة خردل نمت نمواً عظيماً.
3- ما هي نبوات الكتاب المقدس بخصوص رجوع اليهود للمسيح قبل مجيء المسيح ثانية؟
* أشهر النبوات ما يأتي:
(1) نبوات عن تشتتهم ورفضهم، مع بقائهم أمة متميزة في كل العالم مدة رفضهم، ومنها لاويين 26: 33-39 و26: 44 وتث 4: 27 و28: 25-68 وإش 6: 9-13 و65: 11-15 وإر 9: 16 و24: 9 و29: 18 و30: 11 و46: 28 وحز 12: 15 ودا 9: 27 وهو 3: 4 وعا 9:9 ومت ص 24 ولو 21: 24 ورو 11: 25.
(2) نبوات عن رجوعهم وقبولهم الديانة الحقيقية، ومنها تثنية 30: 2-6 وإش 11: 11، 12 و49: 5، 6 و56: 8 وحز 20: 32-44 و36: 24-37 و37: 1-14 وهو 3: 5 وعا 9: 8، 9 ومي 2: 12، 13 و7: 15-20 وزك 10: 9، 10 و12: 10 ورو 11: 25 و2كو 3: 12-18.
4- ما هي التفسيرات الرئيسية لهذه النبوات؟
* هناك ثلاثة تفسيرات رئيسية:
(1) رأي اليهود، وهو أن النبوات عن أمتهم تعني رجوعهم من شتاتهم إلى بلادهم وامتلاكهم لها، وذلك تحت حكم المسيح، فيجددون هيكلهم وديانتهم على صورتها السابقة، ويرتفع شأنها إلى أعلى درجة بين شعوب الأرض.
(2) رأي أصحاب التفسير الحرفي لتلك النبوات، وهو لا يختلف في جوهره عن رأي اليهود، إلا أنهم يقولون إن الديانة اليهودية عند تجديدها تكون ديانة الكنيسة كلها، أي أن الكنيسة المسيحية تتحول إلى كنيسة يهودية. ولا يصادق معظم المفسرين تماماً على هذا التفسير، بل يقولون إنه لا ينبغي أن ننتظر انقلاباً تاماً مثل هذا في الديانة المسيحية، وإن التفسير الحرفي يصح فقط من جهة رجوع اليهود إلى أرض فلسطين ورفع شأنهم بين المسيحيين على اختلاف أممهم وبلدانهم، وذلك عند اعتناقهم المسيحية. وهذا الرأي قريب من المذهب الروحي (تحت رقم 3). غير أنه لا يمكن برهنة قولهم إن جزءاً من النبوات عن اليهود يتفسر حرفياً وجزءاً آخر روحياً. وإذا صح التفسير الحرفي لجزءٍ ينبغي طبعاً التسليم به للكل. ولذلك استصوب معظم المفسرين التفسير الروحي للكل، وهو الرأي الثالث.
(3) رأي أصحاب التفسير الروحي للنبوات عن اليهود، الذين يقولون إن كل تلك النبوات تتم بانضمام اليهود إلى الكنيسة واشتراكهم قي بركات الإنجيل وخيراته. وبعد رجوعهم إلى الكنيسة إذا اتفق أن بعضهم أو معظمهم أرادوا أن يرجعوا إلى بلادهم ويستوطنوها فليس هناك نبوة تمنع ذلك. وكذلك لا مانع إذا أرادوا أن يستوطنوا أمريكا أو الصين. ولكنهم والحالة هذه يرجعون وهم مسيحيون بحريتهم، لا ليجددوا الديانة اليهودية فيها تحت حماية الله، بل ليمارسوا المسيحية فيقيمون هناك كنائس ويعبدون المسيح بالحق. ولاشك أن ذلك يسر قلب كل مسيحي، ويتمجد الله به أكثر جداً من رجوعهم يهوداً لغاية سياسية. فمن اقتصر على فهم تلك النبوات على هذه الصورة فلا حرج عليه، ولكن يضل من يتطرف في تفسيرها حرفياً بأنها تشير إلى رجوع اليهود إلى فلسطين لبناء أورشليم والهيكل ثانية، وتقسيم الأرض بين أسباط إسرائيل القديمة، وتجديد طقوسهم الدينية، وكل ذلك تحت حكم المسيح، الذي (على زعمهم) يأتي لهذه الغاية ويجلس على عرشه في أورشليم، ويجمع حوله الأمة اليهودية ويقربها إليه دون سائر المؤمنين، وكل ذلك إتماماً لتلك النبوات. وهذا تفسير مستبعد، ليس ما يؤيده في العهد الجديد، بل إنه يخالف روحه، وقد نشأ عن خطإٍ في تفسير مقاصد الله.
5- ما هو الرأي الأصح في هذه التفسيرات الثلاثة؟
* نقول بصحة الرأي الثالث بدليل:
(1) تفسير تلك النبوات على أنها تشير إلى رجوع اليهود للكنيسة، وهو وافٍ بالمقصود، ويطابق باقي تعليم الكتاب، فإن تجديد الديانة اليهودية ودوامها إلى غير نهاية لا يُراد به ظاهره الحرفي، لأنه تعبير عن معناها الجوهري الحقيقي. وهذا ينطبق على تعاليم العهد القديم عن العصر الإنجيلي، وعلى ما جاء في العهد الجديد عن مستقبل الكنيسة والأحوال السماوية. ومن أمثلة ذلك قول المسيح «طوبى لأولئك العبيد الذين إذا جاء سيدهم يجدهم ساهرين. الحق أقول لكم إنه يتمنطق ويُتكئهم ويتقدم ويخدمهم» (لو12: 37). «أنا أجعل لكم كما جعل لي أبي ملكوتاً» (لو22: 29). «من يغلب فسأعطيه أن يجلس معي في عرشي كما غلبت أنا أيضاً وجلست مع أبي في عرشه» (رؤ 3: ا 2). فهذه الآيات وما شابهها مجازية، تعبر عن حقائق روحية سامية باستعارة أمور أرضية زمنية. وتفسيرها حرفياً يُفقدها معناها الصحيح، ويؤدي إلى الضلال في تفسير كلام الله. وإذا صح هذا المبدأ على أقوال العهد الجديد النبوية، فكم بالحري يصحّ على نبوات العهد القديم. ونحن نعلم أن كل ما في العهد القديم من طقوس وفرائض رمزي استعدادي قُصد به تهذيب شعب الله القديم وتدريبهم في إدراك الأمور الروحية، لأنهم كانوا لا يزالون في حالة الطفولة، وفي احتياج إلى ما يناسب ذلك الحال.
وتوضح استعارات وتشبيهات وكنايات العهد القديم مستقبل كنيسة الله الديني، وهي موافقة لأحوال الشعب في زمن استعمالها. مثال ذلك في عهد داود وسليمان شُبِّه المسيح بملك ذي سلطان عام يمتد ملكه إلى كل أمم الأرض. ولما انقسمت المملكة وساءت أحوال الشعب عبر عن المستقبل بذكر الاتحاد بين إسرائيل ويهوذا، وارتفاع ملك داود، ودعوة الشعوب للتمتع بالراحة والسلام في الملكوت الثابت. وعبر حزقيال عن أحوال المستقبل باستعارات مبنية على بناء أورشليم وإقامة الهيكل ثانية، ورجوع الشعب إلى أرضهم المقدسة، وإرجاع السلطان إليهم، لأنه تنبأ في وسط ظروف مخالفة لذلك تماماً.
ولو أننا فسرنا تلك النبوات حرفياً لظهر لنا وكأن نبوات الأنبياء متناقضة، لأن أقوالهم أحياناً يُراد بها حرفياً إصلاح ما حدث من الخلل في النظام اليهودي، وأحياناً يُراد بها إبادة ذلك النظام على الإطلاق (إر 31: 31 وإش 65: 17 و66: 1-4 وحج 2: 7). ومنها ما يراد به صعود الأمم إلى أورشليم ليمارسوا الديانة اليهودية (إش 66: 23 وزك 14) ومنها ما يراد به امتداد اليهودية وكل طقوسها في كل الأرض (إش 19: 19-25 وملا 1: 11). ومن نبوات حزقيال ما يؤكد لنا بناء الهيكل والمدينة وسكنى الأرض المقدسة بمجدٍ واحتفال عظيم. مع أن أقوال يوحنا الرسول في سفر الرؤيا تعلّمنا أنه لا يكون هيكل، لأنه لا احتياج إليه في المستقبل. فبموجب المبدأ الروحي لتفسير النبوات، لا خلاف في كل ذلك، لأن المعنى الجوهري واحد في الكل.
إن التفسير الحرفي لتلك النبوات يخالف مبدأً جوهرياً في ديانة الله وتصرفاته في تهذيب البشر وتتميم مقاصده الإلهية، ولاسيما في بنيان ملكوته وإكمال عمل الفداء، وهو التقدم من الأدنى إلى الأعلى ومن الأبسط إلى الأبلغ. ففروض الديانة اليهودية أركانٌ ضعيفة بالنسبة إلى المسيحية وروحها، كما أن فروض المسيحية على ما هي الآن هي دون ما ستكون في مستقبل الكنيسة المجيد. فالقول بلزوم التفسير الحرفي هو بمثابة الاعتقاد أن الله مقيَّد بسَنّ رسوم واحدة خارجية لديانته وشعبه من بدء العالم إلى انقضائه.
(3) الديانة اليهودية ديانة رمزية، وكذلك أمور كثيرة في تاريخ شعب اليهود، وقد تمت كلها في نظام العهد الجديد. ولا خلاف على وجود رموز في العهد القديم، وينتهي الرمز بمجيء المرموز إليه، لأنه متى ظهر المرموز إليه لا نحتاج إلى الرمز. وكان النظام الموسوي الديني رمزاً لنظام الإنجيل، فلما ظهر الإنجيل لم تعد هناك حاجة إلى نظام موسى، الذي مضى وزال. وقد أعلن الإنجيل ذلك بصريح الكلام. ولذلك يقوم التقدم والنمو في الديانة الإلهية بالنظام الإنجيلي لا بالرجوع إلى النظام اليهودي، وإلا فيكون المرموز إليه قد انتهى في الرمز، لا الرمز في المرموز إليه، خلافاً لمبادئ النظام الرمزي ولشرائع الله السامية. كذلك بنو إسرائيل، شعب الله المختار في العهد القديم، المفرز عن بقية شعوب الأرض، كان حسب الجسد رمزاً للكنيسة التي هي بالحقيقة النسل المختار في عصر الإنجيل، وهي التي اختارها المسيح من العالم وافتداها بدمه ليضمها إلى ملكه الأبدي، ولذلك لما ظهرت الكنيسة ونظمت على مبادئ الإنجيل زالت الديانة اليهودية وطقوسها، ولم تُعد الأمة اليهودية شعباً خاصاً لله، فانتهى الرمز في المرموز إليه وزال عند ظهوره. ولأجل بيان ذلك سُمي كل المؤمنين في العهد الجديد «نسل إبراهيم» (غل 6: 16 وأف 2: 12، 19) «وآتين إلى جبل صهيون» (عب 12: 22) و«أولاد أورشليم العليا» (غل 4: 26) و«أهل الختان» (في 3: 3 وكو 2: 11) وسُموا أيضاً في سفر الرؤيا «يهوداً» بمعنى أنهم يستحقون المديح (رؤ 2: 9). وقيل أيضاً عن هذا النسل المقدس إنهم «حسب الموعد ورثة» (غل 3: 29) وهو الموعد لإبراهيم. ولما كان المؤمنون في كل مكان هم نسل إبراهيم وورثة المواعيد الممنوحة له، كانت تلك المواعيد تشير ليس إلى مجرد امتلاك أرض كنعان بل إلى المرموز إليه بأرض كنعان، أي كنعان السماوية التي هي الميراث الذي لا يفنى ولا يتدنس ولا يضمحل. ولا شك أن هذا ما قصده الرسل في كل ما علّموه في هذا الشأن، لأنهم في كل كلامهم عن المستقبل لم يشيروا إلى الميراث اليهودي الرمزي، بل أشاروا دائماً إلى أن الرمز قد مضى، والمرموز إليه هو الموضوع الوحيد لرجاء الكنيسة. فنتعلم من أن إسرائيل القديم رمز إلى إسرائيل الجديد اختفاء الرمز في المرموز إليه، وأن الأمة اليهودية تنضم للكنيسة المسيحية، وأنه لم يعُد لليهود حق في مواعيد الله لكنيسته ما لم ينضموا إليها، لأن مواعيد الله هي لهم ليس لأنهم من نسل إبراهيم الجسدي، بل باعتبارهم شعب الله حسب الاختيار. لذلك لا ينالون المواعيد إلا عندما يصيرون شعب الله بمعنى روحي.
وربما يُعتَرض بالقول إن اليهود اليوم مثل شعب الله في العهد القديم، هم رمزٌ لأنفسهم، وهم شعب الله تحت نظام الإنجيل، وإن امتلاكهم أرض كنعان قديماً يرمز لامتلاكهم إياها مرة أخرى في ظروف أفضل. فنجيب: إن ذلك ليس من نظام الرمز بل يخالفه، لأن الرمز دائماً أقل من المرموز إليه في كل شيء، ولذلك لا يصح أن يكون أمرٌ رمزاً إلى نفسه. هل يصح أن نعتبر أكل المن في البرية رمزاً إلى أكله مرة أخرى، أو ذبح خروف الفصح رمزاً إلى نفسه في نظام آخر؟ كلا! وكذلك لا يصح أن يكون امتلاك أرض كنعان في العهد القديم رمزاً لامتلاكها ثانية في عصر الإنجيل، بل إلى امتلاك ما هو أفضل وأسمى منها، يكون مطابقاً لمقاصد الإنجيل.
لقد اعتبر الرسل الديانة اليهودية رمزية، وأنها تمَّت في المسيحية، وأن المسيحيين غير مكلفين بعْدُ بحفظها. ووبَّخ الرسول بولس كل ميل إلى الفرائض اليهودية، وحثَّ المسيحيين على تركها لأنها زالت. وما أحسن قول المسيح للسامرية عن عبادة الله «لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للآب، بل بالروح والحق» أي في كل مكان. ويوافق قول المسيح هذا ما حدث عند موته، وهو انشقاق حجاب الهيكل إلى اثنين، دلالة على زوال فرائض النظام الموسوي ونسخها تماماً. ومن هذا القبيل قول الرسول «لأن فصحنا أيضا المسيح قد ذُبح لأجلنا» (1كو 5: 8).
وكل ما تقرر في شأن الديانة اليهودية من هذا القبيل يصح أيضاً على الشعب اليهودي، فإسرائيل الأمة اليهودية شعب الله في العهد القديم هم رمز للكنيسة. فما دامت الرمزية قائمة يستمر التمييز بين اليهودي والأممي. ولما انتهت الرمزية بظهور المرموز إليه زال التمييز بين اليهود والأمم، وتألف شعب الله المختار من كل جنسٍ وقبيلة. ولنا على ذلك نصوص إلهية كثيرة في كلام الرسل الأطهار (انظر رو5: 12 وغل 3: 28 وكو 3: 11 وأف 2: 14) وهو ما يؤيده تسمية المؤمنين من كل جنس «نسل إبراهيم» و«إسرائيليين» (غل 3: 29 و6: 16 وأف 2: 12 وعب 12: 22).
إن التفسير الحرفي ينافي روح العهدين القديم والجديد. نعم لليهود مواعيد خاصة بهم تتعلق برجوعهم أخيراً إلى حضن الكنيسة وانضمامهم إلى شعب الله، ولكن لا يوجد وعد ولا برهان على ارتقائهم فوق غيرهم في ملكوت المسيح. غير أن رجوعهم يكون بركة للكنيسة لإحيائها وتنشيطها، كما قال الرسول إن اقتبالهم يكون حياةً من الأموات! (رو 11: 15). ويا له من منظر بهيج للغاية عند المؤمنين متى رأوا اليهود يرجعون للمسيح والكنيسة بنفس واحدة، يقبلون الإنجيل ويبشرون بحق المسيح.
وما قلناه عن رمز الديانة اليهودية والشعب اليهودي نقوله عن ميراثهم في أرض كنعان، التي هي رمز أيضاً لميراث الكنيسة التي سترث حسب المواعيد ليس أرض كنعان فقط بل الأرض كلها، كما قيل عن إبراهيم إنه «وارثٌ للعالم» (رو 4: 13) أي السماء الجديدة والأرض الجديدة، ميراث الكنيسة الأبدي حسب المواعيد (1بط 1: 4 و2بط 3: 13).
(3) لم يذكر المسيح والرسل رجوع اليهود إلى فلسطين وتجديد ديانتهم فيها، ولكنهم ذكروا رجوعهم إلى الله بقبولهم المسيح وتطعيمهم في الكنيسة بعد دخول ملء الأمم. وليس في كل العهد الجديد نص على رجوع اليهود إلى بلادهم وأحوالهم القديمة وتجديد ديانتهم التي نُسِخَت، ولا إشارة لذلك ولا ما يؤيده مطلقاً. ولكن ما ورد كثيراً هو إجراء الدينونة عليهم وتدمير مدينتهم وتشتّتهم في كل العالم. نعم اقتبس أصحاب الرأي الحرفي في رجوع اليهود وتجديد ديانتهم بعض آيات العهد الجديد على أن فيها إشارة لذلك، ومنها قول المسيح للرسل «أنتم الذين تبعتموني في التجديد، متى جلس ابن الإنسان على كرسي مجده تجلسون أنتم أيضاً على اثني عشر كرسياً تدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر» (مت 19: 28) وقوله «وتكون أورشليم مدوسة من الأمم حتى تُكمَّل أزمنة الأمم» (لو21: 34). وسؤال الرسل للمسيح «هل في هذا الوقت ترد الملك إلى إسرائيل؟» وجواب المسيح لهم «ليس لكم أن تعرفوا الأوقات والأزمنة» غير أنه ليس في كل ذلك ما يؤيد رأيهم. وإذا نظرنا إلى أمثال المسيح التي فيها يبين أحوال ملكوته نستفيد منها فوائد كثيرة ومختلفة عن مستقبل ذلك الملكوت، ولكن لا نرى فيها ما يدل على رجوع اليهود إلى فلسطين وتجديد نظامهم الديني ولا حتى ما يشير لذلك، مع أن بعضها يتحدث عن علاقة اليهود بذلك الملكوت (مت 21: 28-46 و22: 1-14 ولو 13: 6-9 و15: 11-32). وموضوع بعض النبوات ما يطرأ على الكنيسة من الفساد وما يصيبها من الضيق أثناء تقدمها وامتدادها، ثم انتصارها أخيراً (مت 13: 24-50 وص 25 ولوقا 16، 18). ثم ليس في كلام بولس عن مستقبل اليهود ما يدل على امتيازهم وارتفاعهم وتجديد ديانتهم في المستقبل (رومية 9-11) بل بالعكس نراه يبين أن رجوعهم يكون رجوع المصالحة مع الكنيسة ودخولهم في عضويتها. وكذلك بطرس لم يذكر لا في مواعظه ولا في رسائله أن لإسرائيل حسب الجسد مستقبلاً. ومع أنه كان بين الرسل الذين سألوا المسيح عن ردّ المُلك لإسرائيل، نراه بعد سكب الروح القدس في يوم الخمسين ينادي تكراراً بالمسيح الجالس الآن على عرش داود (أع 2: 30 و4: 24-28). ولما تكلم عن مستقبل ملكوت المسيح (أع 3: 19-21) لم يذكر ردّ المُلك إلى إسرائيل بل ردّ كل شيء إلى حالة المجد والسعادة الأصلية، كما تكلم أنبياء الله القديسون منذ إنشاء العالم. وإذا نظرنا إلى سفر الرؤيا لا نرى فيه كلاماً في هذا الموضوع. نعم قيل إن ختم الاثني عشر ألفاً من كل سبط (رؤ 7) هو دليل على رجوع اليهود، ولكن ذلك لا يشير إلى اليهود بل إلى مختاري الكنيسة، فقد أشار سفر الرؤيا للكنيسة باستعارات وتشبيهات يهودية. ويؤيد ذلك أن عدد المختومين (144 ألفاً في رؤيا 14) يشير إلى مختاري الكنيسة دون تمييز. وتفسير البعض أن المرأة المذكورة في رؤيا 12 هي الكنيسة اليهودية، وأن نسلها هم اليهود في حالة التشتت في البرية، لا يتَّفق مع روح السفر وهدفه. والدليل على ذلك سكوت المسيح ورسله عن هذا الموضوع، حيث يُنتظر منهم أن يعلنوه لو كان صحيحاً.
(4) روح العهد الجديد وتعليمه نسخ الديانة اليهودية إلى الأبد، ورفض العهد الجديد اليهود أن يكونوا بعد شعب الله الخاص، وذلك كله يقتضي التفسير الروحي للنبوات عن مستقبل الأمة اليهودية. أما نسخ الديانة اليهودية إلى الأبد فمن أوضح تعاليم العهد الجديد. وقد ذكر فيه كثيراً (انظر أف 2: 14، 15 وكو 2: 14 و3: 1-3 وغل 4: 9-11 و5: 2-4).
وأما روح العهد الجديد فيناقض الديانة اليهودية، وقد نادى الرسل بنسخها وزوالها، وإنشاء ديانة على صورة أخرى تختلف عنها، هي المسيحية التي لا يمكن جمعها مع الديانة اليهودية في نظام واحد. وأما رفض اليهود أن يكونوا شعب الله الخاص فمعروف. ولا شك أن الله قصد خلاصهم أخيراً بدعوتهم إلى المسيح وانضمامهم إلى كنيسته.
(5) تفسير العهد الجديد لبعض النبوات المشابهة تماماً في ألفاظها وروحها للتي نحن في صددها الآن يرجِّح التفسير الروحي لها. ومن أمثلة ذلك تفسير الرسول بولس أن نسل إبراهيم يشمل المؤمنين من اليهود والأمم أيضاً، أي نسله الروحي لا الجسدي (رو4: 11-16). وتفسيره قول يوئيل: «كل من يدعو باسم الرب يخلص» وأنه إعلان لخلاص الأمم بالمسيح (انظر غل 3: 6-18 ورو 10: 13) مع أن يوئيل وجَّه كلامه حسب الظاهر إلى اليهود، إذ قال لهم «بنوكم وبناتكم وشيوخكم» وقد فسّر العهد الجديد هذه النبوة وأعلن المقصود منها. وهناك تفسير يعقوب الرسول لنبوة عاموس عن بناء خيمة داود الساقطة أنها تشير إلى رجوع الأمم ببنيان الكنيسة المسيحية (أع 15: 13-18).
(6) يستلزم التفسير الحرفي نتائج صعبة القبول ومستحيلة الحدوث عند كل مسيحي ذي عقل سليم. وذلك مما يثبت التفسير الروحي. فإن صح التفسير الحرفي للنبوات عن الأمة اليهودية يلزم فهم ما قيل عن الأمم القديمة المعاصرة لليهود حرفياً أيضاً. ومما قيل عنها إنها تكون موجودة عند رجوع اليهود الذين يغلبونها ويبيدونها، وذلك بعيد التصديق. وكذلك إن صح التفسير الحرفي لما جاء في زكريا 12 مثلاً يلزم وجود الأسباط والعشائر والعائلات قائمة متميزة بعضها عن بعض، حتى أن بيت داود يتميز عن غيره. قال «وتنوح الأرض عشائر عشائر على حدتها، عشيرة بيت داود على حدتها ونساؤهم على حدتهنَّ. عشيرة بيت ناثان على حدتها ونساؤهم على حدتهن. عشيرة بيت لاوي على حدتها ونساؤهم على حدتهن». كل العشائر الباقية عشيرة عشيرة على حدتها ونساؤهم على حدتهن. وفي نبوات أخرى ميز الكهنة عن اللاويين وأولاد صادوق عن عائلات أخرى من الكهنة، وكل سبط في رتبته (إش 66: 21 ومل 3: 3 وحز 44: 15 وص 48). وكل ذلك بعيد التصديق، لأن تلك المميزات العائلية الخاصة قد زالت عند اليهود. ولولا ذلك لأبقاها الله بعنايته كما حفظ معرفة بيت داود وعشيرته إلى أن أتى المسيح. ثم نهى الرسل عن حفظ أنساب لا حدّ لها (1تي 1: 4).
وإذا صحّ التفسير الحرفي يلزم الاعتقاد أن كل الأمم يصعدون كل سنة إلى أورشليم ليعبدوا الرب ويعيدوا الأعياد المفروضة (زك 14: 16 وإش 66: 23) وذلك بعيد أيضاً. وكذلك إن صح التفسير الحرفي يتعذر علينا تفسير كلام حزقيال في بناء الهيكل والمدينة وتقسيم الأرض بين الأسباط (حز ص 40-48) لأن إتمامه حرفياً مستحيل. ولكن إذا فسرناه روحياً، بمعنى أنه يشير إلى نجاح الكنيسة وامتدادها وتسلطها، وجدناه يوافق روح الإنجيل.
6- ما هي براهين أصحاب «التفسير الحرفي» للنبوات عن مستقبل الأمة اليهودية؟
* تشير النبوات بموجب هذا التفسير إلى قيام الأمة اليهودية (أي نسل إبراهيم الجسدي) وامتلاكهم أرض الموعد ثانية باعتبارها ميراثاً خاصاً من الله لهم، وتجديد ديانتهم وارتقائهم في ملكوت المسيح فوق سائر المسيحيين. وتقترن هذه الأمور عند أصحاب هذا التفسير بمجيء المسيح في الجسد لإقامة ملكوت أرضي عاصمته أورشليم، أي أن عرش ملكه يكون في تلك المدينة، وشعب اليهود يكون حاشيته والرؤساء والمشيرين في ملكوته.
ولا يخفى أن في العهد القديم نبوات كثيرة عن رجوع اليهود من سبي بابل، الأمر الذي قد تم حرفياً وانتهى، كما أن فيه نبوات أخرى عن حالتهم السيئة في عصر الإنجيل، ثم عن نجاتهم من تلك الحال المعبَّر عنها غالباً برجوعهم إلى أرضهم ومدينتهم وبناء هيكلهم وممارسة فرائضهم الدينية بسلام ونجاح، وذلك ليس بالمعنى الحرفي بل بالمعنى الروحي أي رجوعهم إلى الكنيسة. ومن النبوات ما يشير إلى الكنيسة باستخدام تشبيهات وكنايات مأخوذة من عادات اليهود الدينية وأحوالهم الشعبية.
وقد استخف أصحاب الرأي الحرفي (في تفسير النبوات عن اليهود) بالرأي الروحي، وقالوا إن إتمامها روحياً غير حقيقي، وإنه لابد من إتمامها حرفياً، وإلا فلا صحة للنبوات ولا لما تتضمنه من مواعيد الله! وزعموا أن كل نبوات الكتاب تقريباً عن أحوال الكنيسة وامتدادها وآخرتها المجيدة بتشبيهات وكنايات يهودية لا تختص بالكنيسة المسيحية، بل تختص باليهود نسل إبراهيم الجسدي. مع أن موضوع النبوات عن العصر الإنجيلي هو كنيسة المسيح، لا أمة اليهود، وأن النبوات كما أنبأت عن المسيح بأسماء وألقاب مختلفة كنسل المرأة و«شيلون» و«نسل داود» و«داود» و«الغصن» و«عبد الرب» و«عمانوئيل» و«الراعي» و«الرجل رفقة يهوه» و«الرب برنا» و«ملاك العهد» و«عبدي البار»، و«رجل الأوجاع» و«راعي يهوه» و«أصل يسى» و«نور الأمم» و«حجر الزاوية» و«الأساس المؤسس» و«الكوكب من يعقوب» و«القضيب من إسرائيل». كذلك أنبأت عن شعب المسيح بأسماء وألقاب مختلفة أكثرها يهودي مثل «بيت إسرائيل» و«بيت يهوذا» (قارن إر 31: 31 مع عب 8:8 و10: 14-17) و«نسل يعقوب» و«نسل إسرائيل» (قارن مز 22: 22، 23 مع عب 2: 11، 12) و«خيمة داود» (قارن عا 9: 11، 12 مع أع 15: 14-17) و«صهيون» (قارن مز 2: 6، 7 مع أع 13: 33، 34).
ولمسألة التفسير الحقيقي للنبوات عن مستقبل اليهود علاقة بمسألة أخرى، وهي أن النبوات تتضمن كلاماً مجازياً واستعارات وتشبيهات وكنايات، نفسرها تفسيراً روحياً بغير معناها الحرفي المطلق، وهذا يبطل أهم براهين أصحاب التفسير الحرفي، لأنهم يزعمون أن النبوات لابد أن تتم حرفياً. وقد أنكر بعضهم وجود المجاز والكناية في الكتاب، وفسروا كل عبارة فيه على معناها الحرفي.
ولا يقصد أصحاب التفسير الحرفي أن يقتصروا على إثبات لزوم الإتمام الحقيقي لكل نبوة (الأمر الذي لا خلاف فيه) بل يقصدون أن يثبتوا لزوم إتمام كل نبوة حرفياً. وعندنا أن كل نبوة لابد أن تتم، وإتمامها إما أن يكون حرفياً أو روحياً، وذلك حسب قصد الله بها.
ولا يدل التفسير الروحي لمستقبل اليهود على أدنى بغضة لهم أو ازدراء بهم، ولا يسلب شيئاً من حقهم في المواعيد الإلهية. ولكنه يدل على أن لهم بركات أعظم مما يدل عليه التفسير الحرفي. فما هي وراثة أرض فلسطين بالنسبة إلى وراثة بركات الإنجيل؟ وما هي امتيازاتهم القديمة وطقوسهم بالنسبة إلى حرية الإنجيل وفوائده؟ إن اقترابهم إلى أورشليم السماوية أسمى من حلولهم في أورشليم الأرضية، وسجودهم في الكنيسة أفضل من سجودهم في هيكلهم القديم.
ويظهر ضلال أصحاب التفسير الحرفي بأمرين: (أ) ينكرون استخدام الأنبياء للمجاز في نبواتهم للتعبير عن أمور روحية، و(ب) يزعمون أن الإتمام الحقيقي للنبوات عن الأمة اليهودية يكون حرفياً. فنشأ عن الأول أنهم حسبوا اليهود (حسب الجسد) موضوع نبوات كثيرة، مع أن موضوعها الصحيح هو الكنيسة. ونشأ عن الثاني الزعم أن صدق الله وأمانته في إتمام نبواته يتوقفان على تحقيقها حرفياً. فنادوا أولاً بصدق الله وأمانته وضرورة تحقيق النبوات، ثم اجتهدوا في إيضاح أن التحقيق الحرفي هو فقط التحقيق الحقيقي. ثم أتوا بالنبوات التي تتكلم حسب الظاهر عن عظمة إسرائيل وديانة اليهود ورجوعهم إلى بلادهم وبناء أورشليم والهيكل، ثم استنتجوا صدق كل ما ادعوا به من جهة تلك الأمة بموجب معنى تلك النبوات الحرفي.
أما المفسرون الروحيون فيسلّمون بأن الله صادق، ولا بد من إتمام نبواته، ولكنهم ينكرون تحقيق النبوات حرفياً فقط. وبهذا يفسرون تلك النبوات ولا يخشون الضلال في تفسيرهم، لأن التفسير الحرفي هو يهودي في روحه وغايته، وبعيد عن روح الإنجيل ومقاصده، ولم يثبت من التاريخ واختبار الكنيسة، ويخالف تعليم الرسل. وتمسكنا به الآن يقودنا لأن نستخف بالإنجيل، ويرجعنا إلى الأركان الضعيفة التي زالت إلى الأبد عند مجيء المسيح. وقولهم إنه ليس للنبوات سوى الإتمام الحرفي يخالف ما نراه من عدة وجوه:
(1) يخالف ما نراه في النظام الرمزي في العهد القديم، والرموز فيه كثيرة، وقد تمت في العهد الجديد. ولكن هل تمت حرفياً؟ لا! فإن الرمز بحَمَل الفصح لم يتم في حملٍ حقيقي، ولا الذبائح الحيوانية تمت قي أمثالها، ولا ملكوت داود تم في ملكوت مثله من كل وجه، ولا جلس المسيح على عرش داود بالمعنى الحرفي، ولا دخل الهيكل ليشفع في المؤمنين على صورة دخول رئيس الكهنة قديماً إلى قدس الأقداس. وإذا صحّ أن الله عبَّر بالرموز عن حقائق إنجيلية، وأن تلك الرموز قد تمت في أمور روحية على صورة توافق النظام الإنجيلي فلا يُحتمل أن النبوات التي تشير إلى أمور إنجيلية، لا تتم أيضا على صـورة توافق ما ينتظر.
(2) ورأي أصحاب التفسير الحرفي يناقض نفسه، فمما يستندون عليه «العظام اليابسة» التي رآها حزقيال (حز 37: 1-14). فقالوا إن هذه النبوة تفيد رجوع اليهود إلى أرض فلسطين، واستخدموا كل مبادئهم وقواهم لإيضاح ذلك ولكن في ما يوافق غرضهم فقط، وأما ما لا يوافق غرضهم فسكتوا عن تفسيره حرفياً. مثال ذلك قوله «هأنذا أفتح قبوركم وأصعدكم من قبوركم يا شعبي، وآتي بكم إلى أرض إسرائيل» (حز 37: 12). فسّروا الإتيان بهم إلى أرض إسرائيل حرفياً، أما فتح قبورهم وإطلاقهم منها فلم يفيدونا: هل معناها حرفي أم مجازي؟ أما التفسير الروحي فهو أن رؤيا العظام اليابسة تشير إلى الرجوع من السبي، أو بالحري الرجوع إلى الكنيسة.
وفي تفسير ما جاء في زكريا 14 حرفياً صعوبات تبين خطأ المبدأ الذي بموجبه يفسرون كل هذا الأصحاح على أنه إعادة الأمة اليهودية إلى مركزها في أورشليم. وذلك يستلزم حدوث محاربة عنيفة (حرفياً) من الأمم ضد أورشليم، فيها تؤخذ المدينة وتُنهب البيوت وُتفضح النساء. ثم يخرج الرب ويحارب تلك الأمم (حرفياً) كما في يوم حربه يوم القتال. وتقف قدماه (حرفياً) في ذلك اليوم على جبل الزيتون الذي يواجه أورشليم من الشرق، فينشق جبل الزيتون من وسطه (حرفياً) نحو الشرق ونحو الغرب وادياً عظيماً، وينتقل نصف الجبل نحو الشمال ونصفه نحو الجنوب. وتهربون في جواء جبالي لأن جواء الجبال يصل إلى «آصل» (حرفياً) وتهربون كما هربتم من الزلزلة في أيام عزيا ملك يهوذا، ويأتي الرب إلهي وجميع القديسين معك (حرفياً). ويكون في ذلك اليوم أنه يكون نور. الدراري تنقبض. ويكون في يوم واحد معروف للرب. لا نهار ولا ليل (حرفياً) بل يحدث أنه في وقت المساء يكون نور. ويكون في ذلك اليوم أن مياهاً حية تخرج من أورشليم نصفها إلى البحر الشرقي ونصفها إلى البحر الغربي (حرفياً). في الصيف وفي الخريف تكون. وقيل أيضاً: وتتحول الأرض كلها كالعربة من جبع إلى رمون جنوب أورشليم. وترتفع وتُعمَر في مكانها من باب بنيامين إلى مكان الباب الأول إلى باب الزوايا، ومن برج حننئيل إلى معاصر الملك (حرفياً). فيسكنون فيها ولا يكون بعد لعن، فتعمر أورشليم بالأمن. وقيل أيضاً: وهذه تكون الضربة التي يضرب بها الرب كل الشعوب الذين تجندوا على أورشليم: لحمهم يذوب وهم واقفون على أقدامهم، وعيونهم تذوب في أوقابها، ولسانهم يذوب في فمهم (حرفياً). وقيل أيضاً إن كل الباقي من جميع الأمم الذين جاءوا على أورشليم يصعدون من سنة إلى سنة ليسجدوا للملك رب الجنود وليعيدوا عيد المظال (حرفياً). ويكون أن كل من لا يصعد من قبائل الأرض إلى أورشليم ليسجد للملك رب الجنود لا يكون عليهم مطر (حرفياً). وأن لا تصعد ولا تأتِ قبيلة مصر، ولا مطر عليها. تكن عليها الضربة التي يضرب بها الرب الأمم الذين لا يصعدون ليعيدوا عيد المظال. وقيل أيضاً: في ذلك اليوم يكون على أجراس الخيل «قدس للرب» والقدور في بيت الرب تكون كالمناضح أمام المذبح (حرفياً). وكل قدر في أورشليم وفي يهوذا تكون قدساً لرب الجنود، وكل الذابحين يأتون ويأخذون منها ويطبخون فيها (حرفياً). وفي ذلك اليوم لا يكون بعد كنعاني في بيت رب الجنود.
وزكريا 14 هو من أهم وأشهر النبوات عند أصحاب التفسير الحرفي! ألا يتضح لكل عاقل أن مبدأهم في تفسيره باطل، لأنه يستلزم شق جبل الزيتون، وهروب الشعب في جوف الوادي بين الشطرين، وحدوث يوم يختلف عن كل الأيام بأنه ليس نهاراً ولا ليلاً، إذ في مسائه يكون نور، خلافاً للنظام الطبيعي، وأيضاً يخرج نهران من أورشليم نحو الغرب والشرق، أحدهما يجري إلى البحر المتوسط والثاني إلى بحر لوط. وأيضاً تنخفض كل الجبال (ما عدا الجبل الذي عليه أورشليم والهيكل) وتصير سهلاً واحداً فسيحاً. وتصعد كل الأمم بدون استثناء سنوياً إلى أورشليم ليعيدوا عيد المظال ويقدموا الذبائح الدموية اليهودية، ومن لا يحضر منهم يعاقبه الله بالقحط. وأيضاً الخيل تتزين بأجراس مكتوب عليها «قدس للرب». كما تكتب العبارة نفسها على جميع قدور الهيكل وقدور أورشليم ويهوذا التي يستعملونها لطبخ طعامهم. ولا يكون كنعاني بعد في بيت الرب. فما أغرب كل تلك الأمور.
ومن شاء أن يبحث عن تناقض التفسير الحرفي مع المقصود بأقوال الأنبياء، وتناقضه مع نفسه فليراجع نبوة حزقيال ص 40-48 حيث يرى أن تفسير تلك الأصحاحات على المبدأ الحرفي يؤدي إلى بحرٍ من الصعوبات. وكذلك نبوة يوئيل 3 فإن تفسيره حرفياً يستلزم أن الله يجمع كل الأمم وينزلهم إلى وادي يهوشافاط ويحاكمهم هناك، وأن الشمس والقمر يظلمان، والنجوم تحجز لمعانها، والرب من صهيون يزمجر ومن أورشليم يعطي صوته، فترجف السماء والأرض. وأيضاً الجبال تقطر عصيراً والتلال تفيض لبناً، ومن بيت الرب يخرج ينبوع يسقي وادي السنط، ويهوذا وأورشليم تسكنان إلى الأبد. ومن هذا القبيل ما جاء في ميخا «ويكون في آخر الأيام أن جبل بيت الرب يكون ثابتاً في رأس الجبال ويرتفع فوق التلال، وتجري إليه الشعوب» (ميخا 4). وفي سفر ملاخي «فهوذا يأتي اليوم المتقد كالتنور، وكل المستكبرين وفاعلي الشر يكونون قشاً، ويحرقهم اليوم الآتي قال رب الجنود. لا يُبقي لهم أصلاً ولا فرعاً، ولكم أيها المتَّقون اسمي تشرق شمس البر والشفاء في أجنحتها، فتخرجون وتنشأون كعجول الصِّيرة» (ملاخي 4).
(3) يخالف قول أصحاب التفسير الحرفي ما نراه في إتمام نبوات كثيرة في الكتاب. مثلاً: كيف تمت النبوات عن المسيح؟ هل ملك على عرش داود حرفياً وجلس في أورشليم ملكاً منظوراً، وكان ملكاً لليهود فقط. هل مارس المسيح وظيفة رئيس الكهنة على صورتها القديمة الحرفية؟ وكيف جاء إيليا في شخص يوحنا المعمدان؟ وبأي معنى تمت النبوات عن إقامة خيمة داود الساقطة، وعن نسل إبراهيم؟ وعمّن قيل في العهد الجديد إنهم ورثة بحسب الموعد؟ (غل 3: 29). قال هوشع عن رفض إسرائيل «لأنكم لستم شعبي وأنا لا أكون لكم إلهاً». ثم قال «لكن يكون عدد بني إسرائيل كرمل البحر الذي لا يُكال ولا يُعدّ. ويكون عوضاً عن أن يُقال لهم: لستم شعبي يقال لهم أبناء الله الحي. ويُجمع بنو يهوذا وبنو إسرائيل معاً ويجعلون لأنفسهم رأساً واحداً ويصعدون من الأرض، لأن يوم يزرعيل عظيم» (هو 1: 9). فنسأل أصحاب مذهب التفسير الحرفي عن هذه النبوة: على أي صورة تمت أم ستتم؟ وإذا نظرنا إلى ما جاء عن هذه النبوة في رومية 9: 24-26 نرى أن إتمامها هو في تكثير عدد المؤمنين بالمسيح، من اليهود ومن الأمم، وهذا كافٍ لدحض التفسير الحرفي. وهكذا نقول في ما جاء عن صهيون وأورشليم، وبناء الهيكل، ورجوع اليهود إلى بلادهم: أن الأَوْلى هو تفسيره بمعناه الروحي لا الحرفي.
(4) كل من خاض في هذا البحث يرى أن جانباً عظيماً من النبوات قد تم روحياً. فأرض كنعان لم تفض لبناً وعسلاً، ونسل إبراهيم لم يكن كرمل البحر، وعدد الأمم الذين يجتمعون أخيراً لمحاربة أورشليم لا يكون حرفياً كرمل البحر (رؤ 20: 8)، ومُلك داود لم يكن إلى الأبد حرفياً، فقد انقسمت المملكة في عهد حفيده رحبعام، ثم سقطت مملكة يهوذا. فهل تحتمل تلك النبوة غير المعنى الروحي؟ كذلك قيل عن المسيح إن اسمه يدوم كالشمس، ولكن الشمس تغيب وستزول! فلا يكون المقصود بذلك المعنى الحرفي. وجاءت نبوة عن شق البحر الأحمر ثانية (إش 11: 15) والتيهان أيضاً في البرية (حز 20: 34-38) وإخراج الماء من الصخرة (إش 48: 21) وظهور عمود السحاب والنار (إش 4: 5) وإمطار النار والكبريت على سدوم (حز 38: 22) ورجوع الحالة الأصلية في الفردوس (إش 11: 6-8 و65: 25). فهل تم أو سيتم كل ذلك حرفياً؟ قال يوحنا قي الرؤيا عن أورشليم الجديدة إن علوها يكون 12 ألف غلوة، وكذلك طولها وعرضها (رؤ21: 16). فهل المقصود بهذا المعنى الحرفي؟
وقال حزقيال إن شعب الله سيشتغلون سبعة أشهر في دفن موتى أعدائهم أهل جوج ليطهروا الأرض، ثم قال «وأنت يا ابن آدم فهكذا قال السيد الرب: قل لطائر كل جناح ولكل وحوش البر: اجتمعوا وتعالوا. احتشدوا من كل جهة إلى ذبيحتي التي أنا ذابحها لكم، ذبيحة عظيمة على جبال إسرائيل، لتأكلوا لحماً وتشربوا دماً. تأكلون لحم الجبابرة وتشربون دم رؤساء الأرض. كباش وحملان وأعتدة وثيران. كلها من مسمنات باشان. وتأكلون اللحم إلى الشبع، وتشربون الدم إلى السكر من ذبيحتي التي ذبحتها لكم. فتشبعون على مائدتي من الخيل والمركبات والجبابرة وكل رجال الحرب يقول السيد الرب» (حز 39: 12، 17-20). فهل المقصود هو المعنى الحرفي؟ هل يقيم الله وليمة للطيور ووحوش البر، ويدعوها دعوة خصوصية لتأكل وتشرب على جبال إسرائيل لحم الجبابرة ودم رؤساء الأرض حتى تشبع من اللحم وتسكر من الدم، وأن تلك الوليمة تشتمل على لحم البشر ودمهم، وأيضاً على لحم ودم كباش وحملان وأعتدة وثيران، جميعها من مسمنات باشان. وليس ذلك فقط بل أيضاً على الخيل والمركبات.
وما قولهم في ما جاء في سفر الرؤيا عن دعوة الطيور لعشاء الإله العظيم (رؤ 19: 17، 18). هل يقف ملاك حرفياً في الشمس ويصرخ لجميع الطيور لتجتمع إلى عشاء الإله العظيم لتأكل لحوم ملوك وقواد وأقوياء وخيل، ولحوم الحر والعبد الصغير والكبير؟ ألا ترى أن هذه النبوة مثل نبوة حزقيال لا تتفسر حرفياً على الإطلاق! فمن يقدر أن يتصور الجبال تقطر عصيراً والتلال تفيض لبناً! إن هذه النبوات وأمثالها لا تفسير معقول لها إلا التفسير الروحي!
وفي أقوال المسيح نبوات لا تُفهم إلا بمعناها الروحي، ومنها قوله لليهود «انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه» أراد بذلك هيكل جسده. وقوله لتلاميذه حين أكل الفصح معهم «لا أشرب من عصير الكرمة هذا حتى أشربه جديداً معكم في ملكوت أبي». فهل المعنى حرفي يُقصد به أن يسوع يشرب من ذلك النوع من الخمر في السماء! وقوله «خذوا كلوا هذا هو جسدي. اشربوا هذا هو دمي». فهل تحوَّل الخبز والخمر إلى جسد المسيح ودمه حرفياً؟ وقوله لبطرس: «أعطيك مفاتيح ملكوت السموات» فهل أعطاه المفاتيح بمعنى حرفي؟ وقوله لنيقوديموس «الحق الحق أقول لك إن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله» أليس المقصود به الولادة الروحية؟ وقول بولس إن القديسين سيدينون الملائكة، وأيضاً سيدينون العالم، ألا يخالف المعنى الحرفي أن المسيح هو الديان الوحيد؟ وجاء في الكتاب المقدس ذكر كتاب اسمه «سفر الحياة» وذكر دانيال وملاخي وسفر الرؤيا أسفاراً أخرى. فمن يعتقد أن تلك الأسفار مجلدات ذات صفحات مادية كُتبت أسماؤنا عليها؟ إن معناها روحي مجازي لا حرفي. ومن يظن أن كلام المسيح عن وجوب المغفرة للأخ المذنب إلينا سبعين مرة سبع مرات مقصود به هذا العدد فقط؟ وما هو التفسير المرجح لما جاء في الكلام عن تقييد الشيطان ألف سنة، فهل للهاوية مفتاح؟ وهل يأخذ الملاك سلسلة مادية في يده ليقيد بها الشيطان ثم يطرحه في الهاوية ويغلق بابها ثم يختم عليه؟ (رؤ 20: 3). وبالاختصار، ألا يوجد صهيون إلا صهيون الأرضية، ولا أورشليم إلا المدينة المعروفة بهذا الاسم في فلسطين، ولا نسل لإبراهيم سوى اليهود، ولا ختان إلا الختان الذي في الظاهر في اللحم، ولا عبودية إلا عبودية مصر، ولا برية إلا برية سيناء، ولا خبز إلا ما نتج من الحقول، ولا ماء إلا ماء الينابيع الأرضية، ولا كنعان إلا أرض فلسطين!
(5) وقد يحامي أحدٌ عن التفسير الحرفي للنبوات عن اليهود بقوله إن كل نبوات الويل والتهديد على تلك الأمة قد تم حرفياً. فنجيب: (أ) لا شك في تحقيقٍ صحيحٍ كامل لكل مواعيد الله، ولا بد أن يُظهر الله لطفه ورحمته ورضاه لإسرائيل الجسدي إتمامأ لمواعيده. غير أن كيفية تحقيق هذا تكون حسب استحسانه ومقاصده في بنيان ملكوته وإكمال عمل الفداء. فالأمر الجوهري في النبوات عن اليهود هو رجوعهم إلى رضا الله، وانضمامهم إلى عضوية ملكوته، واشتراكهم في فوائد الكنيسة وبركاتها، وذلك يمكن إتمامه بدون الرجوع إلى الديانة اليهودية وتجديدها. ويتم هذا بكيفية مسيحية لا يهودية. (ب) يميز العهد القديم بين شعب الله الحقيقي (أي نسل إبراهيم المقدس من اليهود المؤمنين الحقيقيين، وغيرهم) وبين الأمة اليهودية (أي نسل إبراهيم الجسدي). فتشمل الأمة الروحية الحقيقية نسل إبراهيم الروحي بمن فيهم المؤمنون من غير أبناء إبراهيم بالجسد، ولكنهم من الوثنيين الذين سلكوا في خطوات إيمان إبراهيم (رو 4: 12). وهؤلاء هم جماعة المؤمنين الحقيقيين، أي الكنيسة الإلهية غير المنظورة المعروفة أيضا باسم «إسرائيل الله». وقد بيَّن الرسول بولس الفرق بين شعب اليهود والكنيسة الإلهية (رو 9-11) وقال «ألعل الله رفض شعبه؟ حاشا! لأني أنا أيضاً إسرائيلي من نسل إبراهيم من سبط بنيامين. لم يرفض الله شعبه الذي سبق فعرفه». ثم ذكر كلام إيليا ضد إسرائيل، وجواب الله له «أبقيت لنفسي سبعة آلاف رجل لم يحنوا ركبةً لبعل». ثم قال «فكذلك في الزمان الحاضر أيضاً قد حصلت بقية حسب اختيار النعمة» (رو 11: 1-5). ويظهر من العهد القديم أن جانباً عظيماً من اليهود ارتدوا عن الإيمان ورفضوا الله وديانته، فرفضهم الله. غير أن البعض حسب اختيار النعمة ندموا على ذلك فميزهم الله بعلامة على جباههم (حز 9: 4). وقد حاقت بهم كل الويلات والبلايا التي هددهم الله بها، كما تحقق كلام التعزية والإنعاش والمواعيد الكثيرة لإسرائيل الحقيقي، أي الكنيسة المؤمنة بين اليهود. فوعدهم الله في النبوة بالرجوع من بابل، وأعلن لهم مجيء المسيح وصفاته وعمله المجيد ليخلص الشعب المختار، وكشف لهم أيضاً مجد مستقبل الكنيسة في عصر الإنجيل وارتفاعها وامتدادها وازديادها ثم نصرتها الأخيرة. واستخدم الله في ذلك تشبيهات وكنايات سامية جداً، بُني معظمها على ما يختص بديانة اليهود وأحوالهم الجسدية (انظر إش 40-66 والجزء الأخير من حزقيال ونبوة زكريا). وقد أعطاهم الله عربوناً على إتمام كل تلك المواعيد، هو إرجاع شعبه من بابل في الوقت المعين.
فما هي النبوات التي تمت حرفياً؟ أليست هي النبوات التي تحتوي على تهديد المرتدين من اليهود التي يُنتظر إتمامها حرفياً؟ وما هي النبوات التي تمت روحياً، أو ستتم بالتدريج؟ أليست هي النبوات الموجهة ليس إلى الأمة اليهودية حسب الجسد، بل إلى الكنيسة الحقيقية التي ستتألف من المؤمنين الأمناء بين اليهود، والتي توسعت عند مجيء المسيح وانضمت إليها الأمم، فأخذت تتقدم وتتسع، ولا تزال كذلك إلى أن تعم أخيراً كل قبائل الأرض؟ نعم إن تلك الكنيسة الإلهية (سواء في العهد القديم أم الجديد) هي وارثة المواعيد الإلهية، والتي تنال البركات الخاصة لشعب الله الخاص، أي المؤمنين بالمسيح في كل زمان ومكان. نعم إن توجيه النبوات عن تقدم الديانة وازدهار الكنيسة إلى اليهود فقط ضلال مبين، وإن دلت ألفاظها حسب الظاهر على نجاح الديانة اليهودية ورفع شأن تلك الأمة.
جاءت أقوال أنبياء اليهود بطريقتين: الأولى بالتوبيخ والتهديد والإنذار والوعيد، وقد تم كل ما أعلنوه عليهم من ويل. والثانية إنباءً بالبركات والمواعيد الروحية والزمنية، وتلك قد تمت أيضاً. فعند تفسير أقوال الأنبياء يجب الانتباه إلى هذا التمييز، فلا ننسب التوبيخ والإنذار بالويل للأتقياء، ولا نوجِّه المواعيد بالبركات للعصاة والمرتدين. ولأن النوعين على الغالب واردان معاً، وكلام التهديد والإنذار بالويل يسبق كلام الوعد والتعزية، يجب تدقيق النظر في ذلك. إن مواعيد الله ليست لليهود دون المسيحيين، ولا للمسيحيين دون اليهود، بل هي للكنيسة كلها، مكوَّنة من اليهود والوثنيين الذين قبلوا المسيح. وكنيسة الله هي واحدة، وهي وارثة المواعيد سواء كانت مؤلفة من اليهود أم من الأمم. والسؤال المهم هو: ما هي الكنيسة؟ قال اليهود إنها الأمة اليهودية لأنها نسل إبراهيم حسب الجسد. غير أن الكتاب بيَّن لنا أن علاقة الأمة اليهودية بالكنيسة انتهت عند مجيء المسيح، وصارت الكنيسة الحقيقية هي صاحبة المواعيد والمكونة من ورثة إيمان إبراهيم، لا ورثة دمه الجسدي (يوحنا 1: 11-13).
(6) وإذا سُئلنا: هل للأمة اليهودية نصيب في مواعيد الكتاب؟ نجيب: نعم لها نصيب: (أ) في النبوات عن مجد الكنيسة تحت نظام الإنجيل، وذلك متى انضمت إلى الكنيسة المسيحية، فتشترك في ذلك المجد العظيم الخاص بكنيسة المسيح. و(ب) في النبوات التي تعد برجوع اليهود إلى الله واجتماع شتاتهم وقبولهم بعد رفضهم، وذلك سيتم متى رُفع البرقع أخيراً عن عيون إسرائيل وقبلوا المسيح. حينئذ يشتركون في ميراث الكنيسة.
وإذا قيل إن الوعد لإبراهيم بإعطاء أرض كنعان له ولنسله هو إلى الأبد (تك 13: 15 و17: 8 و26: 3 و18: 13) ولم يتم بعد كما ينبغي، فينتظر إتمامه في المستقبل حرفياً. نجيب: إن الإتمام الحرفي الصحيح يستلزم قيام إبراهيم من الأموات ليرث الأرض مع نسله، وإن الآباء أنفسهم لم ينتظروا إتمام ذلك الوعد حرفياً. قيل عن إبراهيم «بالإيمان تغرب في أرض الموعد كأنها غريبة، ساكناً في خيام مع إسحاق ويعقوب الوارثين معه لهذا الموعد عينه. لأنه كان ينتظر المدينة التي لها الأساسات، التي صانعها وبارئها الله» (عب 11: 9). فنرى أن الآباء سلَّموا بأنهم غرباء ونزلاء على هذه الأرض. ولكن الوعود تحققت لهم، فورثوا الأرض بعد التيه في البرية، وامتد سلطانهم فيها حسب وعد الله لإبراهيم. فقيل عن سليمان «وكان متسلطاً على جميع الملوك من النهر إلى أرض الفلسطينيين وإلى تخوم مصر» (2 أي 9: 26). وجاء في نحميا «أنت هو الرب الإله الذي اخترت أبرام وأخرجته من أور الكلدانيين وجعلت اسمه إبراهيم. ووجدت قلبه أمينا أمامك، وقطعت معه العهد أن تعطيه أرض الكنعانيين.. وتعطيها لنسله. وقد أنجزت وعدك لأنك صادق» (نح 9: 7، 8). فبشهادة الوحي أخذت أمة اليهود (حسب الجسد) نصيبها حرفياً في الوعد لإبراهيم.
(7) وإذا لم يسلّم المعترض بما قلناه، وقال إن الوعد هو لإبراهيم ولنسله إلى الأبد، أي أن نسله يكون كنجوم السماء وكرمل البحر، وأن كل أرض كنعان تكون له ولهم ملكاً أبدياً، وأن جميع قبائل الأرض تتبارك فيه وفيهم، وذلك لم يتم تماماً بامتلاك الإسرائيليين أرض كنعان قبل مجيء المسيح. فنجيب: إن الإشارة في كلمة «نسل» في ذلك الوعد غير محصورة في نسل إبراهيم الجسدي، بل تشمل المسيح وكل المؤمنين به في عصر الإنجيل. فلا بد أن أرض كنعان تشير إلى ميراثٍ أوسع وأفضل للكنيسة «فإنه ليس بالناموس كان الوعد لإبراهيم أو لنسله أن يكون وارثاً للعالم، بل ببر الإيمان» (رو 4: 13) وهذا يعني أن العالم أجمع هو الميراث الحقيقي لإبراهيم ونسله. ثم نقول إن أرض كنعان هي من الأمور الرمزية في العهد القديم، وإنها كانت رمزاً إلى ما هو أسمى وأفضل وأوسع وأمجد في نظام الإنجيل، وإن تميز بين اليهود كشعب الله الخاص وبين الأمم قد زال، وإن الديانة اليهودية وكل ما يختص بها قد تمت في ظهور المرموز إليه بها وزالت. أفلا يلزم عن ذلك أن الأرض المقدسة قد زالت مع جملة رموز العهد القديم باعتبارها ميراثاً خاصاً باليهود؟ وكما توسع نسل إبراهيم توسع أيضاً ميراثهم، وصارت الكنيسة تتوقع ليس كنعان الأرضية بل كنعان السماوية، وستمتلك ليس فقط جزءاً صغيراً وحقيراً من هذه الأرض بل الأرض كلها، لأن المسيح سيتسلط على جميع الأمم والشعوب. وإذ ذاك ترث الكل لا الجزء، وتتمتع بالمرموز إليه لا بالرمز الذي قد زال، ولا يتم تقدمها نحو الكمال برجوعها إلى الجزئيات بل بسعيها نحو الكليات، وليس باجتماعها في بلاد واحدة وهيكل واحد ومركز واحد للعبادة وتقديم ذبائح مادية وممارسة فرائض زمنية، بل برجوع كل البشر إلى الله وتكريس الأرض كلها لعبادته الروحية وخدمته القلبية الطاهرة.
(8) وإذا قال أحد إن الأمة اليهودية لا تزال متميزة عن سائر الشعوب في كل العالم، وإن ذلك دليل على أن الله سيردهم أخيراً إلى أرض فلسطين ويعيد ديانتهم هناك. فنجيب: كلا، بل إن بقاء اليهود على هذا الحال هو إتمام للنبوات التي قالت إنهم سيكونون كذلك، ولا يوجد ما يدل على رجوعهم حرفياً إلى أرض فلسطين. بل يصح أن نحسب حال اليهود هذا دليلاً على أن النبوات عنهم تتم برجوعهم كأمة إلى الكنيسة المسيحية ليقبلوا الإنجيل.
(9) وربما اعترض أحد بأن النبوات تذكر رجوع اليهود إلى أرض فلسطين بصريح اللفظ، فلماذا لا نفهمها عنهم وعن رجوعهم حرفياً؟ فنجيب: أنبأ الله في العهد الجديد عن أزمنة الإنجيل وأحوال الكنيسة باستخدام ألفاظ وعبارات وكنايات وتشبيهات ومجازات واستعارات مألوفة عند اليهود في زمن العهد القديم، ومبنية غالباً على عاداتهم الدينية وبلادهم وما فيها من الحيوان والنبات والمعادن وما جرى فيها من حوادث، ليجعل تلك النبوات مفهومة عندهم. ومن أمثلة ذلك دعوة إبراهيم، والخروج من مصر، والتيهان في البرية، ومدينة أورشليم، وجبل صهيون، وهيكل سليمان، واحتشاد الشعب للأعياد، وتقديمهم الذبائح والقرابين وإيقادهم البخور وتبويقهم بالأبواق، وترنيمهم ترنيمات الفرح، ورجوعهم من السبي وبناؤهم المدينة والهيكل ثانية، وامتلاكهم أرض كنعان، إلى غير ذلك مما استُخدم للتعبير عن أحوال الكنيسة وكل ما يختص بها من الأمور الروحية في عصر الإنجيل. فيجب على المستنيرين بنور الإنجيل أن يفسروا تلك الخيارات المجازية وأمثالها بالنظر إلى معناها الجوهري الإنجيلي، لا الخارجي الحرفي اليهودي، وأن يتوقعوا انضمام اليهود إلى الكنيسة ليشتركوا في بركات شعب الله، ويجب أن يبشروهم بالإنجيل ويطلبوا من الله أن يتمم مواعيده فيهم، ويتوقعوا برجاء وشوق رجوعهم إلى حضن الكنيسة وانضمامهم إلى شعب الله تحت رياسة المسيح، حسبما وُعدوا منذ القديم.
7- ما هو الارتداد العظيم الذي يسبق مجيء المسيح ثانية؟
* يحدث ارتداد عظيم في الكنيسة ويظهر «ضد المسيح» أي «إنسان الخطية» وإبادته. والكلام النبوي في هذا الموضوع واضح، ومنه كلام بولس في الارتداد عن الإيمان وظهور إنسان الخطية قبل مجيء الرب، وإبادته (2تس 2: 1-10). وفي سفر الرؤيا عبارات كثيرة تدل على هذه الحادثة المريعة باستعمال تشبيهات وكنايات واستعارات متنوعة.
وجاءت نبوات الرسل عن أعداء الكنيسة في صورتين: (أ) صورة تصف عداوتهم ومقاومتهم لها دينياً بواسطة تعاليم فاسدة وأنظمة بشرية وعجائب كاذبة وخرافات وأباطيل، بالإشارة إليهم بأسماء مختلفة منها: «الارتداد» و«إنسان الخطية» و«ابن الهلاك» و«ضد المسيح» و«وحش طالع من الأرض له قرنان شبه خروف» (رؤ 13: 11) و«النبي الكذاب» و«الزانية» و«بابل». و(ب) صورة تصف عداوتهم للكنيسة على صورة المقاومة السياسية والطمع والافتخار العالمي، باستخدام كلمة تصف الممالك السياسية المضادة لملكوت المسيح وهي «وحش» موصوف أنه طالع من البحر له سبعة رؤوس وعشرة قرون جلست عليه الزانية، وكانت قرونه واسطة إبادتها أخيراً (رؤ 13: 1-10 و17: 16).
وقد اختلف المفسرون في مدلول «ضد المسيح» فقال بعضهم إنه يشير إلى قوة دينية تقاوم المسيح، وقال آخرون إنه يشير إلى قوة سياسية عالمية تقاومه، وقال غيرهم إنه يشير إلى شخص أثيم. واختار جمهور المدققين الاحتمال الأول. وعلى ذلك يُراد به ارتداد ديني، ويرادفه «إنسان الخطية» و«ابن الهلاك» و«الزانية» و«بابل» و«النبي الكذاب» وكلها تشير إلى أمرٍ واحد هو الارتداد عن الحق أو الزنا الروحي أو مقاومة المسيح بواسطة تعاليم كاذبة وأضاليل مهلكة. ومما يؤيد ذلك استعمال «ضد المسيح» في رسائل يوحنا للتعبير عن معلّمين كذبة ومضلّين.
وليس في غير رؤيا يوحنا من أسفار الرسل إلا نبوات قليلة، غير أنها ثمينة وسامية، ويتحدث أكثرها عن ارتداد عظيم في الكنيسة وظهور مقاومة شديدة للإنجيل من أعداء أقوياء عبروا عنهم بأسماء مختلفة أشهرها «ضد المسيح» و«إنسان الخطية» و«ابن الهلاك» و«سر الإثم» و«التنين» و«الوحش» الأول والثاني (رؤيا 13) و«النبي الكذاب» و«الزانية» و«"بابل». وبعضها تشير إلى مقاومة دينية، وغيرها إلى مقاومة عالمية. والتنين كناية عن إبليس رئيس الجميع.
ومن الأمور التي ستصاحب ذلك الارتداد ومن خصائصه المتنوعة إفساد الحق، واغتصاب حقوق الله والمسيح، وإصدار قوانين دينية وفرائض مختلفة تخالف روح الإنجيل، والادعاء بسلطان سام على عالم الأرواح، والنجاح باستعمال المعجزات الكاذبة وكل خداع. وينشأ ذلك الارتداد من داخل الكنيسة لا من خارجها، ولا بد أن يهلك كل المرتدين في ما عدا التائبين منهم.
وفي رسائل بولس نبوتان تستحقان الذكر، إحداهما عن إنسان الخطية، والأخرى عن الارتداد في الأزمنة الأخيرة، أولهما وردت في 2 تسالونيكي، والثانية في 1تيموثاوس. وبما أن النبوة عن إنسان الخطية جاءت أولاً نبدأ الكلام بها، فنبحث أولاً عن معنى الآية التي وردت فيها.
افتتح الرسول كلامه في هذا الموضوع بقوله «ثم نسألكم أيها الإخوة من جهة مجيء ربنا يسوع المسيح واجتماعنا إليه، أن لا تتزعزعوا سريعاً عن ذهنكم ولا ترتاعوا، لا بروح ولا بكلمة ولا برسالة كأنها منا، أي أن يوم المسيح قد حضر» (2تس 2: 1، 2). ويمكن فهم «مجيء المسيح» و«يوم المسيح»، إما مجازاً، أي مجيئه في دينونته لليهود، أو حرفياً أي مجيئه في المجد ليدين العالم. نعم إنها جاءت أحياناً بالمعنى الأول، ولكنها وردت غالباً في العهد الجديد بالمعنى الثاني، وهو المعنى الموافق لها في هذا المكان، كما يتضح من القرينة.
والتعبيران «مجيء المسيح» و«يوم المسيح» لا يشيران في هذا المكان إلى خراب أورشليم، بل إلى مجيئه أخيراً ليدين العالم، وهو الأصح والمقبول. وجاءت دائماً بهذا المعنى في 1تس 2: 19 «لأن من هو رجاؤنا وفرحنا وإكليل افتخارنا؟ أم لستم أنتم أيضاً أمام ربنا يسوع المسيح في مجيئه؟». وطلب لهم أن «تثبت قلوبهم بلا لوم في القداسة أمام الله أبينا في مجيء ربنا يسوع المسيح مع جميع قديسيه» (1تس 3: 13). وصلى أن «إله السلام نفسه يقدسهم بالتمام، وأن تُحفظ روحهم ونفسهم وجسدهم كاملة بلا لوم عند مجيء ربنا يسوع المسيح» (1تس 5: 23).
كل هذه الأقوال تشير إلى الدينونة العامة. وإذا كانت قد جاءت دائماً بهذا المعنى في 1تسالونيكي، فلماذا لا تُفسَّر بهذا المعنى في 2تسالونيكي؟ إن المقصود بمجيء المسيح هنا هو مجيئه الثاني ليدين العالم. وقد تكلم الرسول عن هذا المجيء نفسه في الرسالة الثانية. (انظر 2تس 1: 6-10).
كان مهماً جداً ألا يضل أهل تسالونيكي في هذا الأمر، بعد أن عرفوا أن مجيء المسيح قريب، وآمنوا بذلك. فإن لم يأتِ حسب انتظارهم، يتزعزع إيمانهم في عقيدة المجيء الثاني، ثم في باقي العقائد المسيحية! ولذلك حذرهم الرسول من السقوط، وأكد لهم أنه لا بد من حدوث أمور مهمة قبل المجيء الثاني، فقال «لا يخدعنكم أحد على طريقة ما، لأنه لا يأتي (يوم المسيح) إن لم يأتِ الارتداد أولاً، ويُستعلن إنسان الخطية ابن الهلاك المقاوم والمرتفع على كل ما يُدعى إلهاً أو معبوداً، حتى أنه يجلس في هيكل الله كإلهٍ، مُظهراً نفسه أنه إله» (2تس 2: 3، 4). وليس هذا الارتداد سياسياً كثورةٍ ضد حكومة، بل هو ديني، أي سقوطٌ من الديانة والعبادة الصحيحة، فهو «ارتداد عن الإيمان» (1تي 4: 1) و«ارتداد عن الله الحي» (عب 3: 12). قال إيراسموس إن أداة التعريف في الارتداد هنا هي للعهد، فهو ارتداد شهير جاءت عنه نبوة سابقاً. وكذلك قوله «إنسان الخطية» هو إشارة إلى ما هو معلوم عندهم من كلامه سابقاً.
وقد ذكر الرسول هذه الأمور لأهل تسالونيكي ليحذر حديثي الإيمان منهم من الارتداد العظيم الذي سيطرأ على الكنيسة، فقال لهم «أما تذكرون أني وأنا بعد عندكم كنت أقول لكم هذا؟ والآن تعلمون ما يَحجِز حتى يُستعلن في وقته. لأن سِرّ الإثم الآن يعمل فقط إلى أن يُرفع من الوسط الذي يَحجِز الآن» (2تس 2: 5-7). وهذا يعني أن «إنسان الخطية» لم يكن قد استُعلن بعد حينئذ، لأن زمن ظهوره لم يكن قد أتى بعد. غير أن سر الإثم كان يعمل حينئذ، لأنه يوجد «سر للأثم» كما يوجد «سر للتقوى» (1تي 3: 16) والواحد ضد الآخر. فزرع الفساد كان قد زُرع، ولكنه لم يبلغ أشدّه بعد، والخميرة كانت متحركة في بعض الأجزاء ولكن كان لا بد من مرور وقتٍ قبل أن تخمِّر كل العجين، وإنسان الخطية كان قد حُبِل به في الرحم ولو أن ذلك كان في بدايته، ولا بد من مرور وقت قبل أن يولد، فقد كان هناك ما يمنع ظهوره. غير أن الرسول لم يقُل إنه شخص أو شيء آخر؟ ولكنه يبقى غير واضح إلى أن يُرفع ما يَحجزه من الوسط. وليس في طاقتنا الآن تحديده يقيناً، غير أن المفسرين الأوَّلين أجمعوا على أن إنسان الخطية هو المملكة الرومانية. والأرجح أن الرسول احترس من التصريح به كتابةً لأنه يختص بالسياسة العليا للدولة، ولذلك قال «إلى أن يُرفع من الوسط الذي يحجز الآن، وحينئذ سيُستعلن الأثيم، الذي الرب يبيده بنفخة فمه ويبطله بظهور مجيئه» (2تس 2: 8). ولا بد أن الرسول أخبر أهل تسالونيكي به شفاهاً، وإن لم يكتب إليهم عنه في الرسالة إلا تلك العبارات المبهمة.
فالأمر واضح جداً أن الأثيم المذكور هنا وإنسان الخطية هما شخص واحد، وهو الذي يبيده الرب بنفخة فمه ويبطله بظهور مجيئه. فإذا كانت هاتان العبارتان تشيران إلى حادثتين متميزتين، يكون المعنى أن المسيح يبيده بالتدريج بالتبشير ونشر كلمته، ويبطله عند مجيئه الثاني بمجد أبيه مع ملائكته القديسين. وإذا كانتا تشيران إلى حادثة واحدة فذلك إطناب ورد مثله كثير في الأسفار الإلهية، المقصود منه أن المسيح يبطله بغاية السهولة بنفخة فمه وبظهور مجيئه.
ولما رغب الرسول في أن ينبئ عن إبادة إنسان الخطية، أدرج ذلك في الخبر عنه، ثم عاد وذكر الأحوال الأخرى التي بواسطتها يتقدم هذا الشرير ويثبت نفسه في العالم، وهي أنه ينال الثقة والسلطان بالحيل الشيطانية، ويدّعي أنه يمتلك قوات فائقة، ويفتخر بالإعلانات والرؤى والمعجزات الكاذبة التي يستخدمها لينشر تعاليمه، فقال «الذي مجيئه بعمل الشيطان بكل قوات وبآيات وعجائب كاذبة» (2تس 2: 9). وهو يستعمل كل الحيل الشريرة وأنواع الخداع والأهواء والتصرفات الرديئة مع بني البشر، ولكنه ينجح فقط مع أصحاب القلوب الفارغة من الحق الذي لو قبلوه لنالوا الخلاص الأبدي، ولذلك قال «وبكل خديعة الإثم في الهالكين، لأنهم لم يقبلوا محبة الحق حتى يَخلُصوا» (2تس 2: 10). ولما كان من العدل أن الله يسلِّم الذين يُسرّون بالبُطل والكذب للبُطل والأكاذيب في هذا العالم، للدينونة في العالم الآتي، قال الرسول «ولأجل هذا سيرسل إليهم الله عمل الضلال حتى يصدقوا الكذب، لكي يُدان جميع الذين لم يصدقوا الحق بل سُروا بالإثم».
لقد ارتعب أهل تسالونيكي من بعض العبارات في الرسالة الأولى، إذ ظنوا أن نهاية العالم قد اقتربت والمسيح آتٍ للدينونة. وأراد الرسول أن يصلح أخطاءهم ويطمئن قلوبهم فأكد لهم أن مجيء المسيح لا يزال بعيداً، وأنه مسبوقٌ بارتداد عظيم أو سقوط بعض المسيحيين من الإيمان الحقيقي والعبادة الصحيحة.
8- ما معنى دخول الكنيسة في عصر سعيد هو الألف السنة؟
* معناه دخول الكنيسة في عصر جديد، كُني عن طول مدته بألف سنة، فيه تمتد المسيحية إلى كل العالم وتتسلط على قلوب البشر، ويُقيَّد إبليس فيستريح العالم من مكايده. وكل هذه أمور مقررةٌ في النبوات الإلهية، وفيها تلميحات كثيرة تدل على أن المسيحية تكون حينئذ ذات تأثيرٍ كلي في البشر، والديانة الوحيدة في العالم، وأن الحجر المقطوع من جبلٍ بغير يدين يصير حينئذ جبلاً عظيماً ويملأ الأرض (دا 2: 43، 45). وتبطل عداوة ومقاومة السياسيين ورجال الديانة الكاذبة للإنجيل، ويحدث تقدُّم عظيم ومجيد في الأمور الزمنية والمدنية والاجتماعية والعلوم والفنون والصناعة والاختراعات ووسائل المعيشة، لأن العالم يستريح نوعاً ما من الخطية والحروب والخصومات الناتجة عنها.
وقد توهَّم البعض أن مجد الألف سنة لا يكون بارتفاع شأن المسيحية وبلوغها أسمى درجة في فعلها قي قلوب البشر، بل تكون بتجديد الديانة اليهودية، ورجوع الكنيسة إلى الأركان اليهودية القديمة، وإقامة ملكوت المسيح بصورة زمنية أرضية (إذ يأتي هو في الجسد) ويُعاد بناء أورشليم وتصير عاصمة ذلك الملكوت، ويتم تعيين وزراء ورؤساء له من اليهود نسل إبراهيم الجسدي.
ويجب الانتباه لصفات الأتقياء وأحوال القلب البشري أثناء الألف السنة لئلا ننتظر الكمال التام على هذه الأرض. نعم يقول الكتاب إن الشيطان يُقيّد، وإن المسيحية تمتد، وإن أعداءها يبيدون، وإن السلام التام يسود بين كل الأمم. لكنه لا يبشرنا بأن كل مسيحي يبلغ الكمال الروحي، فإن العيوب الشخصية لا تزول بالتمام من قلوب البشر ولا من تصرفاتهم، لذلك ربما يحتاجون إلى علاجٍ إلهي مرّ كالحزن والضيق والتأديب. لكن المنتظر أن التقوى تزيد جداً في العالم في تلك المدة، حتى تصير أرضنا مكان راحة وسعادة روحية وجسدية لا نظير لها إلا في العالم السماوي وحلول العرش الإلهي.
أما كيفية دخول مدة الألف سنة في العالم، والوسائل التي تسهل مجيئها فتتم بتبشير كل الأمم بالإنجيل، ويحوِّل الله جميع الأمور العالمية إلى وسائل يتمم بها هذه الغاية، ويـسكب الروح القدس في كل مكان وبين جميع القبائل والشعوب. وفي الكتاب مواعيد وأوامر كثيرة في هذا الشأن، منها أمر المسيح لكنيسته أن تبشر بالإنجيل وتتلمذ الشعوب، ووَعْده أن يرافقها، ويرسل لها الروح القدس. والمسيح الآن ملكٌ مطلقٌ في الكون يعتني بكنيسته، ويوجِّه أعمال عنايته وكل ما يحدث في العالم من اضطراب وانقلاب في الأمور السياسية والحروب والاختراعات ليبني هذا الملكوت ويتمم هذه الغاية السامية. ومن وسائل إتيان عصر السلام والراحة إبادة أعداء الله المعاندين الذين لا رجاء في إصلاحهم. ومن النصوص على ذلك كلام الرسول عن إبادة إنسان الخطية وابن الهلاك (2 تس2: 8) وقول الملاك في سفر الرؤيا لجميع الطيور: اجتمعي إلى عشاء الإله العظيم، لتأكلي لحوم الأشرار ومقاومي المقاصد الإلهية (رؤ 19: 18). ولابد أن الأرض تمتلىء في ذلك اليوم من معرفة الرب كما تغطي المياه البحر، وكذلك لا يسيؤون ولا يُفسدون في كل جبل قدس الرب. ولا شك أننا قد اقتربنا جداً من ذلك اليوم المبارك، لأن الكنيسة تجتهد الآن في أن تتمم وصية ربها في تبشير جميع الشعوب بالإنجيل بغيرةٍ شديدةٍ، ويتكلل اجتهادها بالنجاح في كل مكان، وتزيد آمالها يومياً بإتمام ذلك العمل ببركة الله عليها، وبإرسال الروح القدس لها بقوة، وبالوسائل التي ذكرناها، وبأعمال العناية الإلهية. ولا بد من الصبر والأمانة والاجتهاد في العمل والصلاة.
9- ما معنى حلّ الشيطان مدة وجيزة؟
* يُحل الشيطان مدة وجيزة عند نهاية الألف سنة ويحارب الكنيسة، ثم يأتي المسيح. ولعل القارئ ينذهل من حدوث ارتدادٍ كهذا بعد أن تنتشر المسيحية وتسود في العالم طول تلك المدة.
وعندما يُحلّ الشيطان يحارب البشر في هياج شديد لأنه يعرف أن وقته قصير، وهذا يفسر لنا إمكانية حدوث ذلك الارتداد المخيف. وربما كان بقاء الكنيسة مدة طويلة بدون تجربة، ودوام راحتها في العالم، تؤدي بها إلى إهمال الأمور الروحية، مما يجعل كثيرين من البشر عرضة لمكائد إبليس. وسواء أدركنا أسباب حل الشيطان وفهمنا المقاصد الإلهية فيها أم لا، فلا بد من حدوثها، لأن ما جاء في سفر الرؤيا في هذا الشأن صريح جداً (رؤ 20: 7-9). غير أن ما يريحنا هو تأكيد الله لنا أن النهاية تكون في يده، وأن هو يضبط شعبه ويحدد مدة وجود تلك الحوادث بموجب حكمته السامية (رؤ 20: 10).
10- ما هي الحوادث التي تصاحب مجيء المسيح ثانية؟
* تصاحبه أربعة أمور، هي: (1) القيامة. (2) الدينونة الأخيرة. (3) نهاية العالم. (4) ظهور ملكوت المسيح في كماله، أي دخول الكنيسة في أمجادها السماوية.
والآن لنشرح هذه الأفكار الأربعة:
(1) القيامة: في النبوات أدلة كثيرة على حدوث قيامة عامة عند مجيء المسيح (يو 5: 28 ومت 25: 31، 32 وأع 24: 15 ورؤ 20: 12، 13). ونستنتج ذلك لأن تلك النبوات تتكلم غالباً عن القيامة والمجيء معاً. ومن ذلك القول «متى جاء ابن الإنسان في مجده يجتمع أمامه جميع الشعوب». ونتعلّم أيضاً أن قيامة الأبرار والأشرار تحدث في وقت واحد، عند مجيء المسيح للدينونة خلافاً لزعم البعض أن قيامة الأبرار تحدث قبل الألف سنة، وقيامة الأشرار بعدها. ولكن المسيح قال «تأتي ساعة فيها يسمع جميع الذين في القبور صوته، فيخرج الذين فعلوا الصالحات إلى قيامة الحياة والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة» (يو 5: 28، 29). وقال بولس إن المسيح متى استُعلن من السماء يكافئ المؤمنين وينتقم من الذين لم يطيعوا الإنجيل ويُتعجَّب منه في جميع المؤمنين (2تس 1: 7-10) ومن النصوص على قيامة الأبرار عند مجيء المسيح قوله «وهذه مشيئة الآب الذي أرسلني: أن كل ما أعطاني لا أتلف منه شيئاً، بل أقيمُه في اليوم الأخير» (يو 6: 39-54 و12: 48). والمقصود باليوم الأخير هنا هو يوم الدينونة، لأن النبوة تتحدث عن القيامة. وقيل عنه في مكان آخر إنه يحدث متى ظهر المسيح في مجده. وليس في الكتاب نصٌ على غير قيامةٍ واحدة للأموات، الأبرار والأشرار معاً. نعم ذُكر في سفر الرؤيا قيامة أولى (رؤ 20: 4-6) غير أنه لا دليل على أن تلك القيامة تختص بالأجساد، بل هي إقامة روح الأمانة والشجاعة والتقوى أثناء مدة الألف السنة، كما بينّا في كلامنا في هذه الآية في البحث عن رأي القائلين بمجيء المسيح قبل الألف السنة.
(2) الدينونة الأخيرة: أما الإشارات النبوية إلى دينونة عامة أخيرة فكثيرة وواضـحة، وخلاصتها أن تلك الدينونة تحدث عند مجيء المسيح ثانية، وبعد القيامة العامة حالاً، وأنها تجري على الناس والملائكة، وأن الديان هو المسيح، وأنه في ذلك اليوم يُعيِّن نصيب الأبرار والأشرار إلى الأبد.
(3) نهاية العالم: تتعلق نهاية العالم بمجيء المسيح ثانية. ومنها قول بطرس «وأما السموات والأرض الكائنة الآن فهي مخزونة بتلك الكلمة عينها، محفوظة للنار إلى يوم الدين وهلاك الناس الفجّار» (2 بط 3: 7-13) وقول صاحب الرؤيا «الذي من وجهه هربت الأرض والسماء، ولم يُوجد لهما موضع» (رؤ 20: 11). والأرجح أن ذلك التغيير العظيم في حالة السموات والأرض الذي يحدث في اليوم الأخير لا يعمّ جميع الكون المادي ولا جميع النظام الشمسي، بل يقتصر على أرضنا هذه وما يتعلق بها. أما بقاء الكون إلى الأبد فليس عليه نص في الكتاب، والأرجح أنه غير أبدي لأنه غير أزلي، ولأن لكل الخلائق نهاية ما عدا الإنسان، وذلك بموجب القصد الإلهي، وأن الله في الأبدية يبدع خلائق كثيرة مشابهة للخليقة المعروفة لنا، ليظهر مجده وقدرته وحكمته وكمال صفاته للخلائق العاقلة، ولأجل تشغيلها في خدمته. غير أن كل ذلك من باب الظن فقط، فليس في الكتاب نصٌ ولا تلميحٌ إليه. ومتى انتهت السموات والأرض ننتظر سماوات جديدة وأرضاً جديدة، منزلاً جديداً أبدياً للمسيح وكنيسته. ولكن لا نعلم المواد التي تتكونان منه، فمن المحتمل أن تكون هذه الأرض نفسها ولكن على حالةٍ جديدة، أو أن الله يستبدلها بغيرها. غير أنه يكفينا أن نعرف أن المسيح يعدُّ لنا مكاناً يسكن فيه معنا.
(4) ظهور ملكوت المسيح في كماله، ودخول الكنيسة في أمجادها السماوية: تأسس ملكوت المسيح عند مجيئه في الجسد وصعوده بعد القيامة وجلوسه عن يمين الله، ومنذ ذلك الوقت أخذ يتقدم بالتدريج نحو الكمال. والمقصود بالكمال هنا انضمام جميع شعب الله إليه، وانتصاره على جميع أعدائه، وإتمام ذلك عند مجيء المسيح وإدخال الكنيسة في حالتها المجيدة السماوية. ومن النصوص على ذلك أن الحجر المقطوع بغير يدين يصير جبلاً عظيماً ويملأ الأرض كلها، ويشبِّه المسيح تقدم ملكوته بفعل الخميرة ونمو حبة الخردل (إش 49: 6 وحب 2: 4 ودا 2: 34، 45 و7: 14 ومز 2: 8 و72: 11، 17 و86: 9 وملا 1: 11). وقد شُبِّه هذا الملكوت بين مجيء المسيح الأول والثاني بحقلٍ تنمو فيه الحنطة مع الزوان إلى الحصاد، الذي هو انقضاء العالم، وحينئذ يرسل ابن الإنسان ملائكته، فيجمعون من ملكوته جميع المعاثر وفاعلي الإثم ويطرحونهم في أتون النار. أي أن الملكوت يكون في أثناء تلك المدة عرضة للمتاعب، فأحياناً ينحط ويتأخر، وأخرى يرتفع وينجح، وذلك كله واضح في تاريخ الملكوت. وهناك نبوات تقول إنه وإن نجح هذا الملكوت وامتد، فلا بد أن يطرأ عليه الانحطاط والضيق قبل مجيء المسيح ثانية، حتى يكاد الإيمان لا يوجد حينئذ على الأرض. لكن أقوال الأنبياء تؤكد أن الكنيسة تكاد تتلاشى، ولكن تبقى بقيةٌ أمينة على الأرض تتمسك بالديانة الحقيقية، وفيما تكون الكنيسة في هذا الضيق يظهر ملكوت المسيح بمجد سماوي، ويجتمع إليه عند نهاية الدينونة الأخيرة جميع المؤمنين من كل زمانٍ ومكانٍ وأمةٍ، وتنتهي أحوال الكنيسة الأرضية في أحوالٍ سماوية مجيدة. أما الأشرار وغير التائبين فيمضون إلى النار الأبدية المعدَّة لإبليس وملائكته.
11- ما هو الاعتقاد الذي تتفق عليه كل الكنائس في مجيء المسيح ثانيةً؟
* اعتقدت الكنيسة في كل أجيالها أن المسيح يأتي ثانيةً بهيئةٍ منظورة، لغايات معروفة. وفي هذا الاعتقاد عدة قضايا صادق عليها كل المؤمنين، وهي:
(1) إلغاء التمييز بين اليهود والأمم، فلم يعُد اليهود وحدهم شعب الله الخاص: قال المسيح «اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم. اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها». وهذا يعني أن جميع الأمم مدعوون للدخول في ملكوته ليكونوا شعبه. ورأى بطرس رؤيا أقنعت الكنيسة بالكرازة للجميع (أعمال 10) فلم يُسمع بعد ذلك في الكنيسة الأولى عن أحد قال إن اليهود أفضل من الأمم. وقد شرع الرسل يبشرون العالم كله، ودعوا الجميع لقبول الإنجيل، وكذلك فعل خلفاؤهم الذين كرزوا وبشروا في كل القرون المتوالية. ولا تزال الكنيسة تواظب على ذلك إلى هذا الوقت. نعم إن المسيح جاء لليهود أولاً، وكان التبشير الأول لهم، غير أن كل ذلك كان قبل رفضهم كأمة، وإزالة التميُّز بينهم وبين الأمم، ودعوة الجميع لقبول الإنجيل.
(2) ابتدأ مُلك المسيح منذ صعوده ولا يزال ثابتاً ويمتدُّ في العالم: ومن نبوات العهد القديم على ذلك قول زكريا إن ملك أورشليم يأتي راكباً على أتانٍ وجحش ابن أتان (زك 9:9). وتحققت النبوة. وأشار العهد الجديد كثيراً إلى أن للمسيح سلطاناً ملكياً، ووصفوه أنه ملك جالس على عرشه السماوي. ومن ذلك قول مرقس «الرب بعدما كلمهم ارتفع إلى السماء وجلس عن يمين الله» (مر16: 19). فقوله «جلس عن يمين الله» يوافق ما جاء في مزمور 2 أن الله أقام ابنه ملكاً على جميع الشعوب. وكذلك قول بطرس في يوم الخمسين عن المسيح «إذ ارتفع بيمين الله وأخذ موعد الروح القدس من الآب سكب هذا» (أع 2: 33). وما جاء عن استفانوس قبل موته أنه رأى مجد الله ويسوع قائماً عن يمين الله (أع 7: 55). وفي الرسائل شواهد كثيرة تؤيد هذا، ومنها القول عن المسيح «بعدما صنع بنفسه تطهيراً لخطايانا جلس في يمين العظمة في الأعالي» (عب 1: 3). و«أما هذا فبعدما قدم عن الخطايا ذبيحة واحدة جلس (أي كان حينئذ قد جلس) إلى الأبد عن يمين الله» (عب 10: 12 انظر أيضاً 8: 10 و12: 2) وقول بطرس عن المسيح «الذي هو في يمين الله، إذ قد مضى إلى السماء وملائكة وسلاطين وقوات مخضعة له» وقول بولس «رفعه الله أيضاً وأعطاه اسماً فوق كل اسم، لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء، ومن على الأرض، ومن تحت الأرض، ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو ربٌ لمجد الله الآب» (في 2: 8-11). و«إذ أقامه من الأموات وأجلسه عن يمينه في السماويَّات، فوق كل رياسةٍ وسلطانٍ وقوةٍ وسيادةٍ وكل اسمٍ يُسمَّى، ليس في هذا الدهر فقط بل في المستقبل أيضاً، وأخضع كل شيء تحت قدميه، وإياه جعل رأساً فوق كل شيء للكنيسة التي هي جسده، ملء الذي يملأ الكل في الكل» (أف 1: 20-23). وفي الكتاب آيات كثيرة تؤيد ذلك. (انظر تك 49: 10 وعد 24: 17 و2صم 7: 16 وإش 9: 6، 7 وص 11 و52 و53 ومي ص 4 ومز 2 و45 و72 و110 ومت 13: 41 وأع 2: 33-36 و5: 31 و10: 36 و1بط 3: 22 ويو 3: 35 ورو 14: 9 وفي 2: 9، 10 وعب 2: 9 و12: 2 ورؤ 3: 21 و17: 14).
وهذه أدلة قاطعة على مُلك المسيح عند صعوده من هذه الأرض، وهو لا يزال جالساً على عرش الكون. فما الداعي بعد إلى أن يتخذ مُلكاً؟ نعم ننتظر امتداد ملكه بزيادة عدد الخاضعين له، وظهور مجده أكثر فأكثر، وتغير أحوال ملكوته الخارجية وارتقاءه من درجة إلى أخرى. غير أن كل ذلك ليس اتخاذ مُلكٍ جديد بل تغيير الأحوال الخارجية لملكوت هذا الملك الواحد. وقد رأينا أيضاً أن مركز عرش المسيح هو السماء، فلا نصدق أن ينتقل مركز ملكه إلى أرضنا، لأن ذلك يكون انحطاطاً للعرش الإلهي من السماويات إلى الأرضيات، الأمر الذي لا يصادق عليه الكتاب المقدس ولا يقبله العقل السليم.
(3) جلس المسيح على عرش داود باعتباره ملكاً: قال الرسول بطرس «يُقال لكم جهاراً عن رئيس الآباء داود إنه مات ودُفن، وقبره عندنا حتى هذا اليوم. فإذ كان نبياً، وعلم أن الله حلف له بقسمٍ أنه من ثمرة صُلبه يقيم المسيح حسب الجسد ليجلس على كرسيه، سبق فرأى وتكلم عن قيامة المسيح أنه لم تُترك نفسه في الهاوية ولا رأى جسده فساداً. فيسوع هذا أقامه الله، ونحن جميعاً شهود لذلك. وإذ ارتفع بيمين الله وأخذ موعد الروح القدس من الآب، سكب هذا الذي أنتم الآن تبصرونه وتسمعونه. لأن داود لم يصعد إلى السموات. وهو نفسه يقول: قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك. فليعلم يقيناً جميع بيت إسرائيل أن الله جعل يسوع هذا الذي صلبتموه أنتم رباً ومسيحاً» (أع 2: 29-36). أليس في قوله «فيسوع هذا أقامه الله» تعليم صريح في إتمام الوعد بإقامة المسيح ملكاً على عرش داود؟ لاشك أنه أقامه من الأموات لهذه الغاية. وقيل عن المسيح «هذا يقوله القدوس الحق، الذي له مفتاح داود، الذي يفتح ولا أحد يغلق، ويغلق ولا أحد يفتح» (رؤ 3: 7). فقد أخذ المسيح مفتاح داود، أي سلطانه الملكي. وكل ذلك عكس رأي سابقي الألف السنة، الذين ينكرون جلوس المسيح الآن على عرش داود، ويقولون إنه سيجلس عليه عند مجيئه إلى أورشليم قبل الألف السنة!
(4) ملكوت المسيح روحي لا جسدي: وفي الكتاب شواهد كثيرة على ذلك، منها قوله «مملكتي ليست من هذا العالم» (يو 18: 36) «لا يأتي ملكوت الله بمراقبةٍ، ولا يقولون هوذا ههنا أو هوذا هناك، لأن ها ملكوت الله داخلكم» (لو 17: 21). وقول الرسول «لأن ملكوت الله ليس أكلاً وشرباً بل هو بر وسلام وفرح في الروح القدس» (رو14: 17). ولما سأل رجلٌ المسيح أن يطلب من أخيه أن يقاسمه الميراث، فيقضي لهما في الأمور الدنيوية، أجابه «يا إنسان، من أقامني عليكما قاضياً أو مقسّماً؟» (لو 12: 14) بمعنى أن تلك الأمور خارجة عن دائرة ملكوته. وقد بيّن روحانية ملكوته بإلغائه الفرائض الزمنية والشرائع المدنية اليهودية، واكتفى بأن يعبد تابعوه الآب بالروح والحق، لأن الله روح، والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا (يو4: 24). ويظهر ذلك أيضاً من شروط الدخول في ملكوته، وكلها روحية فقط، وكذلك الواجبات المطلوبة من أهل ملكوته والوسائط المعينة لبنيانه وامتداده. ولذلك يمكن إقامة ملكوت المسيح بدون تغيير في ظروف الإنسان الخارجية والمدنية إذا كانت لا تخالف أصول المسيحية وآدابها. ألا يتضح جيداً من الإنجيل أن ملكوت المسيح ليس جسدياً ولا أرضياً ولا زمنياً مثل ممالك الأرض، بل هو ملكوت روحي يتعلق بأحوال الإنسان الروحية؟ (انظر يو 3: 3-5). وكل ما تقدم يخالف رأي سابقي الألف السنة، الذين ينادون بملكوتٍ جسدي منظور يقوم في هذا العالم وتكون عاصمته أورشليم!
(5) ملكوت المسيح هو كنيسته، فأعضاء الكنيسة المنظورة هم أعضاء ملكوته. قال الرسول «الذي أنقذنا من سلطان الظلمة ونقلنا إلى ملكوت ابن محبته» (كو 1: 13). وما ذلك الملكوت إلا الكنيسة التي رأسها المسيح، خلافاً لاعتقاد سابقي الألف السنة الذين يظنون أن الكنيسة هي ترتيب استعدادي لإظهار الملكوت أخيراً.
(6) وسائط حفظ ذلك الملكوت وامتداده روحية: وهي التبشير بالحق، وممارسة الأسرار، وتعليم الناس مبادئ الإنجيل، وبيان صدق جميع الأسفار المقدسة، وإقناع العالم بصدق المسيحية. قال الرسول «وهو أعطى البعض أن يكونوا رسلاً، والبعض أنبياء، والبعض مبشرين، والبعض رعاة ومعلمين، لأجل تكميل القديسين، لعمل الخدمة، لبنيان جسد المسيح» (أف4: 11). وقال أيضاً «إذ أسلحة محاربتنا ليست جسدية، بل قادرة بالله على هدم الحصون» (2كو 10: 4). وكل هذا يدل على أن الوسائل المعينة هي روحية، وكذلك ما يعمله الله في بنيان ملكوت يعمله بواسطة الروح القدس الذي يقنع الإنسان بالخطية، وينير القلب ويجدده ويحركه للتوبة والإيمان، ويقدسه، وينمي فينا الفضائل المسيحية. ولا يمكن إتمام كل ذلك إلا بواسطة الروح القدس. فالحق هو السيف والروح القدس هو الفاعل الذي يتمم مقاصده. وعصر الإنجيل هو عصر الروح القدس الذي فوِّض له وحده إتمام عمل الفداء، وذلك عكس قول سابقي الألف السنة الذين يؤمنون أن الوسائط المستعملة الآن لرجوع العالم إلى الله ضعيفة، وأنه لا بد من مجيء المسيح بالجسد، ولذلك ينبغي أن ننتظره بكل صبر، وأن اجتهاد الكنيسة في التبشير بالإنجيل لأجل رجوع العالم إلى الله هو عبث، لأن هذه الغاية لا تتم إلا بمجيء المسيح بالجسد ليقيم ملكوتاً على الأرض.
(7) عصرنا الحاضر (عصر الإنجيل) هو من مجيء المسيح الأول إلى مجيئه ثانيةً، وهو على نوع خاص عصر الروح القدس: والكنيسة تبشر بالإنجيل بمؤازرة الروح لإنارة الناس ورجوعهم إلى الله وقبولهم الخلاص بواسطة المسيح. وقد وعد المسيح قبل صـعوده للسماء أن يرسل الروح القدس، كما وعد الله به أنبياءه في العهد القديم، وأنه قد أكمل ذلك الوعد في يوم الخمسين وحتى عصرنا الحاضر، وسيستمر ذلك إلى النهاية. إن الروح القدس قادر على كل شيء، وهو ينير قلب الإنسان ويقنعه بالحق ويجدده ويقدسه ويثبته إلى النهاية. فهل نحتاج إلى غير معونته لنُرجع العالم إلى الحق؟ وهل هناك لزوم للبرهان على خطأ قول بعض سابقي الألف السنة إن العالم يحتاج إلى مجيء المسيح بالجسد ليرجع العالم إلى الله، وعلى أنه يحط من شأن الروح القدس الذي فوض الآب والابن إليه ان يتمم هذا العمل؟
(8) لابد من انتصار الإنجيل وامتداد ملكوت المسيح إلى كل العالم، بواسطة بشارة الإنجيل، وتسلط المسيحية في قلوب الناس، وسكب الروح القدس على كل البشر: وهذا هو روح مواعيد العهد القديم ومعناها. ومما جاء منها في هذا الشأن ما معناه أن المسيح سيرث الأمم، وأن كل قبائل الأرض يأتون إليه، وأن ديانته تمتد إلى أقاصي الأرض، وأنه يملك على كل الشعوب (هو 2: 23 وإش 45: 22، 23 ودا 7: 14 ومز 2: 8 وإش 49: 6 وملا 1: 11). ولما كان المسيح على الأرض فوض الكنيسة لتتمم هذا العمل، وأمرها أن تعلّم الأمم وتتلمذهم، ووعدها أن يكون معها إلى انقضاء الدهر (مت 28: 19، 20 ومر 16: 15). وكل ما يقوله الكتاب عن رجوع العالم إلى الله يشير إلى حدوثه بوسائل روحية، كما أن ما يقوله الكتاب عن التقدم والذهاب إلى أورشليم، لا يتم البتة بوسائط ملكية إجبارية، كاستخدام قوه السيف ونحوها.
(9) تشبه أحوال ملكوت المسيح بين مجيئه الأول ومجيئه الثاني أحوال حقلٍ ينمو فيه الزوان مع الحنطة إلى وقت الحصاد: والمقصود بالحصاد في ملكوت المسيح هو انقضاء العالم (مت 13: 38-43). ولابد أن يطرأ عليه التغيير في مدة تقدمه نحو الكمال، فأوقاتاً ينحط وأخرى يرتفع. وفي النبوات كلام عن الحالين، فإنها أنبأت عن تقدمه ونجاحه إلى درجة عظيمة مدة طويلة، غير أنه في أثناء ذلك التقدم ينتظر الارتداد العظيم، وظهور «ضد المسيح» ووقوع الكنيسة في ضيق شديد تحت مقاومةٍ عنيفة. ولكن تقدمها يكون بالرغم من تلك الموانع، وبالرغم من الضيق والانحطاط مدةً وجيزة قبل مجيء المسيح. وكُني في الكتاب المقدس عن مدة النجاح بألف سنة، والأرجح أنه يُراد بها مدة طويلة جداً.
ويقول المؤمنون بمجيء المسيح في الجسد ليملك على الأرض مدة ألف سنة إن مُلكه يبدأ فجأة، أي أنه يُستعلن من السماء في وقتٍ لا ينتظره العالم، ويبيد الأشرار، ويقيم ملكوته على هيئةٍ منظورة في أورشليم. وقد تيقَّن بعضهم (بحساباتهم الكثيرة التي بنوها على المُدد المذكورة في دانيال والرؤيا) أنه قد اقترب وقت ذلك جداً. غير أن الأزمنة والأيام المذكورة في دانيال والرؤيا لا تحدد وقت مجيء المسيح مطلقاً (ما عدا الإشارة إلى مجيئه الأول في دا 9: 25-27). ولا يوجد في الكتاب المقدس ما يساعد على تحديد الموعد.
وتؤمن الكنيسة كلها أن ملكوت المسيح ينمو ويتقدم بالتدريج باستخدام الوسائط المعينة من الله لذلك، فينبغي عليها أن تمارس تلك الوسائط بكل أمانة، وأن تبشر بالإنجيل في كل العالم وتطلب سكب الروح القدس وبركاته الثمينة على عملها إلى أن تمتد المسيحية إلى أقاصي الأرض ويبدأ عصر السلام والمجد. وقد بيَّن المسيح في أمثاله أن ملكوته ينمو بالتقدم التدريجي كالنبات (مر 4: 26-32 ومت 13: 33). وهذا ما حدث في كل تاريخ هذا الملكوت، فإذا استمرت الكنيسة مجتهدة في هذا العمل المبارك بكل أمانة وغيرة، طالبة بركة الروح القدس على أتعابها، سترى هذا الملكوت يتقدم بسرعة إلى أن ينضم إليه جميع الشعوب. والأرجح أن قوانين التقدم في ملكوت المسيح الروحي لا تختلف عن قوانين التقدم الطبيعية، فالتقدم يسرع كلما اقتربنا إلى النهاية. غير أن ذلك لا بد أن يكون حسب ترتيبٍ معيّن وبوسائط مختارة من الله. فكما صرف الخالق مدة طويلة في إعداد الأرض للبشر، بالتدريج وبترتيبٍ منظم، هكذا سيصرف مدة معلومة لديه في إنشاء ملكوت يبلغ درجة الكمال والمجد.
(10) أتى المسيح ثانية بالجسد ليدين العالم ويُدخل كنيسته في حالتها السماوية المجيدة: قد وردت ألفاظ «مجيء» و«إتيان» و«ظهور» و«استعلان» في العهد الجديد نحو 80 مرة إشارةً إلى مجيء المسيح، بعضها إلى مجيئه الأول، وبعضها إلى مجيئه لدينونة أورشليم، وبعضها إلى مجيئه روحياً ليرافق شعبه كما قال «لا أترككم يتامى. إني آتي إليكم» و«الذي يحبني يحبه أبي، وأنا أحبه وأظهر له ذاتي» و«إن أحبني أحد يحفظ كلامي، ويحبه أبي، وإليه نأتي وعنده نصنع منزلاً» (يو 14: 18 و15: 21، 23).
وأكثر العبارات عن مجيئه تشير إلى مجيئه الثاني في انقضاء العالم. وكل ما جاء في الكتاب في هذا الشأن يدل على أنه يأتي مرة واحدة في حالة المجد، وتجتمع أمامه كل الأمم، الأحياء والأموات. أما المؤمنون الأحياء وقت مجيئه فيتغيرون ويصعدون مع الأموات المقامين من قبورهم لملاقاة الرب في الهواء. ثم يميز الأبرار عن الأثمة، ويعطي الأبرار الملكوت المُعدّ لهم منذ تأسيس العالم، ويرسل الأشرار إلى النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته. وكل ذلك يحدث في انقضاء العالم، حين يرسل ابن الإنسان ملائكته ويجمع من ملكوته جميع المعاثر والشكوك (مت 25: 31، 32، 34، 41 و2تي 4: 1 و1كو 15: 5 وفي 3: 21 و1تس 4: 17 ومت 13: 40، 41).
ويتضح من نصوص كثيرة في الكتاب أن مجيء المسيح هذا هو للدينونة (انظر يو 5: 22، 23، 27 و1كو 4: 5 وأع 17: 31 و2كو 5: 10 ومت 13: 27-43 و16: 27 و25: 31-46 و2تي 4: 1). وجميع العبارات التي تنبئ عن هذا المجيء تدل على أن فيه تنتهي المدة المعينة لامتداد ملكوته على الأرض، وليس فيها أدنى إشارة إلى أن يكون الواسطة لتوبة العالم أو لامتداد الملكوت.
أما الأدلة على أن المسيح يأتي ثانية بالجسد، منظوراً كما أتى أولاً فهي: (أ) التشابه بين الكلام عن المجيء الأول والثاني (عب 9: 28 وأع 3: 20، 21). (ب) النص الصريح علي ذلك (أع 1: 11 ولو 21: 27). (ج) نتيجة ذلك المجيء، وهي أن جميع قبائل الأرض تنوح، والأموات يقومون والأشرار يصرخون للجبال والصخور أن تقع عليهم وتغطيهم من وجه الرب. (د) كلام الرسل الذي يدل على أنهم فهموا أنه يأتي هكذا (1تي 2: 13 وعب 9: 28 وكو 3: 4 وفي 3: 20 و1تس 2: 19 و4: 15-17 و1تي 6: 14 و1بط 1: 5-7 و5: 4).
وفي الكتاب عبارات كثيرة عن مجيء المسيح تشير ليس إلى مجيئه الثاني بالجسد منظوراً، بل إلى مجيئه لإجراء الدينونة، كمجيئه لإخراب أورشليم، ولبدء نظام الكنيسة يوم الخمسين وغير ذلك، وهو مجيء غير منظور بالجسد.
(11) عند مجيء المسيح ثانية يتم القصد في إعطاء وسائط النعمة للبشر وتنتهي، لأن الكنيسة تُكمَل حينئذ فلا يبقى لزوم لبشارة الإنجيل ولا لممارسة الأسرار ولا لمؤازرة الروح القدس للبشارة. وفي الكتاب نبوات كثيرة عن مجيء المسيح تحوي إنذاراً وتنبيهاً للكنيسة لتثبت وتستمر أمينة ومطيعة لأوامر سيدها إلى أن يأتي (انظر لو 19: 13 و2بط 1: 19 ويع 5: 7 و1بط 1: 13 و2تي 4: 8 وفي 3: 20). وفيها أيضاً إشارة لأن ذلك المجيء يكون نهاية مدة امتحان الكنيسة وجهادها وأتعابها في هذه الدنيا، وتنبيه وتوبيخ للخطاة المستخفين بنعمة الإنجيل يتبين منها أنه عند مجيء المسيح ينتهي عملهم ويأخذون نصيبهم (2تس 1: 7-10 و2بط 3: 10 ولو 12: 39، 40 و17: 26، 27، 30). وكل ذلك يدل على أن الكتاب المقدس يوجه أفكار المؤمنين بالإنجيل والمستخفين به إلى مجيء المسيح كنهايةٍ لوسائط التعليم ولزومها.
وعند مجيء المسيح ثانية تنتهي أسرار الكنيسة، فمن النص على إلغاء المعمودية قول المسيح لتلاميذه «دُفع إليَّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض. فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس. وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به، وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر» (مت 28: 18-20). وهذا يبين أن المعمودية تنتهي بنهاية العالم، أي بانقضاء الدهر الذي هو وقت مجيء المسيح ثانية. ومن النص على إلغاء العشاء الرباني قول الرسول «فإنكم كلما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس تخبرون بموت الرب إلى أن يجيء» (1كو 11: 26) فبعد مجيء المسيح ثانية لا نمارس العشاء الرباني.
أما بلوغ الكنيسة حال الكمال عند مجيء المسيح ثانية فواضح من أنها هي عروس المسيح، وعند مجيئه ثانية يتخذها لنفسه كنيسة كاملة لا دنس فيها ولا غضن أو شيء من مثل ذلك (أف 5: 25-27 وكو 1: 22 و1تس 3: 13 و1كو 15: 23).
(12) متى أتى المسيح تحدث القيامة العامة، أي قيامة الأبرار والأشرار معاً (مت 25: 31، 32 ويو 5: 28، 29 وأع 24: 15). ومن النصوص على قيامة الأبرار القول «ولكن الآن قد قام المسيح من الأموات وصار باكورة الراقدين. فإنه إذ الموت بإنسانٍ، بإنسانٍ أيضاً قيامة الأموات. لأنه كما في آدم يموت الجميع، هكذا في المسيح سيحيا الجميع. ولكن كل واحد في رتبته. المسيح باكورة، ثم الذين للمسيح في مجيئه» (1كو 15: 20-23). وقول المسيح «وهذه مشيئة الآب الذي أرسلني: أن كل من يرى الابن ويؤمن به تكون له حياة أبدية، وأنا أقيمه في اليوم الأخير» (يو6: 39، 40). ومن النصوص على قيامة الأشرار قول المسيح «فإنه تأتي ساعة فيها يسمع الذين في القبور صوته، فيخرج الذين فعلوا الصالحات إلى قيامة الحياة، والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة» (يو5: 28، 29) وقول الرسول «إذ هو عادل عند الله أن الذين يضايقونكم يجازيهم ضيقاً، وإياكم الذين تتضايقون راحةً معنا عند استعلان الرب يسوع من السماء مع ملائكة قوته في نار لهيبٍ، معطياً نقمة للذين لا يعرفون الله والذين لا يطيعون إنجيل ربنا يسوع المسيح، الذين سيُعاقَبون بهلاكٍ أبديٍ من وجه الرب ومن مجد قوته متى جاء ليتمجد في قديسيه ويُتعجَّب منه في جميع المؤمنين» (2تس 1: 6-10) وقول صاحب الرؤيا «ثم رأيت عرشاً عظيماً أبيض، والجالس عليه الذي من وجهه هربت الأرض والسماء ولم يوجد لهما موضع. ورأيت الأموات صغاراً وكباراً واقفين أمام الله. وانفتحت أسفار، وانفتح سفر آخر هو سفر الحياة، ودين الأموات مما هو مكتوب في الأسفار بحسب أعمالهم. وسلّم البحر الأموات الذين فيه، وسلّم الموت والهاوية الأموات الذين فيهما، ودينوا كل واحد بحسب أعماله. وطُرح الموت والهاوية في بحيرة النار. هذا هو الموت الثاني. وكل من لم يوجد مكتوباً في سفر الحياة طُرح في بحيرة النار» (رؤ 20: 11-15) وليس في الكتاب ما يثبت حدوث قيامتين، واحدة للأبرار عند مجيء المسيح قبل الألف السنة، وأخرى للأشرار بعد الألف السنة، كما يزعم سابقو الألف السنة الذين يسندون رأيهم إلى قول صاحب الرؤيا «ورأيت عروشاً فجلسوا عليها، وأُعطوا حكماً، ورأيت نفوس الذين قُتلوا من أجل شهادة يسوع ومن أجل كلمة الله. والذين لم يسجدوا للوحش ولا لصورته، ولم يقبلوا السِّمة على جباههم وعلى أيديهم، فعاشوا وملكوا مع المسيح ألف سنة» (رؤ 20: 4-6). فقالوا إن في هذا دليلاً على القيامتين. غير أن تفسيرهم هذا لا يمكن إثباته كما سنبيِّن.
(13) عند مجيء المسيح ثانية تحترق الأرض والسماوات الموجودة الآن، ثم تصير سماوات جديدة وأرضاً جديدة يسكن فيها البر. قال بطرس «ولكن سيأتي كلصٍ في الليل يوم الرب، الذي فيه تزول السماوات بضجيج وتنحل العناصر محترقة، وتحترق الأرض والمصنوعات التي فيها. فبما أن هذه كلها تنحل، أي أناسٍ يجب أن تكونوا أنتم في سيرة مقدسة وتقوى، منتظرين وطالبين سرعة مجيء يوم الرب، الذي فيه تنحل السماوات ملتهبة والعناصر محترقة تذوب! ولكننا بحسب وعده ننتظر سماوات جديدة وأرضاً جديدة يسكن فيها البر» (2بط 3: 10-13 ومز 102: 25، 26 ولو 21: 23 ورؤ 21: 1).
(14) موعد مجيء المسيح ثانية غير معروف، ولا يمكن معرفته. وكل اجتهاد في هذا السبيل وجميع الحسابات التي عُملت لذلك لا تُجدي نفعاً. غير أنه قام في كل القرون قومٌ ادعوا معرفة ذلك بواسطة حسابات مستندين فيها على الغالب على أن كلمة «يوم» في النبوات يراد بها «سنة» جاعلين ذلك مفتاحاً لأسرار المقاصد الإلهية.
وهناك من قالوا إن مجيء المسيح قريب، بعد سنوات أو أشهر أو أيام، لأن الكتاب يقول إنه قريب. والصواب أن أقوال الكتاب هذه تصف حياتنا أنها لحظة، وأن هيئة هذا العالم تزول، وأن نهاية كل شيء قريبة، كما قال يعقوب «هوذا الديان واقف قدام الباب» (يع 5: 9). فهي تشير إلى سرعة زوال العالم الحاضر، بمقارنة الزمن بالأبدية. وهذا هو المقصود بقول الكتاب «الرب قريب». «يوم المسيح قد حضر». «لأن مجيء الرب قد اقترب». «إنما نهاية كل شي، قد اقتربت» (في 4: 5 و2تس 2:2 و1بط 4: 7) أي أنه ليس بعيداً حسب نظر الله، الذي في عينيه ألف سنة كيوم واحد، ويوم واحد كألف سنة، أو بالنظر إلى قِصر الدهر الحاضر بالنسبة إلى الأبدية. ولا شك أن الروح القدس قصد بهذه العبارات أن يشير إلى المدة التي قبل مجيء المسيح، ولكنه لم يشر إلى طولها كما أشار في الكلام عن خراب أورشليم، فإنه بعد أن قال إنه قريب على الأبواب، قال أيضاً «الحق أقول لكم، لا يمضي هذا الجيل حتى يكون هذا كله» (مت 24: 34). ومع ذلك بقي اليوم نفسه غير معين.
وجميع القضايا التي أوردناها هي سلسلة من الأدلة كاملة ومرتبطة معاً، يؤيد كل منها الآخر. وجميعها تثبت أن مجيء المسيح يكون في نهاية العالم للدينونة، وأنه هو الآن ملكٌ جالس على عرش داود، وأن ملكوته روحي، وأن وسائط بنيان ملكوته روحية وكافية لغايتها، ولا حاجة إلى وسائط جسدية لا توافق حقيقته، وإنه سيمتد ويعم العالم ببشارة الإنجيل وسكب الروح القدس، وإن مجيء المسيح هو للدينونة وإدخال الكنيسة في حالتها السماوية. وإن وسائط النعمة وأسرار الكنيسة تنتهي عند مجيئه، فلا يمكن أن يكون مجيئه قبل الألف السنة، لأن الكنيسة تبقى تمارس تلك الوسائط في هذه المدة. وإنه عند مجيئه تحدث القيامة وهي الوحيدة، وتكون في نهاية العالم لأنه عند حدوثها تحترق أرضنا هذه. ومع أن وقت حدوث كل ذلك مكتوم لا يعرفه أحد سوى الله، غير أنه يجب علينا أن نتوقع دائماً مجيء المسيح وتلك الحوادث بصبر وإيمان، فنستفيد من هذا الموضوع أكثر جداً مما نستفيد منه إذا حدّدنا الوقت، وحوَّلنا الروحيات إلى جسديات وملكوت المسيح الروحي إلى ملكوت جسدي، مخالفين أوضح عبارات الكتاب التي تبين إتمام النبوات عنه أنه الآن ملكٌ جالس على عرش داود، ومستخفّين بالوسائط المعينة لرجوع العالم إليه، وبمجيء الزمان المجيد الذي فيه تمتلئ الأرض من معرفة الرب كما تغطي المياه البحر.
12- ما هو رأي من يقولون بمجيء المسيح ثانيةً قبل الألف السنة؟
* تنتظر الكنيسة كلها مجيء مدة الألف السنة في المستقبل، معتقدة أنها لم تأتِ بعد. وقال بعض المفسرين (وهم قليلو العدد) إن تلك المدة بدأت بعد المسيح بنحو 800 سنة ودامت ألف سنة، والآن قد انقضت. وبنوا رأيهم على أن تلك القرون كانت مظلمة ولم يكن لها حظ من أمجاد الألف السنة. نعم قد حدث فيها «الإصلاح» العظيم في الكنيسة، غير أن ما قيل عن الألف السنة يدل على أنها تكون زمن راحة وسلام وامتداد لملكوت المسيح وانتصار كامل للدين، وذلك خلاف ما حدث مع الكنيسة في تلك القرون المظلمة حين تلطخت بخطايا جسيمة وتوغل أغلب رؤسائها في الآثام والمعاصي والحروب. نعم امتدت المسيحية في تلك القرون ولكن على صورة ميتة خالية من الروحانية والأعمال الصالحة والسلوك الحبي، حتى انحط المسيحيون حينئذ إلى أدنى درجة في الاعتقاد والسيرة، ولزم «الإصلاح» لإرجاعهم إلى التعليم الصحيح والحياة الطاهرة. وهذا يظهر أن هذا القول سخيف وباطل.
وقال آخرون إن مدة الألف السنة (وإن كانت لا تزال مستقبلة) لا تختص بتاريخ الكنيسة تحت النظام الحاضر الذي سينتهي بدمارٍ فظيع وخراب عام، ثم يتلوه مجيء المسيح بالجسد إلى أرضنا فتبدأ الألف السنة، وتدخل الكنيسة في نظام آخر تحت رياسة المسيح الأرضية وهو في الجسد.
13- ما هي الردود على من يقولون بمجيء المسيح ثانية قبل الألف السنة؟
* يقولون: (1) في مدة الألف السنة يملك المسيح على الأرض منظوراً بجسده الممجد. (2) تبدأ الألف السنة فوراً بعد مجيئه ثانية. (3) عند مجيئه ثانية يقوم كل القديسين الذين ماتوا بأجسادهم الروحانية الممجدة ويعيشون ويملكون معه على الأرض ألف سنة. (4) يُباد كل الأشرار الأحياء عند مجيئه ثانية بالأحكام الرهيبة التي تصحب ظهوره. (5) صار العالم مستعداً لهذا المجيء فيجب انتظاره في كل لحظة. (6) لا يمكن أن يصلح العالم قبل مجيء المسيح ثانية. (7) لم يشر الله في النبوات إلى إصلاح العالم قبل مجيء المسيح، ولا قصد ذلك.
ومع أن جميع الذين اعتقدوا بمجيء المسيح قبل الألف السنة سلّموا بهذه القضايا إلا أنهم اختلفوا في أمور كثيرة متعلقة بها، كما يأتي:
(1) المقصود بملكوت الله وملكوت السماوات في كلام دانيال والسيد المسيح والرسل (دا 2: 44 و7: 13، 14 ومت 4: 17 ومر 1: 14، 15 وأع 20: 25 ورو 14: 17) ليس عصر الإنجيل ونظامه الذي أسسه المسيح وابتدأ بعد صعوده بقيام الكنيسة وتبشير كل العالم بالإنجيل وسكب الروح القدس على التلاميذ، بل ملك المسيح ألف سنة مع قديسيه بعد مجيئه ثانية.
(2) عمل المسيح الروحي العظيم وعمل خدامه من ذلك الوقت إلى الآن هو (بناءً على ما تقدَّم) عمل استعدادي لينبِّه الناس إلى مجيء المسيح ثانية، ويجعلهم ينتظرونه بإيمان ورجاء.
(3) لم يقصد المسيح قط رجوع العالم إليه بالتبشير بالإنجيل وإرسال الروح، ولا اعتبر جماهير البشر حصاداً ولا تلاميذه فعلة، ولا قصد جمع هذا الحصاد بواسطة الكرازة بالإنجيل وقوة الروح القدس. بل أعدّ هذه الوسائط (حسب زعمهم) لغايتين: (أ) إظهار عدم كفايتها بذاتها، وإعداد الطريق لما هو أفضل. (ب) جعلها مبشرة بمجيئه ثانية.
(4) يلزم مما تقدَّم أن الذين اعتقدوا برجوع العالم لله في النظام الحاضر وصلوا وتعبوا لإتمام هذه الغاية متكلين على الوسائط والقوات التي أعدها الله، لا يعرفون حقيقة خدمه أولاد الله ولا الترتيب الإلهي، بل أفسدوا بذلك عمل الله.
(5) عند مجيء المسيح يُباد الأشرار عن وجه الأرض وربما يبقى بعضهم.
(6) القديسون الذين يقومون بأجسادهم الروحانية، ويعيشون ويملكون مع المسيح على الباقين في الأرض وفي مدة الألف السنة، يكملون التبشير لرجوع كل الأمم لله.
(7) عند مجيء المسيح ثانية يرجع اليهود حرفياً إلى بلادهم ويؤمنون بالمسيح، وتتجدد الديانة اليهودية. غير أنه يطرأ عليها تغييرات طفيفة، كما تحدث تغييرات جيولوجية في أرض فلسطين، وتصير أورشليم عاصمة مملكة المسيح ومكان عرشه، حيت يظهر من حينٍ إلى آخر لشعبه المحبوب.
(8) للدينونة الأخيرة يومان: الأول لكل الأبرار الذين عاشوا إلى مجيء المسيح في بداية ملكة. والثاني لدينونة كل الأشرار، وهو في نهاية الألف السنة. وتكون دينونة جمهورية لا شخصية، وتتم بإبادتهم عن وجه الأرض لا بإشهار ذنوبهم أمام العالم، وتعيين نصيبهم الأبدي بحسب أعمالهم. ولأجل زيادة الإيضاح وبيان ما بين هذه التعاليم وتعاليم الكتاب المقدس من تناقض، نذكر تعليمهم، ثم الآيات الكتابية التي تناقضه:
(1) عند مجيء المسيح ثانيةً لا يقوم من الأموات إلا الأبرار.. ولكن المسيح يقول: «تأتي ساعة فيها يسمع جميع الذين في القبور صوته، فيخرج الذين فعلوا الصالحات إلى قيامة الحياة والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة» (يو 5: 28، 29).
(2) للدينونة الأخيرة يومان، واحد للأبرار والآخر للأشرار وبينهما مدة ألف سنة.. ولكن الكتاب يقول «لأنه أقام يوماً واحداً هو فيه مزمعٌ أن يدين المسكونة بالعدل» (أع 17: 31 ومت 25: 31، 32 ورؤ 20: 11، 12).
(3) ليس ملكوت السموات في اصطلاح العهد الجديد هو ملكُ المسيح مدة العصر الإنجيلي، ولا بدأ عند صعوده، بل إنه لم يبدأ بعد.. ولكن الكتاب يقول إن ملكوت السموات في الإنجيل هو مُلك المسيح الإنجيلي، وقد بدأ عند صعوده ولم يزل يمتد من ذلك الحين، وسيكمل في هذا العالم في الوقت الذي فيه الناس لا يسيؤون ولا يفسدون لأن معرفة الرب تملأ الأرض.
(4) ليس العصر الحاضر (بين مجيء المسيح الأول والثاني) نظام عملٍ بل نظام انتظارٍ، قصد الله فيه لشعبه في كل هذه المدة أن يبشروا (مثل يوحنا المعمدان) ويعلنوا أن مجيئه قد اقترب، ويتوقعوا ذلك بإيمان وانتظار ليفتحوا عصر القوة الروحية الفعالة لرجوع العالم للمسيح.. ولكن الكتاب يقول إن العصر الحاضر معيّن من الله ليكون زمن عملٍ لا زمن انتظار لكل شعبه (حسب اعتقاد سابقي الألف السنة). والعمل المعين فيه هو التبشير بالمخلِّص الذي صُلب وقام، وبالخلاص المعّد، ودعوة كل الأمم بواسطة شعبه لقبوله، وذلك ما زلنا ننتظره.
(5) لم يكن خيراً للمسيحيين أن يذهب المسيح بالجسد ويرسل الروح القدس فقط ليكمل عمله، ولذلك يجب على شعبه ألا يكتفوا بالوسائط الحاضرة غير الكافية لأجل الحياة المسيحية ولأجل تجديد العالم، بل يجب أن ينتظروا ظهوره بالجسد لإقامة نظام ذي قوة كافية لإخضاع العالم لسلطانه.. ولكن الكتاب يقول إنه كان خيراً لحياة المسيحيين ولتجديد العالم أن المسيح ينطلق بالجسد (يو 16: 7) وأن يأتي المعزي روح الحق. ولذلك يجب على المسيحيين أن يكتفوا بترتيب المسيح وأن يعتمدوا على الوسائط التي أعطاها لهم لأجل حياتهم المسيحية على الأرض ولأجل رجوع العالم إليه بالتبشير.
(6) لم يقصد الله رجوع العالم إليه بواسطة الحق المعلن، ولا بمناداة البشر بهذا الحق، ولا بمصاحبة الروح القدس، بل بحضور المسيح بمجده مع قديسيه، وبالأحكام المهلكة التي ستحل على الأشرار عند مجيئه، وبتبشير القديسين (الذين يقومون بأجسادهم الروحية وحالتهم المجيدة) بالإنجيل.. ولكن الكتاب يقول إن الله سُرَّ أن يخلّص الناس بجهالة الكرازة (1كو 1: 21) ويفتح قلوب البشر بروحه وعنايته وبتعليم الروح القدس وقوة إنجيل الحق، وهكذا يجدد قلوب البشر ويرجعهم من الخطية إلى القداسة.
(7) لم تُعطَ الوسائط الفعالة لرجوع العالم لله عند مجيء المسيح الأول، ولن تُعطى حتى مجيئه الثاني، ولم يقصد الله رجوع أكثر البشر إليه في العصر الحاضر، ولا نرى من تعليم المسيح لتلاميذه إشارةً إلى أن العالم لن يتجدد بواسطة حق الإنجيل وتبشير الناس وفعل الروح القدس، ولا قصد الله ذلك على الإطلاق.. ولكن الكتاب يقول إن المسيح أمر تلاميذه صريحاً أن يذهبوا إلى العالم أجمع ويكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها، وأكد لهم حضوره معهم (مت 28: 19-21) ومساعدة قوته الكافية لهم (آية 18) ووعدهم أن يرسل الروح القدس ليبكت العالم ويغيره بواسطة تبشيرهم (يو 16: 7-11 ولو 24: 49 وأع 2: 33). وهذه الوسائط معينة من الله لتُرجع العالم إليه، وهي مناسبة لذلك، وقد أنبأ الله بنجاحها. ورأى أنبياء اليهود سابقاً حقيقة نتائج عصر الإنجيل وأوضحوها بإشارات غامضة، وتحدثوا عن قوتها الفاعلة، وأعلنوا وعد الله أن تلك القوات ستنجح في إرجاع العالم للمسيح.
(8) الذين يعتقدون برجوع العالم لله قبل مجي، المسيح ثانية، ويجتهدون في ذلك هم مخطئون!.. ولكن جميع المؤمنين برجوع العالم وخلاصه والمجتهدين في ذلك ينالون تعزية لأنفسهم ويعلمون أنهم يطيعون وصية المسيح ويتبعون خطوات الرسل ويتممون العمل الذي أعلنته النبوات ودلت عليه عناية الله، وهم يتعلمون يوماً فيوماً من الروح الساكن في قلوبهم.
(9) ستعود ممارسة النظام اليهودي في أورشليم، ما عدا بعض أمور طفيفة منه، بعد رجوع اليهود إلى فلسطين.. لكن النظام اليهودي بطقوسه وذبائحه قد كملت وظائفه ولا يمكن رجوعه، ولا دليل على رجوع اليهود إلى أرض آبائهم كما كانوا قديماً، ولا تلميح إلى ذلك.
14- كيف نبرهن أن المسيح لا يملك على الأرض؟
* يقول الكتاب إن المسيح يجيء في أربعة أحوال: (1) عند موت أحد المؤمنين به لينقله إليه (يو 14: 2، 3). (2) يجيء إلى قلوب المؤمنين بواسطة الروح القدس المعزي والمرشد (يو 14: 16-18، 23، 28 ورؤ 3: 20). (3) يجيء في القوة أو كما قيل أحياناً في ملكوته، وذلك لخراب أورشليم ودمار اليهود (مت 16: 27، 28 و24: 29-34 ومر 8: 38 و9: 1 و13: 24-30 ولو 9: 26، 27 و21: 31، 32). (4) يجيء في انقضاء العالم ليقيم الأموات ويدين البشر (مت 25: 31-46). ومجيئه لإجراء الدينونة على أورشليم يشير إلى مجيئه الأخير.
ولنا التعليقات الآتية:
(1) ليس في هذه الأحوال الأربعة ما يشير إلى مجيء المسيح بالجسد منظوراً إلا في الرابع منها: فالأول منها يتم بإرسال الملائكة لينقلوا النفس عندما تفارق الجسد إلى المسيح. والثاني يتم بإرسال الروح القدس إلى قلوب المؤمنين لتعزيتهم وإرشادهم ونموهم في التقوى. والثالث يتم بالعناية الإلهية التي تُجري الدينونة على المقضي عليهم. والرابع يتم بمجيء المسيح بالجسد منظوراً أمام كل الكون.
وكل من يراجع أقوال المسيح عن مجيئه الأخير بالجسد لا يرى فيها ما يدل على مجيئه ليملك بالجسد على الأرض. ومن أشهر ما جاء في هذا الشأن قوله «متى جاء ابن الإنسان في مجده وجميع الملائكة القديسين معه فحينئذ يجلس على كرسي مجده، ويجتمع أمامه جميع الشعوب، فيميّز بعضهم من بعض كما يميز الراعي الخراف من الجداء» (مت 25: 31-46) وهو يدل على الدينونة، وليس فيه إشارة إلى مُلكه جسدياً على هذه الأرض. وقوله «ومِن الآن تبصرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوة وآتياً على سحاب السماء» (مت 26: 64). والأرجح أن هذا يشير إلى مجيئه لإجراء الدينونة على أورشليم وأمة اليهود فقط. وإذا فرضنا أنه يشير إلى مجيئه الأخير بالجسد فليس فيه ما يدل على أنه يأتي ليملك على الأرض. وإذا تأملنا جميع أقوال المسيح عن مجيئه لا نرى فيها أدنى دليل أو إشارة إلى ما تقدم، بل ما يرجح عدم مجيئه لتلك الغاية. فإنه قال لتلاميذه «خيرٌ لكم أن أنطلق، لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي. ولكن إن ذهبت أرسله إليكم. ومتى جاء ذاك يبكت العالم على خطية وعلى بر وعلى دينونة» (يو 16: 7، 8). والمعنى أن إتمام عمله الروحي في ملكوت الله لا يتم بحضوره في الجسد وحضور الروح القدس معاً، وأن حضور الروح القدس هو أفضل للكنيسة من حضور المسيح بالجسد، ولذلك ينبغي أن يذهب ليرسل الروح. وقال أيضاً «من يؤمن بي فالأعمال التي أنا أعملها يعملها هو أيضـاً ويعمل أعظم منها، لأني ماضٍ إلى أبي» (يو 14: 12). ثم قال «وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزياً آخر ليمكث معكم إلى الأبد» أي الروح القدس الذي يمكث مع الكنيسة إلى نهاية العالم. وقال أيضاً «وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر» أي هو معهم بروحه الذي يسكبه عليهم كما فعل في يوم الخمسين وما بعده إلى يومنا الحاضر، وكما سيفعل إلى الانقضاء.
وإذا اعترض أحدٌ بأن قول الرسل إن مجيء المسيح قريب يدل على أنه مزمع أن يملك على الأرض بالجسد، نجيبه أن مرادهم بذلك أنه قريب في نظر الله، بدليل عدم مجيئه بعد، مع أنه قد مضى نحو ألفي سنة منذ أعلنوا هذا إلى الآن، وأيضاً عدم انتظارهم مجيئه في ذلك العصر، مع أنهم قالوا إنه قريب. قال بولس لأهل تسالونيكي عن مجيء المسيح إنه لا يأتي إن لم يأتِ الارتداد أولاً. وواضح أن الرسل بقوا إلى ما بعد قيامة المسيح وقبيل سكب الروح القدس عليهم ينتظرون مجيئه ليقيم ملكوته ويتمسكون بالآراء اليهودية في هذا الشأن، ولذلك سألوه «يا رب، هل في هذا الوقت ترد الملك إلى إسرائيل؟» فأجابهم «ليس لكم أن تعرفوا الأزمنة والأوقات التي جعلها الآب في سلطانه!» وهو جواب كافٍ. أما بعد حلول الروح القدس عليم فتكلموا في هذا الموضوع بغير ما تكلموا به قبلاً، فقالوا ما معناه إن مُلك المسيح قد بدأ، وإنه قد اعتلى عرش داود، وإن الكنيسة قد دخلت في عصر حلول الروح القدس لإتمام عمل الفداء، وإن المسيح يأتي أخيراً في انقضاء العالم للدينونة، لا ليملك على الأرض في الجسد. ولذلك يجب الانتباه إلى كلامهم في هذا الموضوع بعد حلول الروح القدس عليهم لا قبل ذلك.
(2) العصر الحاضر هو نظام الروح القدس بمعنى خاص: كان الروح القدس في العالم قبل يوم الخمسين، غير أنه في ذلك اليوم ظهر على نوع عظيم، ولا يزال كذلك إلى العصر الحاضر. وهذا ما تنبأ به العهد القديم (يوئيل 2: 28، 29 وأع 2: 14-21 وحز 36: 25-27 و39: 29 وإش 44: 3-5 و48: 16 و59: 19-21 وإر 31: 31-34 وعب 8: 8-12). ومن تعليم المسيح لتلاميذه ولاسيما قوله «إن عطش أحدٌ فليُقبل إليَّ ويشرب. من آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حيّ». وفسر ذلك يوحنا بقوله «قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه، لأن الروح القدس لم يكن قد أُعطي بعد، لأن يسوع لم يكن قد مُجِّد بعد» (يو 7: 37-39). فبعد أن مُجد يسوع بالقيامة من الأموات وارتفع إلى يمين الله في السموات، أرسل الروح القدس بقوة مجيدة. وفي خطابه لتلاميذه في الليلة التي أسلم فيها تكلم عن عمل الروح القدس، وجدد وعده بأن يُرسل لهم معزياً آخر يمكث معهم ويعلمهم (يو14: 15-17، 26 و15: 26 و16: 7-15). ثم راجع ملخص تلك المواعيد يوم صعوده (لو24: 29 وأع 1: 4، 5، 8). وفي يوم الخمسين بدأ تحقيق تلك المواعيد بقوة، فكان ذلك اليوم بداية عصر الإنجيل. وسفر أعمال الرسل من أوله إلى آخره شهادة جليلة وجلية بإتمام الوعد العظيم بإرسال الروح القدس، فيستحق أن يُدعى «أعمال الروح القدس» أو «أعمال الرسل المملوئين من الروح القدس». وتُظهر الرسائل أيضاً فعل الروح في الحاضر والمستقبل، وقوته لتجديد الخطاة وتقديس الصالحين، فإن فعل روح الله علامة خصوصية تميز عصر العهد الجديد، وتبين قوة الإنجيل الفعال في خلاص البشر.
(3) أرسل المسيح تلاميذه ليكرزوا بالإنجيل لكل العالم: أرسلهم ووعدهم بكل القوات الإلهية اللازمة لنجاحهم، فشرعوا في هذا العمل الذي اعتبروه واجباً. وإذ امتلأوا من الروح عرفوا ما عليهم من المسؤولية والواجبات، وما لهم من المساعدة الإلهية، وكرسوا قلوبهم وحياتهم لهذه الخدمة العظيمة. قال بولس «لأني لست أستحي بإنجيل المسيح، لأنه قوة الله للخلاص لكل من يؤمن، لليهودي أولاً ثم لليوناني» (رو 1: 16). وذكر عظمة قدرة الله الفائقة نحو المؤمنين، مقارناً ذلك بعمل قدرته العظيمة الذي فعله في المسيح إذ أقامه من الأموات (أف 1: 19، 20). وليس في كل تبشير الرسل ولا في كتاباتهم إشارة إلى أنهم حسبوا أن الحق الإنجيلي والروح القدس غير كافيين لرجوع العالم، ولا تلميح إلى أنهم توقعوا في المستقبل البعيد نظاماً آخر فعّالاً في خلاص الناس أكثر من نظامهم الحاضر بألف مرة، كما يقول سابقو الألف السنة. وإذا قرأنا ما كرز به بولس في أنطاكية وأفسس وبيرية وتسالونيكي وكورنثوس، وطالعنا رسائله إلى تلك الكنائس، لا نرى كلمة تدل على اليأس أو الشك في نجاح التبشير بالإنجيل الذي تعلَّمه من المسيح، إذا اتكل على مساعدة الروح القدس الذي منحه إياه.
(4) رأى الرسل في نبوات العهد القديم تثبيتاً لإرساليتهم، وتأكيد لنجاحهم، وعرفوا منها حقيقة النظام الإنجيلي وروحه والنتائج الجليلة التي تصدر عنه: وهذا ما نقرأه في أع 13: 46، 47 و15: 14-18 ورو 11: 25-27 و15: 8-12، 21 وهي نبوات تؤكد رسالتهم العظيمة من المسيح الذي قال لهم: «اذهبوا إلى العالم أجمع» (مر 16: 15) و«اذهبوا وعلموا جميع الأمم» (مت 28: 19). وعرف الرسل من هذه النبوات أن العالم كله سيأتي للمسيح لا جزء منه فقط. قال بولس «إلى أن يدخل ملء الأمم» (أي جمهورهم) «وحينئذ سيخلص جميع إسرائيل، كما هو مكتوب أنه يخرج من صهيون المنقذ ويرد الفجور عن يعقوب. وهذا هو العهد مِن قِبلي لهم متى نزعتُ خطاياهم» (رو 11: 25-27 وإش 59: 20 وإر 31: 31-34).
ولم يترك الله الرسل في شك من جهة العمل المفروض عليهم والوسائط التي يستعملونها ويعتمدون عليها، ولا من جهة قصده في نجاح عملهم بمساعدة تلك الوسائط والقوات. فكان عملهم أن يكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها (مر 16: 15) ووسائطهم وقوتهم هي تعليم الإنجيل الصالح للتعليم، ولإذابة قلوب البشر مصحوباً بفعل روح الله، لأن الوعد هو «ويكون الجميع متعلمين من الله». ووعد الرب بعملٍ عظيم في العصر الإنجيلي قائلاً: «أجعل نواميسي في أذهانهم وأكتبها على قلوبهم، وأنا أكون لهم إلهاً وهم يكونون لي شعباً. ولا يعلِّمون كل واحد قريبه وكل واحد أخاه قائلاً: اعرف الرب، لأن الجميع سيعرفونني من صغيرهم إلى كبيرهم» (عب 8: 10، 11). ولكيلا يفهم أحد أن هذا الوعد العظيم لا يخص العصـر الإنجيلي الحاضر، بل حالة مستقبلة بعيدة، قال كاتب العبرانيين إن العهد القديم، أي النظام الموسوي، كان حينئذ قريباً من الاضمحلال، ليحل مكانه العهد الجديد المذكور.
وقد ذكرت نبوات العهد القديم نتائج العهد الجديد، وهي إقبال الناس إلى إنجيل المسيح وإصلاحهم، وعلى الخصوص في إشعياء الذي رأى قبائل الأرض صاعدة إلى صهيون لتتعلّم شريعة الرب (إش 2: 2-4 و42: 1، 3، 4 و49: 6-12 و18-23 و60 وغير ذلك) ورأى أيضاً أن الناس لا يسوؤون بعد ولا يفسدون، لأن الأرض تمتلئ من معرفة الرب كما تغطي المياه البحر (إش 11: 9) ورأي أيضاً أن المسيح إذ يحل عليه روح الرب يُخرج الحق إلى الأمم، وأنه لا يكل ولا ينكسر حتى يضع الحق في الأرض، وأن الجزائر تنتظر شريعته (إش 42: 1-8).
وتذكر تلك النبوات نجاح النظام الإنجيلي الحاضر، صريحاً أو تلخيصاً، كما تذكر كفاية القوات الفاعلة في هذا النظام. فإشعياء 55 خُتم بذكر فردوس مثل عدن بقوله «عوضاً عن الشوك ينبت سرو، وعوضاً عن القَرِيس يطلع آسٌ. ويكون للرب اسماً علامة أبدية لا تنقطع» أي يكون ذلك للرب مجداً مخلداً. وفي تلك النبوات ذكرت القوات الفعالة المنتجة هذه النتائج «لأنه كما ينزل المطر والثلج من السماء ولا يرجعان إلى هناك (بدون بركة) هكذا تكون كلمتي (كلمة حق الإنجيل) التي تخرج من فمي، لا ترجع إليَّ فارغة (أي بدون أن تنتج عنها بركات) بل تعمل ما سُررت به وتنجح في ما أرسلتُها له. لأنكم (أي الكارزين بكلامي) بفرح تخرجون وبسلام تُحضَرون». وذكر أن الخليقة تشترك مع الناس في الفرح بهذه النتائج المباركة بقوله «الجبال والآكام تشيد أمامكم ترنماً، وكل شجر الحقل يصفق بالأيادي». فهذه الأقوال تعظم كلمة الإنجيل وتؤكد فاعليتها.
وفي الأنبياء أقوال أخرى أيضاً تعظِّم عمل روح الله (إش 59: 19-21 و61: 1 وحز 36) وأن ربوات البشر من المغرب ومن المشرق يخافون اسم الرب عندما يجري حقه كنهر عظيم منحصراً في شواطئه حيث يرفع روح الرب راية الظفر، لأن الرب وعد «روحي الذي عليك، وكلامي الذي وضعته في فمك لا يزول من فمك ولا من فم نسلك ولا من فم نسل نسلك، قال الرب من الآن وإلى الأبد». فإذا رأى القارئ الآن نتائج حق الإنجيل في عالمنا بقوة روح الله في قلوب شعبه ضمن العهد الحاضر، فليقرأ ما قاله إشعياء 60 بهذا المعنى، ثم يسأل نفسه: أليست هذه غلبة مجيدة؟ ألا يراد بذلك نجاح الإنجيل الظافر بعظمة الحق من فم الله، الفعال بواسطة روح الرب الحال في شعبه؟ ونقرأ في إشعياء61 أن ذلك الروح حل أولاً على المسيح الوديع الذي خرج ليجبر القلوب المكسورة، ويعتق البشر من عبودية إبليس والخطية، ويكرز بسنة الرب المقبولة ويعزي النائحين. وقد نفى المسيح وهو في كفر ناحوم إمكان تحويل هذا الوعد عن عصر الإنجيل الحاضر إلى نظام ما مستقبل (بعد يوم الدينونة) بقوله «قد تمَّ هذا المكتوب في مسامعكم» (لو 4: 18-22).
ونبوات العهد القديم، فضلاً عن أنها لا تصرح ولا تلمح أن إتمامها يكون بعد المجيء الثاني والقيامة في نظام آخر يخالف النظام الحاضر، تتضمن ما يمنع إمكانية فهم ذلك، لأنها تبدأ بالكلام عن مجيء المسيح الأول، ثم تذكر أهم حوادث العصر المسيحي (الحاضر) وأعماله وغايته وعظمته، مثل توبة الأمم وإرسال الروح القدس وعمله. ثم أن المسيح يباشر هذا العمل إلى أن ينير الأمم ويثبت الحق والبر في كل الأرض (إش 42: 1-6). ولا مكان للقيامة من الأموات والدينونة الأخيرة قبل انتهاء هذا العمل. ولا إشارة إلى إدخال نظام جديد فيه من الوسائط والقوات ما ليس معروفاً في عصر الإنجيل. ولا كلمة تعضد آراء سابقي الألف السنة، وقولهم إن الوسائط الحاضرة ليست كافية ولم تفعل كثيراً ولا يُرجى نجاحها، ولم يقصد الله بها كل هذه النتائج. وليس في إشعياء كلام عن وقت يناسب أفكارهم، ولا تلميح ولا إشارة إلى ذلك في كل أنبياء العهد القديم.
15- ما هي الأمور التي تناقض من يقولون بمجيء المسيح ثانية قبل الألف السنة؟
(1) تهيأت الوسائط بمجيء المسيح الأول لا الثاني، وأُعدَّت الطريق بواسطة تعاليم المسيح وحياته وموته لترجيع العالم.
(2) علَّم يسوع كل الحق اللازم لهذه الغاية والذي يناسب طبيعة الإنسان، وأوضحه بحياته وموته وأقوال رسله، ولم يترك حاجة لأمر آخر أفضل.
(3) أُعطيت القوة الروحية اللازمة لجعل حق الإنجيل فعالاً في خلاص الخطاة بإرسال الروح القدس الموعود به، والذي منح القوة الخاصة بالعصر المسيحي.
(4) لم يأذن المسيح فقط لتلاميذه وأعطاهم سلطاناً، بل أمرهم أيضاً أن يحملوا الإنجيل للخليقة كلها، إلى أن يرجع العالم للرب. واختارهم لهذا العمل المهم الذي أعد له كل ما يلزم لإتمامه. وهكذا فهموا أوامره. وكرسوا حياتهم له.
(5) وجد الرسل في نبوات العهد القديم ما يدل على حقيقة عملهم، وأن المسيح أرسلهم بنور الإنجيل إلى الأمم ليرجعوا إلى الله.
(6) تُظهر النبوات حقيقة عصر الإنجيل ونتائجه. أما حقيقته فهي إعلان مجيء المسيح الأول، وأعظم الحوادث في تاريخ حياته وذبيحته الفدائية وموته وأعمال شعبه وإرساله الروح القدس ليعمل فيهم وبهم ومعهم. وأما نتائجه في ذلك فهي إنارة الأمم وانتصار الحق وامتداد صهيون حتى تحتوي العالم كله.
(7) تذكر الأسفار المقدسة عجز البشر عن إتمام هذا العمل العظيم، ولكنها لا تخاف من عدم النجاح، لأن قوة الله تعمل في الضعف البشري. «لنا هذا الكنز في أوان خزفية، ليكون فضل القوة لله لا منّا» (2كو 4: 7) و«عندما أنا ضعيف فحينئذ أنا قوي» (2كو 12: 10).
(8) عصرنا الحاضر هو الوقت الوحيد للرحمة والخلاص. وليس في كل الكتاب المقدس شعاع رجاءٍ بتوبة الخطاة في حالةٍ بعد الحالة الحاضرة. وكل الدعوات والمواعيد وإرسال الروح القدس محصورة في الحياة الحاضرة لأن بعد الموت الدينونة (عب 9: 27) والحصول على النصيب الأبدي (مت 25: 46).
(9) لم يعد المسيح الكنيسة بمجيئه ليملك بالجسد على الأرض، بل قال ما يرجح عكس ذلك.
16 - ما هي أخطاء من يقولون برجوع اليهود إلى فلسطين، وإعادة النظام اليهودي فيها؟
* ينادي أصحاب هذا الرأي بأن الديانة اليهودية (ما عدا تغييرات قليلة) ستنتظم ثانية في أورشليم، ويعتمدون في ذلك على تفسيرهم لحزقيال 40-48 تفسيراً حرفياً. ولكن التفسير الروحي لهذه النبوة (وأمثالها قي هذا الموضوع) أقرب من التفسير الحرفي. ونبرهن ذلك: (أ) من العهد الجديد. (ب) من العهد القديم، ولاسيما من هذه النبوات نفسها بالنظر إلى ظروف كاتبيها والذين توجَّهت إليهم أولاً. (ج) ومن الظروف، لاسيما سهولة قبول تفسيرها الروحي وصعوبة قبول تفسيرها الحرفي.
(أ) الأدلة من العهد الجديد:
التفسير الحرفي في هذا المقام مرفوض لأنه يناقض العهد الجديد، ويختلف مع روح نظام الإنجيل بجملته، كما يتضح من أقوال المسيح وتلاميذه. فحسب النظام الحرفي يلزم أن رؤيا حزقيال تتضمن رجوع الديانة اليهودية أعظم وأوسع مما كانت في القديم. وحسب العهد الجديد يلزم أن تموت الديانة اليهودية، لأنها أكملت وظيفتها عند موت المسيح، ولم يعد لها سلطان إلهي. ولما كتبت رسالة العبرانيين كانت اليهودية قد عتقت وشاخت وصارت قريبة من الاضمحلال. وقد أوضح بولس الرسول في مواضع كثيرة من رسائله أن المسيح نقض حائط السياج المتوسط بين اليهود والأمم بنزعه ما كان خاصاً باليهود، وأبطل بجسده ناموس الوصايا في فرائض (أف 2: 14، 15) ومحا الصك الذي على الأمم في الفرائض، الذي كان ضداً لنا، وقد رفعه من الوسط مسمراً إياه بالصليب (كو 2: 14). هذه هي نهاية النظام الموسوي. وملخص رسالة غلاطية هو أن الرجوع من المسيحية إلى اليهودية ليس غباوة فقط، بل خطية وارتداداً عن المسيح (غل 3: 1، 3). وقال إنه ليس يهودي ولا يوناني (إذ كانت الديانة اليهودية قد زالت) لأن الجميع واحد في المسيح يسوع. «وأما الآن إذ عرفتم الله، فكيف ترجعون أيضاً إلى الأركان الضعيفة الفقيرة التي تريدون أن تُستعبَدوا لها من جديد؟ أتحفظون أياماً وشهوراً وأوقاتاً وسنين (يهودية)؟ أخاف عليكم أن أكون قد تعبت فيكم عبثاً» (غل4: 9-11). «إن اختُتِنتُم لا ينفعكم المسيح شيئاً. لكن أشهد أيضاً لكل إنسان مُختَتن أنه ملتزم أن يعمل بكل الناموس. قد تبطّلتم عن المسيح أيها الذين تتبرّرون بالناموس! سقطتم من النعمة» (غلاطية 5: 2-4). ومعنى هذا كله أنه لم تعُد للختان وظيفة ولا سلطان ولا لكل الناموس الطقسي، لأنه كان مؤدِّباً إلى المسيح قبل مجيئه. وأما بعده فصار الناموس الطقسي بدون فائدة ويضرُّ من يستند عليه.
لقد تساهل الرب بصبره وحكمته مع اليهود المتنصِّرين في ذلك التغيير العظيم من الديانة اليهودية إلى المسيحية، ولكنه أعطى أوامر واضحة برفض الديانة اليهودية لأن وظيفتها كملت، ولا يناسب استعمالها بعد في ملكوت الله. فهل يصدق أنه سيُرجع أيضاً حائط السياج المتوسط والفرائض والذبائح الدموية وكل ما كان في النظام الموسوي؟
وإذا قيل: سترجع حسب معنى كلام حزقيال الحرفي في ص 40- 48 نجيب: إذا كان العهد الجديد من الله، فالرجوع إلى الديانة اليهودية قد انتهى، لأن كلام المسيح وتلاميذه في هذا الموضوع واضح جداً، فقد قال للسامرية (وهو قبالة جبل جرزيم، لما سألته عن مسألة كانت منذ زمان طويل موضوع الخلاف وهي: أفي ذلك الجبل يقبل الله السجود أم في أورشليم؟) «صدقيني أنه تأتي ساعة، لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للآب.. تأتي ساعة وهي الآن حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق» (يو 4: 21-24). أي أن هذه المسألة قد زالت أهميتها، وأن كل نظام يقصُر العبادة على مكان واحد بطُل، ولم يعُد شيءٌ من مثل ذلك يُلزم العابد حتى يقبله الله. فإن كانت نبوة حزقيال حرفية يلزم أن يكون هناك مكان محدد للعبادة، وتصير كلمات المسيح للسامرية بلا معنى. وإذا تتبعنا أقوال حزقيال حرفياً نقول إنه ستأتي ساعة حين يسجد الناس لله كما في القديم في المكان المعين، لا بمجرد الروح والحق، بل بكل طقوس الديانة اليهودية القديمة. فهل يمكن أن يكون في فكر المسيح رجوعٌ إلى الديانة اليهودية؟ وهل ألهم هو حزقيال أن يتنبأ بذلك؟ كلا! فلا يمكن الرجوع إلى تعيين مكانٍ واحدٍ للعبادة، لأننا في عهد الإنجيل الذي فيه أصبح قلب كل تقي هو هيكل الله، وكل مكان صالحاً لتقديم الابتهالات والتضرعات القلبية فيه، ولا يمكن أن يزول نظام الإنجيل ويعود النظام الموسوي مكانه.
لقد قال رسل المسيح أن المسيحيين في عصر الإنجيل هم هيكل الله، وأن الله يسكن فيهم ويسير معهم (1كو 3: 16 و6: 19 و2كو 6: 16). وهذا تحقيق لنبوات العهد القديم كما يُفهم من نبوة عاموس عن بناء خيمة داود الساقطة أنها تشير إلى رجوع الأمم واجتماعهم إلى الكنيسة، لا إلى بناء الهيكل ثانية حرفياً (عا 9: 11، 12 وأع 15: 13-18). ولم يقرن الرسول بولس رجوع اليهود إلى المسيح برجوعهم إلى أرضهم، ولا علَّم أن هاتين الحادثتين تكونان معاً. نعم إنه اعتقد برجوعهم إلى المسيح، وسَّره ذلك كثيراً، ولكنه لم يلمح البتة إلى رجوعهم إلى أرضهم، ولا إلى إعادة بناء الهيكل من الخشب والحجارة (رو 11: 11-36).
وأخيراً نقول إن بين نظام العهدين القديم والجديد تناقضاً، حتى لا يمكن جمعهما معاً، لأن القديم كان محصوراً محدوداً خاصاً بأمة، وأما الجديد فيمتد إلى كل العالم. الأول كان محجوزاً ضمن أسوار ليمنع العبادة الوثنية ويُبقي رجاسات العالم خارجاً، وأما الثاني فيناضل ويكافح ضد العبادة الوثنية وخطايا العالم في كل مكان حسب أمر واضعه العظيم «اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها». فكيف يمكن مزج هذين النظامين حتى يرجع العالم إلى الرب بواسطة الرجوع إلى الديانة اليهودية التي من شأنها الانحصار؟
(ب) الأدلة من العهد القديم: ولاسيما من النبوات نفسها، بالنظر إلى ظروف كاتبيها والذين توجهت إليهم. فقد تربَّى أنبياء اليهود في النظام اليهودي، وكانت أفكارهم عن ملكوت الله يهودية، وألفاظهم وعباراتهم واستعاراتهم وإشاراتهم للتعبير عن تلك الأفكار يهودية أيضاً، وكذلك كان الذين قرأوا نبواتهم أولاً من اليهود. والرب نفسه كلم اليهود بلغة واستعارات يهودية، فأعلن اللهُ ملكوتَ المسيح للأنبياء بكلمات وإشارات مأخوذة من النظام اليهودي. وكان ذلك لازماً لإعلان كل أمرٍ ديني لليهود. وقد وضعنا هذا المبدأ هنا لنوضح سبب استخدام اصطلاحات النبوات وإشارتها الخاصة، لا لنبرهن على أن النبوات أعلنت بركات إنجيلية. وأما معرفة الأنبياء بأن قوة الإنجيل المجيدة ستُرجع العالم للرب، وأن روح الله هو العامل في الأيام الأخيرة فواضحة أولاً من إشارتهم إلى عصر الإنجيل، وهذا يوجب تفسير نبواتهم عن بركات الإنجيل لا عن النظام والطقوس الموسوية. وثانياً من اقتضاء نبواتهم إتماماً عظيما جداً لا يمكن أن يتم بدون الأمور الإنجيلية.
(ج) الأدلة من الظروف: ولاسيما سهولة قبول التفسير الروحي لتلك النبوات وصعوبة قبول تفسيرها حرفياً، فالنظام الحرفي لتفسير النبوات عن اليهود ليس صحيحاً بالنظر إلى الظروف. فمن المستبعد جداً أن الأسباط العشرة الذين فُقد ذكرهم من التاريخ منذ السبي يظهرون أيضاً ويبيِّنون جداول أنسابهم المتصلة إلى أجدادهم، ويبرهنون ذلك للعالم، ويسكنون في أماكنهم المذكورة في حزقيال 48. وأن حدود أرض فلسطين تتغير بطريقة غريبة وتصير قائمة الزوايا، وأن النهر الكبير يجري من المقدس بفيضان غريب إلى البحر الميت وتُشفَى مياهُه فيمتلئ سمكاً. ومن المحال أن أوقات الإنجيل المجيدة ومدته الجليلة تنتهي وتكمل بالرجوع من نظام العهد الجديد إلى نظام الدين اليهودي. ومن المستبعد أن يُرجِع الله كنائس الأمم إلى الحروب الدائمة مع اليهود التي سببت في القرنين الأول والثاني سفك دماء شهداء كثيرين. وأن يرجع اليهود إلى التعصب والتعالي والعِرقية والانفصال عن الأجناس الأخرى وروح عدم محبة الآخرين كما ظهر منهم في بدء المسيحية، وإلى الاستناد على الطقوس والفرائض الخارجية. وغير معقول أن المسيح يعطي كنيسته نظاماً يعظم الطقوس والفرائض على روح المحبة والطهارة والسلام، وأن يبدل ما في النظام المسيحي من مجد الروح القدس وقوته الفائقة بنهر جميل وسمك كبير وأشجار مثمرة، فيُرجع الكنيسة والعالم من دين روحي إلى فردوس أرضي حرفي بحسب التفسير الحرفي لما جاء في حز 47: 1-12. فلنفرح لأن كل ذلك غير وارد، ولنُسرّ بأن غريزيات طبيعتنا المسيحية تناقض هذا التفسير للنبوات، وأن لا دليل يسند التفسير الحرفي خلافاً للتفسير المؤيد بالأدلة الكافية والذي يظهر الحق المجيد وفق روح نبوات العهد القديم وتفسير العهد الجديد إياها، ويكشف عن مستقبل عظيم مجيد في ملكوت فادينا.
(2) في مذهب سابقي الألف السنة أمور مستحيلة: (أ) مستحيلة في نفسها وفي تحقيقها، منها أن المسيح لما قال «اقترب ملكوت الله» قصد أن ذلك الملكوت يكون بعد نحو ألفي سنة أو أكثر (!) وأن يوحنا المعمدان الذي أتى ليعد الطريق للمسيح أراد بقوله: «اقترب ملكوت الله» مجيء المسيح ثانية لا مجيئه الأول (!) وأن حضور المسيح في الجسد مع المسيحيين أفضل لمساعدتهم وتعزيتهم من حضوره معهم بواسطة الروح المعزي (!) مع أن المسيح قال خلاف ذلك (يو 16: 7). وأن سكان العالم في مدة الألف السنة يكونون من أمم جميعها في الجسد والخطية، ومن ربوات من القديسين قاموا من الأموات بأجسادهم الروحانية، وجميعهم يسكنون معاً ويعاشرون بعضهم بعضاً في عالمٍ واحدٍ وفي وقتٍ واحدٍ (!). (ب) وبموجب هذا الرأي لا توجد واسطة لترجيع العالم إلى الله غير مجيء المسيح بالجسد، وهذا يحط من شأن عمل البشارة واجتهاد الكنيسة في تعليم الإنجيل ونشره في العالم، وبنيان ملكوت المسيح، كما يحط من شأن الروح القدس وقوته ومجده، لأنه (على زعمهم) غير كافٍ لإتمام هذه الغاية. وعندنا أن ظهور المسيح بالجسد في مجده ليس من الوسائط الفعالة في إقناع العالم بخطاياه وإرجاعه إلى الحق، لأن القلب البشري لا يتجدد ولا يتغير من مجرد منظر مجيد، فكم من الناس رأوا المسيح وهو على الأرض ولم يستفيدوا منه مطلقاً ومتى جلس على عرش مجده للدينونة يراه الجموع ولكن بدون فائدة روحية لأحدٍ منهم. وعلى فرض أن المسيح أتى بالجسد وملك على الأرض، ألا يبقى البشر محتاجين بعد إلى البشارة؟ أو هل تنفع البشارة أحداً بدون مرافقة الروح القدس وفعله الخاص في إنارة قلبه وإرجاعه إلى الله؟ فإذا كان تقدم الإنجيل يتوقف على الروح القدس إلى هذا المقدار، والمسيح على الأرض، فما المانع من تقدمه والمسيح على عرشه السماوي، إذا رافق الروح كلمة البشارة؟ وما الداعي لمجيئه بالجسد لإرجاع العالم إلى الله، بينما الروح القدس قادر على إرجاعه في الوقت المناسب، وقد أعطانا عربوناً لذلك ما فعله يوم الخمسين من تغيير قلوب ثلاثة آلاف شخص في يوم واحد وإرجاعهم إلى الحق؟ أليست السموات أليق وأمجد من هذه الأرض الحقيرة لتكون عرشاً للمسيح؟ وإذا نزل ابن الله إلى هذا العالم ومعه أهل السماء وتبوأ عرشاً أرضياً، ألا يفرغ السماء مما يتعلق بملكه المجيد؟ وهل من المعقول أن ذلك العرش الكائن عن يمين الله الذي جلس عليه المسيح يبقى فارغاً من مجد حضوره مدة ألف سنة، وأن الملائكة يغيبون عنه طول هذه المدة ولا تُسمع هناك ترنيمات الفرح والسرور والتسبيح وتنتقل أمجاد السماء إلى أورشليم الأرضية؟ (ج) ومما يدل على بطل هذا النظام هو أنه لو كان من تعليم المسيح وتلاميذه لأبطل استعمال الحق الإنجيلي الفعال بواسطة الروح القدس، ولاشى الرجاء بالنجاح العظيم، وحمل الكنيسة على أن تترك العمل وتنتظر مجيء المسيح ثانية. ولما حدث شيء من نتائج تبشير الرسل والكنيسة الأولى الفائقة الوصف. فنستنتج أن ذلك ليس من تعليم المسيح ورسله، وبالتالي فهو غير صحيح. ومن المحال أن الرب يسوع نظر بعين الاحتقار إلى خدمة الذين قدموا أموالهم وصلواتهم وضحوا بسعادتهم الأرضية وحياتهم في سبيل الكرازة بالإنجيل للخليقة كلها طاعة لأمره. فالنظام الذي يُفضي إلى مثل هذه العقائد المضادة لتعليم الكتاب وللعقل ولروح التقوى يهدم رجاء شعب الله في الحق الإنجيلي الفعال بواسطة الروح القدس، وينفي الثقة بالله في نجاح خدمة الإنجيل، ويناقض روح الرسل والكنيسة الأولى، ويقاوم الإرسالية العظيمة التي وجهها المسيح لشعبه في العصر الحاضر بواسطة عنايته وروحه.
(3) بعض الحقائق المهمة التي تغاضي عنها هذا النظام:
فات سابقي الألف السنة إدراك بعض الحقائق المهمة جداً، منها مناسبة حقائق الإنجيل العظيمة للعقل البشري، وسلطانها على القلب والسيرة إذا علَّمها الروح القدس وقُبِلَت بالبساطة. وأن للمحبة قوة في إخضاع قلوب الناس للتوبة أكثر من الخوف، لأنهم يقولون إن نزول الأحكام المخيفة عند مجيء المسيح ثانيةً له قوة في ترجيع الخطاة وجعلهم يحزنون على خطاياهم أكثر من دموع المسيح ودمه. وفاتهم اعتبار عظمة عمل الروح القدس في عصر الإنجيل. ولذلك أغفلوا حضور المسيح في قلب المؤمن بواسطة المعزي (يو 14: 16-18 و16: 13-15) وأغفلوا قوة الروح المقدس في إظهار الحق للخاطئ وجعله مؤثراً في ضميره وقلبه. وفاتهم أيضاً فهم روح الرسل وعملهم لما امتلأوا من الروح القدس وبشروا بالإنجيل، وبالتالي فهم جوهر النظام المسيحي وغايته.
فمن هذه الأخطاء يتبين فساد مذهب سابقي الألف السنة، واعتقادهم أن الحق ضعيف، لا يغلب في الحرب المستعرة في هذا العالم بين الحق والضلال والقداسة والخطية والمسيح والشيطان، مدة العصر الحاضر. ومن العجب أنهم قالوا إن النصرة في الحرب الحاضرة والترتيب الحاضر لا بد ستكون أخيراً للضلال والخطية. وأما في النظام التالي فيأتي المسيح بقوات جديدة من أحكامه الرهيبة ويغلب. وإذ ذاك تكون نصرته بواسطة النار والرعود والزلازل وانقلابات الطبيعة. فما لم يمكن إتمامه بواسطة المحبة والدموع والحق وبرهان الروح القدس يتم بواسطة المخاوف الرهيبة التي تصحب مجيئه ثانية وجامات غضبه المهلك، وأنه لا يمكن بواسطة الإنجيل والروح القدس الحصول على نصرة روحية في الحرب العظيمة في ميدان القلوب البشرية. فلا يليق أن نخفض شأن الإنجيل بمثل هذا الكلام، ولا أن نحط اعتبار الروح القدس بمثل هذه التشدُّقات، ولا أن نُضعف رجاءنا بسبب تأخر النصرة، مع أن قوات الحق تزداد قوة وإن كان بطريقه خفية، ولنا نبوات أكيدة عن النصرة نطق بها الأنبياء في القديم، وأنشدوها بأصوات الفرح والابتهاج.
17- يستند أصحاب رأي مجيء المسيح ثانية على آيات من نبوة دانيال. اشرح رأيهم، وما هو الرد عليه؟
* استندوا على سفر دانيال في أمرين:
(1) حوَّلوا ما فيه من الإشارات إلى نبوات عن عصر الإنجيل، فحسبوا المملكة الرابعة في أصحاحي 2، 7 مملكة روما الوثنية، وملوكها العشرة ممالك أوروبية تقوم في القرون المتوسطة لعصر الإنجيل، والقرن الصغير الكنيسة الكاثوليكية، والمملكة الخامسة (أي مملكة المسيح) تقوم بعد إبادة القرن الصغير. ولذلك قالوا إن ملكوت المسيح لا يقوم إلا بعد إبادة الكنيسة الكاثوليكية، أي لم يقم بعد.
(2) حرفوا معنى كل المُدد المذكورة في هذا السفر على مبدأ وهمي، وهو أن كل يوم يعني سنةً، وقالوا إنها تشير إلى زمن خراب الكنيسة الكاثوليكية ومجيء المسيح. وقد بينّا في ما تقدم أن هذا التفسير مشكوك فيه. أما مبدأهم أن يوم النبوة هو سنة فسنبرهن خطأه في إجابة سؤال 22. فإذا فسرنا سفر دانيال بالصواب، لا نرى فيه دليلاً على وقت مجيء المسيح ثانيه، ولا على شكله بالجسد على الأرض.
18- ما هو التفسير الصحيح لأصحاحي 2 و 7 من نبوة دانيال؟
* علاقة سفر دانيال بالعهد القديم، ولاسيما بالنبوات، كعلاقة رؤيا يوحنا بالعهد الجديد، ولاسيما بأقوال المسيح ورسله النبوية. فسفر دانيال هو «سفر رؤيا العهد القديم» وهو نور لتعزية الحكماء الأتقياء، وإنارة الظلمة من وقت السبي إلى وقت المجيء الأول للمسيح، كما كانت رؤيا يوحنا سبب تعزية وإنارة لقديسي العهد الجديد ترشدهم في سياحتهم في العالم المظلم من وقت خراب أورشليم وحتى مجيئه ثانية عندما ينتهي النظام الحاضر (قارن تي 2: 11-13 مع رؤ 1: 7 و22: 17، 20) والفرق بينهما أن دانيال وجَّه كلامه لليهود في العهد القديم، ويوحنا للمسيحيين في العهد الجديد.
ويتضمن دانيال 2 أقوالاً عن الممالك التي هي الموضوع الأهم في السفر، فالصنم الذي رآه يمثل المملكة البابلية والمملكة المادية الفارسية والمملكة اليونانية والمملكة السورية (المسماة أحياناً الدولة السلوقية) وبعدها ملكوت المسيح المعبَّر عنه بحجرٍ قُطِع بغير يدين وصار جبلاً كبيراً ملأ الأرض كلها.
وفي الأصحاحات التالية يرد ذكر تلك الممالك بأكثر تفصيل، ففي دانيال 7 عبَّر عن الممالك الأربع الأولى بحيوانات، للرابع منها عشرة قرون، ورأى أن قرناً صغيراً (آية 8) أخضع ثلاثة من القرون العشرة، وأن ذلك القرن الصغير القوي حارب القديسين وغلبهم حتى جاء «القديم الأيام» وأعُطي الدين لقديسي العلي، وجاء الوقت فامتلك القديسون المملكة. وتشير القرون العشرة إلى عشرة ملوك من المملكة الرابعة، ويشير القرن الصغير إلى ملكٍ منهم، هو أنطيوخس أبيفانيس الذي ضايق اليهود جداً.
ويتضمن الأصحاحان 8، 11 نبوات عن تلك الممالك الأربع التي انقسمت إليها مملكة الإسكندر، وأعمال أنطيوخس أبيفانيس أحد ملوكها (وهو القرن الصغير المذكور في ص 8: 9-11، 23-25) هو موضوع الكلام في ص 11: 21-45.
فنبوة دانيال تُلقي نوراً نبوياً على المدة المتوسطة بين سبي بابل ومجيء المسيح، وترينا زوال قوات العالم القديم العظيمة، وقيام ملكوت المسيح الأبدي بعدها.
والمسألة المهمة في تفسير نبوة دانيال هي: إلى من يشير الحيوان الرابع المذكور في ص 7؟ وقرونه العشرة؟ والقرون الثلاثة التي قُلعت منها؟ والقرن الصغير الذي طلع بينها؟ قال بعض المفسرين إن الحيوان الرابع يشير إلى المملكة الرومانية، فتكون القرون العشرة عشر ممالك انقسمت إليها تلك المملكة بعد سقوطها. والقرون الثلاثة التي قُلعت منها هي ثلاثٌ من تلك الممالك العشر، والقرن الصغير هو الكنيسة الكاثوليكية. غير أن في هذا الرأي صعوبات وتناقضات كثيرة، ولم تقم أدلة كافية لإثباته، ولذلك رأى مفسرون آخرون رأياً آخر، وهو أن الحيوان الرابع يشير إلى مملكة سوريا اليونانية التي أسسها سلوقس أحد قواد الإسكندر بعد موت الإسكندر وانقسام مملكته، وكانت عاصمتها أنطاكية سوريا. والقرون العشرة تشير إلى عشرة ملوك من تلك المملكة. والقرون الثلاثة التي قُلعت منها هي ثلاثة أشخاص حاولوا أخذ المُلك، والقرن الصغير هو أنطيوخس أبيفانيس الذي عارضهم في ذلك وأخذ الملك منهم. ولأن هذه المسألة شغلت المفسرين كثيراً وكثُرت فيها أبحاثهم، آثرنا أن نتحدث فيها لنبيِّن صحة الرأي الثاني من الرأيين المذكورين آنفاً (أي أن الحيوان الرابع يشير إلى مملكة سوريا اليونانية):
(1) مملكة سوريا هي التي أعقبت الممالك الثلاث السابقة والتي أعقبتها المملكة الخامسة. وموقعها في التاريخ يوافق موقع الحيوان الرابع في جملة أوجه: (أ) في الزمان: لأنها أعقبت مملكة الإسكندر (المشار إليها بالحيوان الثالث) وتأسست بعد حروب وخصومات شديدة مدة 11 سنة، وسرعان ما أقامت علاقة شديدة باليهود، خلافاً لمملكة روما التي لم تكن لها علاقة بهم إلا قرب مجيء المسيح، ولا أضرَّت بهم ضرراً عظيماً إلا وقت خراب أورشليم بعد المسيح بنحو سبعين سنة. (ب) في المكان: لأنها تسلطت على ذات الأراضي التي تسلطت عليها الممالك الثلاث السابقة خلافاً للمملكة الرومانية. (ج) في شعوبها: لأنها تألفت من الشعوب التي تألفت منها ممالك بابل ومادي وفارس واليونان. (د) في علاقتها باليهود: لانحصارهم فيها، بخلاف مملكة روما التي كان سلطانها وقتئذ محصوراً في أوروبا، ولم تتداخل في أمور اليهود حتى زمن هيرودس الذي ملك على اليهود بمساعدة روما، وبعد موته استولت روما عليهم.
(2) هذا الرأي يجعل علاقة المملكة الرابعة باليهود مطابقة تماماً لما نرى في أحوال الممالك الثلاث السابقة من كثرة تداخلها في أمور اليهود، فإن أهمية تلك الممالك وسبب ذكرها في النبوة هي عظمتها وشدة علاقتها بشعب الله. وكلام الله لدانيال في شأنها هو أن تلك الممالك الأربع العظيمة التي تحيط باليهود وتتسلط عليهم وتهددهم بالدمار والملاشاة وإبادة ديانتهم ستتلاشى، ويقوم مكانها ملكوت المسيح ليملأ كل الأرض. وقد خلفت مملكة مادي وفارس مملكة بابل سياسياً وجغرافياً في علاقتها باليهود، كما خلفت مملكة الإسكندر في آسيا مملكة مادي وفارس سياسياً وجغرافياً في علاقتها باليهود، فنستنتج أن المملكة الرابعة تخلف مملكة الإسكندر سياسياً وجغرافياً في علاقتها باليهود. أما مملكة سوريا فاجتمع فيها كل ذلك، وكانت علاقتها بالممالك السابقة علاقة طبيعية.
(3) قيل عن المملكة الرابعة (وهي القرن الصغير) إنه يحاول أن يغير الأوقات والسُنَّة (الشريعة)، أي الأوقات والسنة اليهودية المعهودة عند دانيال. ونسبت أسفار المكابيين تغيير السنة اليهودية إلى أنطيوخس أبيفانيس، وقيل عنه إنه يحارب القديسين ويغلبهم (أي شعب الله، لأن كلمة «قديسين» تُطلق في الكتاب عليهم) وأعمال أنطيوخس في محاربة اليهود ومضايقتهم مشهورة جداً.
(4) إذا كانت مملكة المسيح هي الخامسة لا بد من وجود المملكة الرابعة قبلها. أما مملكة المسيح فتأسست عند صعوده إلى يمين الله ليأخذ الملك بدليل: (أ) أن يوحنا المعمدان والمسيح كرزا أن زمان ملكوت الله قد اقترب. ويخبرنا العهد الجديد عن اقتراب ذلك الملكوت وتأسيسه. وقبل موت المسيح بقليل تكلم عن قوة مَلكية أُعطيت له (يو 17: 1، 2 ومت 28: 18) وبعد صعوده شهد كل الرسل أن المسيح صار ملكاً على ملكوته وأُعطي له السلطان رسمياً (أع 2: 33، 36 و10: 36 وأف 1: 20-22 و1بط 3: 22 ويو 3: 35 ومت 11: 27 وفي 2: 9، 10 وعب 1: 3 و12: 2 ورؤ 3: 21 و17: 14). وهذه الشواهد تكفي لتبين أن المسيح استلم الملك عند صعوده إلى السماء،. والخبر الأخير عنه في الإنجيل هو اختفاؤه في سحاب السماء. أما دانيال فرأى بعين النبوة ما كان بعد صعود المسيح فقال «كنت أرى في رؤى الليل وإذا مع سحاب السماء مثل ابن إنسان أتى وجاء إلى قديم الأيام فقرَّبوه أمامه، فأُعطي سلطاناً ومجداً وملكوتاً لتتعبّد له كل الشعوب والأمم والألسنة. سلطانه سلطانٌ أبدي ما لن يزول، وملكوته ما لا ينقرض». والخلاصة أن ملكوت المسيح تأسس بمجيئه الأول إلى الأرض وتجهيزه ما يلزم لذلك، وجلوسه عن يمين الله في الأعالي. ومن ذلك الوقت أخذ السلطان ولا يزال في يده، وسيدوم متسلطاً في الكون تسلطاً مطلقاً إلى نهاية العالم. وبما أن ملكوت المسيح هو المملكة الخامسة في سلسلة الممالك المذكورة آنفاً، وتأسيسه كان عند صعوده، فلابد أن المملكة الرابعة قد سبقت مجيئه الأول. ومما يؤيد ذلك أيضاً ما قيل عن إجراء الدينونة على الحيوان الرابع، أو بالحري القرن الصغير (دا 7: 9-12). فإن تلك الدينونة ليست الدينونة الأخيرة العامة، بل دينونة خاصة على القرن الصغير للحيوان الرابع بسبب تجديفه، أجراها الله قبل مجيء المسيح استعداداً لقيام ملكوته. وذلك واضح من القرينة، لأنه لا توجد إشارة إلى الدينونة العامة مطلقاً، لأن تلك تحدث عند نهاية العالم، وهي تختص بأفراد البشر لا بمملكة واحدة ولا بممالك، ولا يكون بعدها زمان خلافاً لهذه التي كان بعدها زمان (دا 7: 12). تلك يعقبها قصاص الأشرار وإدخال الأبرار إلى الراحة السماوية، أما هذه فيعقبها قتل الحيوان وهلاك جسمه ودفعه لوقيد النار (دا 7: 11) أو كما قيل (في آية 26) «نُزِع عنه سلطانه». وهذا يدل على أن عاقبتها هي إبادة أمة ودمار مملكة أرضية. والديان في الدينونة العامة الأخيرة هو المسيح، بدليل شواهد عديدة قي الكتاب. وأما في هذه فهو «القديم الأيام» (آية 9) أي الله الآب. وخلاصة ما تقدم أن المملكة الرابعة يجب أن تسبق مجيء المسيح الذي ابتدأت فيه المملكة الخامسة، وكان قد جرى قبل مجيئه دينونة مهلكة على الحيوان الرابع، الأمر الذي لم يتم على مملكة روما مطلقاً.
(5) تشير النبوتان في ص 8، 11 إلى نفس موضوع النبوة في ص 7 أي أحوال تلك الممالك العظيمة، وأعمال أنطيوخس أبيفانيس الملقَّب بالقرن الصغير (في ص 7، 8) وبأنه محتقر (في ص 11: 21) وهما على الأرجح تشيران إلى نفس الممالك المشار إليها بنبوة التمثال في ص 2 ونبوة الحيوانات في ص 7. وتتشابه أقوالهما عن أنطيوخس أبيفانيس المكني عنه بالقرن الصغير في ص 8 وما قيل عن القرن الصغير في ص 7. وهذا يثبت أن القرن الصغير في ص 7، 8 هو شخص واحد، هو أنطيوخس أبيفانيس.
وإذا ثبت أن الحيوان الرابع يشير إلى مملكة سورية اليونانية (المسماة غالباً المملكة السلوقية) ينبغي بيان المقصود بالقرون العشرة للحيوان الرابع، فإنها تشير إلى عشرة ملوك قاموا في تاريخ المملكة الرابعة كما قيل «والقرون العشرة من هذه المملكة هي عشرة ملوك يقومون، ويقوم بعدهم آخر وهو مخالفٌ الأوّلين ويذل ثلاثة ملوك» (دا 7: 24). والقرن الصغير طلع بين القرون العشرة. فليس هو أحدها، بل هو قرنٌ آخر، وهو الحادي عشر (دا 7: 8، 20، 24). والشخص المشار إليه بالقرن الصغير في ص 7، 8 هو نفس الشخص المذكور في 11: 21-45 كما يظهر من اتفاق التعبيرات عنه، ومن مشابهة الأوصاف والأعمال المنسوبة إليه في كل تلك الأصحاحات. فبناءً على هذه الملاحظات نقول إن القرون العشرة هي عشرة من ملوك المملكة الرابعة (أي مملكة سورية) ونبغوا فيها بالتتابع، والملك الصغير هو الملك الحادي عشر.
19- قامت اعتراضات على أن الحيوان الرابع يشير إلى مملكة سوريا اليونانية. ما هي أشهرها، وما هو الرد عليها؟
(1) يقتبسون قول المسيح «متى نظرتم رجسة الخراب التي قال عنها دانيال النبي قائمة في المكان المقدس، ليفهم القارئ» (مت 24: 15 ومر 13: 14 ولو 21: 20) يدل على أن كلام دانيال في المملكة الرابعة نبوة عن تدمير الرومان أورشليم. فكل ما قيل عن الحيوان الرابع والقرن الصغير هو عن مملكة روما والكنيسة البابوية.. فنجيب: صحيح إن تلك العبارات في الأناجيل الثلاثة مقتبسة من دانيال، لكنها غير مأخوذة من كلامه عن الحيوان الرابع، بل من كلام آخر في سفره يشير إلى الرومان وأعمالهم، حيث قيل «ويثبت عهداً مع كثيرين في أسبوع واحد، وفي وسط الأسبوع يبطل الذبيحة والتقدمة، وعلى جناح الأرجاس مُخرَّب» (9: 27). وفي هذا المكان في النسخة السبعينيَّة (التي كانوا يقتبسون منها كثيراً في زمن المسيح) عوضاً عن العبارة الأخيرة «وفي الهيكل» جاءت «رجسة الخراب» وهي نفس العبارة الموجودة في الإنجيل (انظر دا 9: 27 حاشية التوراة بالشواهد). فنرى أن ذلك الاقتباس في الإنجيل في محله تماماً، لأنه مأخوذ من كلام دانيال في أعمال روما، لا في الحيوان الرابع والقرن الصغير. ولا غيره للألفاظ المتشابهة في ذلك (كما في دا 11: 31 و12: 11).
(2) يقولون: نحن لا نرى في الإنجيل ما يثبت هذا الرأي، بل نرى في سفر الرؤيا ألفاظاً تشبه ألفاظ دانيال في كلامه عن القرن الصغير تشير إلى المملكة الرومانية، لاسيما إلى الكنيسة البابوية.. فنجيب: لم يرد في الإنجيل ما يشير إلى أن الحيوان الرابع هو مملكة سوريا، والقرن الصفير هو أنطيوخس، لأن تلك النبوة كانت قد تمت ومضت، ولا حاجة إلى ذكرها بعد في الإنجيل، خلافاً للمملكة الخامسة التي تمت النبوات عنها في عصر المسيح، فإن الإنجيل مليء بالإشارات إليها كما رأينا. أما ما بين ألفاظ سفر الرؤيا وألفاظ دانيال من المشابهة فنشأ عما بين مواضيع نبواتهما من المشابهة، لا عن أن النبوتين تشيران إلى شيء واحد. فإن دانيال تنبأ عن عدو للكنيسة اليهودية، وتمت نبوات في أوانها، أي قبل زوال الكنيسة اليهودية. أما يوحنا فتنبأ في الرؤيا عن عدو للكنيسة، ويحتمل أنه استعمل عبارات تشبه عبارات دانيال لما بين صفات العدوين وأعمالهما وطرق مقاومتهما للديانة الحقيقية من المشابهة. والأرجح أنه استعار ألفاظ دانيال نفسها للتعبير عن موضوعه. وهكذا نقول أيضاً في مقارنة أقوال بولس في ذكر «إنسان الخطية» (2تس 2: 3-10) وصفات القرن الصغير في دانيال من المشابهة، فإنها لم تنشأ عن أن أقوالهما تشر بالضرورة إلى شخص واحد، بل عن مشابهة صفات عدو الكنيسة اليهودية أنطيوخس لعدو للكنيسة إنسان الخطية وضد المسيح. والقرن الصغير في العهد القديم، وإن اختص بالكنيسة اليهودية قبل مجيء المسيح، كان في صفاته وأعماله ذا صفة رمزية تشير إلى ضد المسيح وإنسان الخطية في زمان العهد الجديد، ولذلك نعتبره رمزاً لضد المسيح في أزمنة الإنجيل.
(3) يقولون إن وصف قوة الحيوان الرابع وعظمته وتسلطه على الآخرين لا يصح إلا على مملكة روما التي كانت قوية وممتدة وشديدة البأس.. فنجيب: نبوة دانيال موجهة إلى الأمة اليهودية وما جاء بها خاص بتاريخ اليهود في المستقبل القريب، أي في مدة نحو 500 سنة منذ نطق بها إلى أن أتى المسيح وأسس ملكوته. وكان المقصود منها تنشيط شعب الله في وسط الممالك الوثنية القوية، وإيضاح سلسلة تلك الممالك لهم، وعلاقتهم بهم كأمة. ولذلك وُصف الحيوان الرابع بأنه هائل وقوي، والقرن الصغير بأنه عامل أعمالاً عظيمة لليهود لا للعالم أجمع. وبهذا الاعتبار يصح وصف الحيوان الرابع على مملكة سوريا، ووصف القرن الصغير على أنطيوخس أبيفانيس، لأنهما ألد أعداء اليهود وأشدهم ضرراً. أما القول إن مملكة سوريا اليونانية (أي الدولة السلوقية) كانت صغيرة وقليلة الاعتبار فغير صحيح، لأنها كانت متسعة وقوية وقاسية وظالمة، حاربت حروباً وسفكت دماءً.
20- ما هي براهين أصحاب رأي أن الحيوان الرابع هو مملكة روما الوثنية، وما هي الردود على ذلك؟
* (1) يقولون إن المملكة الرومانية كانت مملكة عظيمة وواسعة، تدخَّلت في أمور اليهود لأنها كانت آلة في يد الله لإبادة اليهود، ولذلك يصح أن نحسبها الحيوان الرابع.. فنجيب: ليس في سفر دانيال دليل على أنه يتنبأ عن الممالك السياسية القائمة في عصر الإنجيل. وإذا اعتبرنا الحيوان الرابع أنه مملكة روما نؤخر النبوة إلى ما بعد تأسيس ملكوت المسيح بمئات السنين، ويصعب علينا تفسير العشرة القرون والقرن الصغير، إذ لا يوجد عشرة ملوك يمكن أن نحسبهم القرون العشرة، ولا ملك آخر يصح عليه ما قيل عن القرن الصغير. ولذلك التزم أصحاب الرأي الروماني أن يغضوا النظر عن التفسير الإلهي الذي بموجبه تعتبر القرون الصغيرة رمزاً لعشرة ملوك، وكذلك القرن الصغير رمزاً لملك آخر، وجعلوا الإشارة إلى عشر ممالك، لا إلى عشرة ملوك، والقرن الحادي عشر حوَّلوه إلى سلسلة رؤساء كنيسة، وذلك بالرغم من وضوح قول الله إنه ملوك لا ممالك. قال دانيال «والقرون العشرة من هذه المملكة هي عشرة ملوك يقومون، ويقوم بعدهم آخر، وهو مخالفٌ الأوّلِين، ويذل ثلاثة ملوك» (7: 24) وكذلك اعتبار مملكة روما الحيوان الرابع يؤخر المملكة الخامسة عن وقتها حتى يلزم عن ذلك أنها لم تؤسَّس بعد، لأنها تقوم بعد انقراض الرابعة (دا 7: 21-28). وبما أن الكنيسة البابوية لا تزال قائمة، يلزم عن رأيهم أن مملكة المسيح لم تقم بعد (انظر دا 7: 11، 12، 26، 27).
(2) يقولون إن وصف القرن الصغير يصح على الكنيسة البابوية تماماً، ولذلك لابد من الإشارة إليها.. فنجيب: يرمز القرن الصغير إلى قوةٍ تقاوم الكنيسة في عصر الإنجيل. ولا صحة للظن أن القرن الصغير يشير إلى الكنيسة البابوية، لأنه برز في تاريخ اليهود من تمَّ فيه كل ذلك الوصف، فلا لزوم أن ننتظر بعد مجيء المسيح من يتم فيه ذلك. وقد كان للكنيسة اليهودية مضطهِد ومقاوِم كما للكنيسة. والنبوات عن الأول في دانيال وعن الثاني في الرؤيا، ولا لزوم أن نوجِّه نبوات دانيال إلى الكنيسة البابوية، فإن القرن الصغير ملك كسائر القرون العشرة وقد طلع وراءها.
(3) يقولون إن تأسيس ملكوت المسيح وإعطاءه لقديسي العلي يجب أن يشير إلى الألف السنة، لأننا لا ننتظر إتمام هذا إلا بعد انقراض كنيسة روما.. فنجيب: يعلمنا الكتاب المقدس أن ملكوت المسيح تأسس عند صعوده، وأخذ يمتد منذ ذلك الوقت، ولا يزال يمتد إلى الآن. وعلى ذلك لا تعتبر الألف السنة زمان تأسيس الملكوت، بل وقت امتداده وانتصاره العام. وقبل ذلك الوقت ننتظر حسب نبوات سفر الرؤيا سقوط «ضد المسيح».
(4) يقولون إن تأسيس ملكوت المسيح يكون في أيام الملوك المشار إليهم في دا 2: 44 بقوله «وفي أيام هؤلاء الملوك» وإن «هؤلاء الملوك» تشير إلى الممالك العشر المشار إليها بالقرون العشرة في ص 7.. فنجيب: الإشارة في قوله «هؤلاء الملوك» هي إلى الملوك الأربعة المشار إليهم في دانيال 2 وهم ملك بابل، وملك مادي وفارس، وملك اليونان، وملك سوريا. فإن الله بدأ في زمن هؤلاء الملوك بالاستعداد لإقامة ملكوته ويتضح من دانيال 7 أن ملكوت المسيح يقوم بعد إبادة الحيوان الرابع أو بالحري بعد إجراء الدينونة على القرن الصغير. فالمقصود بإقامة ملكوت المسيح في أيام هؤلاء الملوك هو إتمام الاستعداد وتجهيز العالم لمجيء المسيح.
21- لماذا نرفض تفسير كلام دانيال عن الحيوان الرابع وعن القرن الصغير أنه يشير إلى المملكة الرومانية؟
* (1) وصف الحيوان الرابع لا يصدق على المملكة الرومانية، لا باعتبار زمانها ولا مكانها ولا علاقتها بالثلاث الأخرى، لأنها لم تعقب الثالثة منها، ولا سبقت الخامسة لأنها خربت قبل تأسيسها. ولا تألفت من الشعوب التي تألفت منها تلك الثلاث، ولا اضطهدت اليهود إلا بعد مجيء المسيح وتأسيس ملكوته. والكنيسة البابوية لم تضطهِد الكنيسة.
(2) وصف الحيوان الرابع أو المملكة المشار إليها به أنها مؤلفة من قطع متنوعة، بعضها من حديد وبعضها من خزف، وبعضها قوي وبعضها قصِم، وأنها منقسمة، لا يصح على المملكة الرومانية التي كانت قوية ثابتة ممتدة ولم تكن مقسومة قبل مجيء المسيح. وقيل أيضاً عن الحيوان الرابع إنه كان مخالفاً لكل الحيوانات التي قبله وهذا يصح على مملكة سوريا تماماً، ولا يمكن تطبيقه على مملكة روما.
(3) القول إن القرن الصغير يغيِّر الأوقات والسُنَّة (الشريعة) يفيد أن المحاربة بينه بين قديسي العلي جرت فيما كان اليهود شعب الله، وقبل زوال النظام الموسوي.
(4) طلع القرن الصغير بين قرون الحيوان الرابع. وعلى ما نستنتج كان ملكاً سياسياً مثل الملوك العشرة، لأنه لا دليل مطلقاً على أنه رئيس روحي كنائسي لطائفة دينية.
(5) ضُرب الحيوان الرابع بسبب خطايا القرن الصغير. قال دانيال «كنت أنظر حينئذ من أجل صوت الكلمات العظيمة التي تكلم بها القرن. كنت أرى إلى أن قُتل الحيوان وهلك جسمه ودُفع لوقيد النار» (دا 7: 11). وحسب الرأي الروماني يلزم أن مملكة روما الوثنية هلكت بسبب خطايا الكنيسة البابوية.
(6) المملكة الخامسة أو مملكة المسيح هي الحلقة الأخيرة في سلسلة نبوات دانيال عن الممالك الخمس، فإن حسبنا المملكة الرابعة مملكة روما جعلنا قيامها وسقوطها قبل تأسيس ملكوت المسيح لا بعده، وذلك يخالف الواقع.
(7) نبوات دانيال الأربع في ص 2، 7، 8، 11 هي على الأرجح مرادفة بعضها لبعض، أي تشير إلى مواضيع واحدة، بدليل ما في كلامها عن كل جزء بمفرده من المشابهة الكلية. أما الرأي الروماني فيحول ما قيل في ص 7 عن الحيوان الرابع والقرن الصغير إلى موضوع آخر، أي الكنيسة البابوية، مع أنه مكرر في المعنى في ما قيل عن القرن الصغير في ص 8 الذي يقول أصحاب الرأي الروماني إنه يشير إلى أنطيوخس أبيفانيس.
(8) التفسير الإلهي للقرون العشرة هي أنها عشره ملوك، والقرن الصغير أنه ملك آخر طلع بينهم. وحسب الرأي الروماني القرون العشرة هي ممالك، والقرن الصغير كنيسة، وهذا تناقض!
(9) يستلزم تفسير النبوات حسب الرأي الروماني أن نسلِّم بمبدأ آخر مثبت من الكتاب المقدس، وهو أن «يوم» في النبوات يشير إلى سنة، وعليه فالعبارة «زمن وزمنين ونصف زمان» تشير إلى 1260 سنة، وذلك مستحيل كما سنرى في إجابة السؤال التالي.
22- كيف تبرهن خطأ رأي من يقولون إنه اليوم مستعار (في بعض النبوات) لسنة؟
* (1) حقيقة هذا الرأي:
اتَّخذ البعض هذا الرأي مبدأً لتفسير المُدد المذكورة في سفري دانيال والرؤيا، فاعتبروا ال 1260 يوماً بمعنى 1260 سنة. غير أن هذا المبدأ ليس من الأمور المبرهنة، لا من نصوص الكتاب المقدس، ولا من إتمام النبوات التي تمت. وقد سُمي هذا الرأي «رأي اليوم السنوي» وبموجبه يجب ضرب الأزمنة أو السنين والشهور في بعض النبوات في عدد أيامها، ويكون الحاصل هو عدد السنين الحقيقي. وهذا خطأ.
(2) الأدلة على بطلانه:
(أ) لأنه يخالف العقل، فقد أعطى الله النبوات للبشر في لغتهم، ولولا ذلك لما أمكنهم أن يستفيدوا منها بدون إعلان خاص لتفسير اللغة النبوية. ولا نستثني ما في النبوات من التشبيه والمجاز والكناية من هذا الحكم، لأن الألفاظ المستعملة لذلك مستعملة بمعناها المتعارف عليه، فكلمة «أسد» مستعملة بمعنى أسد و«خروف» بمعنى خروف. وكلمة أسد مثلاً مستعملة للدلالة على ما في المستعار له من صفات الحيوان الموضوعة له، وهذا لا يختص بالنبوات بل عام في الكلام. وفي اللغة العبرانية كلمة «يوم» وكلمة «سنة». فلو أراد الله «سنةً» لاستعمل كلمة سنة وليس كلمة «يوم».
(ب) ليس في النبوات ما يسند هذا الرأي. فقال أهله إن الله قصد بذلك أن يجعل كلامه عن الوقت غير مفهوم إلى أن يتم، فأغلق على هذا الجزء من الحق وأخفى مفتاحه.. ورداً على ذلك نقول: (1) لا دليل على أن الله قصد أن يخفي ما يظهر أنه قصد أن يعلنه، فاعتمد على الألغاز لإبهام النبوات وإخفاء معرفة الزمان، وهو يدَّعي أنه يعلنه. فلو قصد هذا الأمر لاكتفى بعدم ذكر الوقت كما فعل كثيراً. فما الغاية من إعلانه الزمان على صورة اللغز أو المعمَّى؟ (2) لو جعل الله اليوم كناية عن سنة لكشفت لنا حوادث قليلة محققة مفتاح السر، وبطل قصد الله في إخفاء الوقت، لأننا بعد أن نجد المفتاح يسهل جداً استعماله، وجدول الضرب بسيط وسهل الاستعمال.
(ج) لا يمكن إثباته من إتمام نبوة ما. قال البعض إن ذلك سيتبيَّن من حوادث لم تحدث بعد.. فنجيب: الأمر بالعكس، فالنبوات التي تمت تبرهن أن المقصود باليوم في النبوات هو «يوم».
(د) تناقض جميع النبوات التي تمَّت بشأن هذا الرأي، فكل ما ذُكر في الكتاب من إتمام نبوّاته يبين أن الألفاظ الدالة على الوقت في النبوات مستعملة بمعناها الحقيقي المشهور لا على سبيل اللغز. ومن ذلك إنباء الله بواسطة نوح أن الطوفان يكون بعد 120 سنة (تك 6: 3) وتلك المدة كانت 120 سنة حقيقية لا 43200 سنة. وقوله لنوحٍ «لأني بعد سبعة أيام أيضاً أُمطر على الأرض أربعين يوماً وأربعين ليلة» (تك 7: 4). فلو بقي نوح محبوساً في الفلك سبع سنين قبل مجيء الطوفان لكانت تلك بلية شديدة عليه. وقول الله لإبراهيم «نسلك سيكون غريباً في أرض ليست لهم، فيذلّونهم أربع مئة سنة» (تك 15: 13). فهل يصدّق أحد أن تلك المدة كانت 400 × 360 أي 144 ألف سنة. وقوله «وبنوكم يكونون رعاة في القفر أربعين سنة» (عد 14: 33). فهل تاهوا في البرية 14400 سنة؟ قال إشعياء، وفي مدة 65 سنة ينكسر أفرايم حتى لا يكون شعباً» (إش 7: 8) ونرى من التاريخ أن تلك المدة كانت 65 سنة حقيقة لا 23400 سنة، عند نهايتها خربت مملكة إسرائيل على يد شلمنأسر سنة 722 ق م، وأن النبي حسب نهايتها عندما أرسل آسرحدون إلى البلاد قوماً ليسكنوها. وقال أيضاً «في ثلاث سنين كسني الأجير يُهان مجد موآب» (إش 16: 14) ولكن ليس من يحسب هذه المدة 180 سنة. وإذا كانت هذه المدة ثلاث سنوات فقط، لماذا لا تكون الثلاث سنوات ونصف في دا 7: 25 و12: 17 كذلك؟ وقال إرميا «تخدم هذه الشعوب ملك بابل سبعين سنة» (إر 25: 11). وأيضاً «عند تمام سبعين سنة لبابل أتعهدكم وأقيم لكم كلامي الصالح بردّكم إلى هذا الموضع» (إر 29: 10). وفهم دانيال أن المقصود بالسنة هنا معناها الحقيقي المشهور، فلو اعتقد برأي «اليوم السنوي» لحسب أن الرجوع يكون 25200 سنة بعد السبي، وقطع الأمل من بقائه على قيد الحياة إلى ذلك الوقت. ومن هذا القبيل نبوة حزقيال عن سبي وقتي إلى مصر، وهو 40 سنة لا 14400 سنة. ونبوة دانيال عن جنون نبوخذنصر سبعة أزمنة (دا 4: 16، 23، 25، 32). قال أصحاب هذا الرأي إن الزمان والزمانين والنصف الزمان في دا 7: 25 و12: 7 أي ثلاث سنوات ونصف هي بالحقيقة 1260 سنة. فما قولهم في هذه السبعة الأزمنة التي على رأيهم يجب أن تكون 2520 سنة؟ فكما أن السبعة الأزمنة التي هي مدة جنون نبوخذنصر هي سبع سنين اعتيادية، كذلك الثلاثة الأزمنة والنصف التي هي مدة تغيير أنطيوخس الطقوس الموسوية والذبائح التي عبّر عنها بالأوقات والسُنَّة (الشريعة) (دا 7: 25).
(هـ) يقول أصحاب هذا الرأي إنه يصدق على أزمنة ضيق صهيون واضطهادها، لا على عصر نجاحها وسعادتها، فاعتبروه في النبوات عن تسلط «ضد المسيح» دون النبوات عن مُلك المسيح الحقيقي. وهو باطل لأن هذا التمييز يجعلنا نحسب اليوم في بعض النبوات يوماً والسنة سنةً، وفي غيرها اليوم سنة والسنة 360 سنة. والحساب الأخير للضيق والعار، والأول للنجاح والمجد! وذلك لما يأتي: (1) لأنه يلزم عنه أن الله قصد أن يكتم عن شعبه مدة ضيقهم الحقيقية بواسطة التلاعب في الكلام، أو بالحري أعلن لهم جزءاً من 360 من الوقت الحقيقي، وهو مما لا يقبله العقل. (2) لأن مُلك «ضد المسيح» بموجبه يكون أطول من ملك المسيح، فمدة ملك عدو المسيح 1260 سنة ومدة ملك المسيح ألف سنة فقط، فيزيد زمن الاضطهاد والضيق والمصائب على زمن السلام والحق والبر والخلاص، وهذا لا يُصدَّق! إن رحمة الله لهذا العالم لا تسمح بذلك، وكلام النبوات يناقضه. قال الرب «لحيظةً تركتُك وبمراحم عظيمة سأجمعك. بفيضان الغضب حجبت وجهي عنك لحظةً، وبإحسانٍ أبدي أرحمك، قال وليّك الرب» (إش 54: 7، 8). فهل نسبة اللحظة إلى الأبد كنسبة 1260 إلى ألف.
(3) أدلة أصحاب هذا الرأي والرد عليها:
يستند أصحاب هذا الرأي على ما يأتي:
(أ) قول الله لبني إسرائيل «بنوكم يكونون رعاة في القفر 40 سنة.. كعدد الأيام التي تجسستم فيها الأرض أربعين يوماً، للسنة يوم. تحملون ذنوبكم أربعين سنة» (عدد 14: 33، 34).. فنجيب: إنه لم يستعمل اليوم هنا بمعنى سنة بل بمعناه الحقيقي. فلو قال إنهم يتيهون 40 يوماً، ورأينا من التاريخ أنهم تاهوا 40 سنة لأمكن إثبات رأيهم من ذلك. ولكن القول هو إن سني تيهانهم تكون بقدر أيام تجسسهم الأرض، لقصاصهم مذكراً لهم على الدوام بخطيتهم. نعم في هذه الآية نبوة حقيقية، وهي قوله «يكونون رعاة في القفر أربعين سنة» وأيضاً «تحملون ذنوبكم أربعين سنة» وبموجب رأيهم كان ينبغي أن مدة تيهانهم تكون 14400 أي 40 × 360 وذلك خلاف الواقع.
(ب) قول الله لحزقيال «اتكئ أنت على جنبك اليسار، وضع عليه إثم بيت إسرائيل. على عدد الأيام التي فيها تتكئ عليه تحمل إثمهم. وأنا قد جعلت لك سني إثمهم حسب عدد الأيام 390 يوماً. فتحمل إثم بيت إسرائيل. فإذا تممتها فاتكئ على جنبك اليمين أيضاً، فتحمل إثم بيت يهوذا 40 يوماً. فقد جعلت لك كل يوم عوضاً عن سنة» (حز 4: 4-6). ولكن كلمة «يوم» في هذا القول مستعملة بمعناها الحقيقي لا بمعنى سنة، وكلمة «سنة» مستعملة بمعنى سنة لا بمعنى 360 سنة. صحيح أن اتّكاءه على الجنب الواحد 40 يوماً عبّر عن حملهِ خطاياهم 40 سنة، ولكن اليوم في ذلك ليس سنة بل يشير إلى سنة. فلو قال الله «أربعين يوماً» وقصد أربعين سنة لكان ذلك برهاناً على صدق الرأي.
(ج) قول بطرس إن يوماً واحداً عند الرب كألف سنة وألف سنة كيومٍ واحدٍ (2بط 3: 8). فإذا كان في هذه الآية دليل فلسوء الحظ هو أكثر من المطلوب، أي أن اليوم ليس سنة فقط بل ألف سنة، والألف السنة يومٌ واحدٌ. وعليه فالألف السنة التي تنبأ عنها يوحنا في سفر الرؤيا ليست إلا يوماً واحداً فقط. فلا نعلم كيف نتصرف في هذا الأمر؟ هل نضرب الوقت الظاهر في ألف أو نقسمه على ألف لنحصل على الوقت الحقيقي! لأنه من يعلم المقصود بنبوة ما؟ هل هو أن اليوم بمعنى ألف سنة، أو أن الألف السنة بمعنى يوم واحد؟ ولكن الحمد لله أن «الكاف» في هذه الآية تخلّصنا من هذه الصعوبة، لأنها ترينا أن ليس فيها دليل على أن الله يقول يوم ويريد به سنة.
(د) قوله «سبعون أسبوعاً قُضيت على شعبك وعلى مدينتك» (دا 9: 24-27). وهو أقوى ما يوردونه لإثبات هذا الرأي.. فنجيب: إن الكلمة الأصلية المترجمة «أسبوعاً» في صيغة المفرد، معناها سبعة، ويصح أن تكون 7 أيام أو 7 سنين. فالجمع المؤنث يستعمل لسبعة أيام، والجمع المذكر المستعمل هنا لا يدل مطلقاً وحده على أسبوع أيام، بل إذا قُصد به ذلك زيدت بعده كلمة «أيام» (كما في دا10: 2، 3). ولا بد بعد ذكر كلمة «سبعة» أن نسأل عن المعدود ما هو؟ فيجب أن ننظر إلى القرينة أو إلى ما كان في بال الكاتب. ففي هذه المسألة هو 70 سنة السبي، وعليه يكون المعنى «سبعين سبعة سنين»، وذلك ليس من قبيل استعمال «يوم» بمعنى سنة.
قال جبرائيل الملاك لدانيال «من خروج الأمر لتجديد أورشليم وبنائها، إلى المسيح الرئيس، سبعة أسابيع واثنان وستون أسبوعاً» (دا 9: 25). فمن إصدار ذلك الأمر إلى مجيء المسيح 69 أسبوعاً. ثم يتلو ذلك الأسبوع الأخير تمام السبعين الذي فيه يثبت العهد مع كثيرين (آية 27) وفي وسطه يبطل الذبيحة والتقدمة (بتقديم نفسه الذبيحة الكاملة النهائية). وإذا ضربنا ال 69 أسبوعاً من السنين في سبعة يحصل 483 سنة، وإذا أضفنا إلى ذلك سبعة أي الأسبوع الأخير كان المجموع 490 سنة.
ولأجل البحث عن المقصود هنا بالأمر الذي منه تبدأ ال 69 أسبوعاً، أو 483 سنة، نقول: ذكر الكتاب المقدس الأوامر الآتية:
1- أمر كورش عز 1: 1-4 ق م 536
2- أمر داريوس عز 6: 8 ق م 519
3- أمر أرتحشستا لعزرا (في السنة السابعة من مُلكه) عز 7: 7، 11-26 (457ق م).
4- أمر أرتحشستا لنحميا (في السنة العشرين من مُلكه) نح ص 2 (444ق م).
والمرجح أن الأمر الثالث من هذه الأربعة هو المشار إليه في دا 9: 25. وإذا أضفنا 457 إلى 26 (وهي المدة من التاريخ المسيحي، الذي يبدأ بعد ميلاد المسيح بأربع سنوات) إلى السنة التي فيها بدأ المسيح خدمته الجهارية وهو ابن 30 سنة، كان المجموع 483 وهو عدد السنين المشار إليها بال 69 أسبوعاً. وفي وسط الأسبوع الأخير، أي بعد شروع المسيح في خدمته الجهارية بنحو ثلاث سنوات، صُلِب وأبطل كل ذبيحة وتقدمة.
23- نرجو المزيد من الإيضاح عن «مدة من الزمان» في دانيال 7: 25 و12: 7.
* الإشارة في هذين الشاهدين هي لمدة واحدة عُبّر عنها في أولهما بزمانٍ وأزمنة ونصف زمان، وفي الثاني بزمان وزمانين ونصفه، وهو الصواب. وسبب الفرق بينهما أن دانيال 7 مكتوب باللغة الكلدانية التي ليس فيها صيغة المثنَّى كالعبرانية، ولذلك قيل «أزمنة» عوضاً عن زمانين. ودانيال 12 مكتوب باللغة العبرانية، فاستعمل فيه المثنى فقيل «زمان وزمانين ونصف». وفي دانيال 11، 12 مدة أخرى قدرها 1290 يوماً. وفي عدد 12 مدة أخرى قدرها 1335 يوماً. وفي دا 8: 14 مدة قدرها 2300 صباح ومساء. وفي دانيال 9: 24 مدة معبَّر عنها بسبعين أسبوعاً. وفي كل تلك المدات المقصود على الأرجح ذكر الزمان بمعناه الحقيقي البسيط، أي ليس مجازياً.
والمدة الأولى (المذكورة في دا 7: 25 و12: 7) هي ثلاثة أزمنة ونصف زمان. واللفظة المترجمة هنا بزمان تشير إلى مدة معلومة، أو إلى حصة معينة من الزمان. وبما أن السنة هي المدة التي يصح بالأكثر ذكرها على هذه الصورة، أجمع رأي أغلبية المفسرين على أن العبارة «زمان وزمانين ونصف» تشير إلى ثلاث سنوات ونصف سنة. ومما يؤيد ذلك قرينة الكلام التي جاء فيها ذكر مدة قدر ما 1290 يوماً، أي ثلاث سنوات ونصف سنة (انظر دا 12: 11). وهي تشير إلى زمان تسلط أنطيوخس أبيفانيس على الهيكل اليهودي وتعطيله الذبيحة اليومية، الذي بلغ كما نتعلم من التاريخ ثلاث سنوات ونصف سنة (1مكابيين ا). فإن هذه المدة ذُكرت بالضبط، لأن بين إزالة المحرقة الدائمة على يد أنطيوخس وتطهير الهيكل على يد المكابيين مدة تزيد عن ثلاث سنوات ونصف بمقدار ثلاثين يوماً، فيكون «زمان وزمانين ونصف زمان» عبارة تقريبية لذلك، و1290 يوماً هي عدد أيام تلك المدة تماماً.. والمدة المذكورة في دا 12: 12 وقدرها 1335 يوماً، أي أكثر من المدة المذكورة في دا 12: 11 بخمسة وأربعين يوماً تشير إلى وقت موت أنطيوخس أبيفانيس الذي حدث بعد تطهير الهيكل على يد المكابيين بنحو شهر ونصف.. والمدة المذكورة في دا 8: 14 هي كما يظهر من القرينة مدة اضطهاد أنطيوخس أبيفانيس لليهود من وقت قتل أونياس رئيس الكهنة سنة 171 ق م إلى وقت تطهير الهيكل في شهر ديسمبر سنة 165 ق م.
وما قلناه في هذا الموضوع يطابق التفسير الأصحّ لسفر دانيال الذي بموجبه يشير الحيوان الرابع إلى مملكة سوريا اليونانية، والقرن الصغير إلى أنطيوخس أبيفانيس الذي اضطهد اليهود اضطهاداً عنيفاً جداً وشرع في إبطال ديانتهم وإلغاء سُنَّتهم (شريعتهم)، وعظم نفسه ضد العلي.
بقي علينا الآن أن ننظر في المدة المذكورة في دا 9: 24 وهي 70 أسبوعاً فنقول: المقصود بالأسابيع هنا أسابيع سنين لا أسابيع أيام، لأن عقل دانيال كان مشغولاً وقتها بمدة السبي التي هي سبعون سنة، فاستجاب الله لطلبته لأجل رجوع اليهود، وكشف له أمراً أعظم من ذلك وهو مقدار المدة قبل مجيء المسيح، وقال «سبعون أسبوعاً قضيت على شعبك» (دا 9: 24). فلو أراد أسابيع أيام لصرح بذلك كما في ص 10: 2، 3 حيث قال في هاتين الآيتين «ثلاثة أسابيع أيام» تمييزاً عن السبعين أسبوعاً من السنين المذكورة قبل ذلك بخمس آيات. فتبين أن المدات المذكورة في سفر دانيال جميعها تُفسَّر بمعنى حقيقي، ولا لزوم لاعتبارها خلاف ذلك
24- ما هو المقصود من قول المسيح في متى 24: 14 «ثم يأتي المنتهى»؟
* قال المسيح: «ويُكرز ببشارة الملكوت هذه في كل المسكونة شهادة لجميع الأمم. ثم يأتي المنتهى» (مت 24: 14). فقال أصحـاب رأي مجيء المسيح قبل الألف السنة إن القصد ببشارة الإنجيل مجرد الشهادة للحق أمام كل الأمم. والآن إذ قد بُشّر بالإنجيل في أماكن كثيرة في العالم اقترب مجيء المنتهى (وهو على زعمهم مجيء المسيح بالجسد ليملك على الأرض).
ونجيب على هذا: (أ) التفسير الصحيح لهذا القول هو أن «منتهى» هنا تشير إلى نهاية النظام اليهودي، أي تدمير الرومان أورشليم والهيكل، لا إلى نهاية العالم، وذلك واضح من قول المسيح (بعد كلامه السابق) «لا يمضي هذا الجيل حتى يكون هذا كله» (مت 24: 34). والمقصود بكلمة جيل في هذا الصدد أهل زمانه، وقد جاءت بهذا المعنى في العهد الجديد 42 مرة. أما سابقو الألف السنة فوسعوا معناها، وقالوا إن المقصود بها الأمة اليهودية، وإن معنى العبارة هو أن الأمة اليهودية لا تزول من الأرض حتى يتم كل ما قيل في هذا الأصحاح، وهو غير صحيح. (ب) تشير كلمتا «يكرز» و«شهادة» إلى أكثر من مجرد ذكر اسم المسيح أمام البشر، فإنهما تشيران إلى التبشير بالإنجيل وتعليمه للناس وتفهيمهم إياه وحملهم على قبوله، لأن الكرازة والشهادة مستعملتان في الكتاب لإيضاح الحقائق الدينية التي تبيِّن لنا محبة الله وكيفية الخلاص بالمسيح، كما يتضح من قوله لتلاميذه حين أرسلهم ليكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها «تكونون لي شهوداً في أورشليم وفي كل اليهودية والسامرة وإلى أقصى الأرض» (أع 1: 8). وقوله أمام بيلاطس «لهذا قد وُلِدتُ أنا، ولهذا قد أتيت إلى العالم لأشهد للحق» (يو 18: 37).
25- ما معنى قول الرسول بطرس في أعمال 3: 21 «أزمنة ردّ كل شيء»؟
* قال الرسول بطرس «توبوا وارجعوا لتُمحى خطاياكم، لكي تأتي أوقات الفرج من وجه الرب، ويرسل يسوع المسيح المبشَّر به لكم قبلُ، الذي ينبغي أن السماء تقبله إلى أزمنة ردّ كل شيء التي تكلم عنها الله بفم جميع أنبيائه القديسين منذ الدهر» (أع 3: 19-21). فقال أصحاب مذهب سابقي الألف السنة إن قوله «أزمنة ردّ كل شيء» يشير إلى وقت مجيء المسيح بالجسد ليملك على الأرض. وهو غير صحيح بدليل أن «ردّ» تشير إلى إرجاع الأشياء إلى ما كانت عليه. وهذا يشير إما إلى أحوال مملكة داود المجيدة، وهي التي ترمز إلى ملكوت المسيح، أو إلى أحوال جنة عدن الطاهرة المقدسة، والثاني هو الأرجح. لقد تكلم الله بفم جميع أنبيائه القديسين منذ الدهر عن «رد كل شيء» وهو موضوع أعظم نبوات العهد القديم، أي انتصار الإنجيل وفعله العظيم في رد العالم إلى حالة السلام والراحة والقداسة. ولكن هل تقبل السماء يسوع إلى أن تبدأ أزمنة رد كل شيء، أو بالحري إلى أن تنتهي؟ أو هل يأتي المسيح قبل إتمام هذه النبوات أو بعد إتمامها؟ فسابقو الألف السنة اعتقدوا بالأول، وقالوا لا يُرَدّ شيء مطلقاً إلى أن يأتي المسيح ويشرع في ذلك بنفسه. غير أن نبوات العهد القديم تبشرنا بإقامة ملكوت المسيح وتقدم الإنجيل ونجاحه وامتداده وإنارة البشر بواسطته وإرجاعهم إلى الله ومُلك المسيحية على قلوب البشر، وما ينشأ لهم عن ذلك من الفرح والسلام والراحة. وعليه، فقد بدأ تحقيق الأمور التي تكلم عنها الأنبياء، وأشار إليها بطرس بقوله «ردّ كل شيء» منذ صعود المسيح، ولا تزال تتقدم في ذلك، وستستمر تتقدم إلى أن تبلغ الإتمام الكامل. وسيبقى المسيح في السماء إلى أن تتم أزمنة رد كل شيء، وحينئذ يأتي المسيح. ولا يوجد برهان على أنه يأتي ليتمم ذلك الرد.
26- اشرح معنى قول الرسول بولس عن إنسان الخطية في 2تسالونيكي 2: 1-8.
* قال الرسول بولس «ثم نسألكم أيها الإخوة من جهة مجيء ربنا يسوع المسيح واجتماعنا إليه، أن لا تتزعزعوا سريعاً عن ذهنكم، ولا ترتاعوا، لا بروحٍ ولا بكلمة ولا برسالة كأنها منّا، أي أن يوم المسيح قد حضر. لا يخدعنكم أحد على طريقة ما، لأنه لا يأتي إن لم يأتِ الارتداد أولاً، ويُستعلَن إنسان الخطية ابن الهلاك المقاوم والمرتفع على كل ما يُدعى إلهاً أو معبوداً، حتى أنه يجلس في هيكل الله كإله مظهراً نفسه أنه إله. أما تذكرون أني وأنا بعد عندكم كنت أقول لكم هذا؟ والآن تعلمون ما يَحجُز حتى يُستعلَن في وقته. لأن سر الإثم الآن يعمل فقط إلى أن يُرفع من الوسط الذي يَحجُز الآن. وحينئذ سيُستعلَن الأثيم، الذي الرب يبيده بنفخة فمه ويبطله بظهور مجيئه» (2 تس 2: 1-8). ومعنى ذلك على رأي أشهر المفسرين أنه لابد من حدوث أمرين عظيمين قبل مجيء المسيح، وهما الارتداد العظيم، وظهور «إنسان الخطية» أي «ضد المسيح» الذي وصفه الرسول بالتدقيق، وأن أصول الشر كانت حينئذ تعمل فقط، وأنها تكمل متى أتى إنسان الخطية وابن الهلاك الذي كان حينئذ يمنع ظهوره، وهم قد عرفوه. وأن «إنسان الخطية» متى وصل إلى معظم قوته وأشد ضرره، يبطله الرب بظهور مجيئه ويبيده بنفخة فمه. وعلى ذلك قال سابقو الألف السنة إن مجيء المسيح بالجسد ضروري ليبيد ضد المسيح.
فنجيب: إن مجيء المسيح المذكور هنا ليبيد إنسان الخطية ليس هو بالضرورة مجيئه الثاني للدينونة، بل يُحتمل أنه يشير إلى مجيئه في إجراء الوسائط اللازمة لإتمام إبادة ضد المسيح، كما جاء في قول المسيح عن مجيئه لخراب أورشليم «فإني الحق أقول لكم، لا تكملون مدن إسرائيل حتى يأتي ابن الإنسان» (مت 10: 23 وإش 13: 6، 9 و19: 1 و30: 27-33 ومي 1: 3-5 ورؤ 3: 3).
ويظن بعض المفسرين أن إنسان الخطية شخصٌ شرير جداً يظهر بعد الألف السنة قبيل مجيء المسيح ثانية للدينونة، وأن مجيء المسيح المشار إليه هنا (عندهم) هو مجيئه الأخير ليبيد إنسان الخطية، إذ يكون إنسان الخطية موجوداً فيبيده بنفخة فمه وبظهور مجيئه. وليس في الكتاب ما يثبت هذا الرأي، فهو مجرد ظن.
27- ما هو التفسير الأصح لما جاء في سفر الرؤيا 20: 4-10؟
* الأرجح أن هذه الآيات تشير إلى انتصار الإنجيل الكامل في مدة الألف السنة، وحصار الشيطان في تلك المدة المجيدة، وأن المقصود بالقيامة الأولى قيام المسيحية في العالم.
وقد استند أصحاب رأي مجيء المسيح قبل الألف السنة على قول صاحب الرؤيا «ورأيت ملاكاً نازلاً من السماء معه مفتاح الهاوية وسلسلة عظيمة على يده. فقبض على التنين الحية القديمة الذي هو إبليس والشيطان، وقيّدهُ ألف سنة وطرحه في الهاوية وأغلق عليه، وختم عليه لكي لا يُضل الأمم في ما بعد حتى تتم الألف السنة، بعد ذلك لا بد أن يُحَلّ زماناً يسيراً. ورأيت عروشاً فجلسوا عليها وأُعطوا حكماً. ورأيت نفوس الذين قُتلوا من أجل شهادة يسوع ومن أجل كلمة الله، والذين لم يسجدوا للوحش ولا لصورته، ولم يقبلوا السِّمة على جباههم وعلى أيديهم، فعاشوا وملكوا مع المسيح ألف سنة. وأما بقية الأموات فلم تعش حتى تتم الألف السنة. هذه هي القيامة الأولى. مبارك ومقدس من له نصيب في القيامة الأولى. فهؤلاء ليس للموت الثاني سلطان عليهم، بل سيكونون كهنة لله والمسيح، وسيملكون معه الألف السنة» (رؤ 20: 1-6).
زعم سابقو الألف السنة أن القيامة المذكورة هنا هي قيامة جسدية، وأن المُلك هو مُلك منظور على الأرض مع المسيح، إذ يأتي بالجسد لهذه الغاية. والحق هو:
(1) هذا القول لا يُثبِت مجيء المسيح قبل الألف السنة إلا إذا فسرناه تفسيراً حرفياً. على أن تفسيره الحرفي مردود بأن يوحنا لم يقُل إنه رأى أجساد القديسين، ولا إنه رآهم قاموا من قبورهم، بل إنه رأى نفوسهم، وذلك لا يثبت قيامة أجسادهم، بل بالعكس ينفيها.
(2) هذه الرؤيا توافق تماماً رؤيا فتح الختم الخامس (رؤ 6: 9-11) ففيهما رأى يوحنا نفوساً بشرية هي نفوس شهداء قُتلوا لأجل كلمة الله ولأجل شهادة يسوع. في الأولى رآهم تحت المذبح يقدمون صلواتهم إلى الله لينتقم لدمائهم من مضطهديهم، وأما في الثانية فرأى أن ذلك قد جرى، وانتقم الله لدمائهم. رأى يوحنا أن حق المسيح الذي كان قبلاً في خطر الفشل قد انتصر، وهم غلبوه. وهذا من أشهر الأمور في السفر، أي تعزية القديسين المضطهَدين وتقوية إيمانهم وصبرهم بواسطة رؤى عن المستقبل السعيد الذي أمامهم، لا براحتهم الشخصية في السماء، بل بانتصار ملكوت المسيح الذي لأجله احتملوا العذاب والموت، على رجاء أنهم يشاهدونه ظافراً بعد الجهاد العظيم. وقد أُشير إلى هذا التغيير بذكر نفوسٍ شُوهدت أولاً في تنهُّدات التضرع إلى الله تحت المذبح، ثم على عروشٍ وهي حية مالكة مع المسيح وظافرة بفرحٍٍ بسبب تقييد الشيطان وسقوط الأعداء وتمتع العالم بالسلام والطهارة في مُلك عمانوئيل. فهذا التغيير هو لهم حياة من الموت. ومن المناسب الإشارة إليه بالقيامة.
(3) استعمال القيامة بهذا المعنى ورد في إش 26: 14، 19 وحز 37: 10 والرائي يعرف سفري إشعياء وحزقيال جيداً وأخذ منهما كثيراً من إشاراته واستعاراته.
(4) التفسير الحرفي يناقض شهادة الكتاب الذي يقول إنه تكون قيامة واحدة فقط عامة شاملة.
(5) قيل في آية 6 «مبارك ومقدس من له نصيب في القيامة الأولى. هؤلاء ليس للموت الثاني سلطان عليهم». إذاً القيامة الأولى نجاة من الموت الثاني. وبما أن الموت الثاني مجازي لا يدل على موت الجسد، فنتج طبعاً أن القيامة الأولى مجازية.
(6) مما يعضد التفسير المجازي أن الآية واردة في سفر مملوء بالاستعارات التي لا تصح فيها التفسيرات الحرفية. بل في نفس هذا الأصحاح نرى السلسلة العظيمة، والحية القديمة، والختم عليها، والعروش، والموت الثاني، ومعسكر القديسين، والمدينة المحبوبة. فتفسير القيامة الأولى بمعنى روحي لا يناقض روح السِّفر بل يوافقه.
وإذا قيل: لا يصح تفسير «قيامة» في هذه العبارة بمعنى روحي، لأن في نفس هذا الأصحاح ذكر قيامة جسدية يجب فهمها حرفياً (آيات 11-15) وإنه لا يُحتمل تفسير لفظةٍ واحدةٍ في أصحاح واحد مرة بمعنى روحي وأخرى بمعنى حرفي.. فنجيب: جاء كثيراً في الكتاب المقدس الكلام المجازي والحرفي معاً، ليس فقط في أصحاح واحد بل في آيةٍ واحدةٍ. فقد جاءت فيه كلمة «ولادة» للدلالة على الولادة الروحية وعلى الولادة الجسدية، وكلمة "موت" للموت الروحي وللموت الجسدي، والكلمات «خبز وماء وزرع وحصاد» الخ بمعنى روحي ومعنى جسدي، وغير ذلك كثير. فلماذا لا يصح أن يُشار بكلمة «قيامة» أحياناً إلى قيامة روحية وأحياناً إلى قيامة جسدية؟
فتبين مما تقدم أن أشهر الآيات المعول عليها في البرهان على مجيء المسيح قبل الألف السنة لا تفيد هذا المعنى ولا تثبت هذا الرأي البتة.
وفي ختام هذا الفصل دعنا نصلي معاً: «يا يسوع المبارك، كثيراً ما بحث الناس عن مجيئك لتملك على الأرض، فلا تسمح أن ينسوا لزوم ملكك الروحي على قلوبهم. كثيرون يتعبون في الجدل عن ملكك الأرضي هنا في هذا العالم مدة ألف سنة، فأطلب إليك أن تجعل جُلّ قصدي وغاية اجتهادي أن أملِّكك على حياتي لأملك أنا شخصياً معك في السماويات إلى أبد الآبدين. في شفاعة المسيح. آمين».