4-أبي بن كعب سيد قراء القرآن.
يعتبر أبي بن كعب من بين أهم العارفين بمجال القرآن بعد عبد الله بن مسعود. هناك حديثين مهمين يشهدان على غزارة علمه بالقرآن. الحديث الأول يقول : "قال عفان في حديثه عن همام عن قتادة عن أنس وأنبئت أنه قرأ عليه لم يكن أخبرنا خالد بن مخلد البجلي حدثني يزيد بن عبد الملك بن المغيرة النوفلي سمعت يزيد بن خصيفة أخبرني أبي عن السائب بن يزيد قال لما أنزل الله على رسوله اقرأ باسم ربك الذي خلق جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي بن كعب فقال إن جبريل أمرني أن آتيك حتى تأخذها وتستظهرها فقال أبي بن كعب يا رسول الله سماني الله قال نعم أخبرنا عفان بن مسلم أخبرنا وهيب بن خالد أخبرنا خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أقرأ أمتي أبي بن كعب أخبرنا المعلى بن أسد أخبرنا عبد الواحد بن زياد أخبرنا أبو فروة سمعت عبد الرحمن بن أبي ليلى يقول قال عمر بن الخطاب أبي أقرؤنا" (كتاب الطبقات الكبرى لبن سعد-الجزء 2 ص 341).
لهذا السبب أصبح يلقب ب"سيد القراء" و شهد عمر بن الخطاب على أنه أحسن المسلمين تلاوة للقرآن (صحيح البخاري). الحديث الثاني يقول :
"حدثنا صدقة بن الفضل أخبرنا يحيى عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال قال عمر أبي أقرؤنا وإنا لندع من لحن أبي وأبي يقول أخذته من في رسول الله صلى اللهم عليه وسلم فلا أتركه لشيء قال الله تعالى ( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها )" ( صحيح مسلم-كتاب صلاة المسافرين -4621)
لا ندري لماذا كان محمد يبلغ أجزاء معينة لأبي بن كعب دون غيره لكن الحديثين المذكورين يبينان أن مكانته كانت عالية في مجال القرآن. هذا لم يمنع أن يكون مصحفه يحوي عددا مهما من القراءات التي كانت تختلف عن ما جاء في مصحف زيد في الوقت ذاته الذي كانت تتفق فيه مع مصحف بن مسعود في حالات عديدة. كلمة "متتابعتين" المذكورة في سورة 5 الآية 91 في مصحف بن مسعود كما شهد على ذلك الطبري هي أيضا موجودة في مصحف أبي كما شهد على ذلك بن أبي داود في كتاب المصاحف (ص. 53). ترتيبه للسور رغم أنه كان في بعض الأحيان مشابها لترتيب زيد اختلف عنه في حالات عدة (الإتقان للسيوطي, ص. 150).
هنالك حالات عدة يوافق فيها مصحف أبي مصحف بن مسعود في الوقت الذي يختلف كلاهما مع مصحف زيد. لإيضاح هذه المسألة نكتفي بالأمثلة التالية :
1- عوض القراءة الرسمية للآية 204 من سورة البقرة "و يشهد الله" نجده يقرأ "و يستشهد الله" (Noeldecke, 3.83 ; Jeffery, 120).
2- عبارة "إن خفتم" لا توجد في الآية 101 من سورة 4 (Noeldecke, 3.85 ; Jeffery, 127).
3- كانت يقرأ "مُتثبثبين" عوض "مُثبثبين" في الآية 143 من نفس السورة من مصحف زيد.
نجد في بعض الحالات أن عبارة كاملة كانت تختلف عن مقابلها في مصحف زيد. القراءة الرسمية للآية 48 من سورة 4 هي "و كتبنا عليهم فيها" (يعني اليهود) في حين نجد أبي بن كعب قرأها كالتالي : "و أنزله على بني إسرائيل فيها" (Noeldecke, 3.85 ; Jeffery, 128).
يتبين من خلال ما روى أبو عبيد أن الآية 17 من سورة 16 التي تُقرأ "أمرنا مترفيها ففسقوا" كانت تُقرأ عند أُبي "بعثنا أكابير مجرميها فمكروا" (Noeldecke, 3.85 ; Jeffery, 140).
قد لا ننتهي من استعراض الأمثلة لتبيان درجة الاختلاف بين مصحفي أبي و بن مسعود و غير هما من الصحابة من جهة و المصحف العثماني من جهة أخرى. الأمثلة التي قُدمت كافية لإقناعنا بأن الفروق كانت في النصوص المكتوبة ذاتها و ليس فقط في اللفظ كما يدعي بعض علماء المسلمين المعاصرون.
هناك رواية تتحدث عن آية كاملة كانت موجودة في مصحف أبي و لا توجد في المصحف العثماني. ستتاح لنا فرصة استعراض هذه القضية في الفصل المقبل. من ناحية أخرى لا يمكن أن نسدل الستار عن أبي دون ذكر مسألة جد مهمة ألا و هي احتواء مصحفه على سورتين لا توجدان في مصحف زيد. ففي الوقت الذي لم يكن مصحف بن مسعود يحتوي على "المعوذتين" أضاف مصحف أبي سورتي الحفد و الخلع (السيوطي). تقول الرواية : "وأخرج أبو عبيد عن بن سيرين قال: كتب أبي بن كعب في مصحفه فاتحة الكتاب و المعوذتين و اللهم إنا نبستعينك و اللهم إياك نعبد و تركهن بن مسعود" (السيوطي-الإتقان-ص 142)
ذهب السيوطي إلى حد تقديم النصين الكاملين لهذه الآيتين (1) و أخبرنا أنهما كانتا موجودتين كذلك في مصحف بن عباس الذي كان مستقا من مصحفي أبي و أبي موسى (السيوطي-الإتقان-ص 143). هاتين السورتين تشبهان الفاتحة من حيث أن المبتغى منهما الدعاء و طلب الرحمة و ال مغفرة من الله. يروى كذلك أن محمد كانت من عادته تلاوة هاتين الآيتين كأدعبة يختم بها قراءة القرآن بعد صلاة الفجر و كانتا تُدعيان سورتا "القنوت" كما ذكر السيوطي (الإتقان).
إنه لمن المثير للانتباه أن تعتبر هاتين السور تين من زوايا مختلفة في نفس مثابة سورة الفاتحة التي يشبهانها إلى حد كبير و ذلك بشهادة كل من بن مسعود و أبي بن كعب. الغريب في الأمر أن السور الثلاث لم تكن موجودة في مصحف بن مسعود و بالمقابل كانت كلها موجودة في مصحف أبي. يُحتمل أن يكون محمد قد كان يستعمل كلاها دون تمييز في الأدعية و الابتهالات لهذا السبب لم يستطع الصحابة الحسم في مسألة وجوب إدخالها ضمن المصحف (كتاب الله) أم لا , خصوصا وأنها من حيث الشكل و المحتوى أقرب إلى التضرعات و الأدعية التي ينطق بها المسلمون في صلواتهم و مخالفة لأسلوب القرآن حيث يُفترض أن الله هو المتكلم.
لقد حاولنا في هذا الفصل تقديم بعض المعطيات المتعلقة بمصحفي عبد الله بن مسعود و أبي بن كعب لإبراز مدى اختلافهما مع مصحف زيد بن ثابت و لإظهار جو عدم الثقة الذي كان سائدا قُبيل جمع القرآن إثر وفاة محمد. قد لا ننتهي الحديث إن نحن تطرقنا لاستعراض مصاحف أخرى غير مصحفي بن مسعود و أبي جُمعت هي كذلك في الفترة التي سبقت المشروع العثماني لتوحيد القرآن. كانت هذه المصاحف تتميز بدورها بضمها لقراءات اختلفت عن تلك المعروفة في مصحف العثماني الذي جمعه زيد بن ثابت (استطاع عثمان بالفعل أن ينحي المصاحف لكنه لم ينجح في تنحية القراءات المختلفة من ذاكرات الناس).
في الحقيقة لا يجوز الحديث عن قراءة زيد بمثابة قراءة "مشهورة" أي رسمية للقرآن مقابل قراءات "شاذة" كما لو كانت هذه الأخيرة هي الاستثناء و ليس القاعدة. كانت بين مصاحف زيد و بن مسعود و أبي و أبي موسى اختلافات عديدة و ليس من المشروع أن نعتبر قراءة زيد بمعزل عن باقي القراءات لأنه لم يكن في وقت من الأوقات شيء يميزها عنها قد تستمد منه مشروعيتها كقراءة صحيحة إلى أن قرر عثمان فرضها بالقوة على أمة المسلمين كقراءة وحيدة.
إذن القرآن الذي وصلنا ليس هو ذلك النص الوحيد الذي لا اختلاف فيه, الذي حُفظ بعناية ربانية بدون أن يقع فيه أي نقصان أو زيادة في أدنى حرف منه كما يحاول علماء المسلمين أن يجعلونا نعتقد. لم يكن هذا المصحف إلا واحدا من بين عدد من المصاحف جُمعت بشكل مستقل خلال العشرين سنة التي تلت وفاة محمد, مصحف جمعه شخص معين ألا و هو زيد بن ثابت و أصبح النص الوحيد المقبول ليس بأمر إلهي و لكن بأمر دنيوي محض ألا و هو قرار استبدادي صدر عن عثمان بن عفان.
الشعور السائد في الأوساط الإسلامية حول عصمة القرآن قد يكون له وزن ما لو استطاع أحدهم البرهنة على انه لم يكن هنالك إلا نص واحد منذ البداية. الروايات المتوفرة في التراث الإسلامي حول جمع القرآن توضح بجلاء تام وجود عدد مهم من المصاحف كانت منتشرة خلال الجيل الأول الذي تلا وفاة محمد و تبرز كذلك الاختلافات العميقة التي كانت بين هذه المصاحف. توحيد القرآن لم يتم إلا بعد 20 سنت من وفاة محمد و بقرار أحادي الجانب أصدره عثمان بن عفان. المصحف الذي هم معروف حاليا عند جميع المسلمين ليس مصحف محمد بل هو مصحف زيد بت ثابت الذي فُرض قوة على حساب المصاحف الأخرى التي لم تكن تنقصه مشروعية و موثوقية. هذه المصاحف تمت تنحيتها بإحراقها.
(1)
سورة الخلغ : "اللهم إنا نستعينك و نستغفرك و نثني عليك و لا نكفرك و نخلع و نترك من يفجرك"
    سورة الحفد : " اللهم إنا نعبد و لك نصلي و نسجد و إليك نسعى و نحفد, نرجو رحمتك و نخشى عذابك إن عذابك بال كفار ملحق"