شبهات وهمية حول إنجيل متى
قال المعترض: »كُتب إنجيل متى باللغة العبرانية، وفُقد بسبب تحريف الفرق المسيحية. والموجود الآن ترجمته، ولا نعلم اسم مترجمه«.
وللرد نقول: ليس هناك ما يعيب إنجيل متى لو أنه كُتب أولاً بالعبرية ثم تُرجم لليونانية، فالكتب المقدسة الموحى بها من الله لا تضيع معانيها ولا طلاوتها إذا تُرجمت إلى اللغات الأخرى. ولو سلّمنا جدلاً أن هذا الإنجيل كُتب باللغة العبرية لقلنا إن الرسول كتبه باللغة اليونانية أيضاً، فكان موجوداً باللغتين اليونانية والعبرية معاً.
والأغلب أن فكرة كتابة متى لإنجيله باللغة العبرية جاءت نتيجة ما اقتبسه المؤرخ يوسابيوس عن بابياس أسقف هيرابوليس سنة 116م قال: »كتب متى إنجيله باللغة العبرية، وكان إنجيل متى متداولاً بين الناس باللغة اليونانية«.
ولكننا نعتقد أنه كُتب باللغة اليونانية للأسباب التالية:
(1) لأنها اللغة المتداولة والمعروفة في عصر المسيح ورسله. ولما كانت غاية الله إعلان مشيئته، أوحى بها باللغة المتداولة. وقد كتب جميع الرسل الأناجيل والرسائل باللغة اليونانية.
(2) كان متى يعرف اليونانية، فقد شغل وظيفة عشار قبل اتِّباعه للمسيح، وما كان يمكن أن يؤدي واجبات وظيفته لدى الرومان بدون معرفتها.
(3) من يتتبَّع العبارات التي استشهد بها متى مِنْ كتب العهد القديم يجدها مأخوذة من الترجمة السبعينية (وهي الترجمة من العبرية إلى اليونانية)، وفيها اختلاف في اللفظ (لا في المعنى) عن الأصل العبري. فلو كان متّى كتَب أصلاً باللغة العبرية لَجاَءَت الآيات الواردة فيه كما جاءت حرفياً في التوراة العبرية.
(4) يوجد توافق في كثير من عبارات إنجيل متى وعبارات باقي الأناجيل. ولو جاء بغير هذه اللغة لما وُجد هذا التوافق.
(5) قال إيريناوس (سنة 178م) إن متى نشر إنجيلاً بين العبرانيين بلغتهم، مما يعني أنه زيادة على إنجيله باللغة اليونانية، نشره بالعبرية لفائدة الناطقين بها. وقال أوريجانوس (سنة 230م): »بلغني من التقاليد المأثورة عن الأربعة الأناجيل التي تتمسك بها كل الكنائس تحت السماء، أن الإنجيل الأول وحيٌ لمتّى الذي كان عشاراً وبعد ذلك صار رسولاً ليسوع المسيح، الذي نشره للمؤمنين في اليهودية بأحرف عبرية«. فهذه الشهادة تدل على أن إنجيله كان باللغة اليونانية لفائدة جميع المسيحيين، ثم نشره بالعبرية لفائدة اليهود.
قال المعترض: »لا يوجد سندٌ متَّصل لإنجيل متى«.
وللرد نقول: أشار برنابا (الذي كان رفيقاً لبولس) إلى إنجيل متى في رسالته سبع مرات، واستشهد به أغناطيوس سنة 107م في رسائله سبع مرات، فذكر حَبَل العذراء مريم، وظهور النجم الذي أعلن تجسُّد المسيح. وكان إغناطيوس معاصراً للرسل، وعاش بعد يوحنا الرسول نحو سبع سنين، فشهادته من أقوى البيانات على صحة إنجيل متى. واستشهد بوليكاربوس (تلميذ يوحنا الرسول) بهذا الإنجيل في رسالته خمس مرات، وكان هذا الإنجيل منتشراً في زمن بابياس (أسقف هيرابوليس) الذي شاهد يوحنا الرسول. كما شهد كثير من العلماء المسيحيين الذين نبغوا في القرن الأول بأن هذا الإنجيل هو لمتى، واستشهدوا بأقواله الإلهية.
وفي القرن الثاني ألّف تتيانوس كتاب »اتفاق الأناجيل الأربعة« وتكلم عنه هيجسيبوس (من علماء المسيحية النابغين في سنة 173م)، وكتب تاريخاً عن الكنيسة ذكر فيه ما فعله هيرودس حسب ما ورد في إنجيل متى، وكثيراً ما استشهد به جستن الشهيد (الذي نبغ في سنة 140م)، وذكر في مؤلفاته الآيات التي استشهد بها متى من نبوات إشعياء وميخا وإرميا. وقِسْ على ذلك مؤلفات إيريناوس وأثيناغورس وثاوفيلس الأنطاكي وأكليمندس الإسكندري الذي نبغ في سنة 164م وغيرهم.
وفي القرن الثالث تكلم عليه ترتليان وأمونيوس مؤلف »اتفاق البشيرين« ويوليوس وأوريجانوس واستشهدوا بأقواله.. وفي القرن الرابع اشتبه فستوس في نسبة هذا الإنجيل لمتَّى بسبب القول: »وفيما يسوع مجتاز من هناك رأى إنساناً عند مكان الجباية اسمه متى، فقال له: اتبعني. فقام وتبعه« (متى 9:9). فقال فستوس: »كان يجب أن يكون الكلام بصيغة المتكلم«. ونسي أن هذه الطريقة كانت جارية عند القدماء. فموسى كان يتكلم عن نفسه بصيغة الغائب، وكذا المسيح ورسله، وزينوفون وقيصر ويوسيفوس في مؤلفاتهم، ولم يشكّ أحدٌ في أن هذه الكتب هي كتبهم. وفي القرن الرابع زاد هذا الإنجيل انتشاراً في أنحاء الدنيا.
قال المعترض: »قال نورتون إن الأصحاحين 1 و2 من إنجيل متى ليسا منه«
وللرد نقول: أنكر الذين لا يؤمنون أن المسيح وُلد من مريم العذراء بطريقة معجزية هذين الأصحاحين، لأنهما يشتملان على نسَب المسيح حسب الجسد، واتخاذه الجسد من مريم العذراء بطريقة معجزية. وإليك الأدلة التي تبرهن ارتباط الأصحاحين الأوَّلين من متى بباقي الإنجيل:
(1) يدل أول أصحاح 3 على أنه ليس بدء كلام، بل هو متصل بكلام سابق. كما أن متى استشهد في أصحاحي 1و 2 بالنبوات، وهو أسلوبه المعهود. فإذا قيل إن إنجيله خالٍ من نسَب المسيح كان ذلك نقصاً، لأنه كتب للمسيحيين من أصل يهودي، وكلام الله منزّه عن النقص.
(2) جاء أصحاحا 1 و2 في جميع النسخ القديمة بدون استثناء.
(3) تكلم علماء الدين الأقدمون عن هذين الأصحاحين، فتكلم أكليمندس الإسكندري (سنة 194م) عن نسَب المسيح المذكور في متى 1 ولوقا 3. واقتبس هيجسيبوس (سنة 173م) عبارة من يوسابيوس إن الإمبراطور دومتيان فتش عن ذرية داود، فأُحضر أمامه اثنان منهم. ثم قال المؤرخ: »لأنه (دومتيان) خاف من مجيء المسيح كما خاف هيرودس قبله«. وهذا ما جاء في متى 2. وذكر يوستين الشهيد (سنة 140م) كل الحوادث المذكورة في هذين الأصحاحين، بل ذكر ذات عبارات البشير. وقال إغناطيوس (سنة 107م) في رسالته إلى أهل أفسس: »وُلد المسيح بمعجزة من مريم العذراء«. وذكر ظهور النجم الذي دلَّ على مولده. ولا يخفى أن إغناطيوس تُوفي بعد البشير يوحنا بست سنين، فشهادته لها منزلة رفيعة عند العلماء. وهناك شهادات إيريناوس وباقي الآباء الذين أتوا بعد ذلك. كما أن هناك شهادات أعداء المسيحية، ومنهم الإمبراطور يوليان الذي كان في منتصف القرن الرابع، وبوقيري الذي كان في القرن الثالث. ومع أن مؤلفاتهم فُقدت، إلا أن أئمة الدين المسيحي ذكروا اعتراضاتهم في أثناء الرد عليها، وأشاروا إلى ميلاد المسيح كما هو مذكور في متى 1 و2، وبرهنوا صحة كل حادثة ذُكرت في هذين الأصحاحين.
شبهات وهمية على سلسلة نسب المسيح
متى 1:1-17
قبل أن نورد سلسلة اعتراضات المعترضين على سلسلة نسب المسيح، نقدم الملاحظات العامة التالية:
أولاً: انظر تعليقنا على لوقا 3:23-38
(1) كان اليهود مولعين بسلسلة أنسابهم ولعاً كبيراً، ليثبتوا أنهم من شعب الله المختار، فيكون لهم الحق في وراثة الأرض. وكان لا بد للكاهن أن يبرهن أنه من سبط لاوي قبل أن يتولى وظيفة الكهنوت. وبلغ من شدة تدقيقهم أنهم احتفظوا بسلسلة كاملة مكتوبة لأنسابهم، ورفضوا كل من لم يجدوا اسمه مكتوباً فيها (عزرا 2:62). ومن هذا يتضح أنه لو كان هناك أي خطأ في سلسلة نسب المسيح كما ذكرها متى ولوقا، لهاجمها اليهود منذ القرن المسيحي الأول، لأن المسيحيين لم يكتفوا بأن ينسبوا للمسيح كهنوتاً، ولا منحوه أرضاً، لكنهم قالوا إنه المسيح مخلِّص العالم المنتظَر. ولو كان هناك أي خطأ في سلسلة نسب المسيح لهبَّ اليهود لكشفه فوراً. وهذه النقطة من أقوى البراهين على أن سلسلة نسب المسيح في متى ولوقا، كما هي عندنا، صحيحة تماماً. فالصَّمت عن المهاجمة دليل الصحّة.
(2) هناك حقيقة تحيّر القارئ اليوم، ولكنها كانت عادية للغاية عند اليهود، وهي أن الشخص الواحد كان يمكن أن يحمل اسم أبوين، وينتمي إلى سبطين، أحدهما بالميلاد الطبيعي، والثاني بالمصاهرة. فقد كان اليهود أحياناً ينسبون الرجل لوالد زوجته. ونجد هذا في أماكن كثيرة في العهد القديم، فيقول: »ومن بني الكهنة، بنو حبايا، بنو هقّوص، بنو برزلاي الذي أخذ امرأة من بنات برزلاّي الجلعادي، وتسمَّى باسمهم« (عزرا 2:61 قارن نحميا 7:63). وحدث الأمر نفسه مع يائير بن حصرون الذي تزوج من ابنة ماكير أحد رؤساء منسّى، فسمُّوه يائير بن منسّى (1أخبار 2:21 و22 و7:14 قارن العدد 32:40). وقارئ اليوم يتحيَّر في ذلك، ولكن قارئ التوراة من اليهود لم يكن يجد في ذلك ما يحيّر، لأنه يعرف عادات قومه. وعلى المعترض اليوم أن يدرس ويتروَّى قبل أن يهاجم ويعترض.
(3) رجع البشير متى بتسلسل المسيح إلى يوسف بن يعقوب، وقسم سلسلة النسب إلى ثلاثة أقسام، يحتوي كل قسم منها على 14 اسماً. والأقسام الثلاثة هي للآباء، ثم الملوك، ثم نسل الملوك. واعتبر البشير متى أن داود واحد من الآباء، كما اعتبره واحداً من الملوك. ونسَبَ متى المسيح إلى إبراهيم، لأنه كتب إنجيله لليهود.
أما البشير لوقا فقد رجع بتسلسل المسيح إلى العذراء مريم، وقال إن يوسف هو ابن هالي، والد مريم (لوقا 3:23). فأطلق على يوسف اسم والد زوجته. ونسَبَ لوقا المسيح إلى آدم، فالله. وقال لوقا إن المسيح على »ما كان يُظنّ« ابن يوسف خطيب مريم العذراء.
(4) لم تكن هناك مشكلة بالمرة للمؤرخ اليهودي أن يُسقط بعض الأسماء من سلسلة النسب، دون أن يمسّ الإغفال تسلسُل النسَب. لذلك أسقط متى أسماء ثلاثة ملوك من سلسلة نسبه، بين يورام وعزيا، هم أخزيا ويوآش وأمصيا، وهكذا فعل عزرا في سفره (عزرا 7:1-5). .
(5) سلسلة النسَب كما نراها في متى ولوقا تخدم الهدف الذي لأجله كُتب الإنجيلان، فهي ترينا أن المسيح هو نسل المرأة، الموعود به في تكوين 3:15، وهو يحوي أسماء: ثامار الفلسطينية، وراحاب الأمورية، وراعوث الموآبية، ومريم العذراء اليهودية. فالمسيح »ابن الإنسان« و»نسل المرأة« ينتمي للبشر جميعاً، وهو مخلّص الجميع. ومن جدود المسيح ملوكٌ ورعاة غنم وساكنو خيام، فهو »ابن آدم« الذي يريد الجميع يخلُصون وإلى معرفة الحق يُقبِلون.
قال المعترض: »ورد في متى 1:11 »ويوشيا ولد يكنيا وإخوته عند سبي بابل«. في هذه الآية ثلاث مشاكل: (1) لم يكن يوشيا أب يكنيا، بل كان جدّه (كما في 1أخبار 3:15 و16) وأولاد يوشيا هم يوحنان ويهوياقيم وصدقيا وشلوم، وابنا يهوياقيم يكنيا وصدقيا. (2) لم يكن ليكنيا إخوة، أو بالحري لم تُذكر له إخوة. (3) مات يوشيا قبل سبي بابل بعشرين سنة، فلا يمكن أن يكون يكنيا وإخوته قد وُلدوا عند سبي بابل«.
وللرد نقول: تزول كل هذه المشاكل بالقراءة التي وُجدت في نُسخ كثيرة بخط اليد، وهي قراءة باللغة اليونانية تقول: »ويوشيا ولد يهوياقيم (أو يواقيم). ويواقيم ولد يكنيا (انظر قراءات كريسباغ)، فإن يوشيا كان أبا يهوياقيم (الذي يُسمَّى أيضاً ألياقيم ويواقيم). وإخوته يوحانان وصدقيا وشلوم (1أخبار 3:15). ويواقيم كان أبا يكنيا عند سبي بابل الأول، لأن بني إسرائيل سُبُوا ثلاث مرات إلى بابل: أول سبي في السنة الرابعة من حكم يواقيم بن يوشيا في سنة 589 ق.م عندما استولى نبوخذنصر على أورشليم وسبى كثيرين وأتى بهم إلى بابل. وحدث السبي الثاني في عهد يكنيا بن يواقيم، فانه بعد أن حكم ثلاثة أشهر سُبي سنة 579 وحُمل إلى بابل مع كثير من وجهاء إسرائيل. وحدث السبي الثالث في حكم صدقيا سنة 586 ق.م. ولهذا يجب قراءة الآية 11 هكذا: »يوشيا ولد يواقيم وإخوته، ويواقيم ولد يكنيا عند سبي بابل الأول، ويكنيا ولد شألتئيل بعد سبي بابل«. والقرينة الدالة على صحة القراءة المتقدمة المذكورة قول متى »14 جيلاً«. فإنه لا يصح أن يذكر 41 جيلاً ويقول إنها 42. وهاك جدولاً ببيان الأربعة عشر جيلاً أو الاثنين والأربعين جيلاً :
1 إبراهيم 1 سليمان 1 يكنيا
2 إسحاق 2 رحبعام 2 شألتئيل
3 يعقوب 3 أبيا 3 زربابل
4 يهوذا 4 آسا 4 أبيهود
5 فارص 5 يهوشافاط 5 ألياقيم
6 حصرون 6 يورام 6 عازور
7 أرام 7 عزيا 7 صادوق
8 عميناداب 8 يوثام 8 أخيم
9 نحشون 9 آحاز 9 ألود
10 سلمون 10 حزقيا 10 أليعازر
11 بوعز 11 منسى 11 متّان
12 عوبيد 12 أمون 12 يعقوب
13 يسى 13 يوشيا 13 يوسف
14 داود 14 يواقيم 14 يسوع
ولعل القارئ الكريم يرى أن استشكال المعنى على المعترض سببه التقديم والتأخير.
ويمكن أن نقول إن البشير متى حذف يهوياقيم لأنه كان آلة في يد ملك مصر (كما في 2أخبار 36:4) ولأنه مثل يوآش لم يُدفَن في قبور الملوك بل سُحِب كحمار وطُرح بعيداً عن أسوار أورشليم (إرميا 22:19 و36:30). ويجوز أن نقول إن يوشيا ولد يكنيا لأنه جدُّه.
قال المعترض: »الزمان من يهوذا إلى سلمون قريب من 300 سنة، ومن سلمون إلى داود 400 سنة. وكتب متى في الزمان الأول سبعة أجيال، وفي الزمان الثاني خمسة أجيال. وهذا غلط بداهة، لأن أعمار الذين كانوا في الزمان الأول كانت أطول من أعمار الذين كانوا في الزمان الثاني«.
وللرد نقول: تواريخ الدول والأمم تكذِّب دعوى المعترض، فقد وضع قانوناً يخالف الحقيقة والواقع، وعليه أن يعرف أن أعمار الناس بعد الطوفان هي مثل أعمارهم الآن، بل ربما كانت أعمارهم الآن أطول بالنسبة إلى تقدم العلوم الطبية.
قال المعترض: »الأجيال في القسم الثاني من الأقسام الثلاثة التي ذكرها متى هي 18 لا 14 ، كما يظهر من 1أخبار 3. وورد في متى 1:8 أن يورام ولد عزيا، فإن عزيا ليس ابن يورام، ولكنه ابن أخزيا بن يوآش بن أمصيا، والثلاثة كانوا من الملوك المشهورين وأحوالهم مذكورة في 2ملوك 8 و12 و14، 2أخبار 22 و24 و25، ولا سبب لإسقاط هذه الأجيال سوى الخطأ«.
وللرد نقول: (1) يجوز أن البشير اختصر في الأنساب لتكون أعلق بالأذهان، كما أسقط عزرا الكاتب ستة أجيال وهو يسرد نسَب نفسه ليبرهن على أنه من نسل هارون (عزرا 7:1-5 بالمقارنة مع 1أخبار 6:3-15)، لأنه قصد أن يختصر ويسرع في الوصول إلى المطلوب.
(2) يجوز أنه لم يذكرهم لأن يوآش كان شريراً ولم يُدفن في قبور الملوك (2أخبار 24:25)، ومات الاثنان الآخران مقتولين. هذا مع ملاحظة خطية جدّهم يورام لأنه أنجبهم من عائلة أخآب الوثنية.
ويتضح من كل ما تقدم أن حذف أسماء الملوك الثلاثة يتناسب مع قداسة الله وحكمته الفائقة. فعلينا أن نبحث في الأشياء التي نجهلها بالتواضع، ولا نتكبر ونكذّب الوحي الإلهي، ونسدّ آذاننا عن سماع الحق.
قال المعترض: »ورد في متى 1:12 أن زربابل ابن شألتئيل. فهذا خطأ، لأنه ابن فدايا، وابن أخ شألتئيل، كما جاء في 1أخبار 3:17 و19«.
وللرد نقول: ورد في عزرا 3:2 و5:2 ونحميا 12:1 وحجي 1:1 أن زربابل هو ابن شألتئيل. وكذلك قال يوسيفوس. ولا تناقض بين هذا وما جاء في 1أخبار 3:19 من أن زربابل هو ابن فدايا لأن اليهود كانوا ينسبون الحفيد إلى جدّه، كما ورد في تكوين 29:25 أن لابان هو ابن ناحور، مع أنه ابن بتوئيل بن ناحور (تكوين 24:47).
فإذا فُهم من 1أخبار 3:17 و19 أن شألتئيل وفدايا أخوان، فيكون زربابل حسب الشريعة اللاوية ابن أحدهما الطبيعي، وابن الآخر بالمصاهرة، حسب العادات اليهودية.
قال المعترض: »ورد في متى 1:13 أن أبيهود ابن زربابل، وهو خطأ لأن زربابل كان له خمسة بنين كما في 1أخبار 3:19 ، وليس فيهم أحد يحمل هذا الاسم«.
وللرد نقول: يجوز أن أبيهود كان يحمل أكثر من اسم، لأن اليهود، مثلهم مثل العرب، كانوا يسمّون الشخص بأكثر من اسم. وقد انتشرت هذه العادة بين اليهود بصورة أكبر وقت السبي، بدليل ما ورد في دانيال 1:6 و7. (قارن بين 2صموئيل 3:3 و1أخبار 3:1). وذكر البشير متى النسب من زربابل إلى المسيح من الجداول المحفوظة عند اليهود.
وقد كان اليهود حريصين على حفظ جداول أنسابهم بالدقة الكبرى لأن مصلحتهم كانت تستلزم ذلك. وكانت السجلات محفوظة في أورشليم. وكان الكهنة بعد كل حرب يجدّدون جداول أنسابهم ليحققوا مَن مِن نساء الكهنة سُبيت، ومَن منهنَّ لا تليق أن تكون زوجة للكاهن. وقال يوسيفوس إنه كانت توجد جداول بأنساب اليهود مدة ألفي سنة وحُفظت إلى أن أُخربت مدينة أورشليم، وكان بعض الأمراء في السبي يذكرون أن نسَبهم يتصل إلى داود، وكان البعض يبرهنون على أن نسَبهم يتصل بصموئيل النبي. ويرجع حرص اليهود على حفظ أنسابهم لتباهيهم بأصلهم، وحفظاً لحقوقهم في تقسيم الأراضي، وللمحافظة على وظائفهم. قال يوسيفوس في أوائل تاريخه إنه وجد نسبه في السجلات العمومية المحفوظة عند الأمة اليهودية، فكم بالحري يكون حرص اليهود على المحافظة على السجلات العمومية بحفظ أنساب ملوكهم، وقد كان المسيح من نسل الملوك. فلو خالف البشير متى سجلات اليهود عن ملوكهم لتعرَّضوا له بالرد، ولكن لم يعترض أحد عليه لأنه ذكر الحقائق.
قال المعترض: »جاء في متى 1:16 »يعقوب ولد يوسف رجل مريم، التي وُلد منها يسوع الذي يُدعى المسيح«. ويطلق اسم المسيح على كل حاكم يهودي، صالحاً كان أو فاجراً. ورد في مزمور 18:50 »الصانع رحمةً لمسيحه، لداود ونسله إلى الأبد«. وأطلق مزمور 132:10 لفظة المسيح على داود، وهو من الأنبياء والملوك الصالحين. وورد في 1صموئيل 24:6 قول داود في حق شاول: »حاشا لي من قِبَل الرب أن أعمل هذا الأمر بسيدي بمسيح الرب، فأمدّ يدي إليه، لأنه مسيح الرب هو« وكذلك ورد في 1صموئيل 24:10 وفي 1صموئيل 26 وفي 2صموئيل 1:14. وأُطلقت كلمة »مسيح« في إشعياء 45:1 على الملوك والوثنيين »هكذا يقول الرب لمسيحه« الذي هو كورش الذي أعاد اليهود لبلادهم بعد السبي«.
وللرد نقول: كلمة »المسيح« هي فعيل بمعنى مفعول، يعني ممسوح. وكان الإسرائيليون يمسحون أنبياءهم لتكريسهم وتخصيصهم لعملهم الذي هو دعوة الناس إلى الحق (1ملوك 19:16) فكانوا يُسمُّون مسحاء (1أخبار 16:22 ومزمور 105:15).. وكانوا يمسحون الكهنة من أولاد هارون، بل هارون ذاته (خروج 40:15 وعدد 3:3) ثم اقتصروا على مسح رؤساء الكهنة (خروج 29:29 ولاويين 16:32).. وكانوا يمسحون الملوك لأنهم أولياء الأمور، والملك هو خليفة الله في أرضه، ويُفترض فيه أن يكون صالحاً وعادلاً، لكنه ككل البشر، قد يكون صالحاً وقد يكون شريراً (1صموئيل 9:16 و10:1 و1ملوك 1:34 و39) وقد مُسح داود ملكاً ثلاث مرات، وسُمي كورش الفارسي »مسيح الرب« لأنه أعاد اليهود من السبي.. وكانت أواني الهيكل تُمسح بزيت لتكريسها لخدمة الله (خروج 30:26-28). ومَسَح يعقوب العمود في بيت إيل (تكوين 31:13).
فمن هنا يتضح جواز إطلاق »مسيح الرب« على الملك، لأن الكتاب المقدس يعلّمنا أن تخضع كل نفس للسلاطين الفائقة، لأنه ليس سلطان إلا من الله، حتى أن من يقاوم الملك يقاوم ترتيب الله، والمقاومون سيأخذون لأنفسهم دينونة (انظر رومية 13:1-8).
وقد سُمِّي يسوع بالمسيح لأنه مُسح بالروح القدس (لوقا 4:18 ويوحنا 1:32 و33 وأعمال 4:27 و10:38)، وهو في هذا يتشابه في اللقب مع غيره. غير أنه سُمِّي بالمسيا الموعود به، وهو لقب لا يشاركه فيه أحد من المخلوقات. وللتوضيح نقول إن ألقاب »عظيم وعادل وعالِم« تُطلَق على الله، ويجوز إطلاقها على من اتّصف بصفة العظمة والعدالة والعلِم من المخلوقات. ولكن متى أُطلقت على الله كان لها معنى آخر. فكذلك لقب »المسيح« يجوز إطلاقه على الأنبياء والكهنة والملوك والقضاة، لأنهم مُسحوا بالزيت علامة تكريسهم للخدمة. ولكن متى أُطلقت على المسيح أفادت معنى آخر، هو أنه الكلمة الأزلي الذي تجسَّد ومُسح بالروح القدس، وعمل المعجزات الباهرة، وتألم وصُلب وقُبر، وقام، وصعد إلى السماء. ولا يصحّ إطلاق »المسيح« بهذا المعنى على غيره، لأنه خاص به وحده. واليوم عندما نسمع هذا اللقب ينصرف الذهن إلى هذا الشخص العظيم وحده.
قال المعترض: »ورد في متى 1:17 »فجميع الأجيال من إبراهيم إلى داود 14 جيلاً. ومن سبي بابل إلى المسيح 14 جيلاً«. ويُعلم منها أن بيان نسب المسيح يشتمل على ثلاثة أقسام، كل قسم منها يشتمل على 14 جيلاً، وهو غلط، لأن القسم الأول ينتهي بداود، وإذا كان داود داخلاً في هذا القسم يكون خارجاً من القسم الثاني، ويبدأ القسم الثالث من سليمان، وينتهي بيكنيا. وإذا دخل يكنيا في هذا القسم الثالث كان خارجاً من القسم الثالث. ويبدأ القسم الثالث من شألتئيل وينتهي بالمسيح، وفي هذا القسم لا يوجد إلا 13 جيلاً«.
وللرد نقول: نرجو أن يراجع القارئ تعليقنا على متى 1:11.
قال المعترض: »جاء في متى 1:19 أن يوسف أراد تخلية مريم سراً بسبب حبَلها، حتى كلَّمه الملاك في متى 1:20 مع أن الملاك كان قد أعلن لمريم قبل ذلك أنها ستحبل (لوقا 1:26 و27). فيكون أن هذين النصَّين متناقضان«.
وللرد نقول: النصَّان صحيحان. ظهر الملاك لمريم، ثم ظهر ليوسف. ولم تكن مريم قد أخبرت يوسف بإعلان الملاك لها، لأنها كانت تعلم أن كلماتها وحدها لن تقنع يوسف بأن حَبَلها هو من الروح القدس. ثم أنها كانت تعرف أنها بريئة، وأن الله قد شرَّفها أن تكون أم المخلّص. فلتنتظر حتى تعلن السماء براءتها ليوسف ولغيره.
قال المعترض: »ورد في متى 1:22 و23 »وهذا كله كان لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل: هوذا العذراء تحبل وتلد ابناً، ويدعون اسمه عمانوئيل، الذي تفسيره الله معنا«. وهو مُقتَبس من إشعياء 7:14» يعطيكم السيد نفسه آية: ها العذراء تحبل وتلد ابناً، وتدعو اسمه عمانوئيل«. ويقول علماء اليهود إن المقصود هنا هو النبي إشعياء.. وكلمة »العذراء« التي ترجمها متَّى هي في الأصل العبري »عَلْماه« مؤنث علم، ومعناها »المرأة الشابة، سواء كانت عذراء أو كانت غير عذراء«. وجاءت في سفر الأمثال 30 بمعنى »المرأة الشابة التي تزوجت«. فيكون تفسير متَّى وترجمته لكلمة »علماه« خطأ«.
وللرد نقول: لما كان اليهود غير مؤمنين بأن يسوع ابن مريم هو المسيح المخلِّص الآتي، كلمة الله الأزلي المتجسِّد، حاولوا تفسير نبوَّة إشعياء وغيرها من النبوات لكي لا تصدق عليه، رغم وضوحها.
والادعاء بأن المسيح لم يولد من عذراء يقدِّمه اليهودي، أو الكافر، لأنهما لا يعترفان بولادة المسيح من عذراء. أما من يعتقدون بولادة المسيح من عذراء فيرفضون كلام المعترض. والحقيقة هي أن كلمة »علماه« تعني الشابة المتزوجة حديثاً وتعني أيضاً العذراء التي لم تتزوج. ويقول النص إن الله يعطي شعبه آية هي أن »علماه« تحبل. ولا آية في أن تحبل شابة متزوجة حديثاً، لكن الآية هي أن العذراء تحبل! وهذه هو المقصود من نبوَّة إشعياء.
قال المعترض: »لم يطلق يوسف ومريم على المسيح اسم عمانوئيل، بل سمياه يسوع. وهذا بخلاف قول متى في 1:22 و23. وكان الملاك قد قال ليوسف في الرؤيا: »وتدعو اسمه يسوع« وقال الملاك للعذراء: »ستحبلين وتلدين ابناً وتسمينه يسوع«. ولم يدّع المسيح في أي وقت أن اسمه »عمانوئيل«..
وللرد نقول: معنى الاسم عمانوئيل »الله معنا«. وقال متى البشير، بوحي الروح القدس، إن المراد به هو المسيح، وهو لا شك يدل عليه دلالة المطابقة، لأن اللفظ موافق للمعنى، فقد اتَّخذ الكلمة الأزلي طبيعتنا وصار إنساناً. »في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله ... والكلمة صار جسداً وحلَّ بيننا، ورأينا مجده، مجداً كما لوحيدٍ من الآب، مملوءاً نعمة وحقاً« (يوحنا 1:1 و14). قال الرسول (1تيموثاوس 3:16): »عظيم هو سرّ التقوى: الله ظهر في الجسد«. وقد أعلن المسيح هذا في جميع تعاليمه، فقال في يوحنا 5:17-24 إنه معادل لله في أعماله وقوته وقدرته وذاته، وأوضح أزليته في يوحنا 8:25، وقال إن الآب فيه وهو في الآب (يوحنا 10:38). فالكلمة الأزلي، المسيح، اتخذ الجسد. وبعبارة أخرى إنه »عمانوئيل« أي »الله معنا«.
وقد تنبأ النبي إشعياء بهذه النبوَّة قبل مولد المسيح بنحو 740 سنة. وتوجد نبوات تختص بالمسيح حرفياً، كما توجد حوادث كثيرة تنبئ عن شخصه وعن عمله. فلما سرد متى تاريخ المسيح ذكر تتميم النبوات التي وردت عنه، فذكر أولاً نسبه الشرعي من داود وإبراهيم، ثم ذكر أنه كان لا بد أن يولد من عذراء حسب نبوَّة إشعياء، وفي بيت لحم اليهودية حسب نبوَّة ميخا. ثم استشهد بنبوَّة إرميا القائلة إن راحيل تبكي على أولادها في الرامة، وإنه سيُدعى من مصر حسب نبوَّة هوشع، ويسكن في الناصرة ليتم ما قيل إنه سيُدعى ناصرياً. ولقد أصاب البشير في تطبيق هذه النبوات على المسيح، فإن الروح القدس الذي أوحى بها في العهد القديم، هو الذي أوحى بتفسيرها في العهد الجديد.
قال المعترض: »الذي يقارن متى 2 بلوقا 2 يجد اختلافاً: إذ يقول متى إن أبوي المسيح بعد ولادته كانا يقيمان في بيت لحم، ويُفهم أن هذه الإقامة كانت لمدة تقرب من سنتين، ثم ذهبا إلى مصر وأقاما فيها إلى موت هيرودس، ثم ذهبا وأقاما في الناصرة. ويقول لوقا إن أبوي المسيح ذهبا إلى أورشليم بعد تمام مدة نفاس مريم، ولما قدَّما الذبيحة رجعا إلي الناصرة وأقاما فيها، وكانا يذهبان منها إلى أورشليم في أيام العيد. ولما كان عمر المسيح 12 سنة أقام ثلاثة أيام في أورشليم بدون إطلاع أبويه. وعليه فلا سبيل لمجيء المجوس إلى بيت لحم. ولو أنهم جاءوا فسيجيئون للناصرة. وكذا لا سبيل إلى سفر أبويه إلى مصر، لأن يوسف لم يسافر من أرض اليهودية إلى مصر ولا إلى غيرها«.
وللرد نقول: (1) التناقض هو اختلاف قضيتين، بحيث يقتضي صدق إحداهما كذب الأخرى، كقولنا »زيد إنسان« ثم قولنا »زيد ليس إنساناً«. أما ما ذكره المعترض فلا اختلاف ولا تناقض بين قول البشيرين متى ولوقا. فعدم ذِكْر لوقا سَفَر يوسف إلى مصر لا يدل على أنه لم يسافر إليها. غاية الأمر أنه اقتصر على ذكر شيء دون آخر. ويتحقق التناقض إذا قال أحد البشيرين إن المسيح سافر إلى مصر وقال الآخر إنه لم يسافر إليها. ولو اتفق البشيران في الكليات والجزئيات لاتّهمهما الملحدون بالتواطؤ، ولكن تنوُّع طريقة كل واحد في التعبير عن الحوادث التي شاهدها تدل على صدقهم.
وإليك ترتيب حوادث ولادة المسيح: (أ) سفر يوسف ومريم من الناصرة إلى بيت لحم، (ب) ولادة يسوع، (ج) تقديمه في الهيكل، (د) زيارة المجوس، (هـ) الهروب إلى مصر، (و) ثم عودتهم إلى الناصرة وإقامتهم فيها.
(2) لو كان الكاتب واحداً وحصل منه اختلاف في سرد القصة بتقديم أو تأخير أو حذف أو زيادة، لكان يُؤاخذ على عمله، ونتَّهمه بالتحريف والتناقض. وكتاب الله منزّه عن ذلك. أما ونحن نقرأ ذات القصة يرويها متى ولوقا، فإننا نتوقع أن نجدها كما جاءت في الإنجيل. وهذا دليل صدقها. فالذي يطالع متى 2 ولوقا 2 يرى الفحوى واحداً. فإذا رأى اثنان من الأنبياء شيئاً واحداً، لابد أن يحدث تنوّع في طرق التعبير. كما أنه إذا ذكر مؤرخان أو أكثر بعض الوقائع أو الحوادث حصل تنوُّع من نقص أو زيادة، أو تقديم أو تأخير أو إسهاب أو إيجاز. والذي نعتقده أن الله ألهم الرسل تدوين أقوال المسيح وأعماله وعصمهم عن الخطأ، وكان الواحد منهم بمنزلة قلم في يد الروح القدس، ولو أن الروح القدس لم يبتلع شخصيتهما.
قال المعترض: »يُعلم من كلام متى أن سكان أورشليم وهيرودس لم يعرفوا بولادة المسيح قبل مجيء المجوس. ويُعلم من كلام لوقا أنه لما ذهب والدا المسيح إلى أورشليم بعد التطهير لتقديم الذبيحة، أُوحي إلى الرجل التقي سمعان أنه لا يرى الموت قبل أن يرى مسيح الرب، فأتى مقوداً بالروح القدس إلى الهيكل وحمل الصبي وقال: »أطلِق عبدك بسلام لأن عينيّ أبصرتا خلاصك، نور إعلان للأمم ومجداً لشعبك إسرائيل«. وحنة النبية التقية وقفت تسبِّح الرب وتكلمت مع جميع المنتظرين فداءً في أورشليم. فلو كان هيرودس وسكان أورشليم معاندين للمسيح لما أخبر سمعان وحنة النبية بهذا الخبر«.
وللرد نقول: قال متى إنه لما أتى المجوس إلى أورشليم استفهموا عن ملك اليهود الذي وُلد حديثاً، فلما سمع هيرودس اضطرب وجميع أورشليم معه، وهو أمر طبيعي لأنه خاف على ضياع ملكه. فقول المعترض إنه لا يصح أن يكون هو ورجال دولته وأعيان مملكته معاندين هو خلاف المعهود في طباع البشر. فلا عجب إذا فزع لأنه ظن أن المسيح أتى ليأخذ مملكته. وأما النبي التقي سمعان فقد أوحى إليه الله عن ميلاد المسيح، وكذلك أوحى لحنَّة النبية. ولم يذكر الإنجيل أن حنة أشاعت هذا الخبر، بل قال إنها وقفت تسبِّح الله، وتكلَّمت مع الأتقياء المنتظرين فداءً في أورشليم. وهو لا يستلزم أن الملك سمع بهذا الخبر.
فإذا قصد المعترض أن الله أوحى إلى الملك وجميع أورشليم كذلك، لزم أن يكون جميع الناس أنبياء، وهو غير معقول. ولو سلّمنا له بأن خبر افتقاد الله لشعبه شاع في الهيكل، فلا يلزم من هذا أن الملك ورجال دولته كانوا عارفين به. ولو عرفوا به لما التفتوا إليه، لأنه كان أمراً دينياً لا يهم أرباب السياسة. ولكن لما أتى المجوس وقالوا إنه وُلد ملك، اضطرب هيرودس وجزع.
قال المعترض: »وردت في متى 2:1-10 قصة مجيء المجوس إلى أورشليم يرشدهم نجم المسيح في المشرق، حتى جاء ووقف فوق الصبي. وهذا غلط، لأن حركات السبع السيارة، وكذا الحركة الصادقة لبعض ذوات الأذناب هي من المغرب إلى المشرق، فعلى هاتين الصورتين يظهر كذبها، لأن بيت لحم تقع جنوب أورشليم. نعم إن دائرة حركة بعض ذوات الأذناب تميل من الشمال إلى الجنوب ميلاً ما، لكن هذه الحركة أبطأ من حركة الأرض، فلا يمكن أن تُحَسَّ إلا بعد مدة، وفي المسافة القليلة لا تحس بالقدر المعتدّ به، بل مَشْي الإنسان يكون أسرع كثيراً من حركته. فلا مجال لهذا الاحتمال. ولأنه خلاف علم الضوء أن يرى وقوف الكوكب أولاً ثم يقف المتحرك، بل يقف المتحرك أولا ثم يُرى وقوفه«.
وللرد نقول: بما أن الإنجيل قال إن المجوس جاءوا من المشرق، فلا تكون أورشليم شمالهم ولا جنوبهم.
ثم أن هؤلاء المجوس كانوا حكماء يرصدون النجوم والكواكب، وكان اليهود يعتقدون بوجود أنبياء في مملكة سبا، من ذرية إبراهيم من زوجته قطورة، وقيل إن أصلهم من اليهود، وقيل غير ذلك. وقد كان بلعام من جبال المشرق (عدد 22:5 و23:7). فظهور أمثال المجوس من المشرق ليس بأمر غريب، وقد أقام الله كورش وأثنى عليه (إشعياء 41:2 و46:11).
أما قوله »نجمه« فليس معناه الكواكب السيارة كما توهَّم المعترض، بل هي حادثة جوية ذات أنوار ساطعة. فإذا ثبت أن المجوس كانوا من اليهود المغتربين في الشتات، فلابد أنهم عرفوا بعض النبوات المختصة بالمسيح، ولا بدّ أنهم اعتقدوا أن هذا الحادث الفلكي هو الكوكب الذي ذكره بلعام في سفر العدد 24:17. وإذا كانوا من غير اليهود، فلا بدّ أنهم عرفوا من اليهود وقت الشتات، شيئاً عن الفادي المنتظر، فإن اليهود كانوا يعرفون قرب مجيء المسيح (دانيال 9:25-27) وكانوا يعتقدون أنه سيجيء ملكاً ينقذهم من عبودية الرومان. فلا عجب إذا انتشر هذا في كثير من الممالك، ولا سيما أن كثيرين من اليهود كانوا ساكنين في مصر وروما واليونان، وتوجّه كثير منهم إلى بلاد الشرق، وكانوا يحملون كتبهم المقدسة معهم حيثما توجَّهوا. وقال سويتون (أحد مؤرخي روما): »كان من المقرر في أذهان سكان الشرق أنه لابدّ من ظهور واحد من اليهودية تكون مملكته عمومية، وأن ذلك كان قَدَراً مقضياً به«. وقال تاسيتوس (وهو من مؤرخي روما أيضاً): »وكان كثيرون يعتقدون أنه ورد في كتب كهنتهم القديمة أنه سينتصر الشرق، ويخرج واحد من اليهودية ويملك الدنيا«. وذكر يوسيفوس وفيلو (وهما من مؤرخي اليهود) أن الناس كانوا ينتظرون مجيء منقذ عظيم وملك كريم. وذُكر في كتب الفرس عن زرادشت أنه سيأتي ثلاثة منقذين، اثنان من الأنبياء، أما الثالث وهو زفس، فهو أعظم من الاثنين، ويهزم أهريمان، ويقيم الموتى. فلذلك أتى المجوس إلى أورشليم، وبالاستفهام من أئمة الدين استدلوا أنه يولد في بيت لحم اليهودية، فتوجَّهوا إليها وقدموا له الهدايا التي لا تليق إلا بالملوك (تكوين 43:11 ومزمور 72:15 و 1ملوك 10:2 و11).
وقال الفلكي كبلر إنه في ذلك الوقت حصل اقتران بين المشترى وزُحل، وحصلت حادثة فلكية. ثم أيَّد ذلك العلامة أدلر من علماء برلين. وقد كشفت الدراسات الفلكية الحديثة خطأ المعترض.
قال المعترض: »متى 2:6 تخالف ميخا 5:2. تقول آية إنجيل متى إن رؤساء اليهود قالوا إن المسيح يولد في بيت لحم اليهودية، واستشهدوا بأقوال النبوَّة: »وأنت يا بيت لحم أرض يهوذا لَسْتِ الصغرى بين رؤساء يهوذا، لأن منك يخرج مدبر يرعى شعبي إسرائيل«. ويقول ميخا: »أما أنت يا بيت لحم أفراتة، وأنت صغيرة أن تكوني بين ألوف يهوذا، فمنك يخرج لي الذي يكون متسلّطاً على إسرائيل، ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل«.
وللرد نقول: بيت لحم يهوذا هي نفسها بيت لحم اليهودية (متى 2:1) والتي تقع في نصيب سبط يهوذا فسُمِّيت »بيت لحم يهوذا« ، وتحمل أيضاً اسم »بيت لحم أفراتة«. وقد استخدم متى الاسم الأكثر شهرة في زمنه ليسهِّل على قارئه فهم نبوة ميخا.
قال المعترض: »جاء في متى 2:15 إن لجوء المسيح إلى مصر هروباً من تهديد هيرودس كان تحقيقاً لنبوَّة هوشع 11:1 »مِن مصر دعوتُ ابني«. ولكن هذه النبوَّة تعود على بني إسرائيل، لا على المسيح«.
وللرد نقول: اعتبر الله بني إسرائيل ابنه، فقد أمر موسى أن يقول لفرعون: »إسرائيل ابني البكر.. أَطلِق ابني ليعبدني، فأبيتَ أن تطلقه. ها أنا أقتل ابنك البكر« (خروج 4:22 و23). وقد جاءت نبوة هوشع أولاً إشارة إلى بني إسرائيل، وثانياً إشارة رمزية للمسيح ابن الله.
قال المعترض: »ورد في متى 2:17 و18 »حينئذ تمّ ما قيل في إرميا النبي القائل: صوتٌ سُمع في الرامة، نوحٌ وبكاءٌ وعويلٌ كثير. راحيل تبكي على أولادها ولا تريد أن تتعزى لأنهم ليسوا بموجودين«. وهذا تحريف من الإنجيل، لأن هذا الاقتباس من إرميا 31:15. ومَنْ طالع الآيات التي قبله وبعده في نبوَّة إرميا يرى أنه لا يتحدث عن حادثة هيرودس، بل عن حادثة بختنصر التي وقعت في عهد إرميا، عندما قُتل ألوف من بني إسرائيل، وأُسر ألوف منهم، وسُبُوا إلى بابل. ولما كان فيهم كثير من آل راحيل تألمت روحها في عالم البرزخ، فوعد الله أن يُرجع أولادها من أرض العدو إلى تخومهم«.
وللرد نقول: عبّر البشير متى عن قتل الأطفال في بيت لحم بأقوال إرميا النبي، وكان قصد إرميا النبي في الأصل أن يُعرِب عن التوجّع لما حصل لبني إسرائيل من القتل والسبي، فإنه لما استولى نبوخذنصَّر على أورشليم قتل وجهاءها وأعيانها، وقلع عين ملكها بعد أن قتل ابنيه أمامه، وجمع الأسرى في الرامة ومنهم إرميا النبي. وكان الجميع مكبّلين بالأغلال والسلاسل. ولما سُبُوا من الأوطان وكانوا مزمعين على السفر الأليم، أخذ النبي يعبِّر عن حزنه على هذه الحالة، ويبكي ويستبكي. ولا شك أن قول النبي إرميا تحقق وتمّ في هذه الحادثة المحزنة أيضاً. ولا يخفى أن راحيل كانت قد ماتت قبل السبي بمئات السنين، فكان من البلاغة أن ينسِبَ النبي إليها البكاء والنحيب على أولادها وقت السبي، كما نسَب إليها البشير متى البكاء على أولادها وقت حادثة بيت لحم، فإن ذبح أطفال بيت لحم هو بمنزلة ذبح أولادها، لأنها مدفونة هناك (تكوين 35:19)، كما أن سكان بيت لحم من ذرية زوجها وأختها، فهم بمنزلة أولادها. وعبارة متى تقول: »راحيل تبكي على أولادها« وهي جملة خبرية لفظاً، أُريد بها إنشاء التحسُّر على ذبح الأطفال. وهذا معهود في اللغة العربية وغيرها، فيجوز للإنسان أن يندب بهذه الصورة، حتى يدعو الشاعر الشجر للبكاء:
أيا شجر الخابور ما لك مورقاً كأنك لم تجزع على ابن طريق؟
فكيف لا يجوز نداء الأم لتبكي على أولادها؟
أما قول المعترض إن الأموات يعرفون حال أهلهم وهم في عالم البرزخ فباطل، لأن المسيحية لا تؤمن بوجود برزخ.
قال المعترض: »جاء في متى 2:19 أن هيرودس الملك مات لما كان المسيح طفلاً في مصر، بينما يؤكد لوقا 23:8 أن هيرودس كان حيّاً بعد ذلك بأكثر من 30 سنة، وأن المسيح مثُل أمامه للمحاكمة. فكيف تنكرون هذا التناقض؟«.
وللرد نقول: لو رجع المعترض إلى لوقا 3:1 لاستراح من الاعتراض! فإن هيرودس الذي مات أثناء طفولة المسيح هو هيرودس الكبير، الذي حكم فلسطين بتفويض من الرومان. ولما مات انقسمت مملكته إلى أربعة أقسام، فحكم ابنه هيرودس أنتيباس على الجليل (لوقا 3:1) وهو المعروف برئيس الرُّبع (متى 14:1). وهذا هو هيرودس الذي حاكم المسيح (لوقا 23:6 و7 - قارن لوقا 3:1). وهو نفسه هيرودس الذي يتحدث عنه سفر الأعمال 4:27.. ولكن هناك هيرودس آخر، هو هيرودس أغريباس المذكور في أعمال 12 و23، ذكره المؤرخان يوسيفوس اليهودي وتاسيتوس الروماني. ولا يصعب على المعترض أن يدرك أن عدة أشخاص يمكن أن يحملوا نفس الاسم، خصوصاً وأن الحفيد يحمل اسم جده.
قال المعترض: »ورد في إنجيل متى 2:23 أن المسيح أتى وسكن في الناصرة، لكي يتم ما قيل بالأنبياء إنه سيُدعَى ناصرياً . وهذا غلط، ولا يوجد في كتاب من كتب الأنبياء. وينكر اليهود هذا الخبر أشد الإنكار، ويعتقدون أنه لم يقم نبي من الجليل فضلاً عن عدم قيامه من الناصرة كما في يوحنا 7:52. وقال الكاثوليك إن اليهود ضيَّعوا هذه الكتب قصداً، وقال فم الذهب إن اليهود ضيَّعوا كتباً من غفلتهم ولعدم ديانتهم ومزقوا بعضاً وأحرقوا البعض الآخر«.
وللرد نقول: (1) لم يخصّ البشير متّى بالذكر نبياً بعينه في 1:22 و2:15 و17 بل قال »بالأنبياء« بصيغة الجمع. وقال العلامة إيرونيموس: »نقل متى البشير أقوال الأنبياء بالمعنى فقط« . فإن كلمة الناصري تفيد الاحتقار، وكان الإسرائيليون (في الجنوب) يزدرون بالجليليين (في الشمال) عموماً، وبالناصريين خصوصاً. وكانت كلمة »ناصري« كلمة احتقار تُطلق على الدنيء، وكان اليهود يسمّون اللص الشقي »ابن ناصر«. واستعمل مؤرخو اليهود هذه اللفظة في المسيح، فقال المؤرخ اليهودي» آبار بينال« إن القرن الصغير (دانيال 7:8) هو ابن ناصر، يعني يسوع الناصري. وكثيراً ما أطلق اليهود وأعداء المسيحيين لقب »ناصري« على المسيح ازدراءً به وتهكماً عليه، فكانت إقامته في الناصرة من أسباب ازدراء أهل وطنه به ورفضهم إياه. فلما قال فيلبس لنثنائيل: »وجدنا الذي كتب عنه موسى في الناموس والأنبياء يسوع ابن يوسف الذي من الناصرة« أجابه نثنائيل: »أَمِنَ الناصرة يمكن أن يكون شيء صالح؟« (يوحنا 1:46). ولما دافع نيقوديموس (أحد شيوخ اليهود) عن يسوع، قال له أعضاء مجلسهم الأكبر: »فتش وانظر، إنه لم يقم نبي من الجليل« (يوحنا 7:52). وبما أن الأنبياء تنبأوا في محال كثيرة (مزمور 22:6 و59:9 و10 وإشعياء 52 و53 وزكريا 11:12 و13) أن المسيا يُحتقر ويُرفض ويُزدرى به، كانت نبواتهم هذه بمثابة قولهم إنه »ناصري«. وعلى هذا لما قام المسيح في الناصرة قال إن نبوات الأنبياء قد تحقَّقت (لوقا 4:21). فكما أن النسب يكون للشرف، كذلك يكون للضِّعة، بالنسبة إلى رفعة أو ضعة البلاد التي يُنسب إليها الإنسان. وقولنا ناصري هو بمنزلة قولنا إنه محتقَر »كعِرْقٍ من أرضٍ يابسة، لا صورة له ولا جمال« (إشعياء 53:2).
أما قول فم الذهب إن اليهود ضيَّعوا كتبهم لمعاكسة المسيحيين، وإنهم مزقوا بعضها وأحرقوا بعضها فهو افتراء محض، فكتبهم التي يتعبَّدون بتلاوتها لغاية الآن تشهد للمسيح، وتوضّح صفاته وكمالاته وآلامه موته وصلبه وعمل الفداء العجيب. بل إنها أوضحت بالدقة وقت تجسّده ومكانه، بحيث لو لم يكن الإنجيل بيننا لعرفنا فحواه من التوراة. فلو مزقوا شيئاً أو أحرقوه لظهر اختلاف بين الإنجيل والتوراة، مع أنه لا يوجد أدنى اختلاف في التعاليم الجوهرية. والفرق بين اليهود والمسيحيين هو أن اليهود لا يزالون ينتظرون مجيء المسيح، أما المسيحيون فيعتقدون أنه أتى.
(2) ويجوز أن متى نقل أقوال الأنبياء بالمعنى. وقوله »ناصري« يشتمل على معانٍ كثيرة. والنقل بالمعنى جائز كما قرروه في »أصول الفقه«، فيجوز نقل الأحاديث بطرق كثيرة فيجوز (أ) أن يُروى الحديث بلفظه، (ب) يجوز أن يُروى بغير لفظه، (ج) يحذف الراوي بعض لفظ الخبر، (د) أن يزيد الراوي على ما سمعه، (هـ) أن يحتمل الخبر معنيين متنافيين، فاقتصر الراوي على إحداهما، (و) أن يكون الخبر ظاهراً في شيء فيحمله الراوي على غير ظاهره، إما بصرف اللفظ عن حقيقته إلى مجازه، أو بأن يصرفه عن الوجوب إلى الندب، أو من التحريم إلى الكراهة. فمتى نقل بالمعنى أقوال الأنبياء وهو جائز.
قال المعترض: »ورد في إنجيل متى 3:1 »وفي تلك الأيام جاء يوحنا المعمدان يكرز في برية اليهودية« مع أنه في آخر أصحاح 2 ذكر حكم أرخيلاوس لليهود بعد موت أبيه، وانصراف يوسف مع مريم والمسيح إلى نواحي الجليل وإقامته في ناصرة. فيكون المشار إليه بكلمة »تلك« هذه كل ما ذكرناه، ويكون معنى الآية: »لما حكم أرخيلاوس، وانصرف يوسف النجار إلى نواحي الجليل، جاء يوحنا المعمدان«. وهذا غلط لأن وعظ يوحنا كان بعد 28 سنة من الأمور المذكورة«.
وللرد نقول: (1) يعود اسم الإشارة »تلك« إلى أقرب مذكور. ولكن تعسُّف المعترض جعله يعود إلى أبعد مذكور. والمتبادر إلى الذهن هو أن مراد البشير بقوله »تلك الأيام« هو أيام سكن المسيح في الناصرة وهو أقرب مذكور، لأنه قال: »وأتى وسكن في مدينة يُقال لها ناصرة، لكي يتم ما قيل بالأنبياء إنه سيُدعى ناصرياً« ثم قال: »وفي تلك الأيام جاء يوحنا المعمدان«.
(2) الكلام مُسَاق على يوسف وسكن المسيح في الناصرة، لأنه هو المقصود بالذات. وإنما ذكر أرخيلاوس ليوضح بدء إقامة المسيح في الناصرة، وأنه أقام فيها سنين عديدة.
قال المعترض: »جاء في متى 3:2 »توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السموات« وهي كلمات يوحنا المعمدان وكررها المسيح (متى 4:17). فما هو المقصود بملكوت السموات هذا؟« (انظر متى 13:31 و32).
وللرد نقول: ملكوت السموات أو ملكوت الله هو مُلك الله على قلوب البشر عندما يدخل المسيح القلب، فهو »ملك الملوك ورب الأرباب« (رؤيا 19:16)، وقد خصَّص المسيح مكانةً كبرى في كرازته لملكوت الله، وكانت المعجزات المصاحبة لكرازته علامات على قيام الملكوت، كما أنها إشارات إلى مدلول الملكوت، لأن بمجيء المسيح ينقضي تسلُّط إبليس والخطية والموت على البشر، وقد قال في متى 12:28 »إن كنت أنا بروح الله أُخرج الشياطين فقد أقبل عليكم ملكوت الله« وقال إن هذا الملكوت يبدأ في حياته، ثم يمتد بعد موته وقيامته، ويكمل بعد مجيئه ثانية ليدين المسكونة بالعدل ويحكم بالحق والإنصاف (دانيال 7:13 و14 ورؤيا 11:15). وأما في الوقت الحاضر فملكوت الله آخذ في الامتداد يومياً بواسطة الكرازة بالإنجيل ودعوة الناس للدخول فيه (متى 28:8-20). ويأتي ملكوت الله حينما تُوجَّه كلمة الله للبشر، فهو يشبه البذرة التي تُلقى في الأرض فتنمو, ولما كان تواجد ملكوت الله على الأرض متوقِّفٌ على قبول الناس لكلمة الله فهو حقيقة واقعة غير منظورة. ليس ملكوت السموات مثل ممالك العالم (يوحنا 18:36) وهو لا يأتي بأبَّهة عالمية (لوقا 17:20) وأعضاؤه هم »المساكين بالروح« (متى 5:3) لا المتكبرين ولا عظماء هذا الدهر. ولا يقدر أحد أن يدخل هذا الملكوت ما لم يولد من جديد ولادة روحية (يوحنا 3:3 و5) والمؤمنون مدعوون ليرثوا هذا الملكوت بعد قيامتهم (متى 25:34). ومن المستحيل أن يدخل إليه الأشرار (1كورنثوس 6:9 و10 وغلاطية 5:20 و21 وأفسس 5:5).
قال المعترض: »ورد في متى 3:14 أن المسيح أتى إلى يوحنا ليعتمد منه، فمنعه يوحنا قائلاً: »أنا محتاج أن أعتمد منك وأنت تأتي إليّ!« ثم اعتمد المسيح وصعد من الماء، فنزل عليه الروح مثل حمامة. وورد في يوحنا 1:33 »وأنا لم أكن أعرفه« (وعرفتُه بنزول الروح مثل حمامةٍ ونارٍ). وفي متى 11:3 لما سمع يوحنا بأعمال المسيح أرسل اثنين من تلاميذه يسألونه: »أنت هو الآتي أم ننتظر آخر؟«. في الأول عرف يوحنا قبل نزول الروح، وفي الثاني عرفه بعد نزول الروح، وفي الثالث لم يعرفه بعد نزول الروح«.
وللرد نقول: قول يوحنا »لم أكن أعرفه« معناه أنه لم يكن يعرفه قبل نزول الروح القدس، أي قبل سماع الصوت من السماء »هذا هو ابني الحبيب«. وكل إنسان له أحوال، فله حالة قبل المعرفة وحالة بعدها، بعد أن تكون قد ظهرت له الأدلة بصحة الدين. وكذلك للأنبياء حالات قبل الوحي والإلهام، وبعد ذلك. فالله المعلم الحقيقي أوحى إلى يوحنا بأن المسيح هو الموعود به. وشرح المعمدان لنا حاله قبل هذه المعرفة بقوله »وأنا لم أكن أعرفه«. ثم شرحها بعد معرفته، فقال: »أنا محتاج أن أعتمد منك وأنت تأتي إليّ«.
وإذ تقرر ذلك فلا تناقض، فإنه يلزم في التناقض اتحاد الزمان والمكان. ولا اتحاد هنا في الزمان.
أما إرسال يوحنا التلميذين إلى المسيح فليريا الحقائق بنفسيهما، ليصدّقا بالعيان، ولاسيما إن يوحنا كان مسجوناً وقتئذ ولم تتيسّر له مشاهدة المعجزات الباهرة التي صنعها المسيح، فلذا قال لهما المسيح: »اذهبا وأخبرا يوحنا بما تسمعان وتنظران: العُمي يبصرون، والعرج يمشون، والبُرْص يُطهَّرون، والصمّ يسمعون، والموتى يقومون، والمساكين يُبشَّرون«. فيصدقون بعد رؤية المعجزات الباهرة.
قال المعترض: »جاء في متى 3:15 قول المسيح للمعمدان بخصوص معمودية المسيح »اسمح الآن لأنه هكذا يليق بنا أن نكمل كل بر«. وهذا يعني أن بعض الفرائض الدينية لا فائدة منها ولا معنى روحي لها«.
وللرد نقول: (1) كان الغرض من معمودية يوحنا المعمدان إعلان توبة قومية يشترك فيها بنو إسرائيل كلهم، للدخول في حياة جديدة، وبدء ملكوت جديد. وقد رأى المسيح أن يعتمد من يوحنا، لا لأنه خاطئ يتوب، لكن لأنه يمثّل الأمة التي يريد لها التوبة. فهو ابن الإنسان الذي يريد أن يخلّصنا، وإذ وُجد في الهيئة كإنسان أطاع الفريضة.
وعند مراجعة تاريخ بني إسرائيل نرى أن الأتقياء الصالحين اشتركوا مع الخطاة الضالين في أوقات التذلل والتوبة القومية. هكذا فعل دانيال بالرغم من شدة صلاحه (دانيال 9:4). ولما رأى المسيح أن معمودية يوحنا فرضٌ يهودي في عصره لم يختلف عن قومه في هذا الواجب، ليشجع التائبين، وكأنه يقول: لا أعفي نفسي من القيام بكل ما يطلبه الله من بني إسرائيل في الواجبات العمومية.
(2) وكان الغرض من معمودية المسيح هو افتتاح خدمة المسيح رسمياً. ولم يكن قبول المسيح المعمودية على شواطئ الأردن أصعب من قبوله فداءنا على الصليب. لقد شارك المسيح الناس في ممارسة فريضة دينية هامة. والفرائض الدينية رموز لمعاني روحية، مطلوب تطبيقها.
قال المعترض: »اختلف البشيرون في رواية خبر الصوت الذي سُمع من السماء وقت نزول الروح القدس على المسيح، فقال متى 3:17 »هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررت«. وقال مرقس 1:11 »أنت ابني الحبيب الذي به سُررت« وقال لوقا 3:22 »أنت ابني الحبيب الذي بك سُررت«.
وللرد نقول: لا يجرؤ أحد على القول إن جوهر العبارتين مختلف، لأن المعنى المقصود فيها كلها واحد. ولا ننكر وجود اختلاف في الأسلوب. فبحسب مرقس جاء الكلام موجَّهاً إلى المسيح. ولكن حسب متى جاءت العبارة مقولة عنه. ونرجّح أن مرقس أورد نص كلام الآب كما هو، أما متى فقد جاء بخلاصته. وللإيضاح نضرب مثلاً: فلنتصوَّر أن عدداً من الناخبين أجمعوا على انتخاب ممثل لهم، فدوَّن أحدهم في محضر الجلسة: »أجمع الناخبون على انتخاب فلان، وصاحوا مشيرين إليه: أنت هو الرجل الجدير بالثقة«. وجاء آخر بخلاصة المحضر نفسه فقال: »حاز فلان ثقة جميع الناخبين، وقالوا عنه: هذا هو الرجل الجدير بالثقة« . فهل يمكن في حال كهذه اتّهام التقريرين بالتناقض؟
قال المعترض: »ورد في متى 4:5 »ثم أخذه إبليس إلى المدينة المقدسة وأوقفه على جناح الهيكل« وفي آية 8 ثم أخذه أيضاً إبليس إلى جبل عال جداً« وفي آية 12 » وانصرف المسيح إلى الجليل« وفي آية 13 »وترك الناصرة وأتى فسكن في كفرناحوم التي عند البحر«. وورد في لوقا 4:5 »ثم أصعده إبليس إلى جبل عال« وفي آية 9 »ثم جاء به إلى أورشليم وأقامه على جناح الهيكل« وفي آية 14 »ورجع يسوع بقوة الروح إلى الجليل« وفي آية 15 »وكان يعلّم في مجامعهم« وفي آية 16 »وجاء إلى الناصرة حيث كان قد تربّى«. وهذه تناقضات عديدة«.
وللرد نقول: أخذ المعترض شطراً من بعض آيات، وترك باقي الكلام الذي يقول إنه توجَّه إلى كفرناحوم. ففي لوقا 4:31 ذكر أن المسيح انحدر إلى كفرناحوم، وعليه فلا يوجد أدنى تناقض ولا اختلاف، فإن متى ولوقا قالا إن المسيح توجَّه إلى الجليل، ثم ترك الناصرة لما رفضته، ثم أتى إلى كفرناحوم.
أما من جهة تجربة المسيح فهي: (1) طلب إبليس منه أن يحوِّل الحجارة إلى خبز (2) طلب منه أن يطرح نفسه من جناح الهيكل (3) طلب إبليس من المسيح أن يسجد له. وقد ذكر متى التجارب بحسب ترتيبها الزمني، أما لوقا فراعى ترتيبها المكاني، فذكر التجربتين اللتين حصلتا في البريّة أولاً، وهما طلب تحويل الحجارة خبزاً، وطلب السجود للمجرّب.
قال المعترض: »من قارن بين متى 4:18-22 ومرقس 1:16-20 ويوحنا 1:35-46 وجد ثلاثة اختلافات في دعوة التلاميذ: (1) قال متى ومرقس إن المسيح دعا بطرس وأندراوس ويوحنا عند بحر الجليل فتبعوه، أما يوحنا فقال إن المسيح رأى غير هؤلاء عند عبر الأردن، (2) ويُفهم من متى ومرقس أنه رأى أولاً بطرس وأندراوس على بحر الجليل، وبعد قليل لقي يعقوب ويوحنا على هذا البحر. وقال يوحنا إن يوحنا وأندراوس لقياه أولاً بقرب عبر الأردن، ثم قاد أندراوس أخاه بطرس للمسيح. وفي الغد لما أراد المسيح التوجُّه إلى الجليل رأى فيلبس، ثم جاء نثنائيل بهداية فيلبس، ولم يذكر يعقوب. (3) وذكر متى ومرقس أنه لما لقي المسيح التلاميذ كانوا يشتغلون بإلقاء الشبكة وبإصلاحها، ويوحنا لم يذكر الشبكة بل ذكر أن يوحنا وأندراوس سمعا وصف المسيح ليوحنا وجاءا للمسيح، ثم جاء بطرس بهداية أخيه«.
وللرد نقول: ذكر يوحنا في إنجيله أول مقابلة بين المسيح للتلاميذ، أما مرقس ولوقا فذكرا حادثة جاءت بعد ذلك هي دعوة المسيح للتلاميذ ليكونوا رسلاً. والدليل على ذلك: (1) اختلاف المكان، فيوحنا ذكر ما حدث في بيت عبرا في عبر الأردن، أما متى ومرقس فذكرا ما كان عند بحر الجليل.
(2) مما يدل على أن هذه أول مرة سمعوا فيها المسيح قول يوحنا: »وفي الغد أيضاً كان يوحنا واقفاً هو واثنان من تلاميذه، فنظر إلى يسوع.. فتبعا يسوع«.
(3) مما يدل على أنها غير الدعوة الرسولية قول يوحنا في آية 39 إنهما مكثا عنده ذلك اليوم، يعني أنهما عادا ثانية إلى أشغالهما الاعتيادية.
(4) الدعوة المذكورة في متى ومرقس هي الدعوة الرسولية، والدليل على ذلك قول المسيح لهما: »هلم ورائي فأجعلكما صيادي الناس«.
(5) يسلم المعترض أن يوحنا قال إنه لما كلمهم لم يكونوا مشتغلين بشباكهم. والذي حدث هو أن متى ومرقس ذكرا دعوة المسيح للرسل ليكونوا رسلاً لتعليم الناس، أما يوحنا فذكر أول اجتماعه ببعضهم في مكان غير المكان الذي دعاهم فيه المسيح.. فلا يوجد تناقض، لأنه يلزم من التناقض اتحاد الزمان والمكان وغيره.
قال المعترض: »يقول متى 5:1 و2 إن المسيح ألقى موعظته الأولى من على جبل، بينما يقول لوقا 6:17 و20 إنها أُلقيت في سهلٍ«.
وللرد نقول: هاتان عظتان أُلقيتا في مناسبتين مختلفتين، ولو أن بعض أفكارهما متشابهة. ولم يقُل متى إن هذه هي موعظة المسيح الأولى، ولا يمكن أن يجزم أحدٌ بأن أيّاً منهما هي العظة الأولى.
قال المعترض: »كيف يقول المسيح »طوبى للحزانى« (متى 5:4) بينما يطالب بولس المؤمنين بالفرح في فيلبي 4:4؟ «.
وللرد نقول: طوبى لمن يحزن على خطاياه، فينال الفرح الناتج عن الغفران الذي يهبه الله للتائبين. نبدأ بالحزن الذي يتبعه الفرح.
قال المعترض: »ورد في متى 5:9 »طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون« وورد في متى 10:34 »ما جئتُ لألقي سلاماً بل سيفاً«. فبين الآيتين تناقض«.
وللرد نقول: انظر تعليقنا على متى 10:34
قال المعترض: »جاء في متى 5:16 »فليضئ نوركم هكذا قدام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السموات«. ولكن جاء في متى 6:1 »احترزوا من أن تصنعوا صدقتكم قدام الناس لكي ينظروكم. وإلا فليس لكم أجر عند أبيكم الذي في السموات«. وهذا يعني أن المسيح يقول في موعظة واحدة إنه يجب أن يضيء نورنا حتى يرى الناس أعمالنا الحسنة. ويقول أيضاً إنه يجب علينا أن نعمل الصالحات سراً حتى لا يرانا الناس. فكيف يمكننا التوفيق بين هذين القولين؟«.
وللرد نقول: ما جاء في متى 5:16 وما قبله تحريض لتلاميذ المسيح على الأعمال الصالحة، ليكونوا جاهزين لخدمة الله والناس، لأنهم ملح الأرض ونور العالم. فالمواهب المعطاة لهم يجب استثمارها وعدم إهمالها. فبصفتهم ملحاً كانت لهم قوة الشفاء والتطهير، وبصفتهم نوراً وجب عليهم أن يكونوا قادة ومرشدين. وفي متى 6:1 يشير المسيح إلى الباعث الذي منه يجب أن تصدر الأعمال الصالحة. فيعلِّمنا أن أعمالنا لكي تكون مرضيَّة عند الله ينبغي أن يكون الباعث عليها روح التواضع والإخلاص، لا روح العُجْب وحب الظهور. ويجب أن يكون الغرض الموضوع أمامنا مجد الله وخير الآخرين. وفي متى 5:16 يقول المسيح: اعملوا أعمالاً صالحة حتى يراها الناس فيتمجد اسم أبيكم السماوي الإله العظيم، وفي متى 6:1 يقول: لا تعملوا الأعمال الصالحة وغرض قلوبكم اكتساب مدح الناس، إذ في حالة كهذه تضيع قيمتها أمام الله.
فالمسيح في إحدى الآيتين يدلّنا على الأعمال الصالحة، وفي الأخرى يحذرنا من إتيان الأعمال الصالحة عن باعث سيء.
قال المعترض: »جاء في متى 5:17-19 »لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس والأنبياء. ما جئت لأنقض بل لأكمل. فإني الحق أقول لكم: إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل«. ولكن جاء في غلاطية 4:10 و11 »أتحفظون أياماً وشهوراً وأوقاتاً وسنين؟ أخاف عليكم أن أكون قد تعبْتُ فيكم عبثاً«. فيقول بولس إن الناموس الخاص بحفظ الأيام والشهور والأوقات والسنين لا علاقة له بَعْد بالمؤمنين، والمسيح يقول: »لا يسقط حرف واحد من الناموس«..
وللرد نقول: أمدَّنا الكتاب المقدس بالمعلومات اللازمة لملاشاة الصعوبة الظاهرية، فيعلّمنا أن لله ناموساً صالحاً مقدساً ثابتاً إلى الأبد، هو الناموس الأخلاقي. فقول المسيح: »لا تسقط نقطة واحدة أو حرف واحد من الناموس« قُصد به الناموس الأخلاقي. كما أن بولس نفسه يثبت في رسالة غلاطية أن ناموس الله الأخلاقي لا يُنقَض. وعلى القارئ أن يدرس غلاطية 5:19-21 ليرى أنه لا يمكن أن يُستفاد من كلام بولس بُطلان التمييز بين الخير والشر (قابل رومية 3:31). هذا الناموس يديننا لأننا لم نحفظه. وليس معنى خلاصنا أن الناموس قد أصبح ميتاً لكوننا في عهد النعمة، فإن المسيح نائبنا قد وفّى مطالب الناموس إلى التمام.. ولا يفوتنا أن بعض النواميس الواردة في العهد القديم كان المقصود بها شعب إسرائيل دون سواهم، وكانت ثابتة في تدبير العهد القديم فقط. ونجد في أسفار العهد القديم إشارات ومواعيد تثبت هذه الحقيقة (انظر إرميا 31:31-34). وقد أورد كتَبَةُ العهد الجديد فصولاً عديدة تفيد هذه الحقيقة المجيدة وهي تحريرنا من عبودية الناموس الطقسي (قابل أعمال 15:7-11 وكولوسي 2:16 و17 وأفسس 2:15).
وتتَّفق سلسلة الآيات هذه مع ما جاء في رسالة غلاطية حيث يوبخ بولس المؤمنين المتزعزعين على تمسّكهم بالفروض القديمة التي تقضي بضرورة حفظ الأيام والشهور والأوقات والسنين. فما يُستفاد من تعليم بولس هو أن تلك الفرائض كان يجب حفظها طالما كان الناموس المختصّ بها سارياً، أي في العهد القديم. ولكن لما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه (غلاطية 4:4) وإذ ذاك بَطُل عهد الناموس الطقسي، وتوقَّفت الفرائض الطقسية التي أعطاها الله بواسطة موسى. فالكتاب بجملته يفيد ويؤكد أن الناموس الطقسي كان سارياً إلى وقت مجيء المسيح فقط. إن الفصلين صادقان. فبولس يتكلم عن الناموس الطقسي، والمسيح يشير إلى الناموس الأخلاقي.
قال المعترض: »أعلن المسيح في متى 5:17 أنه لم يأتِ لينقض الناموس بل ليكمله. ولكن يناقض هذا قول العبرانيين 7:18 »فإنه يصير إبطال الوصية السابقة من أجل ضعفها وعدم نفعها«..
وللرد نقول: تقدم الموعظة على الجبل (التي اقتبس المعترض منها متى 5:17) مثلاً بعد آخر يبرهن أن المسيح أكمل الناموس والأنبياء ولم ينقضهما. ولا زلنا نحن المسيحيين نحترمهما ونقرأهما في عبادتنا بالكنائس.
أما ما جاء في العبرانيين 7:18 فيتحدث عن أحد أجزاء الشريعة التي بطلت بعد تحقيق الغرض منها، مثل الذبائح التي طالبت شريعة موسى بها، وكانت تشير إلى حاجة البشر لذبيحة المسيح الكفارية. فلما تمَّت ذبيحة الصليب لم تعد هناك حاجة للذبائح التي طالبت شريعة موسى بها.
لقد كانت أجزاء الشريعة التي بطلت مثل الشيك على البنك، تبطل قيمته بعد صرف المبلغ من البنك. ونحن لا نقول إن البنك ألغى الشيك، بل أكرمه بأن دفع قيمته.
ولم يكن ناموس موسى للعالم كله، ولكنه كان عهداً بين الله وبني إسرائيل. أما ما به من مبادئ فأزلي دائم. فالمبادئ دائمة، لكن تفاصيلها تناسب عصرها وظروفها.
قال المعترض: »جاء في متى 5:22 »من قال لأخيه: رقا، يكون مستوجب المجمع، ومن قال: يا أحمق، يكون مستوجب نار جهنم«. ولكن المسيح قال للفريسيين إنهم حمقى (متى 23:17) وقالها بولس لأهل كورنثوس (1كورنثوس 15:36) ولأهل غلاطية (3:1)«.
وللرد نقول: ليس المهم في الكلمة التي تُقال، بل في روح قولها. والذي ينهانا المسيح عنه هو قولة الغضب لإذلال الناس والسخرية منهم والإقلال من شأنهم. ولكن كلمة التوبيخ الذي يريد الصالح العام، بدافع الرغبة في الإصلاح، هي كلمة لازمة. كان المسيح وبولس يصفان مستمعيهما، لا بهدف تفشيلهم، بل لإبعادهم عن تصرفات الحماقة.
قال المعترض: »جاء في متى 5:39 »وأما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدّك الأيمن فحوِّل له الآخر أيضاً« ولكن جاء في لوقا 22:36 »فأقول لكم الآن: من له كيس فليأخذه، ومذود كذلك. ومن ليس له فليبِع ثوبه ويشتري سيفاً«. وهذا تناقض«.
وللرد نقول: من يدَّعي وجود تناقض بين هاتين الآيتين يعوزه الفهم الروحي. في متى 5:39 يقول المسيح ما معناه: »إذا وقع عليك اعتداء فتحمَّلْهُ بكل صبر، ولا تقابلْهُ بالنقمة«. هذه العبارة المقتبسة من موعظة الجبل تسبق مباشرة أمر المسيح لتلاميذه بمحبة الأعداء. فبقوله: لا تقاوموا الشر، يشير إلى إحدى الطرق التي بها نُظهر المحبة للأعداء. فإذا وقع علينا ظلم يجب أن نقابله بالمحبة لا بالنقمة. فبدلاً من أن نسيء إلى من يعتدي علينا يجب أن نخدمه بحسب حاجته، إظهاراً للمحبة.
وهنا يسأل سائل إذا سطا على بيتنا لصّ، ألا يجوز أن نستغيث برجال الشرطة، أم هل نترك أمتعتنا للنهب؟ وردّاً على هذا نقول: في مثل هذه الأحوال يجب أن ننقاد بروح المحبة والرأفة، لا بروح الحقد والانتقام. إذا أضرم عدو ناراً في بيتنا مثلاً، فمحبتنا لذوينا توجب علينا إخماد النار. وعملٌ كهذا تقضي به حتى محبتنا لأعدائنا، لأننا إن قصرنا في إخماد النار يزداد الشر الذي قصده العدو. والخلاصة أن المسيح يقصد تعليم هذا المبدأ »اغلب الشر بالخير« (رومية 12:21). وعلى هذا فإن محبتنا لِلّص تجعلنا نوقفه عن السرقة، ومحبتنا للكاذب تجعلنا نوقفه عن الكذب، ومحبتنا للدكتاتور تجعلنا نوقفه عن دكتاتوريته.. كما أن محبتنا للشخص المسروق تجعلنا نحميه من أن يسرقه اللصوص، ومحبتنا للمخدوع تجعلنا نحميه من الذي يكذب عليه، ومحبتنا للمظلوم تجعلنا نحميه من الذي يظلمه. والمحبة إيجابية فعّالة.
نحتاج إذاً إلى روح تمييز لنعرف كيف لا نقاوم الشر، وكيف نقاوم الشر. فإن الطريقة التي بها نظهر المحبة للأعداء يكون الحكم فيها بحسب الظرف الواقع.
قال المعترض: »في متى 5:48 يطالبنا المسيح أن نكون كاملين. وهكذا يطالب الرسول بولس المؤمنين في فيلبي 3:15. ولكن بولس في فيلبي 3:11 و12 يقول إنه لم يصل للكمال«.
وللرد نقول: الكمال المطلوب هو كمال النيّة في طاعة الله، إذ يريد الإنسان بكل قلبه وإرادته أن يطيع. والكمال الذي لا يبلغه الإنسان هو كمال النضوج المسيحي، فكلما بلغ درجة من الكمال وجد درجة أعلى لم يبلغها بعد. فعلينا بكل النيّة أن نسعى وراء الكمال، عالمين أننا لم نبلغ القمة بعد، فنظل طول عمرنا نتقدم للأمام.
قال المعترض: »جاء في متى 6:7 و8 »حينما تصلّون لا تكرّروا الكلام باطلاً كالأمم، فإنهم يظنّون أنه بكثرة كلامهم يُستجاب لهم. فلا تتشبَّهوا بهم. لأن أباكم يعلم ما تحتاجون إليه قبل أن تسألوه«. ولكن جاء في متى 18:1 »ينبغي أن يُصلّى كل حين ولا يُملّ«. يقول أحد الفصلين صلوا بالإيجاز، ويقول الآخر: صلوا على الدوام وبلا انقطاع«.
وللرد نقول: بقليل من التأمل نكتشف أنه لا تناقض بين القولين، فمتى يتكلم عن صلاة ظاهرية قاصرة على مجرد كلام. وقد زعم الأمم أن قيمة الصلاة في عدد كلماتها وكثرتها، ولذا كانوا يكررون أقوالاً وعبارات كثيرة بطريقة ميكانيكية دون أن تعبّر أقوالهم عن معانٍ في قلوبهم، فوبَّخ المسيح مثل هذه الصلاة.
ولكن توجد صلاة مستمرة مقبولة عند الله ومرضيّة أمامه، هي صراخ القلب إليه باشتياق وإخلاص. وصاحب هذه الصلاة لا يفشل ولا يمل ولا يتوقَّف إذا أبطأ الرب في الإجابة. على أن المؤمن عند عدم استجابة صلاته سريعاً معرَّض لخطر الشك في استماع الله له فيكفّ عن الصلاة. ولذا يحثّنا المسيح في لوقا 18:5-7 على الاستمرار في الصلاة حتى ولو ظهر كأن أبواب السماء موصدة في وجوهنا. والخلاصة أن المسيح يوبخ صلاة الأمم المطوَّلة المجرَّدة من المعنى وما يشابهها. ويحضّ على اللجاجة في الصلاة الصادرة من قلب واثق مخلص.
وجاء في 1تسالونيكي 5:17 »صلّوا بلا انقطاع« بمعنى أن تكون حياة المؤمن كلها حياة صلاة، وأُنساً دائماً بالله. وقد يظهر هذا الأمر مناقضاً لتعليم المسيح عن بطلان كثرة الكلام (متى 6:7)، ولكن المتأمِّل يرى أن المسيح يعلّمنا أنه من الخطأ أن نظن أن كثرة الكلام تزيد الله علماً باحتياجاتنا، لأنه يعرفها كلها قبل أن نعرفها نحن. ولكن في 1تسالونيكي 5:17 يتكلم بولس عن حالة القلب، فيحضّنا أن نحيا دائماً في جوّ الصلاة، فنفتكر عن الله وننشغل به كما يفعل الطفل من جهة أبويه. فيجب أن نرغب على الدوام في بَسْط كل مسائلنا ومشاكلنا أمامه، والانقياد على الدوام بكلمته وروحه.
هذان الفصلان لا يتضمَّنان أقوالاً متناقضة، بل يؤيدان حقيقتين مهمتين: أولاهما أن الصلاة يجب أن لا تكون ميكانيكية على أساس الظن أن فاعليتها تتوقف على كثرة الكلام. والثانية أن حياة المسيحي يجب أن تكون حياة صلاة غير منقطعة وأنساً دائماً بالله.
قال المعترض: »ورد في متى 6:13 »ولا تُدْخلنا في تجربة لكن نجِّنا من الشرير، لأن لك الملك والقوة والمجد إلى الأبد آمين«. وقد أُضيفت جملة »لأن لك الملك والقوة والمجد إلى الأبد« في ما بعد، ولا توجد في التراجم اللاتينية ولا في غيرها«.
وللرد نقول: هذه الجملة تسبيحة وتمجيد لله، وهي ثابتة في نسخ عديدة قديمة. ومما يدل على إنها أصلية وليست ملحقة: (1) كان اليهود يختمون صلواتهم بجملة تسبيحات تشبه الصلاة الربانية. قال آدم كلارك: »ثبت عندي أنها أصلية لقدمها«. (2) لأنها ثابتة في نسخ عديدة.
قال المعترض: »ورد في متى 6:18 »فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية«. قال آدم كلارك إن كلمة »علانية« زائدة، وإن كرسباخ ووتستين وبنجل أسقطوها من النص«.
وللرد نقول: تكلم المسيح في أول متى 6 عن الصَّدقة والصلاة والصوم، وقال: »متى صنعت صدَقةً فلا تصوِّتْ قدامك بالبوق« إلى أن قال »فلا تعرِّفْ شمالك ما تفعل يمينك«. ثم قال في آية 4 »لكي تكون صدقتك في الخفاء. فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية«. ثم تكلم عن الصلاة فقال في آية 6 »ومتى صليت فادخُل إلى مخدعك واغلق بابك وصلّ إلى أبيك الذي في الخفاء، فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية«. ثم تكلم عن الصوم وقال في آيتي 17 و18 »وأما أنت فمتى صُمْت فادهن رأسك واغسل وجهك لكي لا تظهر للناس صائماً بل لأبيك الذي في الخفاء، فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية«. فترى أن الحديث كله جرى على نسق واحد. ولو حُذفت كلمة »علانية« من العبارة الثالثة لدلَّت عليها العبارتان السابقتان. فسياق الكلام يستلزم وجودها لفظاً أو تقديراً. ولا ننكر أن هذه اللفظة المذكورة في آية 18 لم تثبت في بعض النسخ، ولكنها ثبتت في غيرها، وسياق الكلام يدل عليها.
قال المعترض: »جاء في متى 6:31 »فلا تهتموا قائلين: ماذا نأكل أو ماذا نشرب أو ماذا نلبس؟« ولكن جاء في 2تسالونيكي 3:12 »فمثل هؤلاء نوصيهم ونعظهم بربنا يسوع المسيح أن يشتغلوا بهدوء ويأكلوا خبز أنفسهم«. يظهر هنا كأن المسيح يعلّم عدم التدبير، بينما بولس يلوم على هذا«.
وللرد نقول: لم يقصد المسيح في متى 6:31-34 أن يعلّمنا الكسل والإهمال والإسراف، وإنما يوصينا أن لا نشغل قلوبنا بهموم هذه الحياة. وهذا ما نستفيده من آيات كثيرة في العهدين القديم والجديد، فيقول مزمور 127:2 »باطلٌ هو لكم أن تبكروا إلى القيام، مؤخّرين الجلوس، آكلين خبز الأتعاب. لكنه يعطي حبيبه نوماً«. ويقول مزمور 55:22 »ألقِ على الرب همّك فهو يعولك. لا يدع الصديق يتزعزع إلى الأبد«. ونقرأ في فيلبي 4:6 »لا تهتموا بشيء، بل في كل شيء بالصلاة والدعاء مع الشكر لتُعلَم طلباتكم لدى الله«.
ثم إن 2تسالونيكي 3:12 لا يعلّم الطمع أو البُخل أو اشتهاء الأشياء الأرضية، بل يحرّض المؤمنين على الاجتهاد في العمل حتى لا يفتقروا فيصبحون عالةً على الآخرين. فنرى أن هاتين الآيتين تتكلمان عن وجهين لموضوع واحد. فالمسيح ينهى عن اشتهاء الأشياء الأرضية والسعي وراءها، وبولس ينهى عن التقاعد والكسل.
ونجد توحيداً لهاتين الوجهتين في تعليم بولس في 1كورنثوس 7:29-31. فعلى المؤمنين أن يعملوا باجتهاد دون أن يكونوا مستعبَدين لأشغالهم. وعلى كل مؤمن أن يتمم عمله بحسب الدعوة التي تلقّاها من الله، ذاكراً أن وطنه في السموات (انظر فيلبي 3:20 و21). فعلينا إذن أن نعمل لاكتساب معيشتنا، وأن نتذكر في الوقت نفسه أن الله يمدّنا بكل ما نحتاج إليه.
قال المعترض: »ورد في متى 7:14 »ما أضيق الباب وأكرب الطريق الذي يؤدي إلى الحياة، وقليلون هم الذين يجدونه«. وورد في 11:29 و30 »احملوا نيري عليكم وتعلَّموا منّي، لأني وديع ومتواضع القلب، فتجدوا راحةً لنفوسكم، لأن نيري هيِّن وحملي خفيف«. وفي هذا تناقض«.
وللرد نقول: المسيحية منزَّهة عن الفرائض الثقيلة لأنها ديانة روحية لا تقوم بالأعمال الخارجية، غير أنها تعلِّم المؤمن أن يترك الخطية والشرور، التي هي سبب البلايا. فهي صعبة بالنظر إلى قداستها التي تطالب المؤمن بها أن يصلب الجسد وشهواته. ومع ذلك فهي سهلة لأن الباعث الأصلي والعامل الحقيقي فيها هو المحبة. فإذا وُجدت المحبة في المسيحي رأى لذةً في طاعة الأوامر وترك الخطايا بسهولة، وهان على المحب كل شيء . فنير المسيح هيّن وخفيف، وهذا لا ينافي أن الطريق المؤدي إلى الحياة هو صعب وكرب، ولاسيما على الذين فضّلوا محبة العالم وانغمسوا في الرذائل.
اعتراض على متى 8 - متى هاج البحر؟
انظر تعليقنا على مرقس 4:35-41
قال المعترض: »جاء في متى 8:4 أن المسيح قال لأبرصٍ شفاه »انظر أن لا تقول لأحد« وجاء في متى 16:20 عن المسيح »حينئذ أوصى تلاميذه أن لا يقولوا لأحدٍ إنه يسوع المسيح«. وتكرر الأمر بإخفاء الحديث في متى 17:9 ومرقس 7:36 و8:30 و9:9 ولوقا 5:14 و8:56 و9:21. وهذا يتناقض مع وصية المسيح الأخيرة في متى 28:19 » اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم«.
وللرد نقول: الأمر النهائي للمسيح كان إعلان رسالة الإنجيل للعالم كله. وقبل الصليب أمر المسيح أحياناً بإعلان أخبار معجزاته وتعاليمه، كما قال للمجنون الذي شفاه: »اذهب إلى بيتك وإلى أهلك وأخبرهم كم صنع الرب بك ورحمك« (مرقس 5:19). ولكنه في مرات أخرى، أمر بعدم الإعلان أو أمر بتأجيله لحكمة عنده، كما قال مرة لبعض تلاميذه عن حادثة التجلي: »لا تُعلِموا أحداً بما رأيتم حتى يقوم ابن الإنسان من الأموات« (متى 17:9 - قارن مرقس 9:9). لقد كان الناس يتبعونه بحماس كقائد سياسي، فطلب منهم مرات عدم الإعلان حتى يتمم خدمته في هدوء، كما يشرح لنا البشير في مرقس 7:36 »فأوصاهم أن لا يقولوا لأحد، ولكن على قدر ما أوصاهم كانوا ينادون أكثر كثيراً«. وقد اضطرته حماسة الجماهير أن يعتزل في البراري (لوقا 5:14-16)، لأنه لم يكن المحرر السياسي لليهود، بل المخلِّص الروحي للعالم كله.
قال المعترض: »يقول متى 8:5-13 إن قائد المئة جاء إلى المسيح بنفسه، بينما يذكر لوقا 7:1-10 أنه أرسل شيوخ اليهود يحملون رسالته للمسيح. وهذا تناقض«.
وللرد نقول: لا تناقض، فقد طلب قائد المئة طلبته من المسيح بواسطة شيوخ اليهود. وقد يكون أنه جاء للمسيح بنفسه بعد أن أرسل شيوخ اليهود، فلما أبطأوا عليه توجَّه بذاته. واقتصر البشير متى على ذكر طلب قائد المئة لأنه الطالب الحقيقي، أما لوقا فذكر مساعي أئمة اليهود، لأنهم أول من فاتح المسيح في شفاء الغلام. ومن الأمور القانونية المقرّرة أن ما يفعله الإنسان بواسطة غيره يُنسب إليه فعله، لأنه يكون السبب فيه، وما يعمله الوكيل يُنسب إلى موكله. كما أن تلاميذ المسيح عمَّدوا الناس، وعُزي العماد للمسيح (يوحنا 4:1).
قال المعترض: قال المسيح: »للثعالب أوجرة ولطيور السماء أوكار. وأما ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه« (متى 8:20)، فوصف نفسه بأنه »ابن الإنسان«. وقد جاء هذا اللقب عنه في إنجيل متى 30 مرة، وفي مرقس 15 مرة، وفي لوقا 25 مرة، وفي يوحنا 12 مرة.. وهذا يعني أنه كان إنساناً عادياً، وليس هو الله«.
وللرد نقول: وصف المسيح نفسه بأنه ابن الإنسان، ليس لأنه كان إنساناً عادياً، لكن لأنه اتَّخذ جسد إنسان لما وُلد من العذراء القديسة مريم. وكان في هذا الجسد رفيقاً للإنسان ومحباً ومعلّماً له، كما سيكون فيما بعد ملكاً على الإنسان. ومما يدل على أن ابن الإنسان هو ابن الله الأزلي، أنه عُرف بهذا اللقب من قبل ميلاده. فقد ظهر لدانيال النبي في هيئة ابن الإنسان سنة 500 ق.م. فقال دانيال: »كنت أرى في رؤى الليل، وإذا مع سُحب السماء مثل ابن إنسان، أتى وجاء إلى قديم الأيام، فقرَّبوه قدامه، فأُعطي سلطاناً ومجداً وملكوتاً لتتعبَّد له كل الشعوب والأمم والألسنة. سلطانه سلطان أبدي ما لن يزول، وملكوته ما لا ينقرض« (دانيال 7:13 و14).
قال دانيال النبي عن المسيح إنه »ابن إنسان«، ولم يقل إنه »ابن الإنسان« (بأل التعريف)، لأنه لم ينظر إلى المسيح في علاقته مع الناس، بل من حيث المظهر العام الذي كان يبدو به في الرؤيا، والذي كان عتيداً أن يبدو به بالتجسد، في يوم من الأيام.. أما »قديم الأيام« فهو الله في أزليته، وابن الإنسان هو أقنوم الابن في المركز الناسوتي الذي كان عتيداً أن يأخذه، وهذا هو مركزه أن يُقال عنه إنه اقترب إلى »قديم الأيام« للتمييز بين »الابن« في ناسوته الحادث، والله أو اللاهوت في أزليته التي لا بدء لها. وهذه نبوَّة عن مجيء المسيح في آخر الدهور، لتسلُّم زمام المُلك في العالم. ومن البديهي أنه وحده هو الذي يحقّ له أن يقوم بهذه المهمّة، لأن الذي خلق البشر وصنع لهم خلاصاً من خطاياهم، هو الذي يتولى المُلك عليهم ومحاسبتهم على أعمالهم. ومن البديهي أيضاً أنه سيقوم بهذه المهمّة، بوصفه ابن الإنسان الظاهر في الجسد، لأنه بهذا الوصف هو القائم بإتمام مشيئة الله بين الناس، ولأن محاسبة الله (في جوهره غير المدرَك) للناس، تكون موضع اعتراض منهم، لأنه سبحانه (من هذه الناحية) لم يشاركهم في طبيعتهم البشرية التي يتعرضون بسببها للخطأ، لكن لا يكون هناك اعتراض إذا قام بهذه المهمة الله المتأنس أو ابن الإنسان. وقد أشار له المجد إلى هذه الحقيقة فقال: »لأن الآب لا يدين أحداً، بل قد أعطى كل الدينونة للابن، وأعطاه سلطاناً أن يدين أيضاً، لأنه ابن الإنسان« (يوحنا 5:22 و27).
وقد أطلق المسيح على نفسه لقب »ابن الإنسان« بمعنى »ابن الله« مرات متعددة أمام رؤساء اليهود الذين اجتمعوا لمحاكمته، فقال لهم: »مِنَ الآن تبصرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوة وآتياً على سحاب السماء« (متى 26:64) مشيراً بذلك إلى أنه المقصود بابن الإنسان الذي تتعبد له كل الشعوب، والذي تنبأ عنه دانيال النبي من قبل. ومما يدل على أن رؤساء الكهنة فهموا قَصْد المسيح من إطلاق لقب »ابن الإنسان« على نفسه، أنهم عندما سمعوا قوله هذا، مزَّق رئيس الكهنة ثيابه قائلاً: »قد جدّف«. وهذا دليل واضح على أن المراد بـ »ابن الإنسان« هو »ابن الله« بعينه.
ويُقصد بالاصطلاح »ابن الله« الله مُعَلناً في كمال ذاته وصفاته. والاصطلاح »ابن الإنسان« يراد به الإنسان معلَناً في كمال الصفات التي خلقه الله بها أولاً. وبما أن الإنسان خُلق في أول الأمر على صورة الله، لذلك فإن »ابن الإنسان« أو »الإنسان الكامل« أو »المسيح« يكون هو صورة الله في الإنسان، أو هو الله ظاهراً في الإنسان، لأن صورة الله ليست في الواقع سوى ذاته، إذ أنه ليست له صورة بعيداً عنها. وقد تبدو هذه الحقيقة غريبة في نظر بعض الناس، لكنها تتفق مع الحق الإلهي كل الاتفاق. ويُراد بالاصطلاح »ابن الله« »أقنوم الابن« في علاقته مع الله أو اللاهوت، كما يُراد بالاصطلاح »ابن الإنسان« »أقنوم الابن« في علاقته مع الإنسان. فإذا ذكرنا أن الإنسان في نظرنا ليس هو الهيكل البشري الخارجي، بل هو مجموعة صفات الإنسانية السامية (لأننا نقول عمَّن تتوافر فيه هذه الصفات إنه »إنسان« أو »الإنسان«، وعمَّن لا تتوافر فيه هذه الصفات إنه »ليس إنساناً«)، اتضح لنا أن الشخص الجدير بأن يُدعى »الإنسان« أو الإنسان الكامل، أو »ابن الإنسان« ، هو المسيح وحده، وذلك للأسباب الآتية:
(1) لم يُولد المسيح بالتناسل الطبيعي مثل الناس، بل وُلد من عذراء، فلا يصحّ أن يُقال عنه إنه »ابن آدم« مثل أحد الناس. فإذا أردنا أن نسند شخصه من جهة الناسوت إلى بشر كابن، فإنه لا يُدعى »ابن آدم« بل »ابن مريم« أو »نسل المرأة« (تكوين 3:15).
( 2) لا يُقصد بكلمة »الإنسان« الرجل وحده، بل يُقصد بها الرجل والمرأة على السواء، لأنها تدل على الإنسان عامة. فتسمية المسيح بـ »ابن الإنسان« لا يُفهم منها أنه »ابن آدم« بل أنه ابن الإنسان عامة، أو ابن الإنسانية وممثّلها، بوصفه المتأنس منها لكي يأخذ بناصرها.
(3) كما أن هناك أبناء كثيرين لله، ولكن المسيح وحده هو »ابن الله«، هناك أبناء كثيرون للناس، لكن المسيح وحده هو »ابن الإنسان«. ولذلك هو وحده أطلق هذا اللقب على نفسه. وتدل كل القرائن على أنه قصد به »المعلِن لله« أو »الله معلَناً«. لأنه أعلن أنه بوصفه ابن الإنسان يغفر الخطايا (مرقس 2:7) ويمنح الخلاص والسلام (لوقا 7:50) ويعطي الأموات بالخطية حياة روحية أبدية (يوحنا 5:25) ويجازي كل واحد حسب أعماله (متى 16:27) وغير ذلك من الأعمال التي لا يقوم بها إلا الله. ومما يثبت صدق هذه الحقيقة أن اليهود استنتجوا من كلام المسيح أن للقب »ابن الإنسان« معنى غير المعنى الذي يتبادر إلى الذهن، فسألوه مرة في حيرة: »من هو هذا ابن الإنسان ؟« (يوحنا 12:34). وما كان للحيرة أن تجد مجالاً إلى نفوسهم، لو كانوا قد علموا أن »ابن الإنسان« هو بعينه »ابن الله«. فهو رب السبت أيضاً (مرقس 2:28).
قال المعترض: »في إنجيل متى 8:18-22 طلب كاتبٌ أن يتبع المسيح، واستأذن رجل آخر لدفن أبيه، ثم جاء ذكر معجزات باهرة أخرى، ثم قصة التجلي في أصحاح 17. أما لوقا فذكر الطلب والاستئذان في أصحاح 9 بعد قصة التجلي«.
وللرد نقول: راعى كل من متى ولوقا ترتيباً في ذكر معجزات المسيح وتعليمه حسب ما ساقه إليهما الروح القدس، فراعى أحدهما الزمان، وراعى الآخر المكان كما يُعلم من سياق الكلام. ولو أن أحدهما أثبت شيئاً ونفاه الآخر لقلنا إن هناك تناقضاً.
قال المعترض: »جاء في متى 8 أولاً شفاء الأبرص بعد الموعظة على الجبل، ثم شفاء عبد قائد المئة بعد دخوله كفرناحوم، ثم شفاء حماة بطرس. ولكن لوقا (في أصحاح 4) ذكر أولاً شفاء حماة بطرس، ثم في لوقا 5 شفاء الأبرص، ثم في لوقا 7 شفاء عبد قائد المئة. فأحد البيانين غلط«.
وللرد نقول: لو ذكر لوقا الآيات في أصحاح واحد لكان الاعتراض عليه في محلِّه، ولكنه ذكرها في أصحاحات متنوعة لمناسبات مختلفة. ولا يخفى أن بعض الرسل كان يراعي في سرد معجزات المسيح الترتيب التاريخي، والآخر يراعي المكان، والآخر مناسبات الأقوال، بما لا يخرج عن التوافق والتطابق. وكان البعض يراعي نتائج المعجزة وتأثيرها على السامعين وما ترتَّب عليها من هداية الأنفس، فيقدمها على غيرها من المعجزات.
قال المعترض: »ورد في متى 8:28 أنه لما جاء المسيح إلى كورة الجرجسيين استقبله مجنونان خارجان من القبور، وورد في مرقس 5:2 ولوقا 8:27 أنه استقبله من القبور إنسان به روح نجس. مجنون واحد أو اثنان؟ «.
وللرد نقول: اقتصر مرقس ولوقا على ذكر المجنون الذي كان أشد هياجاً وعربدة، والذي كان من الأمم، لأن غايتهما كانت إفادة الأمم، فذكرا لهم الشخص الذي كانوا يعرفونه، وصرفا النظر عن اليهودي. ولنفرض أن شخصين توجها إلى مستشفى الأمراض العقلية، وبعد خروجهما شرحا ما شاهداه (وعلى منوال متى ولوقا) اقتصر أحدهما على ذكر مجنون واحد وصرف النظر عن الآخر، بينما ذكر الراوي الثاني الاثنين. فهل يجوز أن نقول إن كلامهما متناقض؟ كلا! لكن لو قال أحدهما إنه لم يكن هناك غير مجنون واحد لكان تناقضاً.
قال المعترض: »جاء في متى 8:31 و32 أن المسيح أهلك قطيع خنازير سمح للشيطان بدخوله، فاندفع إلى البحر ومات. لماذا يؤذي المسيح أصحاب الخنازير بإهلاك الثروة الحيوانية؟«.
وللرد نقول: (1) للمسيح الحق أن يستخدم الوسائل الرمزية لإعلان حقه. لقد لعن شجرة تين فيبست (متى 21:20) ليدين النفاق. وهنا أدان النجاسة. فقد اعتبر الناس في ذلك العصر الخنازير رمزاً للشهوات والفساد، كما نعتبر الثعلب في زمننا رمزاً للمكر والخداع. وقد نظر اليهود للخنازير نظرة احتقار، بسبب الضرر الصحي لأكل لحومها، والضرر الطقسي حسب شريعة موسى، ثم لشراستها، وكانوا يشّبهون السكير المتمرّغ في الوحل بالخنزير القذر.
(2) لم يهلك المسيح الخنازير، بل الخنازير لما وجدت نفسها تحت سلطة الشياطين اندفعت للهلاك تحت تأثير الفزع والخوف، فأهلكت نفسها.
قال المعترض: »نقرأ في متى 9 قصة المجنون الأخرس، وفي متى 10 إعطاء المسيح تلاميذه قدرة على إخراج الشياطين وشفاء المرضى وإرسالهم، ثم ذكر آيات أخرى، وذكر قصة التجلي في أصحاح 17 . وكتب لوقا أولاً في أصحاح 9 إعطاء المسيح لتلاميذه قدرة على المعجزات، ثم قصة التجلي. وفي هذا الأصحاح وفي أصحاح 10 وأول أصحاح 11 ذكر معجزات أخرى، ثم ذكر معجزة المجنون الأخرس«.
وللرد نقول: راعى أحد البشيرين المعجزات التي صنعها المسيح لليهود، فذكرها أولاً، وأخّر الأقوال التعليمية عنها كما فعل متى. والآخر قدم التعاليم والخطابات الإلهية على المعجزات. وبصرف النظر عن ذلك، فالمسيح صنع معجزات كثيرة قبل التجلي وبعده، وأخرج شياطين من أكثر من مجنون أخرس.
قال المعترض: »ورد في متى 9:9 أن الذي دعاه المسيح عند مكان الجباية هو متى، وورد في مرقس 2:14 أن اسمه لاوي بن حلفَى، وورد في لوقا 5:27 أن اسمه لاوي«.
وللرد نقول: (1) تدل القرائن التي ذكرها كل منهم على أن الشخص واحد، فكل منهم ذكر وظيفته، وقال إنه كان جالساً عند مكان الجباية، وإن المسيح دعاه ليتبعه، واختاره ليكون من التلاميذ فترك كل شيء وتبعه.
(2) كثيراً ما يُسمى الشخص باسمين، فبطرس يُسمَّى سمعان ويُسمَّى صفا. وقد غيَّر شاول الطرسوسي اسمه إلى بولس عندما صار مسيحياً. والمعهود بيننا أنه إذا انتقل الإنسان من حالة إلى أخرى غيّر اسمه إشارة إلى رفض الحالة السابقة.
(3) اقتصر بعض التلاميذ على ذكر اسمه بدون ذكر اسم أبيه، اكتفاءً بذكر صناعته وظروفه الخصوصية، وهي هنا قوله إنه كان جالساً عند الجباية. ثم أن حلفى أبا يعقوب هو غير والد لاوي.
اعتراض على متى 9:13 - »إلى التوبة«
انظر تعليقنا على مرقس 2:17
قال المعترض: »بين متى 9:18 ومرقس 5:23 في قصة ابنة الرئيس اختلاف، فالأول قال إن الرئيس قال للمسيح ابنتي ماتت، والثاني قال إنها على آخر نَسَمة«.
وللرد نقول: قال إنجيل متى إن يايرس قال للمسيح إنها ماتت. ولكن إنجيل مرقس يقول إن يايرس قال: »ابنتي الصغيرة على آخر نسمة«. ويصف إنجيل لوقا حالتها بأنها كانت في حال الموت (لوقا 8:42). والحقيقة هي أنه عندما ترك يايرس بيته كانت على وشك الموت، وعندما وصل إلى المكان الذي كان المسيح فيه لم يكن يدري إن كانت ابنته حية أو ماتت. فوصفها مرة بأنها ماتت ومرة أخرى بأنها على وشك الموت، فقال: »ابنتي الصغيرة على آخر نسمة. ليتك تأتي وتضع يدك عليها لتُشفى فتحيا«. وكلمة »لتشفى« لأنها مريضة، وكلمة »لتحيا« لأنها ماتت. فالرجل لم يكن متأكداً من حالة ابنته، فتحدث مرة عن خطورة حالتها وطلب شفاءها، ومرة أخرى تحدث عن موتها.
قال المعترض: »ورد في إنجيل متى 10:2-4 »وأما أسماء الاثني عشر رسولاً فهي: الأول سمعان الذي يُقال له بطرس وأندراوس أخوه. يعقوب بن زبدي ويوحنا أخوه. فيلبّس وبرثلماوس. توما ومتى العشار. يعقوب بن حلفى ولباوس الملقب تداوس. سمعان القانوي ويهوذا الإسخريوطي الذي أسلمه«. ولو صحّ أن المسيح هو خاتمة الأنبياء والمرسلين فلا يكون تلاميذه أنبياء. ويعتبر المسيحيون تلاميذ المسيح أفضل من موسى وسائر أنبياء بني إسرائيل، مع أن يهوذا الإسخريوطي الخائن كان واحداً من هؤلاء، ويُقال إنه ممتلئ بالروح القدس!«.
وللرد نقول: تحققت كل نبوات الأنبياء الذين تنبأوا عن مولد المسيح وزمانه ومكانه وأعماله ومعجزاته وآلامه وصلبه وقيامته وصعوده. وتمَّت كل نبوَّاتهم بظهور المسيح الذي اتَّخذ التلاميذ رسلاً له، لينشروا بشرى الخلاص، فكانوا نوراً للناس، والمسيح قال لهم: »مَنْ قبِلَكم فقد قَبِلَني، ومَنْ رفضكم فقد رفضني«. وبذلك خُتمت النبوَّة، ولم يأتِ نبي بعد المسيح ورسله. بل إن المسيح حذر تلاميذه ممن يدَّعي النبوَّة والرسالة بعده، وقال لهم يأتي بعدي الأنبياء الكذبة (انظر متى 24:11).
أما كلام المعترض عن يهوذا الإسخريوطي فمردود عليه بأن وجود منافق وسط الأبرار لا يقدح في صلاحهم، والمسيح كان يعرف حقيقة يهوذا، ولكنه قال عن الحنطة والزوان: »دعوهما ينميان كلاهما معاً إلى الحصاد«، (متى 13:30) فيجمع الزوان للنار ويُدخِل الحنطة في المخازن. فكذلك الحال مع كنيسة الله، ففي أعضائها الصالح والطالح إلى أن يأتي اليوم الأخير. ومع ذلك فلما أظهر يهوذا الخيانة نخسه ضميره على خيانته، وتأكد أنه أسلم القدوس لأجل الأثمة، فلم يسعه سوى الانتحار.
قال المعترض: »الذي يراجع متى 10:2-4 ومرقس 3:16 ولوقا 6:13-16 يجد أنهم اتفقوا في أسماء 11 من التلاميذ، هم بطرس وأندراوس ويعقوب بن زبدي ويوحنا وفيلبس وبرثولماوس وتوما ومتى ويعقوب بن حلفى وسمعان ويهوذا الإسخريوطي، واختلفوا في اسم الثاني عشر. قال متى »لباوس الملقب تداوس« وقال مرقس »تداوس« وقال لوقا »يهوذا أخو يعقوب«.
وللرد نقول: ذكر متى لباوس وسمعان القانوي، ولكن لوقا أورد بدلاً من هذين يهوذا أخا يعقوب وسمعان الغيور. على أن سمعان الغيور هو نفسه سمعان القانوي. وكلمة »قانوي« هي اللفظة العبرانية لكلمة »غيور«. وإذ ذاك تزول أول عقدة.
ولابد أن يكون لباوس هو يهوذا أخا يعقوب، إذ يظهر أنه كان له أكثر من اسم واحد. فعلاوة على اسم يهوذا الذي كان يُعرف به وقتئذ، كان يُطلق عليه أحياناً اسم لباوس وتداوس، ومعناهما واحد. وكانت العادة في ذلك العصر تسمية الشخص باسمين، كما نرى في مسألة بطرس، فاسمه الأصلي سمعان، ودعاه المسيح صفا وبطرس.
قال المعترض: »ورد في متى 10:5 و6 أن المسيح أوصى تلاميذه الاثني عشر أن يبشّروا خراف بيت إسرائيل الضالة. وفي متى 15:24 قال: »لم أُرسَل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة«. مع أن المسيح قال في مرقس 16:15 »اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها«. وهذا تناقض«.
وللرد نقول: القانون الذي وضعه المسيح لرسله هو أن يكرزوا أولاً لبني إسرائيل، وبعدها يكرزون للجميع. ويعلّمنا كتاب الله أن واجبنا الأول هو العناية بأهل بيت الإيمان أولاً، ثم التبشير لغيرهم. فلا تناقض، وإنما فيه تقديم بيت إسرائيل على غيرهم. كما أن التلاميذ كانوا في رحلة تبشيرية تدريبية، فكان من الحكمة إرسالهم إلى من يعرفون لغتهم وعاداتهم ويتفقون معهم في معتقداتهم. وعلى هذا كان البدء في خدمتهم بين اليهود، الذين يَسْهل على التلاميذ الاتصال بهم. ولما أكمل تلاميذ المسيح تدريبهم كلَّفهم المسيح بالمهمة الكاملة وهي تبشير العالم أجمع.
وهناك حكمة أن نبدأ بمن نعرفه، ولكننا لا نتوقَّف عنده، بل نمتد منه إلى من لا نعرفه، ولذلك كانت نصيحة المسيح لتلاميذه قبل صعوده: »ستنالون قوة متى حلّ الروح القدس عليكم، وتكونون لي شهوداً، في أورشليم، وفي كل اليهودية، والسامرة، وإلى أقصى الأرض« (أعمال 1:8).
لا تناقض بين الأمرين، بل الثاني مبنيّ على الأول ويكمله. نبدأ ببني إسرائيل المعروفين، ونكمل الكرازة للأمم غير المعروفين.
قال المعترض: »ورد في إنجيل متى 10:10 ولوقا 9:3 أن المسيح منع تلاميذه عن أخذ العصا، وجاء في مرقس 6:8 أنه سمح لهم بأخذ العصا«.
وللرد نقول: لنورد عبارة البشير متى من عدد 9 ليظهر المعنى. قال: »9 لا تقتنوا ذهباً ولا فضة ولا نحاساً في مناطقكم 10 ولا مزوداً للطريق ولا ثوبين ولا أحذية ولا عصا«. أما عبارة إنجيل مرقس من عدد 8 فتقول: »وأوصاهم أن لا يحملوا شيئاً للطريق غير عصا فقط، لا مزوداً ولا خبزاً ولا نحاساً في المنطقة، بل يكونوا مشدودين بنعال ولا يلبسوا ثوبين«.
والصعوبة التي تظهر عند مقابلة هذين الفصلين هي أن المسيح حسب ما جاء في متى منع التلاميذ من أخذ عصا، بينما الوارد في مرقس يفيد أنه أذن لهم بأخذ العصا. ويقول متى إنه أوصاهم أن لا يأخذوا أحذية، بينما في مرقس سمح لهم أن يلبسوا أحذية. على أن التوفيق بين هاتين العبارتين يأتي من مقابلة النهيين المستعملين فيهما. فالنهي الوارد في متى هو قوله »لا تقتنوا« أما النهي الوارد في مرقس فهو أن »لا يحملوا« مما يعني أن المسيح في إنجيل متى ينهاهم عن شراء أشياء جديدة، أما في مرقس فيريهم ما يجب أن يأخذوه معهم في سفرهم. فكأنه بحسب الوارد في مرقس يقول لهم: »اذهبوا كما أنتم بما معكم الآن. إن كانت معكم عصا فخذوها«. ولكنه لم يسمح لهم بشراء عصا أخرى. وكانوا أيضاً لابسين أحذية فأمرهم أن يكتفوا بها ولا يشتروا غيرها. من هنا نرى أن الفصلين لا يتناقضان، بل يوضح أحدهما الآخر.
قال المعترض: »ورد قول المسيح في متى 10:19 و20 »فمتى أسلموكم، فلا تهتموا كيف أو بما تتكلمون، لأنكم تُعطون في تلك الساعة ما تتكلمون به، لأن لستم أنتم المتكلمين بل روح أبيكم الذي يتكلم فيكم«. وورد في لوقا 12:11 و12 »ومتى قدموكم إلى المجامع والرؤساء والسلاطين فلا تهتموا كيف أو بما تحتجون أو بما تقولون، لأن الروح القدس يعلّمكم في تلك الساعة ما يجب أن تقولوه«. وكذلك ورد هذا القول في مرقس 13:11. فالمسيح وعد لمريديه أن الشيء الذي يقولونه عند الحكام يكون بإلهام الروح القدس، وهذا غلط. فورد في سفر الأعمال 23:1-5 »فتفرَّس بولس في المجمع وقال أيها الرجال الإخوة، إني بكل ضمير صالح قد عشتُ لله إلى هذا اليوم«. فأمر حنانيا رئيس الكهنة الواقفين عنده أن يضربوه على فمه، حينئذ قال له بولس: »سيضربك الله أيها الحائط المبيض. أفأنت جالس تحكم عليّ حسب الناموس، وأنت تأمر بضربي مخالفاً للناموس؟« فقال الواقفون: أتشتم رئيس كهنة الله؟ فقال بولس: لم أكن أعرف أيها الإخوة أنه رئيس كهنة، لأنه مكتوب: رئيس شعبك لا تقل فيه سوءاً«.. فلو كان القول المذكور صادقاً لما غلط الرسول بولس. فغلط بولس دليل على عدم صدق القول المذكور. هل يغلط الروح القدس؟«.
وللرد نقول: الذي يدرس تاريخ الرسل يظهر له أنهم جعلوا كل اعتمادهم على الله في وقت الاضطهاد. ولم يكن الرسل أثرياء ولا أقوياء، وإنما كان الروح القدس يؤازرهم، فكانت أسلحتهم روحية، وهي الحث على التوبة والإيمان والمحبة، وكان الروح القدس ينطق على ألسنتهم ويعمل فيهم، ويقويهم، وهو الذي أنجحهم وجرَّأهم على الوقوف أمام الملوك، وقوَّاهم على احتمال الشدائد والضيقات، »فذهبوا فرِحين من أمام المجمع لأنهم حُسبوا مستأهلين أن يُهانوا من أجل اسمه« (أعمال 5:41).
قال المعترض: »جاء في متى 10:23 »ومتى طردوكم من هذه المدينة فاهربوا إلى الأخرى، فإني الحق أقول لكم: لا تكمّلوا مدن إسرائيل حتى يأتي ابن الإنسان«. قال المسيح هذا لتلاميذه وهو يرسلهم للكرازة للمدن الإسرائيلية. ولكن هذا منقوض بقول المسيح في متى 24:14 »ويُكرز ببشارة الملكوت هذه في كل المسكونة شهادةً لجميع الأمم. ثم يأتي المنتهى«.
وللرد نقول: هناك عدة تفسيرات لما يظهر أنه تناقض:
(1) قصد المسيح في متى 10:23 أنه في هروب التلاميذ من مدينة إلى أخرى لا يكونون قد زاروا كل مدن إسرائيل حتى تخرب أورشليم ويبطل النظام اليهودي، فيكون المسيح قد عاقب المدينة التي صلبته.
(2) مجيء ابن الإنسان في متى 10:23 له عدة معانٍ، فقد يعني انتصار قضية المسيح، وقد يعني خراب أورشليم، أو حلول الروح القدس يوم الخمسين، أو تثبيت دعائم كنيسته ونظامه في العالم.
(3) قصد المسيح أنهم قبل أن يزوروا كل مدن إسرائيل كارزين بالإنجيل يقوم المسيح من قبره، ويأتي إلى تلاميذه بالسلام والفرح.
قال المعترض: »جاء في متى 10:34 أن المسيح قال: »لا تظنّوا أني جئت لألقي سلاماً على الأرض. ما جئت لألقي سلاماً بل سيفاً«. وجاء في لوقا 12:51 أن المسيح قال: »أتظنون أني جئت لأعطي سلاماً على الأرض؟ كلا أقول لكم بل انقساماً، لأنه يكون من الآن خمسة في بيت منقسمين، ثلاثة على اثنين واثنان على ثلاثة«. وهذا يتناقض مع قوله: »سلاماً أترك لكم سلامي أعطيكم« (يوحنا 14:27).
وللرد نقول: لم تكن الانقسامات هدف المسيح، لكنها كانت النتيجة الواقعية التي أعقبت ظهوره بين البشر. وبما أن إرادة الله الصالحة كانت تعمل في عالم مختل النظام، وكانت ضد إرادة الإنسان الشرير، فقد كانت النتيجة الحتميّة لذلك حدوث التفرقة والانقسام. وعندما آمن البعض بالمسيح رفضهم أفراد عائلتهم، فنشأ الانقسام عن ذلك. وحيثما كرز المسيحيون بأخبار إنجيله المفرحة قامت الاضطهادات ضدهم، فإن المسيح أرسلهم كحملان وسط ذئاب.
ومن يتبع المسيح لا يسير وراء العالم، وهذا يعني أنه سيعادي من يرفضون المسيح. لقد أبغض الخطاة المسيح، ولابد أنهم يبغضون تلاميذ المسيح، فإن صاحب العين المريضة يكره النور. إنهم الذئاب الذين يريدون هلاك الغنم! والسيف المقصود هنا هو سيف المسيح على الشيطان، أو سيف الاضطهاد من أعداء المسيح يهاجم تلاميذ المسيح. على أن أولاد الله يجدون سلام الله الكامل وسط اضطهاد الأعداء يوحنا 14:27 و16:33).
اعتراض على متى 11:3 - أم ننتظر آخر؟
انظر تعليقنا على متى 3:14
قال المعترض: »ورد في متى 11:10 وفي مرقس 1:2 وفي لوقا 7:27 »أنا أرسل أمام وجهك ملاكي الذي يهيئ طريقك قدامك« وهو مقتبَسٌ من ملاخي 3:1 »هأنذا أرسل ملاكي فيهيئ الطريق أمامي«. فقوله »أمام وجهك« لا يوجد في كلام ملاخي. وجاء الاقتباس في ملاخي بضمير المتكلم، بينما في الأناجيل بصيغة المخاطب«.
وللرد نقول: نقل البشيرون الاقتباس من النبي ملاخي بالمعنى لا بحصر اللفظ، فقد قصد النبي ملاخي أن الله سيرسل أمام المسيح من يهيئ الطريق. والبشيرون مساوون لدرجة النبي ملاخي في الوحي وإعلان معاني كلام الله. (انظر تعليقنا على متى 2:23).
اعتراض على متى 11:14 - إيليا المزمع أن يأتي
انظر تعليقنا على متى 17:11 ولوقا 1:17 ويوحنا 1:20
اعتراض على متى 11:18 - لا يأكل ولا يشرب
انظر تعليقنا على مرقس 1:6
اعتراض على متى 11:29 و30 - الحمل كَرْبٌ أم خفيف؟
انظر تعليقنا على متى 7:14
اعتراض على متى 12:3 - داود وحده؟
انظر تعليقنا على مرقس 2:25 و26
قال المعترض: »يوجد تناقض بين قول المسيح في متى 12:4 إنه يمكث في القبر ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ، وبين الوقت الذي مرَّ بين موته وقيامته، فقد صُلب المسيح بعد ظهر يوم الجمعة وقام صباح الأحد. فإذا حسبنا مدة بقاء جسده في القبر نحكم بوجوده في القبر ساعات قليلة من بعد ظهر الجمعة، ثم السبت التالي بليلته، ثم جزءاً من يوم الأحد ما بين غروب الشمس يوم السبت وبدء يوم القيامة. وعلى هذا يكون جسد المسيح قد بقي في القبر جزءاً من يوم الجمعة، وكل يوم السبت، وجزءاً من يوم الأحد، وليس ثلاثة أيام وثلاث ليال«.
وللرد نقول: ونحن نرد على هذا الاعتراض يجب أن نأخذ في اعتبارنا ثلاثة أمور: (أ) كان اليهود يعتبرون بدء اليوم من غروب الشمس. (ب) وكانوا يعتبرون الجزء من النهار نهاراً كاملاً والجزء من الليل ليلاً كاملاً، فقد قال التلمود (أقدس الكتب عند اليهود بعد كتاب الله): »إضافة ساعة إلى يوم تُحسَب يوماً آخر، وإضافة يوم إلى سنة يُحسَب سنة أخرى«. (ج) وكان معنى اليوم عندهم هو المساء والصباح، أو الليل والنهار.
فإذا أخذنا هذه النقاط الثلاث في الاعتبار وجدنا أن مقدار الزمان المعبَّر عنه هنا بثلاثة أيام وثلاث ليال هو في الحقيقة يوماً كاملاً، وجزءاً من يومين آخرين، وليلتين كاملتين. هكذا سُمِّي في أستير 4:16 بثلاثة أيام وثلاث ليالٍ، حيث يقول: »لا تأكلوا ولا تشربوا ثلاثة أيام ليلاً ونهاراً« ثم ورد في أستير 5:1 »وفي اليوم الثالث وقفت أستير في دار بيت الملك الداخلية« وحصل الفرج في هذا اليوم. ومع ذلك فقيل عن هذه المدة ثلاثة أيام.
وورد في 1صموئيل 30:2 »لأنه لم يأكل خبزاً ولا شرب ماء في ثلاثة أيام وثلاث ليال«. والحقيقة هي أن المدة لم تكن ثلاثة أيام بل أقل من ذلك، فإنه في اليوم الثالث أكل. وكذلك ورد في 2أخبار 10:5 »ارجعوا إليّ بعد ثلاثة أيام« ثم أورد في آية 12 »فجاء الشعب إلى يربعام في اليوم الثالث«. فلم تمض ثلاثة أيام كاملة بل مضى جزء منها. وفهم السامعون قصده. وأُطلِق في تكوين 42:17 و18 »ثلاثة أيام« على جزءٍ صغيرٍ منها، لأن يوسف كلّم إخوته في أواخر اليوم الأول، واعتُبر يوماً كاملاً، ثم مضى يوم واحد، وكلمهم في اليوم الذي بعده، فاعتبروا ذلك ثلاثة أيام. وإذا توفي إنسان قبل غروب الشمس بنصف ساعة حُسب له هذا اليوم كاملاً، مع أنه يكون قد مضى النهار بتمامه ولم يبق منه سوى نصف ساعة فقط.
قال المعترض: »جاء في متى 12:31 و32 »لذلك أقول لكم كل خطية وتجديف يُغفَر للناس. وأما من قال كلمةً على الروح القدس فلن يُغفر له، لا في هذا العالم، ولا في الآتي«. ولكن جاء في أعمال 13:39 »وبهذا يتبرَّر كل من يؤمن مِنْ كل ما لم تقدروا أن تتبرروا منه بناموس موسى«. فالمسيح يتكلم عن وجود خطية لا غفران لها، مع ورود فصول شتى في الكتاب تُثبت المعنى المتضمَّن في أعمال 13:39 إن كل الذين يؤمنون بالمسيح ينالون مغفرة لكل خطاياهم«.
وللرد نقول: وعد الإنجيل بوجود غفران لجميع الخطايا وعد شامل بحيث لا يمكن استثناء خطية واحدة، فالشرط المقدَّم هو هذا: »آمِن بالمسيح تنل غفراناً لكل خطاياك بلا استثناء«.
غير أن خطية التجديف على الروح القدس، والتي لا غفران لها، هي التي تجعل صاحبها يرفض الإيمان بالمسيح ويصرُّ على عدم قبول خلاصه. ولا يخفى أن الروح القدس هو الأقنوم الإلهي الذي يُجري فينا التجديد، فمن يجدّف عليه لا يُفسح المجال لعمله فيه. فلا يمكن إذاً أن يؤمن بالمسيح، وبالتالي لا يمكن أن ينال غفراناً لخطاياه. والمسيح يقول: احذر من مقاومة ذلك الأقنوم الذي يسعى في تجديدك، لأنك إذا لم تتجدد بالروح القدس لا تنال غفراناً لخطاياك. وفي هذه الحال لا يمكن أن تتوب. وبغير التوبة لا تكون مغفرة.
فنرى مما تقدم أن الآيتين غير متناقضتين، فالمعنى المتضمَّن في متى 12:31 و32 لا ينفي أن كل من آمن بالمسيح يجد مغفرة تامة شاملة لكل خطاياه.
ويوضِّح مرقس 3:22-30 معنى خطية التجديف على الروح القدس، عندما نسَب أعداء المسيح القوة العجيبة المجيدة التي طرد بها المسيح الشياطين إلى قوة الشيطان، مع أن ضمائرهم كانت مقتنعةٌ أنها من عند الله. فقال المسيح عنهم إنهم يجدفون على الروح القدس، وإن هذا المجدِّف ليس له مغفرة إلى الأبد، بل هو مستوجب دينونة أبدية. هذه العبارة إذا ترجمناها حرفياً من الأصل اليوناني يكون نصُّها: »مقيَّد بخطيةٍ أبدية«. وهذه الخطية تمنع التوبة والإيمان بالمسيح.
وكل من يتوب عن خطاياه ويلتجئ إلى المسيح ملتمساً المغفرة، لا يمكن أن يكون قد وقع في خطية التجديف على الروح القدس، إذ قال المسيح في يوحنا 6:37 »من يُقبِل إليَّ لا أخرجه خارجاً«.
قال المعترض: »ورد في متى 12:35 »الإنسان الصالح من الكنز الصالح في القلب يُخرج الصالحات«. فقال المفسِّر المسيحي هورن إن كلمة »القلب« غير موجودة في النسخ القديمة، وإنها مأخوذة من لوقا 6:45«.
وللرد نقول: قارن علماء المسيحيين مئات من نسخ الإنجيل بعضها ببعض، فوجدوا كلمة »القلب« مدوَّنة في كثير من هذه النسخ. ولكن ذهب بعضهم إلى أنها وردت تفسيراً للكنز، فإن كنز الإنسان هو قلبه، وعلى هذا تكون من المدرج الذي يراد به التفسير لا غير. وعلى كل حال فهي قراءة صحيحة.
قال المعترض: »جاء في متى 12:38 و39 أن الكتبة والفريسيين طلبوا أن يروا من المسيح آية، فأجاب إن آيتهم آية يونان النبي. ولكن في مرقس 8:11 و12 نرى أن المسيح قال: »لن يُعطى هذا الجيل آية«.
وللرد نقول: قصد المسيح بآية يونان النبي قيامته من بين الأموات، وهي آية لم يعطها لهم فور طلبهم لها. وعلى هذا فلا تناقض هناك. لن يُعطوا آية فورية، ولكنهم سيُعطون معجزة القيامة في وقت لاحق. ولم يكن المسيح يُجري المعجزات لتسلية الناس (لوقا 23:8) ولم يكن يلقي دُرره أمام الخنازير. ولكنه أجرى المعجزات ليؤمن من يرونها بصدق إرساليته (يوحنا 20:31) وكانت قيامته أعظم معجزاته (أعمال 2:22-32).
اعتراض على متى 12:39 و40 - ثلاثة أيام وثلاث ليال؟
انظر تعليقنا على متى 12:4
قال المعترض: »جاء في متى 13:32 أن حبة الخردل »أصغر جميع البذور. ولكن متى نمَت فهي أكبر البقول وتصير شجرة، حتى أن طيور السماء تأتي وتتآوى في أغصانها«. ولكن هناك بذوراً أصغر منها، كما أنها لا تصير شجرة«.
وللرد نقول: لم يقصد المسيح كل البذور في العالم، بل البذور التي كان الفلاح يزرعها في حقله في فلسطين في القرن المسيحي الأول، وهو ما قاله في آية 31 »أخذها إنسان وزرعها في حقله«. وتنمو بعض أشجار الخردل إلى ارتفاع ثلاثة أو أربعة أمتار، فتبني الطيور أعشاشها فيها، وتأكل بذورها السوداء التي تحبها.
قال المعترض: »جاء في متى 13:34 »وبدون مثل لم يكن يكلمهم«. ولكنه في الموعظة على الجبل ذكر مثلاً واحداً هو بناء بيت على الصخر أو على الرمل (متى 7:24-27)«.
وللرد نقول: قصد البشير متى أنه عندما ألقى المسيح موعظته الواردة في متى 13 كان كل وعظه بالأمثال، ولكن هذا لم يكن الحال في كل مواعظه. ومما يبرهن ردَّنا أن أول آية 34 يقول: »هذا كله كلَّم به يسوع الجموع بأمثال«.. كما أن المسيح هدَّف الموعظة على الجبل لتلاميذه الذين قرروا أن يتبعوه، بينما كان حديثه بالأمثال في متى 13 للجموع (متى 5:1 و2 ولوقا 6:20). صحيح أن بعض الجموع سمعوا موعظة الجبل، لكن المستمعين الذين وُجِّهت إليهم كانوا من الأتباع المخلصين للمسيح.
ويقول الرسول يوحنا (يوحنا 21:25) إن المسيح فعل أشياء كثيرة لم تُدوَّن لكثرتها، وربما لم تُكتب بعض أمثاله.
قال المعترض: »يُعلَم من متى 15:22 أن المرأة التي استغاثت بالمسيح لشفاء ابنتها كانت كنعانية، وفي إنجيل مرقس 7:26 إنها كانت أممية، وجنسها فينيقية سورية- فما هي جنسيتها؟«.
وللرد نقول: كانت البلاد التي تشتمل على صور وصيدا في يد الكنعانيين، وكانت تسمى كنعان، لأن الفينيقيين تناسلوا من الكنعانيين. وكانت البلاد التي تشتمل على صور تُسمى فينيقية أو فينيقية سورية، ثم استولى عليها إسكندر ذو القرنين، فصارت تابعة لليونان. وكانت تلك المدن في عصر المسيح يونانية، وكانت تلك المرأة أممية تحت حكومة اليونان ولغتها يونانية، فكانت فينيقية سورية مولداً، وأصلها من ذرّية الكنعانيين.
قال المعترض: »في متى 15:24 طلب التلاميذ من المسيح أن يصرف المرأة الكنعانية التي كانت تطلب منه شفاء ابنتها، فقال لهم: »لم أُرسَل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة«. وهذا يعني أن رسالة المسيح خاصة باليهود«.
وللرد نقول: رسالة المسيح هي للعالم كله، بحسب قوله: »هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكيلا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية« (يوحنا 3:16)، وقوله: »لي خرافٌ أُخَر ليست من هذه الحظيرة« (يوحنا 10:16)، وقوله: »وأنا إن ارتفعتُ عن الأرض أجذب إليَّ الجميع« (يوحنا 12:32). أما إجابته على التلاميذ فأشار بها إلى خدمته الشخصية وهو على الأرض في الجسد، يعظ ويُجري المعجزات، ولا صلة لها بالمرة إلى عمله الفدائي والشفاعي.. ومع هذا فنجده يرحِّب بالناس جميعاً، أفراداً وجماعات. فقد التقى مرة في حديث فردي مع رجل دين يهودي اسمه نيقوديموس، وكلَّمه عن الولادة الجديدة، كما التقى في حديث فردي مع امرأة سامرية ساقطة، وقدَّم لها ماء الحياة (يوحنا أصحاحا 3 و4). وشفى يهوداً ووثنيين. ومن الوثنيين خادم قائد المئة (متى 8) وابن رجل البلاط الملكي (يوحنا 4)، وابنة المرأة الكنعانية (متى 15).
اعتراض على متى 15:30 - مبالغة؟
انظر تعليقنا على مرقس 7:32
اعتراض على متى 16:6-12 - هل كلام المسيح غامض؟
انظر تعليقنا على يوحنا 2:19-23
قال المعترض: »عندما سأل المسيح تلاميذه عمَّن يقولون إنه هو، يقول متى 16:16 إن بطرس أجاب: »أنت هو المسيح ابن الله الحي«. ولكن في مرقس 8:29 نجد إجابة بطرس »أنت المسيح« ويقول لوقا 9:20 إن إجابة بطرس كانت »مسيح الله«. وهذا تناقض«.
وللرد نقول: الأغلب أن ردَّ الرسول بطرس كان باللغة الأرامية، فنقله البشيرون إلى اللغة اليونانية، لغة الأناجيل، فجاءت ترجماتهم للنص الأصلي مختلفة في الكلمات، متَّفقة في المعنى. ولم يكن البشيرون ينشئون الحقائق والاقتباسات، بل كانوا يقدمونها. والأغلب أن متى أورد عبارة المسيح بالنص، وهي »أنت هو المسيح ابن الله الحي«. وأوردها مرقس »أنت المسيح (ابن الله الحي)« وأوردها لوقا »(أنت) المسيح (ابن) الله (الحي)«.
انظر تعليقنا على متى 2:23
قال المعترض: »ورد في متى 16:18 و19 »أنت بطرس، وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي، وأبواب الجحيم لن تقوى عليها. وأعطيك مفاتيح ملكوت السموات، فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطاً في السموات، وكل ما تحلّه على الأرض يكون محلولاً في السموات« ولكن في آية 23 قال له المسيح: »اذهب عني يا شيطان. أنت معثرة لي، لأنك لا تهتم بما لله لكن بما للناس«. ومَنْ كان بهذه الصفات لا يكون مالكاً لمفاتيح السموات«.
وللرد نقول: (1) عيّن المسيح رسله ليكونوا دعاةً وهداةً، وخوّلهم قوّةً على عمل المعجزات الباهرة، من شفاء المرضى وإقامة الموتى، وأمرهم أن يبشروا الناس ويهدوهم إلى الحياة الأبدية، وأن يقبلوا في الكنيسة المنظورة من يرون قبوله مناسباً، وأن يرفضوا من يستوجب الرفض. ولما كان بطرس وغيره من الرسل سبباً في هداية النفوس، قال له: »أعطيك مفاتيح ملكوت السموات« (أي الكنيسة). وهي استعارة لطيفة. فإنه لما كانت الضلالة من أعظم العوائق للناس عن الانضمام إلى الكنيسة، وكان التعليم والإرشاد أعظم واسطة في الهداية والدخول في السماء، كان أول من قام بذلك بطرس الرسول، فإنه أول من كرز لليهود حتى آمن على يده ثلاثة آلاف نفس في يوم واحد، فقال المسيح له: »أعطيك مفاتيح ملكوت السماوات«.
(2) التعبير »أعطيك مفاتيح« مأخوذٌ عن عادة لليهود، فإذا نبغ أحد رجالهم في العلم أعطوه مفتاح خزانة الكتب في الهيكل، ولوح كتابة، تصريحاً له ليعلّم، ويفسر الكتب المقدسة، ويفتي. فاستعار المسيح المفاتيح إشارة إلى أن بطرس سيكون من أعظم المعلمين الذين يُهتدى بهم. وكان المفتاح عند اليونان علامة الرتبة الكهنوتية، فكان الكاهن يعلق مفتاحاً على كتفه. وإعطاء الإنسان المفتاح علامة على أن المعطي يثق في الشخص الذي أعطاه هذا المفتاح. وقد ورد في إشعياء 22:22 »وأجعل مفتاح بيت داود على كتفه، فيفتح وليس من يغلق، ويغلق وليس من يفتح«. فإعطاء بطرس مفتاح ملكوت السموات هو تخويله سلطة لتوطيدها وحفظها. وقد تم هذا كما نقرأ في سفر أعمال الرسل.
(3) لا يخفى أن الهادي الحقيقي هو الله، وإنما جُعل الأنبياء والرسل واسطة في الهداية. ومن كان في يده مفاتيح شيء مخزون سهُل عليه الوصول إليه. والله هو الفتاح العليم، الذي يفتح أبواب الرزق والرحمة لعباده. وقول الإنجيل »ملكوت السموات« أي الكنيسة، وقوله »لن تقوى عليها أبواب الجحيم« أي لا يقدر أحد أن يمسها بضرر، لأن الله يكلأها بعنايته.
(4) أما توبيخ المسيح لبطرس بقوله: »يا شيطان« فيعني وسوسة الشيطان في تلك اللحظة. وكان المسيح وقتها يتكلم عن وجوب موته، فقال له بطرس: »حاشاك يا رب« وهو لا يعلم أن خلاص البشر متوقّف على صلبه وموته، فكانت مقاومة بطرس لإعلان المسيح وسوسة من الشيطان الذي يرفض الصليب.. وكلنا يعلم أن بطرس من كبار الرسل، لكنه إنسان قابل للسقوط، إلا في التعليم والإلهام، ولا سيما بعد حلول الروح القدس.
اعتراض على متى 16:20 - نعلن أو لا نعلن عن المسيح
انظر تعليقنا على متى 8:4
قال المعترض: »ورد في متى 16:27 و28 »فإن ابن الإنسان سوف يأتي في مجد أبيه مع ملائكته، وحينئذ يجازي كل واحد حسب عمله. الحق أقول لكم إن من القيام ههنا قوماً لا يذوقون الموت حتى يروا ابن الإنسان آتياً في ملكوته«. ولكن كل القائمين هناك وقتها ذاقوا الموت، ومضى على ذلك نحو ألفي سنة دون أن يرى أحدٌ منهم ابن الله آتياً في ملكوته في مجد أبيه مع الملائكة«.
وللرد نقول: استُعملت عبارة »مجيء ابن الإنسان« في الكتب المقدسة بمعنى حقيقي ومعنى مجازي، فتُطلق حقيقةً على أول مجيء المسيح الكلمة الأزلي بالجسد (1يوحنا 5:20 و2يوحنا 7). واستُعملت بالمعنى الحقيقي عن مجيئه في اليوم الأخير فيبعث الموتى من القبور ويدين العالم بالبر (أعمال 1:11 و3:20 و21 و1تسالونيكي 4:15 و2تيموثاوس 4:1).
ولكن هناك معنى مجازي هو: (1) الكرازة بالإنجيل، فيُقال إن ابن الإنسان أتى (يوحنا 15:22 وأفسس 2:17). (2) وهو تأييد الكنيسة أو ملكوت الله بقوة في العالم (متى 16:28). (3) وهو منح المؤمنين الروح القدس (يوحنا 14:18 و23 و28). (4) وهو عقاب الأشرار الذين يرفضون الإنجيل (2تسالونيكي 2:8) (5) وهو انتقال المؤمنين من هذا العالم بالموت تمهيداً لدينونة اليوم الأخير (متى 24:42). فمعنى القول »سوف يأتي ابن الإنسان في مجد أبيه مع ملائكته« هو يوم الدينونة، »وحينئذ يجازي كل واحد حسب عمله«. ولكنه يعني أيضاً تحقيق وعد المسيح أن الكنيسة التي تبدأ ضعيفة مثل حبة الخردل تصير شجرة عظيمة تتآوى طيور السماء في أغصانها. وقد رأى تلاميذ المسيح الكنيسة زاهرة، وشاهد جميع الرسل امتدادها وانتشارها في يوم الخمسين، لما انضم إلى عضويتها جملة ألوف. وليس ذلك فقط، بل إن بعض الرسل ولا سيما يوحنا رأى ما حلّ بالأمة اليهودية من البلاء والشتات في الدنيا، ورأى خراب أورشليم وهيكلها العظيم (تتميماً لنبوَّة المسيح التي أعلنها قبل أربعين سنة)، وشاهدوا أيضاً انتشار المسيحية في آسيا وروما وبلاد اليونان وفي أشهر ممالك ذلك العصر، فلم يذوقوا الموت حتى رأوا اتساع مملكة المسيح الروحية فإنه ملك روحي يملك على الأفئدة بالمحبة.
وقد عبّر المسيح عن الكنيسة بملكوت الله أو ملكوت السموات، إشارة إلى ما ورد في نبوَّة دانيال 7:13 و14 »وإذا مع سحب السماء مثل ابن إنسان أتى، وجاء إلى القديم الأيام فقرَّبوه قدامه، فأُعطي سلطاناً ومجداً وملكوتاً لتتعَّبد له كل الشعوب والأمم والألسنة«. ومجيئه الثاني ليدين العالم.
قال المعترض: »جاء في متى 17:1 »وبعد ستة أيام أخذ يسوع بطرس ويعقوب ويوحنا أخاه، وصعد بهم إلى جبل عال منفردين«. والمقصود ستة أيام بعد إعلان المسيح عن موته. وكذلك قال البشير مرقس. أما لوقا 9:28 فيقول: »وبعد هذا الكلام بنحو ثمانية أيام أخذ بطرس..«. وفي هذا تناقض«.
وللرد نقول: يحدد متى ومرقس المدة بالضبط، أما لوقا فيقول »نحو ثمانية أيام« لأنه أضاف إلى الأيام الستة اليوم الذي كان المسيح يتكلم فيه، ويوم التجلي نفسه.
اعتراض على متى 17:9 - نعلن أو لا نعلن عن المسيح
انظر تعليقنا على متى 8:4
قال المعترض: »قال المسيح: »إيليا يأتي أولاً ويرد كل شيء« (متى 17:11). إلى من تشير هذه النبوَّة؟«.
وللرد نقول: تشير هذه النبوَّة إلى يوحنا المعمدان، وهو واضح من الآية التالية (متى 17:12) والتي تقول: »إيليا قد جاء ولم يعرفوه، بل عملوا به كل ما أرادوا. كذلك ابن الإنسان أيضاً سوف يتألم منهم. حينئذ فهم التلاميذ أنه قال لهم عن يوحنا المعمدان«. نعم إن يوحنا غير إيليا في شخصه، فلما سُئل يوحنا إن كان هو إيليا، أجاب: »لست أنا«. وإنما كان يوحنا سابِقَ المسيح الذي يُعِدّ الطريق أمامه »بروح إيليا وقوته« (لوقا 1:19) كما أنبأ جبرائيل أباه زكريا (لوقا 1:17). وكما تنبأ ملاخي أيضاً (ملاخي 4:5) كان يوحنا المعمدان إيليا النبي لأن كليهما عاشا بكيفية واحدة، وكانت لكليهما كرازة نارية (قابل 3:4 مع 1ملوك 17:1-6).
انظر تعليقنا على لوقا 1:17 ويوحنا 1:21
اعتراض على متى 18:1 - نصلي كثيراً أم قليلاً؟
انظر تعليقنا على متى 6:7 و8
قال المعترض: »يُفهَم من متى 19:1 أن المسيح ارتحل من أريحا وجاء إلى أورشليم، ويُعلم من يوحنا 12:1 أنه ارتحل من أفرايم وجاء إلى قرية بيت عنيا، وبات فيها، ثم جاء إلى أورشليم«.
وللرد نقول: الآيات الواردة في متى 19:1 و20:17 و29 و21:1 ويوحنا 10:40 و11:17 و54 و12:1 تشير إلى سفرياتٍ قام بها المسيح في أوقات مختلفة، فإنه لما سافر من الجليل توجّه إلى أورشليم وحضر عيد المظال، ثم سافر إلى بيرية بعد الأردن، ومنها سافر إلى بيت عنيا فأقام لعازر من الموت، ثم توجَّه إلى أورشليم على طريق أريحا فشفى الأعميين، ثم زار زكا، وتوجّه إلى بيت عنيا قبل عيد الفصح بستة أيام. فبعض الآيات المذكورة تشير إلى بعض السفريات، والبعض الآخر تشير إلى باقي سفرياته.
قال المعترض: »قال المسيح في متى 19:17 لأحد الشباب: »لماذا تدعوني صالحاً؟ ليس أحدٌ صالحاً إلا واحد وهو الله«. وهذا يعني أن المسيح ليس هو الله«.
وللرد نقول: قول المسيح: »لماذا تدعوني صالحاً؟ ليس أحد صالحاً إلا واحد وهو الله« لا ينفي الصلاح أو اللاهوت عن نفسه، فقد خاطب الشاب على أساس اعتقاده فيه، لأنه لم يكن يعتقد أن المسيح هو الله، بل كان يعتقد أنه أحد معلمي الدين (الذين اعتاد اليهود أن يُسندوا إليهم الصلاح والفضيلة جزافاً). فانتهز المسيح هذه الفرصة، كما انتهز غيرها، وأجاب سائله بالإجابة التي تصحّح اعتقاده في هؤلاء المعلّمين. وكأنه يقول له: إن كنت تظن أني مجرد معلّم، فاعلم أنه ليس هناك معلم صالح على الإطلاق، لأن جميع الناس خطاة بأفعالهم، كما أنهم خطاة بطبيعتهم وأفكارهم. فليس هناك كائن يستحق أن يُقال عنه إنه صالح سوى الله وحده. أما إن كنت تعرف أني الله الذي ظهر في الجسد فإنك تكون قد قلتَ الصواب. والمسيح صالح في ذاته كل الصلاح، وقال عن نفسه: »أنا هو الراعي الصالح« (يوحنا 10:11)، كما شهد بذلك تلاميذه الذين عاشوا معه وعرفوه. فقال بطرس عنه إنه: »لم يفعل خطية، ولا وُجد في فمه مكر« (1بطرس 2:22). وقال كاتب رسالة العبرانيين عنه إنه »قدوس بلا شر ولا دنس، قد انفصل عن الخطاة وصار أعلى من السموات« (عبرانيين 7:26). ولم يجد فيه أعداؤه علّة واحدة، فعندما سألهم مرة: »من منكم يبكتني على خطية؟« (يوحنا 8:46) لم يستطع واحد منهم أن يذكر له خطية واحدة.
قال المعترض: »قال المسيح لشاب غني: »إن أردت أن تدخل الحياة فاحفظ الوصايا.. إن أردت أن تكون كاملاً فاذهب وبِعْ أملاكك وأعط الفقراء، فيكون لك كنز في السماء، وتعال اتبعني« (متى 19:17 و21). ألا يعني هذا أننا نحصل على الخلاص بالأعمال الصالحة وليس بالإيمان بالمسيح؟.. وهل يعني هذا أن كل غني يجب أن يبيع أملاكه قبل أن يكون مستحقاً لاتّباع المسيح؟«
وللرد نقول: (1) لو أن المعترض استمر في قراءة متى 19 لوجد أن الشاب الغني الذي وُجِّهت إليه هذه الكلمات قال إنه حفظ الوصايا، ولكنه لم يحصل على الخلاص. وقال المسيح تعليقاً على ذلك: »مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله« (آية 24). وبهذا أعلن المسيح للشاب الغني أنه لم يحفظ حتى الوصية الأولى التي تقول: »لا يكن لك آلهة أخرى أمامي« (خروج 20:3)، لأنه فضَّل أمواله على الله، فاعتبره عابد وثن.. وأوضح المسيح له أهمية الإيمان به، عندما طلب منه أن يتبعه. ولا يقدر أحد أن يتبع المسيح إلا إذا وضع ثقته فيه، ووقتها فقط يقدر أن يطيع وصايا الله.
(2) والمسيح كطبيب للنفوس يعرف المرض الروحي الذي يصيب النفس البشرية. فعندما رأى الشاب الغني عرف أن ما يعطله عن دخول ملكوت الله هو حبُّه الزائد للمال. ولذلك قدّم له نصيحته أن يبيع كل ما يملكه ويعطيه للفقراء. ولم يقدم المسيح هذه النصيحة لكل من جاء إليه. فالنصيحة ببيع ما يملك الإنسان ليعطيه للفقراء هي نصيحة للشاب الغني وحده، بسبب حالته الروحية الخاصة. ليس الغِنَى عيباً، فقد كان إبراهيم خليل الله غنياً، وهكذا كان فليمون الذي كتب له بولس رسالته، لكن العيب هو في موقف الإنسان من الغِنى، فهو الذي يجلب على الإنسان الشر أو يمنحه الخير، فليست حياة الإنسان من أمواله (لوقا 12:15).
انظر تعليقنا على يعقوب 2:14-26.
قال المعترض: »جاء في متى 19:28 »أنتم الذين تبعتموني في التجديد، متى جلس ابن الإنسان على كرسي مجده، تجلسون أنتم أيضاً على اثني عشر كرسياً، تدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر«. ولكن يهوذا، أحد الاثني عشر هلك، إذ مضى وخنق نفسه كما جاء في متى 27:5«.
وللرد نقول: الاثنا عشر المقصودون هم الذين تبعوا المسيح في التجديد، أي عند انتهاء مدة تجسُّده وتواضعه وارتفاعه إلى مجده. ولم يكن يهوذا واحداً منهم. وقد اختارت الكنيسة متِّياس بديلاً ليهوذا، وهكذا أخذ وظيفة يهوذا شخصٌ آخر (أعمال 1:15-26)، وبقي عدد التلاميذ اثنا عشر.
قال المعترض: »ورد في متى 20:1-16 مَثَل صاحب الكرم الذي خرج خمس مرات ليجد فعلةً يرسلهم للعمل في كرمه. فمن هم هؤلاء الفعلة؟«.
وللرد نقول: الفعلة هم الخدام العاملون في خدمة الله، كما قيل عن بولس وأبلّوس: »من هو بولس ومن هو أبلّوس؟ بل خادمان آمنتُم بواسطتهما.. أنا غرستُ وأبلوس سقى.. والغارس والساقي هما واحد، ولكن كل واحد سيأخذ أجرته بحسب تعبه« (1كورنثوس 3:5-8).. والفعلة في المثل أخذوا أجرهم في »المساء« (آية 8) وهو الوقت المذكور في متى 19:28 أي وقت »التجديد، متى جلس ابن الإنسان على كرسي مجده«. فالمساء هو آخر الدهور الذي فيه يأتي المسيح على سحاب السماء بقوة ومجد كثير ليدين الأرض (متى 24:30 و31 ورؤيا 1:7 و20:11-15). وتظهر صحة تفسيرنا لكلمة »المساء« من مقدمة المثَل وخاتمته، لأنه يبدأ بتعليل السبب الذي من أجله يكون الأولون آخِرين والآخِرون أولين، وينتهي بهذه النتيجة. والآن نحن أقرب إلى »المساء« وكادت تغرب شمس دهرنا الحاضر، وينتظر جميع المؤمنين مجيء المسيح ثانيةً، ويتوقَّعون حدوثه سريعاً، ليملك ويدين الأحياء والأموات (2تيموثاوس 4:1).
قال المعترض: »في مثَل صاحب الكرم الذي استأجر فعلة لكرمه (متى 20:1-14) أعطى ديناراً للكل، سواء الذين اشتغلوا من أول النهار، أو الذين جاءوا في الساعة الحادية عشرة. فهل أجر الكل سيتساوى في الملكوت؟ وأليس هذا ظلماً؟« .
وللرد نقول: لا يمكن أن يكون الله ظالماً، فقد قيل إنه »يجازي كل واحد بحسب أعماله« (متى 16:27). ووردت نفس هذه العبارة في مزمور 62:12 ورومية 2:5-7. وقال السيد المسيح »ها أنا آتي سريعاً لأجازي كل واحد كما يكون عمله« (رؤيا 22:12). وتختلف مكافئات الناس بحسب اختلاف أعمالهم »إنْ خيراً أو شراً« (جامعة 12:14) »حسب ما هو مكتوب في سفر أعمالهم« (رؤيا 20:12). الأبرار يختلفون في المكافأة، والأشرار يختلفون في العقوبة، فقد قيل عن الأبرار: »لأن نجماً يمتاز عن نجمٍ في المجد« (1كورنثوس 15:41). وأما عن الأشرار فقد قال الرب عن المدينة التي رفضت كلمة الله: »ستكون لأرض سدوم وعمورة يوم الدين حالة أكثر احتمالاً مما لتلك المدينة« (متى 10:15). إذن هناك حالة أكثر احتمالاً من حالة أخرى من جهة العقوبة. وقال الرب لبيلاطس: »الذي أسلمني إليك له خطية أعظم« (يوحنا 19:11). فاختلاف العقوبة والثواب، أمر يناسب العدل الإلهي.
أما القول إن الكل أخذوا ديناراً، بالتساوي، فمعناه أنهم يتساوون في دخول الملكوت، وليس في الدرجة. الكل يدخل الملكوت، حتى الذي تاب في آخر لحظة من حياته مثل اللص التائب (لوقا 23:43). ولكن داخل الملكوت ينال كل واحد حسب عمله. الذي أعطى مائة ضعف، والذي أعطى ستين ضعفاً، والذي أعطى ثلاثين ضعفاً، كل واحد حسب عمله (متى 13:8).
قال المعترض: »ورد في متى 20:20 أن أم ابني زبدي طلبت من المسيح أن يُجلس ابنيها واحداً عن يمينه والآخر عن يساره في ملكوته، ولكن مرقس 10:35 يقول إن ابني زبدي هما اللذان طلبا هذا الطلب«.
وللرد نقول: معروفٌ أن من يفعل شيئاً بواسطة غيره يُنسَب الفعل له. لقد طلب الابنان هذا الطلب بواسطة والدتهما، فنُسِب الطلب إليهما.. ويُحتمل أن والدتهما طلبت هذا الطلب أولاً، ومن شدة تشوّقهما للحصول عليه أعاداهُ ثانيةً بنفسيهما، فذكر متى طلب الوالدة، وذكر مرقس طلبهما.
انظر تعليقنا على متى 27:5
قال المعترض: »ورد في متى 20:22 و23 قول المسيح »لستما تعلمان ما تطلبان. أتستطيعان أن تشربا الكأس التي سوف أشربها أنا، وأن تصطبغا بالصبغة التي أصطبغ بها أنا؟ قالا له: نستطيع. فقال لهما: أما كأسي فتشربانها، وبالصبغة التي أصطبغ بها أنا تصطبغان«.. وقال آدم كلارك إن القول »بالصبغة التي أصطبغ بها تصطبغان« أُضيف على النص في ما بعد، ولذلك أسقطها كريسباخ من المتن«.
وللرد نقول: الذي قاله آدم كلارك إن القواعد التي وضعها المحققون للقراءات الصحيحة لا تدل على وجود هذه الكلمات، ولكن المحققين أثبتوها لوجودها في نسخ كثيرة. وهي عبارة مرادفة للعبارة التي قبلها وهي قوله: »أتستطيعان أن تشربا الكأس التي سوف أشربها أنا؟« فإنها مثل قوله »وأن تصطبغا بالصبغة التي أصطبغ بها«. وكان اليهود يمارسون الصبغة أو العماد في البرد القارس وكانوا يتركون المعمَّد في الماء مدة، رمزاً إلى أقصى موت. وكانت كلمة »الكأس« تدل على المصائب. فمن هنا ترى أن معنى الكأس والصبغة واحد، فهي تفسير المرادف، وقد نبَّه آدم كلارك أن معنى العبارتين واحد.
قال المعترض: »ورد في متى 20:30 أن أعميين كانا جالسين عند أريحا ففتح المسيح أعينهما، ولكن مرقس 10:46 ولوقا 18:35 يقولان إن المسيح وجد أعمى واحداً اسمه بارتيماوس ففتح عينيه. ويقول متى ومرقس إن المسيح شفى الأعمى خارج أريحا، بينما يقول لوقا إنه شفاه عندما اقترب من أريحا«.
وللرد نقول: العبارات الواردة في البشائر الثلاث عن شفاء المسيح أعميي أريحا في سفرته الأخيرة إلى أورشليم تبدو لأول وهلة أنها غير متفقة في بعض التفاصيل. فبحسب ما جاء في متى شفى المسيح الأعميين عند خروجه من المدينة، أما مرقس فيذكر أعمى واحداً اسمه بارتيماوس، ويقول أيضاً إن المسيح شفاه وهو خارج من المدينة. أما لوقا فيروي أن المعجزة حصلت عند اقتراب المسيح من المدينة. وهو أيضاً يتكلم عن شفاء أعمى واحد. ولكن الحقيقة أنه لا تناقض ولا اختلاف، فقول متى بشفاء أعميين، بينما مرقس ولوقا يقولان بشفاء أعمى واحد، لا ينشئ صعوبة في القضية، فهما قولان غير متناقضين، كما تقول: »اليوم نزل بَرَد« ثم تقول: »اليوم نزل مطر وبَرَد«. فقد نزل المطر والبرَد، ولكنك ذكرت أحدهما مرة، ثم ذكرتهما معاً مرة أخرى. كل ما في الأمر أن إحدى العبارتين أوفى من الأخرى. فيتضح إذن أن المسيح شفى في أريحا أعميين على الأقل، ذكر مرقس منهما اسم الأعمى الذي يتكلم عن شفائه، الأمر الذي يحمل على الاستنتاج أن بارتيماوس هذا عاش جملة سنين بعد شفائه وكان معروفاً للمسيحيين الأُوَل، ولذا كان ذكر اسمه أمراً طبيعياً.
ولكن كيف يمكننا التوفيق بين قول لوقا إن المعجزة حصلت عند اقتراب المسيح من المدينة، وقول متى ومرقس إنها حصلت عند خروجه منها؟
من المحتمل أن يكون المسيح شفى ثلاثة عميان في أريحا، فشفى أعمى واحداً عند اقترابه منها، ثم شفى أعميين آخرين عند خروجه. ويكون أن لوقا أورد معجزة غير التي كتب عنها متى ومرقس، ويكون قد شفى ثلاثة عميان في أريحا. وقد جاء في يوحنا 20:30 أن المسيح عمل معجزات لم تُدوَّن.
ويوجد حل آخر قد حاز قبولاً لدى كثيرين - لوقا 18:35 يقول »لما اقترب من أريحا كان أعمى جالساً على الطريق يستعطي« فيُرجَّح أن بارتيماوس هو الذي كان جالساً يستعطي. فرواية لوقا لا تفيد حتماً أن المعجزة تمت قبل دخول المسيح المدينة. فلو لم يكن لدينا إلا ما جاء في لوقا، لَجازَ لنا أن نستنتج هكذا. أما وقد جاء في متى ومرقس ما يُظهر أن المعجزة تمت عند خروج المسيح من المدينة، فعلينا إذن أن ننظر في القضية نظراً دقيقاً، فنرى أن رواية لوقا لا تنفي إمكانية حصول الشفاء بعد دخول المسيح المدينة أو عند خروجه منها، لأن لوقا يفيد فقط أن الأعمى كان جالساً يستعطي عندما اقترب المسيح من المدينة، ولا يقول صريحاً إن الشفاء تم في تلك اللحظة عينها، أي قبل دخول المسيح المدينة. نعم إن لوقا يذكر الشفاء قبل أن يذكر اجتياز المسيح إلى أريحا وخروجه منها. وهو إذ يذكر اسم الأعمى يشير إلى شفائه، مع أن هذا حصل بعد حين (أي عند خروج المسيح من المدينة) . فمن المحتمل أن بارتيماوس اجتاز مع الجمع إلى أريحا عند دخول المسيح إليها، ثم انضم إليه أعمى آخر وصرخا معاً إلى المسيح. وكثيراً ما نجد في الكتب التاريخية حوادث يسبق ترتيب تفصيلاتها موضعه الأصلي، كما نرى في هذه القضية. ويؤيد هذا ما جاء في لوقا 3:19-23 حيث نرى أن لوقا يتكلم عن سَجْن يوحنا ثم يتكلم بعد هذا على معمودية المسيح التي حصلت قبل سجن يوحنا.
وأمامنا حل آخر أتى به بعض مشاهير المفسرين - وهو أن متى أورد خلاصة ما حصل في أريحا. وبدلاً من أن يقول إن المسيح شفى أعمى عند دخوله إلى المدينة، وشفى أعمى آخر عند خروجه منها، اقتصر على ذكر شفاء أعميين كانا جالسَيْن على جانب الطريق، لأنه لم ير لزوم إيراد زمان ومكان المعجزة بالتفصيل. وهذا الحل يلاشي التناقض الظاهري.
قال المعترض: »ورد في متى 21:2 أن المسيح أرسل تلميذين إلى القرية ليأتيا بأتان وجحش وركب عليهما، وورد في الأناجيل الثلاثة الأخرى أنهما أتيا بالجحش وركب عليه«.
وللرد نقول: (1) قال البشير متى إن المسيح قال »اذهبا إلى القرية التي أمامكما، فللوقت تجدان أتاناً مربوطاً وجحشاً معها، فحُلاّهما وأْتياني بهما«. فيمكن أنهما أتيا بالجحش وأمه، وركب هو على كلٍّ منهما بالتناوب، وتمت بذلك نبوَّة زكريا 9:9 التي تقول إن المسيح سيأتي جالساً على أتان.
(2) في اللغة قد يُثنَّى الضمير، ويعود على أحد المذكورَيْن.
قال المعترض: »ورد في متى 21:19 و20 أن المسيح نظر شجرة تين على الطريق وجاء إليها فلم يجد فيها شيئاً إلا ورقاً فقط، فقال لها: لا يكن منك ثمرٌ بعد إلى الأبد. فيبست التينة في الحال. فلما رأى التلاميذ ذلك تعجبوا قائلين: كيف يبست التينة في الحال؟«. وورد في مرقس 11:13-15 »فنظر شجرة تين من بعيد عليها ورق، وجاء لعله يجد فيها شيئاً. فلما جاء إليها لم يجد شيئاً إلا ورقاً، لأنه لم يكن وقت التين. فأجاب يسوع وقال لها: لا يأكل أحد منك ثمراً بعد إلى الأبد. وكان تلاميذه يسمعون، وجاءوا إلى أورشليم«. وفي آية 20 و21 »وفي الصباح إذ كانوا مجتازين رأوا التينة قد يبست من الأصول، فتذكر بطرس وقال له يا سيدي انظر، التينة التي لعنتها قد يبست«.. فهناك اختلاف بين رواية متى ومرقس. ثم أنه ليس للمسيح حق أن يأكل من شجرة التين من غير إذن مالكها، ولم يكن من المعقول أنه لعنها فجلب الضرر على مالكها، ومن الغريب أن يغضب عليها لأنه لم يكن وقت إثمار التين. ثم إنه لو كان إلهاً كما يدّعي المسيحيون لَعَرف أنها غير مثمرة«.
وللرد نقول: (1) لم تكن هذه الشجرة ملكاً خاصاً لأحد، بل كانت لعموم الناس، فكان مباحاً لأبناء السبيل أن يأكلوا منها بلا مانع، وكان للمسيح الحق أن يأكل منها حسب نصوص الشريعة اليهودية (تثنية 23:25). انظر تعليقنا على مرقس 2:23.
(2) وجود الورق الأخضر عليها علامة على وجود باكورة ثمر التين، فإن التين في أرض فلسطين يثمر عند ظهور الورق، وأحياناً تطلع الثمار قبل النضج العام بأيام كثيرة، وهو المعروف عند العامة في الشام بالديفور. والقول: »ولم يكن وقت التين« يعني أنه ليس وقت جَنْيه العمومي، ولو أنه كان وقت باكورة التين.
(3) هذه التينة مثل المرائي الذي يتظاهر بالتقوى وهو مجرَّد منها، فعليه علامات القداسة وقلبه ملآن بالنجاسة. وهي تشير إلى الأمة اليهودية التي خصّها الله بالنواميس والشرائع والأنبياء، ومع ذلك كانت مجرّدة من الإيمان والمحبة والتواضع، ورفضت المسيح ولم تذعن لأوامره، ولم تأت بثمر. وارتكنت على أنها شعب الله. فلهذا قال المسيح للشجرة: »لا يكن فيك ثمر« ليعلّم الناس أن الأهم هو الثمر.
(4) لَعْن التينة نبوَّة على مستقبل الأمة اليهودية، وإنذار للناس في كل عصر بأنهم إن لم يأتوا بأثمار القداسة والتقوى، حلّت بهم دينونة الله العادلة. والقول »يبست في الحال« إشارة إلى خراب مدينة أورشليم وعقاب الأمة اليهودية، وقد كانت آيات المسيح كلها مبنية على الرحمة، ولكنه علّم تلاميذه أنه شديد العقاب، وإن كان رحيماً.
(5) لم يكن المسيح جاهلاً بأمر هذه الشجرة، فهو الذي يعرف خفايا كل إنسان، حتى أخبر السامرية مثلاً بكل ما فعلت. ولكنه تصرّف بهذه الكيفية ليعرّف الرسل بالعقاب الذي يحل بالمنافقين، وفي نفس الوقت يحل بالتينة التي أظهرت بأوراقها الخضراء أنها تحمل باكورة التين دون أن تحمله فعلاً.
قال المعترض: »ماذا قصد المسيح بمثل الكرامين الأردياء الذي ورد في متى 21:33-44 ومرقس 12:1-11 ولوقا 20:9-18؟«.
وللرد نقول: الكرم هو ملكوت الله، ورب البيت هو الله، وابنه هو الكلمة الأزلي المتأنس، وقد تكلَّم عن نفسه متنبئاً بأن اليهود سيقتلونه. ومادام المسيح قائل هذه الأقوال يكون هو ابن الله، وأنه مات عن خطايا العالم. وبعد إرسال الابن لم يُرسَل رسولٌ آخر. كان الرسول الأخير هو الابن، فليس من المعقول أنه بعد ما أرسل الابن يرجع فيرسل العبيد.
وفي رواية مثَل الكرامين الأردياء اقتبس المسيح القول النبوي »الحجر الذي رفضه البناؤون« (مزمور 118:21 و22) وقال بطرس إن صاحب سفر المزامير قصد بالحجر الذي رفضه البناؤون المسيح نفسه، حيث يقول عن المسيح: »هذا هو الحجر الذي احتقرتموه أيها البناؤون الذي صار رأس الزاوية« (أعمال 4:10 و11 و1بطرس 2:4-8). وعليه فالبناؤون كانوا يهود عصره.
وقال المسيح المثل خطاباً لليهود »ملكوت الله يُنزع منكم ويُعطى لأمّة تعمل أثماره« (متى 21:43). ويبيِّن العهد الجديد أن الله يُعطي الملكوت للذين يؤمنون بالمسيح إيماناً حقيقياً، فهم جنسٌ مختار وكهنوتٌ ملوكي، وأمّةٌ مقدسة وشعب اقتناء »لكي تخبروا بفضائل الذي دعاكم من الظلمة إلى نوره العجيب. الذين قبلاً لم تكونوا شعباً وأما الآن فأنتم شعب الله. الذين كنتم غير مرحومين وأما الآن فمرحومون« (1بطرس 2:9 و10). ومقاومة المسيح وعدم الرضوخ له يسبِّبان غضب الله وحلول نقمته على أعدائه. وقد تم شيء من ذلك عند خراب أورشليم وتمثيل الرومان باليهود تمثيلاً فظيعاً (سنة 70 م) بعد صلب المسيح بنحو أربعين سنة.
قال المعترض: »ورد في متى 21:40 و41 بعد رواية مثل غارس الكرم »فمتى جاء صاحب الكرم، ماذا يفعل بأولئك الكرامين؟ قالوا له: أولئك الأردياء يهلكهم هلاكاً ردياً، ويسلّم الكرم إلى كرامين آخرين، يعطونه الأثمار في أوقاتها« وفي لوقا 20:15 و16 بعد رواية المثل قال: »فماذا يفعل بهم صاحب الكرم؟ يأتي ويهلك هؤلاء الكرامين، ويعطي الكرم لآخرين. فلما سمعوا قالوا: »حاشا«. ففي العبارتين اختلاف، لأن الأولى تقول إنهم قالوا إنه يهلكهم، والثانية تقول إنهم أنكروا ذلك«.
وللرد نقول: أوضح المسيح أن الكرامين الأردياء استوجبوا دينونة الله العادلة، لأنهم جلدوا ورجموا عبيد صاحب الكرم لما طالبهم بالأثمار. وأخيراً أرسل ابنه فقتلوه. فالبشير متى قال إن أئمة الأمة اليهودية شهدوا على أنفسهم أنهم استوجبوا العقاب لعنادهم وقتلهم الأنبياء، ورفضهم الكلمة الأزلية، ابنه الحبيب، مع أنهم كان يجب أن يأتوا بأثمار القداسة، لأن الله خصّهم بمراحمه وفضّلهم على العالمين. فلما أورد المسيح لهم المقدمات المنطقية، لم يسعهم سوى التسليم بصدق النتيجة. ففي متى ذكر كلامهم، وهو النتيجة الطبيعية لذات المقدمات. أما البشير لوقا فذكر النتيجة مع المقدمات، وهو المعروف في المنطق بمتصل النتائج، وسُمي بذلك لوصل نتائجه بمقدماته. وفي الحالتين سلَّم أئمة اليهود بهذه النتيجة الطبيعية. وفي لوقا قال »فلما سمعوا (أي لما فهموا) أن هذا الكلام عليهم، قالوا: حاشا«. والنفي هنا لا ينصبّ على النتيجة، وحاولوا تبرئة أنفسهم مما نُسب إليهم من قتل الأنبياء ورفضهم.
قال المعترض: »جاء في متى 22:21 »أعطوا إذاً ما لقيصر لقيصر، وما لله لله« وهذا فصلٌ بين الحياة والدين«.
وللرد نقول: كان يجب على المعترض أن يدرس المناسبة التي قال فيها المسيح هذا القول الحكيم البليغ الذي خرج مثلاً. فقد جاء بعض الهيرودسيين، وهم حزب سياسي يريدون تتويج هيرودس ملكاً على البلاد بدلاً من الوالي الروماني، وسألوا المسيح إن كانوا يدفعون الجزية لقيصر أو لا يدفعونها. وقصدهم الإيقاع به. فإن قال بدفعها خسر احترام الشعب.. وإن قال بعدم الدفع وقع تحت عقاب بيلاطس الوالي. فقال لهم: »لماذا تجرِّبونني يا مراؤون؟« ثم طلب أن يرى ديناراً. وكان الدينار يحمل صورة قيصر، مما يدلُّ على أنهم يقرّون بسلطانه. وكان رجال الدين اليهود يقولون: »إذا راجت نقود ملك في بلاد، اعترف سكانها بأن ذلك الملك ملكهم«. فأجاب المسيح أن »ما لقيصر لقيصر، وما لله لله« لا فصلاً للدين عن الحياة، لكن قياماً بالواجب من نحو الدولة بدفع الضرائب، وتقديم الولاء لله بعبادته حقَّ العبادة. وهكذا يعطي المؤمن كل ذي حق حقه، فإن لله عليه حقه، وللوطن عليه حقه.
اعتراض على متى 23:17 - من قال: يا غبي
انظر تعليقنا على متى 5:22
قال المعترض: »ورد في إنجيل متى 24:2 قول المسيح: »الحق أقول لكم، إنه لا يُترك ههنا حجرٌ على حجرٍ لا يُنقَض« . غير أن عمر بن الخطاب بنى المسجد مكان هيكل سليمان، فيكون كلام الإنجيل غلطاً. وبما أنه مذكور في مرقس 13:2 ولوقا 21:6 فيكون ثلاثة أغلاط، باعتبار الأناجيل الثلاثة«.
وللرد نقول: تنبأ المسيح عن خراب الهيكل لما كانت الأحوال حسنة، ولم يكن هناك ما يدل على الخراب. وكان الهيكل فخر الأمة الإسرائيلية، ومع ذلك تمّ ما أنبأ به المسيح بعد أربعين سنة، عندما استولى الجيش الروماني على أورشليم سنة 70م. وقد ذكر يوسيفوس المؤرخ اليهودي خراب أورشليم بالتفصيل التام، وكان الرومان قد أسروه وبقي معهم وقت الحصار. وبما أنه كان يهودياً، بل من كهنة اليهود، كان طبعاً لا يروي شيئاً من شأنه تأييد نبوات المسيح، وقال: »لما استولى عساكر روما على المدينة، أصدر تيطس أمراً بأن يخربوها كلها، ماعدا ثلاثة أبراج. أما باقي السور فهُدم تماماً من جدرانه، بحيث لم يبق منه أثر يدل على أنه كان مسكوناً«. وقال مايمونيدس (مؤرخ يهودي) إن »أحد ضباط جيش تيطس حرث أساس الهيكل«. وكان ذلك بعناية إلهية، فإن تيطس كان يتمنى بقاء الهيكل، وكثيراً ما أرسل يوسيفوس إلى اليهود لإغرائهم على الاستسلام لحفظ المدينة والهيكل. غير أن المسيح كان قد تنبأ عن خراب الهيكل، وكان ذلك قضاءً مقضيّاً. واليهود أنفسهم أحرقوا أولاً أروقة الهيكل، ثم قذف أحد عساكر روما من تلقاء ذاته شعلة نار في المنفذ الذهبي، فاشتعلت النيران، فأصدر تيطس أمراً بإطفاء النيران، ولكن لم يلتفت أحد إلى أوامره من شدة الاضطراب، فهجم العساكر على الهيكل، ولم يثنهم وعد ولا وعيد، فإن مقتهم لليهود حملهم على التخريب. وقال يوسيفوس: »أُحرق الهيكل على غير رغبة القيصر«.
لقد تمَّت نبوَّة المسيح بنوع غريب، وداس الوثنيون أورشليم، وستظل إلى أن يتم وقتهم. وقد صرح يوليان المرتد إمبراطور روما لليهود ببناء مدينتهم وهيكلهم، بل حثَّهم على ذلك، ووعدهم بالعودة إلى وطنهم العزيز، بهدف تكذيب ما ورد في الإنجيل، فإنه كان ارتد وصار من ألدّ أعداء المسيحية. وشرع اليهود في وضع أساس الهيكل، ولكنهم لم يكملوا العمل بالرغم من مساعدة يوليان لهم. وقال أحد المؤرخين الوثنيين إن ناراً مخيفة انبعثت من الأرض وأحرقت العمال، وتعذَّر عليهم الدنوّ من الأساسات، وأضربوا عن العمل. وسواء حصلت هذه المعجزة أو لم تحصل، فالنتيجة واحدة، وهي أنه لم يُبْن الهيكل، وتمت نبوَّة المسيح. لقد أُقيم مبنى بالقرب منه، لكن الهيكل نفسه لم يُبنَ.
قال المعترض: »عمل المسيح المعجزات لا يدل على نبوَّته فضلاً عن ألوهيته، فقد جاء في متى 24:24 قول المسيح »سيقوم مسحاء كذبة وأنبياء كذبة ويعطون آياتٍ عظيمة وعجائب، حتى يُضِلّوا لو أمكن المختارين أيضاً« وورد في 2تسالونيكي 2:9 »الذي مجيئه بعمل الشيطان بكل قوة وبآيات وعجائب كاذبة«.
وللرد نقول: لم تكن المعجزات هي الدليل الوحيد على ألوهية المسيح، فقد شهد لذلك الآب (يوحنا 5:37) والمعمدان (يوحنا 5:33) والكتب المقدسة (يوحنا 5:39)، كما شهدت له معجزاته الخارقة للعادة، الداعية إلى الخير والسعادة، المقرونة بدعوى النبوَّة. ويلزم أن تكون المعجزة الصحيحة ظاهرة للعيان، بحيث لا يختلف فيها اثنان. فإذا قال أحدٌ إن ملاكاً أتاه، أو أنه صعد إلى السماء فلا تُقبل دعواه، لأنه ربما كان ذلك من الخيالات التي كثيراً ما تطرأ على الإنسان في المنام. أما فتح أعين العميان وإحياء الموتى وشفاء الأبرص والأكمه أمام الجماهير الكثيرة من الأعداء والأصدقاء، فهي المعجزة لأنها خارقة للقوانين الطبيعية. ويلزم أن تكون المعجزة نافعة ومفيدة، فكلام الحصى والرمان والعنب وأكفة الباب وحيطان البيت والشجرة ليست بمعجزة، فإنه لا فائدة للإنسان منها.
ويلزم في المعجزة الإجماع والتواتر، وقد توفرت شروط صحة المعجزة في آيات المسيح، فأتى بالأمور الخارقة للعادة، فكان يأتي إليه الكثيرون من الوجهاء والعظماء ويستغيثون بكرمه ليشفي أولادهم من الأمراض أو يقيم أحباءهم من الموت.
غير أن الشيطان يخدع الناس بمعجزات، وقد حذر المسيح رسله من الأنبياء الكذبة الذين يأتونهم بالحيل. وقد ظهروا فعلاً، فقال يوسيفوس: »ظهر كثيرون ممن ادّعوا الوحي الإلهي وأضلوا كثيرين، وقادوهم إلى البراري، وادعوا أن الله سيعتقهم من نير روما، وإن نبياً كاذباً أغرى نحو ثلاثين ألفاً فخرجوا معه إلى البرية فقتلهم الوالي فيلكس. وبعد صلب المسيح ظهر سيمون الساحر، وأغرى سكان السامرة بأنه قوة الله العليا، وادّعى أنه ابن الله. كما ظهر دوسيثوس السامري وادعى أنه هو المسيح الذي تنبأ عنه موسى. وظهر بعد صلب المسيح باثنتي عشرة سنة نبي كاذب اسمه نادوس أغرى كثيرين أن يأخذوا ثيابهم ويقتفوا أثره إلى نهر الأردن بدعوى أنه سيفلقه ليعبروا منه، وقال يوسيفوس إنه أضل كثيرين، وتم بذلك قول المسيح. ثم ظهر بعد ذلك بسنين قليلة أنبياء كذبة كثيرون في عهد نيرون، وكان لا يمضي يوم بدون أن يقتل الحكام واحداً منهم« (تاريخ يوسيفوس الكتاب 20 فصل 4 و7).
وقول المسيح إن المضلين يدّعون بعمل آيات كذبة، هو كما فعل سحرة المصريين. وكل من يفهم ويدرك يمكنه أن يميّز بين المعجزات الصادقة من الكاذبة، فالمعجزات هي من أقوى الأدلة على صدق النبوَّة، وإنما الواجب الاحتراس من الكذبة الذين يحتالون بالخداع لإضلال الناس.
قال المعترض: »جاء في متى 24:34 عن علامات نهاية الزمان قول المسيح: »الحق أقول لكم: لا يمضي هذا الجيل حتى يكون هذا كله«. وقد مضى ذلك الجيل، ومضت أجيال عديدة، ولم ينته العالم«.
وللرد نقول: تحدث المسيح في متى 24 ومرقس 13 عن أمرين: خراب أورشليم، ونهاية العالم. وليس عن نهاية العالم فقط. وقوله: »لا يمضي هذا الجيل حتى يكون هذا كله« قُصد به تحقيق نبوّته عن خراب أورشليم. وقد تم ذلك فعلاً سنة 70م وتشتت اليهود في أرجاء الأرض. ولم يكن ذلك الجيل قد مضى بعد.
ومن نبوات المسيح في هذا الأصحاح عن خراب أورشليم وليس عن نهاية العالم، قوله: »فمتى نظرتم رجسة الخراب التي قال عنها دانيال قائمة في المكان المقدس (ليفهم القارئ) فحينئذ ليهرب الذين في اليهودية إلى الجبال، والذي على السطح فلا ينزل ليأخذ من بيته شيئاً.. وويل للحبالى والمرضعات في تلك الأيام. وصلّوا لكي لا يكون هربكم في شتاء ولا في سبت« (متى 24:15-20).
ومن أقواله في تلك المناسبة، التي تمت أيضاً في ذلك الجيل: »يسلّمونكم إلى ضيق، ويقتلونكم. وتكونون مُبْغَضين من جميع الأمم لأجل اسمي. وحينئذ يعثر كثيرون ويسلّمون بعضهم بعضاً« (متى 24:9 و10). وأيضاً قوله: »حينئذ يكون اثنان في الحقل، يُؤخذ الواحد ويُترك الآخر. اثنتان تطحنان على الرحى، تؤخذ الواحدة وتُترك الأخرى« (متى 24:24 و41).
إذن لا نأخذ الأصحاح كله على نهاية العالم. وعبارة »مجيء ابن الإنسان« تعني مجيئه الثاني في نهاية الزمان، كما تعني مجيئه بالنسبة لحياة أي إنسان. كما قال: »طوبى لأولئك العبيد، الذين إذا جاء سيدهم يجدهم ساهرين. كونوا أنتم مستعدين، لأنه في ساعة لا تظنون يأتي ابن الإنسان. طوبى لذلك العبد الذي إذا جاء سيده يجده يفعل هكذا« (لوقا 12:37-43). وقوله أيضاً لئلا يأتي بغتة فيجدكم نياماً« (مرقس 13:36).
اعتراض على متى 24:36 - عِلم الساعة
انظر تعليقنا على لوقا 21:33 و34
قال المعترض: »من طالع قصة المرأة التي أفرغت قارورة الطيب على المسيح في متى 26:7-13 ومرقس 14:3-9 ويوحنا 12:3-8 وجد فيها اختلافات: (1) صرّح مرقس أن هذا الأمر كان قبل الفصح بيومين، وقال يوحنا كان قبل الفصح بستة أيام. (2) جعل متى ومرقس الحادثة في بيت سمعان الأبرص، وجعلها يوحنا في بيت مريم. (3) قال متى ومرقس إنها سكبت الطيب على رأس المسيح، وقال يوحنا إنها سكبته على قدميه. (4) وقال مرقس إن الذين اعترضوا كانوا من الحاضرين، وقال متى إن التلاميذ هم الذين اعترضوا، وقال يوحنا إن يهوذا كان المعترض. (5) قال متى إن ثمن الطيب كثير، وقال مرقس إنه اكثر من 300 دينار، وقال يوحنا إنه 300 دينار«.
وللرد نقول: (1) لم يقل متى ولا مرقس إن هذه الحادثة حصلت قبل الفصح بيومين ولا بستة أيام، وإنما قالا إنه قبل الفصح بيومين عقد أئمة اليهود مجلساً للتشاور في كيفية قتل المسيح، ثم ذكرا قصة سكب قارورة الطيب. وتوصّلا بها إلى ذكر يهوذا الإسخريوطي، لأنه يُحتمل أن سكب قارورة الطيب كان من الأسباب التي حملته على خيانة سيده. وكذلك لا يُفهَم من عبارة يوحنا أنه قبل الفصح بستة أيام حصلت هذه الحادثة، بل قال »قبل الفصح بستة أيام أتى يسوع إلى بيت عنيا فصنعوا له وليمة عشاء«. مما يعني أنه أتى إلى بيت عنيا قبل الفصح بستة أيام، ولكن الوليمة أُقيمت بعد أن أقام هناك أياماً.
(2) لم يقل يوحنا إن الوليمة كانت في بيت مريم، بل قال: »فصنعوا له هناك عشاء«. وقوله »وأخذت مريم« يدل على أنه لم يكن في بيتها. وقوله إن لعازر كان حاضراً في هذه الوليمة، يدل على أنه لم يكن في بيته. وقوله »مرثا كانت تخدم« يدل على أنه لم يكن في بيتها. فيتعيَّن أنه كان في بيت سمعان الأبرص.
(3) كانت عادة اليهود أن يسكبوا الطيب على الرأس أو الشعر، فاقتصر متى ومرقس على ذكر هذه العادة. أما يوحنا الرسول فضرب عنها صفحاً اعتماداً على شهرتها ومعرفة الناس لها، وذكر مسح القدمين لغرابته، ودلالته على تواضعها، وعلى منزلة المسيح الرفيعة عندها. فبعد أن دهنت رأسه دهنت قدميه ومسحتهما بشعرها.
(4) قول مرقس »أناساً من الحاضرين« يشمل التلاميذ، ومن ضمنهم يهوذا. وحينئذ لا تناقض مطلقاً. ولا مانع من أن يكون بعض التلاميذ اشتركوا مع يهوذا في التذمر على المرأة عن خلوص نية، وظنوا أنها أتت شيئاً غير مناسب. أما تذمر يهوذا فكان عن سوء نية، لأن الكتاب المقدس يقول إنه كان سارقاً.
(5) ثمن الطيب تقديري، فالبشير متى قال إن ثمنه كثير، لأن 300 ديناراً هو أجر عامل لمدة سنة. وقال مرقس إن ثمنه أكثر من 300 دينار، لأن الأسعار غير محدَّدة، ويمكن أن يباع الشيء بأثمان مختلفة حسب قانون العرض والطلب. أما يوحنا فاقتبس نص كلمات يهوذا الإسخريوطي.
قال المعترض: »جاء في متى 26:21-25 قول المسيح لتلاميذه »إن واحداً منكم يسلّمني، فحزنوا جداً وابتدأ كل واحد منهم يقول: هل أنا هو يا رب؟ فأجاب: الذي يغمس يده معي في الصحفة هو يسلمّني.. فسأل: هل أنا هو يا سيدي؟ قال له: أنت قلت«. ولكن يوحنا 13:21-27 يورد قول المسيح بطريقة مختلفة، إذ يقول: »إن واحداً منكم يسلمني، فكان التلاميذ ينظرون بعضهم إلى بعض وهم محتارون فيمن قال عنه.. فاتكأ ذاك على صدر يسوع وقال له: يا سيد من هو؟ أجاب يسوع: هو ذاك الذي أغمس أنا اللقمة وأعطيه. فغمس اللقمة وأعطاها ليهوذا«.
وللرد نقول: لا نرى تناقضاً بين الروايتين، فهما تذكران قول المسيح »إن واحداً منكم يسلمّني«، ويُفهم من الروايتين أن التلاميذ انذهلوا وتحيّروا، وأخذوا يتساءلون عن الشخص الذي يتجاسر على ذلك. وكلاهما تقولان إن يهوذا هو الذي أضمر له السوء. فلما استفهم أحد التلاميذ من المسيح عن الشخص الذي قصد أنه سيسلّمه قال (بحيث لم يسمعه سوى السائل): »الذي أغمس اللقمة وأعطيه«. ثم غمس اللقمة وأعطاها ليهوذا. وهذا لا يناقض ما ذكره البشير متى من أن يهوذا سأل المسيح بعد ذلك عن مسلّمه، فأجابه: »أنت هو«.
اعتراض على متى 26:28 - كأس واحد أم كأسان
انظر تعليقنا على لوقا 22:17
قال المعترض: »ورد في متى 26:48-50 أن يهوذا كان قال لليهود: الذي أُقَبِّله هو هو أمسكوه. فتقدم وقال: السلام يا سيدي. وقبّله. فأمسكوه. ولكن ورد في يوحنا: »وكان يهوذا مسلّمه يعرف الموضع، لأن يسوع اجتمع هناك كثيراً مع تلاميذه. فأخذ يهوذا الجند وخداماً من عند رؤساء الكهنة والفريسيين وجاء إلى هناك بمشاعل ومصابيح وسلاح، فخرج يسوع وهو عالم بكل ما يأتي عليه، وقال لهم: من تطلبون؟ أجابوه: يسوع الناصري. قال لهم يسوع: أنا هو. وكان يهوذا مسلّمه أيضاً واقفاً معهم. فلما قال لهم: إني أنا هو، رجعوا إلى الوراء وسقطوا على الأرض. فسألهم أيضاً: من تطلبون؟ فقالوا: يسوع الناصري. أجاب يسوع: قد قلت لكم إني أنا هو. فإن كنتم تطلبونني فدعوا هؤلاء يذهبون«. وبين القصتين تناقض«.
وللرد نقول: لا نرى تناقضاً فالروايتان تتفقان. فالبشير يوحنا لم يذكر تقبيل يهوذا لسيده، اعتماداً على فهم القارئ، لأن الإسخريوطي، باعتباره تلميذاً للمسيح كان لابد أن يقبِّله وهو يسلّم عليه، فهذا هو الاحترام الواجب على التلميذ نحو أستاذه. ولما قبّله سألهم المسيح: من تطلبون؟ فوقعت هيبة قداسته وحقه وعدالته في نفوسهم، وسقطوا على الأرض.
وقال المسيح للذين جاءوا ليقبضوا عليه: أنا هو، حتى لا يمسّوا تلاميذه بضرر. ولا يوجد اختلاف في رواية هذه الأخبار المهمة. نعم يكون هناك تناقض لو قال أحدهم إن يهوذا قبّل المسيح، بينما قال الآخر إنه لم يقبّله. أو لو قال أحدهما إنهم سقطوا خوفاً من أن يُنزِل ناراً من السماء تهلكهم، وقال الآخر إن هذا لم يحدث. ومن هذا يتضح أن أقوال البشيرين تكمل بعضها بعضاً، ولا تناقض بعضها بعضاً.
قال المعترض: »ورد في متى 26:64 »من الآن تبصرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوة وآتياً على سحاب السماء«. وهذا غلط لأن اليهود لم يروه قط جالساً عن يمين القوة ولا آتياً على سحاب السماء، لا قبل موته ولا بعده«.
وللرد نقول: (1) قول المسيح »من الآن« يعني منذ وقت موته وقيامته، فسيجلس عن يمين القوة في الأعالي، كما رأى استفانوس الشهيد المسيحي الأول »مجد الله، ويسوع قائماً عن يمين الله« (أعمال 7:55). وهي رؤية مُتاحة لكل من يؤمن، أما من لا يؤمنون فيُقال عنهم: »مبصرين لا يبصرون.. لأن قلب هذا الشعب قد غلُظ« (متى 13:13-15).
(2) وقول المسيح هذا إعلان منه عن ذاته: من هو، وعن مجيئه ثانيةً ديّاناً للأحياء والأموات. وهو مُقتبس من نبوات دانيال 7:13 و14 »كنتُ أرى في رؤى الليل وإذا مع سحب السماء مثل ابن إنسان أتى وجاء إلى القديم الأيام فقرَّبوه قدامه، فأُعطي سلطاناً ومجداً وملكوتاً لتتعبَّد له كل الشعوب والأمم والألسنة. سلطانه سلطان أبدي ما لن يزول، وملكوته ما لا ينقرض«. وعندما سأل رئيس الكهنة المسيح إن كان هو المسيح، أجابه بالإيجاب، وأوضح أنه هو المقصود بنبوات دانيال التي تشير إلى مجيء المسيح في ملكوته. وكان المسيح قد أطلق عبارات هذه النبوَّة على نفسه قبل التجلي (متى 16:28)، ثم أطلقها على نفسه مرة أخرى لما تنبأ عن خراب أورشليم، فقال إن »ابن الإنسان يأتي على سحاب السماء بقوة ومجد كثير« (متى 24:30). وأطلقها على نفسه مرة ثالثة في متى 26:64 أثناء محاكمته، وكأنه يقول: مع أني الآن في أعينكم محتقر ومُهان، ولم تصدقوني لما قلت إني المسيا، إلا أن دعواي صحيحة، لأنها مبنيّة على أساسٍ حقيقي. والدليل على ذلك أنكم ستبصرون ابن الإنسان (أي المسيا) آتياً، ولكن ليس بالكيفية التي انتظرتم بها مجيئه، بل يأتي في سحاب السماء ديّاناً لكم. وقد فهم اليهود ما قصده المسيح، فاستشاطوا غيظاً، حتى مزَّق رئيس الكهنة ثيابه وقال: »قد جدّف! ما حاجتنا بعد إلى شهود؟ ها قد سمعتم تجديفه«.
وقد تحققت نبوَّة المسيح في خراب أورشليم، كما ستتحقق وقت مجيئه ثانيةً، وسيبصر الجميع عظمته، كما قيل في الرؤيا 1:7 »هوذا يأتي مع السحاب، وستنظره كل عين، والذين طعنوه، وينوح عليه جميع قبائل الأرض«.
قال المعترض: »اختلف الإنجيليون الأربعة في إنكار بطرس عدة اختلافات:
ورد في إنجيل متى 26:69-75 »أما بطرس فكان جالساً خارجاً في الدار، فجاءت إليه جارية قائلة: وأنت كنت مع يسوع الجليلي. فأنكر قدام الجميع قائلاً: لست أدري ما تقولين. ثم إذ خرج إلى الدهليز رأته أخرى، فقالت للذين هناك: وهذا كان مع يسوع الناصري. فأنكر أيضاً بقَسَم إني لستُ أعرف الرجل. وبعد قليل جاء القيام وقالوا لبطرس: حقاً أنت أيضاً منهم، فإن لغتك تظهرك. فابتدأ حينئذ يلعن ويحلف: إني لا أعرف الرجل. وللوقت صاح الديك، فتذكر بطرس كلام يسوع الذي قال له: إنك قبل أن يصيح الديك تنكرني ثلاث مرات«.
وورد في مرقس 14:66-72 »وبينما كان بطرس في الدار أسفل، جاءت إحدى جواري رئيس الكهنة. فلما رأت بطرس يستدفئ نظرت إليه وقالت: وأنت كنت مع يسوع الناصري. فأنكر قائلاً: لست أدري ولا أفهم ما تقولين. وخرج خارجاً إلى الدهليز فصاح الديك، فرأته الجارية أيضاً وابتدأت تقول للحاضرين إن هذا منهم، فأنكر أيضاً. وبعد قليل أيضاً قال الحاضرون لبطرس: حقاً أنت منهم لأنك جليلي أيضاً، ولغتك تشبه لغتهم. فابتدأ يلعن ويحلف: إني لا أعرف هذا الرجل الذي تقولون عنه. وصاح الديك ثانية، فتذكر بطرس القول الذي قاله يسوع: »إنك قبل أن يصيح الديك تنكرني ثلاث مرات«.
وورد في لوقا 22:54-61 »وأما بطرس فتبعه من بعيد. ولما أضرموا ناراً في وسط الدار وجلسوا معاً، جلس بطرس بينهم، فرأته جارية جالسة عند النار، فتفرست فيه وقالت: وهذا كان معه، فأنكره قائلاً: لست أعرفه يا امرأة. وبعد قليل رآه آخر وقال: وأنت منهم. فقال بطرس: يا إنسان! لست أنا. ولما مضى نحو ساعة واحدة أكد آخر قائلاً: بالحق إن هذا أيضاً كان معه، لأنه جليلي أيضاً. فقال بطرس يا إنسان! لست أعرف ما تقول، وفي الحال بينما هو يتكلم صاح الديك، فالتفت الرب ونظر إلى بطرس، فتذكر بطرس كلام الرب: كيف قال له: »إنك قبل أن يصيح الديك تنكرني ثلاث مرات«.
وورد في يوحنا 18:16 و17 »أما بطرس فكان واقفاً خارجاً، فخرج التلميذ الآخر الذي كان معروفاً عند رئيس الكهنة وكلم البوَّابة فأدخل بطرس. فقالت الجارية البوَّابة لبطرس: ألست أنت أيضاً من تلاميذ هذا الإنسان؟ قال ذاك: »لست أنا«. وفي آية 25 وسمعان بطرس كان يصطلي، فقالوا له: »ألست أنت أيضاً من تلاميذه؟« فأنكر ذاك وقال: »لست أنا« . فقال واحد من عبيد رئيس الكهنة: »أما رأيتُك أنا معه في البستان؟« فأنكر بطرس أيضاً. وللوقت صاح الديك«.
وهذه الاختلافات هي:
(1) يُفهم من رواية متى ومرقس أن جاريتين والرجال القيام كلَّموا بطرس، أما لوقا فقال إنهم جارية واحدة ورجلان.
(2) كان بطرس وقت سؤال الجارية في ساحة الدار حسب رواية متى، وفي وسط الدار على رواية لوقا، وأسفل الدار على رواية مرقس، وداخل الدار على رواية يوحنا.
(3) اختلفوا في الأسئلة الموجَّهة لبطرس.
(4) كان صياح الديك بعد إنكار بطرس ثلاث مرات على رواية متى ولوقا ويوحنا، وكان صياحه مرة بعد إنكار بطرس الأول، ومرة أخرى بعد إنكاره مرتين، على رواية مرقس.
(5) قال متى ولوقا إن المسيح قال: »قبل أن يصيح الديك تنكرني ثلاث مرات«. وقال مرقس إنه قال: »قبل أن يصيح الديك مرتين تنكرني ثلاث مرات«.
(6) جواب بطرس للجارية حسب رواية متى »لست أدري ما تقولين« وعلى رواية يوحنا أجاب بالسلب فقط، وعلى رواية مرقس »لست أدري ما تقولين« وعلى رواية لوقا »لست أعرف يا امرأة«
وللرد نقول: (1) اتفق الإنجيليون على عدد مرات إنكار بطرس لسيده، وأجمعوا على أن إنكاره كان قبل أن يصيح الديك. وتمت بذلك نبوَّة المسيح أن بطرس سينكره ثلاث مرات، وقبل صياح الديك.
لقد قال المسيح العبارتين - قال إن بطرس سينكره قبل أن يصيح ديك، وإنه ينكره قبل أن يصيح الديك مرتين. وذكر متى إحدى العبارتين، وذكر مرقس العبارة الأخرى. ومما يجدر ذكره أن لوقا ويوحنا أوردا قول المسيح بنفس الصيغة الواردة في متى. وقبل الجزم بأن أحد البشيرين يناقض البقية يجب أن نأتي بالدليل على أن المسيح لم يقل هذه العبارة إلا مرة واحدة، وإلا فلا تناقض.
فيصح أن نتصور ما يأتي: أنذر المسيح بطرس أنه قبل أن يصيح ديك تنكرني ثلاث مرات.. ولما كان بطرس سريع التأثر ثار لما سمع هذا، وكأنه يقول: هل أنا أنكر سيدي؟ إن هذا مُحال! »ولو اضطُررت أن أموت لا أنكرك«. وعندئذ كرر المسيح الإنذار، وأضاف تفصيلاً آخر بقوله: يا بطرس، قبل أن يصيح الديك مرتين تنكرني ثلاث مرات. ويترجح جداً أنه قد تُبودلت عبارات كثيرة بين بطرس وسيده بصدد هذه النقطة الخطيرة. ولا شك أن المسيح قال لبطرس نفس العبارة الواردة في متى ولوقا ويوحنا، والعبارة الواردة في مرقس أيضاً.
ولنورد حلاً آخر، وهو أن متى ولوقا ويوحنا أوردوا إعلان المسيح لبطرس أنه سينكره بصيغة عامة، أما مرقس (فكما هي عادته) أورد العبارة بالتدقيق. وكما نراه في روايات أخرى يورد تفصيلات دقيقة لا نراها في بقية البشائر، هكذا هنا أيضاً أورد كلمة دقيقة لم يوردها غيره. وعلاوة على هذا يجب أن نتذكر أن بشارة مرقس (كما يفيد التقليد) كُتبت تحت إشراف بطرس. ولذا نرى فيها أسلوب بطرس ولهجته. فلا نستغرب عندما نجد أن العبارة المقولة لبطرس واردة في هذه البشارة بدقة أكثر من سواها.
(2) اقتصر لوقا البشير على ذكر المرة التي أنكر فيها بطرس سيده صراحة وبشدة، لأنها كانت أهم من المرة الأولى. وهذا لا ينافي أن جاريتين سألتاه مرتين. أما متى ومرقس فذكرا الحالتين. وعليه فلا اختلاف، فإن الاختلاف لا يتحقق إلا إذا نفى الواحد ما أثبته الآخر. وهنا اقتصر لوقا على ذكر الأهم، وأما الآخرون فذكروا كل شيء بالتفصيل.
(3) قال لوقا إن رجلين سألاه عن نسبته إلى سيده، وقال متى ومرقس إن الرجال سألوه، فعبارتهما تتضمن أن رجلين سألاه نيابةً عن باقي الجمهور، فلا نتصوَّر أن كل الحاضرين سألوا بطرس مرة واحدة.
(4) قال متى: إنه كان خارجاً في الدار، وقال مرقس: في الدار أسفل، وقال لوقا: في وسط الدار، وقال يوحنا: إنه كان واقفاً عند الباب خارجاً، فخرج التلميذ وكلَّم البوَّابة فأدخل بطرس (آية 16). فلا يوجد اختلاف. بطرس كان حسب قول متى خارجاً في الدار، أي ليس في الدار الأعلى الذي كان فيه المسيح والمجلس. ومما يدل على أنه كان في صحن الدار قول متى إنه لما ضايق اليهود بطرس خرج إلى الدهليز، مما يدل على أنه كان في الدار. ولم يقل البشير إن بطرس كان خارج الدار، بل »خارجاً في الدار« أي خارج المخادع. وبما أنه كان في المحل التحتاني (أي صحن الدار) فيصح أن يُطلق عليه أسفل الدار. ولا يخفى أن معنى صحن الدار هو أسفله، وهو لا ينافي أنه كان جالساً في وسطه يستدفئ. وقصد الرسل أنه لم يكن في الدور الأعلى المرتفع الذي كان فيه المجلس، بل كان في مكان الخدم وهو الصحيح.
(5) من تأمل الأسئلة الموجَّهة لبطرس وجدها واحدة، ففي متى قالت الجارية: »وأنت كنت مع يسوع الجليلي«. ثم قالت أخرى: »وهذا كان مع يسوع الناصري«. وقال القيام (أي الحراس): »أنت أيضاً منهم فإن لغتك تظهرك«. هذه هي رواية متى.
أما مرقس فذكر أن الجارية قالت: »أنت كنت مع يسوع الناصري«. ثم رأته ثانية وقالت للحاضرين: »إن هذا منهم«. وقال الحاضرون لبطرس: »حقاً أنت منهم لأنك جليلي أيضاً ولغتك تشبه لغتهم«. وقِس على ذلك ما ورد في إنجيل لوقا ويوحنا، فإنه لا يختلف عن ذلك في شيء ما.
(6) أنكر بطرس المسيح ثلاث مرات قبل صياح الديك، غير أن بعضهم ذكر أن الديك صاح مرتين واقتصر البعض الآخر على ذكر صياح الديك مرة، وسبب ذلك هو أن الديوك عادةً تصيح مرتين، عند قدوم الصبح وعند طلوع النهار. وبما أنه يندر من يسمع صياحه أول مرة، لم يذكره بعض البشيرين. والمهم هو الصياح الثاني وقد ذكره جميع البشيرين، وهذا لا ينافي أنه صاح قبلها.
(7) إجابات بطرس واضحة متشابهة لا فرق بينها. وبما أن كثيرين من الخدم والحاضرين أخذوا يعنفونه ويضايقونه، فزع وتلعثم في الكلام، وهو يبرئ نفسه بأساليب متنوعة في الوضوح والخفاء. فتارة ينكر، وأخرى يحلف ليتخلّص من ظلم اليهود. وكان ينتقل من مكان لآخر ليواري نفسه ويتخلص من مأزقه.
(8) وهكذا يتضح عدم وجود اختلاف في أقوال البشيرين، فكل واحد منهم ذكر أقوال الوحي الإلهي بحسب روحه ونَفَسه، فإن الوحي لا يبتلع شخصية الإنسان. فالله يوحي للنبي أو الرسول المعاني والأحكام، ويكون في يد الله بمنزلة القلم في يد الكاتب، فتُحفظ شخصيته، ويظهر في كتابته ما اختص به من القوى العقلية وطرق الفكر والتصوّر. وهذا هو سبب تنوّع طرق تعبير الأنبياء. وكلامنا هنا هو عن الأنبياء أو الرسل بصيغة الجمع. أما إذا اختلف رسول أو نبي في أقواله وعباراته، فهذا هو الذي يُؤاخذ عليه، لأنه ناقض نفسه بنفسه.
قال المعترض: »يُفهَم من إنجيل متى 27:3 أن رؤساء الكهنة اشتروا الحقل بالثلاثين من الفضة التي ردَّها يهوذا، ولكن أعمال الرسل 1:18 يقول إن يهوذا كان اشترى الحقل بها، وقيل: »وهذا معلوم في جميع سكان أورشليم «.
وللرد نقول: يقول أعمال 1:18 عن يهوذا »هذا اقتنى حقلاً من أجرة الظلم، وإذ سقط على وجهه انشق من الوسط، فانسكبت أحشاؤه كلها، وصار ذلك معلوماً عند جميع سكان أورشليم«. فنسب كاتب »الأعمال« له الاقتناء لأنه كان السبب فيه. وكثيراً ما يُنسب إلى الإنسان الفعل لأنه السبب فيه، كما يُنسَب إلى الملك بناء القصر مع أنه ليس هو الباني حقيقة، ولكنه يأمر به.
قال المعترض: »ورد في إنجيل متى 27:3 أنه حُكم على المسيح وأنه دين، وهو غلط، لأن رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب دفعوه إلى بيلاطس البنطي«.
وللرد نقول: من طالع الأصحاح الذي قبله رأى أن الكهنة والشيوخ والرؤساء والمجمع أتوا بشهادات زور على المسيح، حتى مزّق رئيس الكهنة ثيابه، وادّعى على المسيح أنه مجدِّف، فبصقوا في وجهه ولكموه ولطموه، وحكموا عليه بالموت (متى 26:67). فهم الذين حكموا عليه حتى تعذّر على الوالي إطلاق سبيله بعد ذلك، مع أنه كان يميل إلى إطلاقه، فوافقهم حسماً للدسائس والفتن، وطمعاً في محبتهم له.
قال المعترض: »جاء في متى 27:3 أن يهوذا ردّ الثلاثين من الفضة إلى رؤساء الكهنة والشيوخ في الهيكل، وهو غلط لأنهم كانوا في هذا الوقت عند بيلاطس يشتكون على المسيح«.
وللرد نقول: قيل في متى 27:5 عن يهوذا »فطرح الفضة في الهيكل وانصرف« أي أنه دفعها في خزينة الهيكل باسم أئمة الدين، سواء كانوا حاضرين أم غائبين.. والشيء الطبيعي أن يتصرف يهوذا بسرعة وتلقائية. ولو أنه انتظر عودة المسؤولين لما انتحر، لأنه كان سيفكر في رحمة الله التي تغفر للتائبين مهما كانت خطاياهم.
قال المعترض: »جاء في متى 27:5 »أن يهوذا انتحر صباح الليلة التي أسلم فيها المسيح. وغير معقول أن يندم على فعله في هذه المدة القليلة ويخنق نفسه، لأنه كان عالماً قبل التسليم أن اليهود يقتلونه«.
وللرد نقول: لو قال الكتاب المقدس إنه لبث أسبوعاً يتحسر على غدره وخيانته، لاستبعدنا انتحاره، ولكنه لما رأى أنه خان سيده الذي لم ير منه مدة معاشرته سوى اللطف والمحبة والرحمة والإحسان والسماحة والآيات الباهرة، انتحر من شدة تحسّره ونخسات الضمير.
قال المعترض: »ورد في إنجيل متى 27:5 أن يهوذا الاسخريوطي »مضى وخنق نفسه« ولكن ورد في أعمال 1:18 »وإذ سقط على وجهه انشق من الوسط، فانسكبت أحشاؤه كلها«.
وللرد نقول: ذكر البشير متى خبر انتحار يهوذا دون أن يخوض في تفاصيل، فقال إنه شنق نفسه. أما كاتب أعمال الرسل فذكر تفصيلات الانتحار، وقال إنه علق نفسه وشنقها على طرف هوة في وادي هنوم، فانقطع الحبل به فسقط.
قال المعترض: »ورد في متى 27:9 »حينئذ تم ما قيل بإرميا النبي القائل: وأخذوا الثلاثين من الفضة، ثمن المثمَّن الذي ثمَّنوه من بني إسرائيل. ولم يقُل إرميا هذه العبارة، بل قالها النبي زكريا في أصحاح 11:13«.
وللرد نقول: (1) قسم علماء اليهود القدماء الكتب المقدسة إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول شريعة موسى، وكانوا يسمونه »الشريعة«. والقسم الثاني »المزامير«، والقسم الثالث »الأنبياء« ويُسَمونه »إرميا«، من إطلاق اسم سفر من الجزء على الكل. وسبب تسمية قسم الأنبياء »إرميا« أن نبوَّة إرميا كانت أول كتب الأنبياء، وجاءت النبوات بالترتيب التالي: إرميا، ثم حزقيال، ثم إشعياء، ثم نبوات الأنبياء الصغار الإثني عشر. فقول متى: »تمّ ما قيل بإرميا النبي« يشمل زكريا.
(2) قال البعض إن إرميا هو الذي تكلم بهذه الكلمات، وإن زكريا نقل عنه. فاستشهاد البشير متى بإرميا هو في محله على أي حالة كانت. ومعنى عبارة زكريا هو أن الله أمره أن يتوجَّه إلى اليهود بشيراً ونذيراً، فنبذوا كلامه وازدروا به. وطلب منهم أن يعطوه ثمنه أي قيمة أتعابه، أو يلبوا دعوته، ولكنهم ازدروا به وبوظيفته وبالله الذي أرسله بأن أعطوه ثلاثين من الفضة، وهي ثمن عبد. فأمره الله أن يلقي هذا الثمن إلى الفخاري. وعلى هذا المثال سلكوا مع المسيح، فإنه لما أتى رفضوه وازدروا به، بأن ثمَّنوه بثمن عبد، فألقى هذا الثمن في الهيكل. وأخذه الكهنة واشتروا به حقل الفخاري وهو لا قيمة له، وهذا يدل على استخفافهم به ورفضهم دعوته.
قال المعترض: »يُفهم من كلام متى ومرقس أن الذين استهزأوا بالمسيح وألبسوه اللباس كانوا جند بيلاطس لا هيرودس، ويُعلم من كلام لوقا خلاف ذلك. وورد في متى 27:27 و28 أن عسكر الوالي ألبسوه رداءً قرمزياً، وفي مرقس 15:16 و17 ألبسه العسكر أرجواناً، وفي لوقا 23:11 فاحتقره هيرودس مع عسكره واستهزأوا به، وألبسه لباساً لامعاً ورده إلى بيلاطس«.
وللرد نقول: احتقره عساكر بيلاطس، وكذلك احتقره هيرودس وعساكره، لأن المسيح رفض طلب هيرودس أن يجري معجزة أمامه. واقتصر البشير لوقا على ذكر ما حصل له من الازدراء. ولا تناقض بين أقوال البشيرين، فلم يقل أحدهم إن المسيح أُهين بينما قال الآخر إنه أُكرم، فقد أجمعوا على حصول الإهانة له. وما قالوه يكمل بعضه بعضاً ولكنه لا يتناقض.
قال المعترض: »ورد في متى 27:34 »أعطوه خلاً ممزوجاً بمرارة ليشرب، ولما ذاق لم يرد أن يشرب«. وورد في آية 48 »ركض واحد منهم وأخذ إسفنجة وملأها خلاً وجعلها على قصبة وسقاه«. وورد في مرقس 15:23 »وأعطوه خمراً ممزوجاً بمرٍّ ليشرب فلم يقبل«. وورد في آية 36 »فركض واحد وملأ إسفنجة خلاً وجعلها على قصبة وسقاه«، وفي لوقا 23:36 »والجند استهزأوا به، وهم يأتون ويقدمون له خلاً« وفي يوحنا 19:28-30 أن المسيح قال: »أنا عطشان، وكان إناءٌ موضوعاً مملوءاً خلاً، فملأوا إسفنجة من الخل ووضعوها على زوفا وقدموها إلى فمه، فلما أخذ يسوع الخل قال قد أُكمل. وهذه الآيات تناقض بعضها بعضاً«.
وللرد نقول: قُدِّم الخل للمسيح مرتين. في الأولى قدموه له ممزوجاً بمر، لأنهم اعتادوا أن يقدموا للمحكوم عليه بالإعدام خلاً ممزوجاً بمُر ليغيّبه عن الوعي. فرفض المسيح ذلك، لأنه أتى ليتألم ويحمل في جسده العقاب الذي كنا نستحقّه بسبب خطايانا، ثم لأنه أراد أن يكون في كمال الوعي وهو ينطق كلماته على الصليب. وبعد إكماله هذا كله عطش من شدة الألم على الصليب، فأعطوه خلاً من مشروب العساكر، فشربه.
قال المعترض: »ورد في متى 27:35 »ولما صلبوه اقتسموا ثيابه مقترعين عليها، لكي يتم ما قيل بالنبي »اقتسموا ثيابي وعلى لباسي ألقوا قرعة«. وقال المفسر المسيحي آدم كلارك إن القول »لكي يتم ما قيل بالنبي: اقتسموا ثيابي وعلى لباسي ألقوا قرعة« يجب حذفها لأنها ليست في المتن، وهي مأخوذة من إنجيل يوحنا 19:24«.
وللرد نقول: لم توجد هذه العبارة في بعض النسخ القديمة، لكنها موجودة في النسخ المعتبرة والقراءات الصحيحة، وقد جاءت كنبوَّة في مزمور 22:18. وحتى لو قلنا إنها لم تكن موجودة في الأصل، فهي من المدرج الجائز الذي قُصد به التفسير، وقد جاءت في إنجيل يوحنا، وتحققت فعلاً وقت الصليب، وتمم العسكر ما تنبأ به النبي داود عن المسيح قبل مجيئه بألف سنة.
قال المعترض: »العنوان الذي كتبه بيلاطس ووضعه على الصليب في الأناجيل الأربعة مختلف، ففي متى 27:37 »يسوع ملك اليهود« وفي مرقس 15:26 »ملك اليهود« وفي لوقا 23:38 »هذا هو ملك اليهود« وفي يوحنا 19:19 »يسوع الناصري ملك اليهود«. وهذا تناقض«.
وللرد نقول: ذكر جميع البشيرين عنوان »ملك اليهود«، لأنه هو موضوع اتهام اليهود الذين اتخذوه حجَّة في صلب. أما كونه ناصرياً، أو أنه سُمي »يسوع« أي المخلص، فلم يتخذوه سبباً في صلب المسيح.
وكان أول من أثار هذا الاعتراض أحد الملاحدة الأمريكيين، واسمه توماس بين، وهو مؤلف كتاب »حقوق الإنسان«. فردّ عليه أحد العلماء قائلاً: »إن الخلاف الموجود في الأناجيل لفظي، ناشئ عن كتابة هذا العنوان بالعبرية واليونانية واللاتينية. ومع أن معناها واحد إلا أن الترجمة لا تسلم من الاختلاف اللفظي. فإذا فرضنا أن المقادير قضت عليك بأن يشنقك »روبسبير« وكتب فوق المشنقة باللغات الفرنسية والإنكليزية والألمانية »توماس بين الأمريكي مؤلف حقوق الإنسان«. وشاهد أربعة أشخاص تنفيذ الحكم بالإعدام، ورووا هذه الحادثة، وكتبوا ملخص تاريخك بعد وفاتك بعشرين سنة، فقال أحدهم إن توماس شُنق، وكان عنوان المشنقة »هذا هو توماس بين مؤلف حقوق الإنسان« وقال الثاني كان عنوانها »مؤلف حقوق الإنسان« وقال الثالث كان عنوانها »هذا هو مؤلف حقوق الإنسان« وقال الرابع كان عنوانها »توماس بين الأمريكي مؤلف حقوق الإنسان« فهل يرتاب أحد في صحة تأليفهم لتاريخك؟ لا نظن ذلك. فكذلك الحال هنا فإن الله يخاطبنا حسب الطرق المصطلح عليها بين الناس«.
قال المعترض: »قال متى 27:44 ومرقس 15:32 إن اللصين اللذين صُلبا معه كانا يعيّرانه، وقال لوقا إن أحدهما عيّره وأما الآخر فزجر رفيقه وقال ليسوع: »اذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك«. فقال له يسوع: »إنك اليوم تكون معي في الفردوس« (لوقا 23:42 و43) وهذا تناقض«.
وللرد نقول: اشترك اللصان أول الأمر في التعيير، ولكن لما اقتنع أحدهما بما رآه في يسوع المسيح من الوداعة والحلم، وتذكر ما صنعه من المعجزات الباهرة، اعترف بذنبه وأقرّ بقوة المسيح.. وقال بعض العلماء: »اشتهر في اللغة العبرية إقامة الجمع مقام المفرد، وجرى البشير متى على هذه الطريقة، فقال في موضع آخر كما هو مكتوب في الأنبياء، وهو يقصد نبياً واحداً«.
قال المعترض: »ورد في متى 27:46 »ونحو الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم قائلاً: إيلي، إيلي، لما شبقتني، أي إلهي إلهي، لماذا تركتني؟« وفي مرقس 15:34 »إلُوي إلوي لما شبقتني، الذي تفسيره: إلهي إلهي لماذا تركتني؟« وفي لوقا 23:46 »ونادى يسوع بصوت عظيم وقال: »يا أبتاه، في ديك أستودع روحي«. وهذا تناقض«.
وللرد نقول: صرخ المسيح على الصليب مرتين. الأولى كان صراخ التوجُّع من آلام الصلب، والثانية كان صراخ تسليم الروح. في المرة الأولى اقتبس مطلع مزمور 22 »إلهي إلهي لماذا تركتني؟« لأنه كان إنساناً مثلنا في كل شيء، ماعدا الخطية. فلما جلدوه وضربوه واستهزأوا به وعيّروه، تألم من ذلك كإنسان. ومما زاد توجّعه وتألمه أنه حمل خطايانا على جسده. قال إشعياء النبي في 53:4 و5 »لكن أحزاننا حملها وأوجاعنا تحمّلها، ونحن حسبناه مصاباً مضروباً من الله ومذلولاً، وهو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا. تأديب سلامنا عليه وبحُبُره شُفينا«. وصار ذبيحة عن خطايانا كما في غلاطية 3:13 وفي 2كورنثوس 5:21 »لأنه (الله) جعل الذي لم يعرف خطية خطيةً لأجلنا (أي ذبيحة خطية) لنصير نحن برّ الله فيه«. فشدة آلام المسيح ناشئة عن وضع خطايانا عليه، فهذا هو صراخ التوجّع، وقد ذكره متى ومرقس، بل قالا أيضاً إنه صرخ مرة ثانية وأسلم الروح. أما لوقا فذكر توجّعه وتألمه (وهو لا ينافي أنه صرخ في أثناء ذلك) ثم قال لوقا إنه قبل أن أسلم الروح صرخ قائلاً: »في يديك أستودع روحي«.
انظر تعليقنا على يوحنا 20:17
قال المعترض: »جاء في متى 27:48 »وللوقت ركض واحدٌ منهم وأخذ إسفنجةً وملأها خلاً وجعلها على قصبة وسقاه« وهذا يعني أن المسيح لم يمُت، ولكنه بسبب الخل أُغمي عليه فقط، وأفاق في قبره. فقال المسيحيون إنه مات وقام!«.
وللرد نقول: رفض المسيح الخل الممزوج بالمر، والذي يمكن أن يغيِّب الإنسان عن الوعي (انظر تعليقنا أعلاه على متى 27:34). ولكنه قبِل أن يشرب الخل فقط ليروي عطشه. وصاحب نظرية الإغماء ملحدٌ اسمه فنتوريني نشر نظريته منذ قرنين.
ومن الأدلة على أن المسيح قد مات فعلاً، ولم يُغمَ عليه، كما قال المعترض:
(1) عرف يوسف الرامي أن المسيح قد مات، فذهب يوسف الرامي إلى بيلاطس يطلب دفن الجسد تكريماً له. وجاء زميله نيقوديموس بمئة منا (درهم) من مزيج المر والعود لتكفين الجسد. ولو لم يتأكدا من موته ما قاما بما قاما به (متى 27:57-61 ويوحنا 19:38-42).
(2) قبل الوالي بيلاطس طلب يوسف الرامي بتسليم جسد المسيح ليدفنه بعد أن تأكد من قائد المئة أن المسيح قد مات فعلاً (مرقس 15:44 و45). وتقرير قائد المئة بمثابة تقرير طبيب الصحة عندنا اليوم، وهو الذي يكتب شهادات الوفاة. وكان جنود الرومان متمرِّسين في عملية الصلب، وكانوا يكسرون ساقي المصلوب ليعجِّلوا بموته. ولكنهم لما جاءوا ليكسروا ساقي المسيح وجدوه قد مات (يوحنا 19:33). وليس للجنود ولا لقائد المئة مصلحة في كتابة تقرير كاذب يوقع بهم الأذى لو ظهر كذبه، خصوصاً وشيوخ اليهود كانوا يريدون أن يتأكدوا أنه قد مات حقاً.
(3) كان جسد المسيح ملفوفاً بقماش الكتان، وحوله الأطياب، موضوعاً في قبر على بابه حجر ضخم وعليه الختم الروماني، يحرسه الجنود لئلا يأتي تلاميذه ويسرقوه. فلو لم يكن المسيح قد مات على الصليب لاختنق ومات في قبره الذي بقي فيه من مساء يوم الجمعة إلى صباح يوم الأحد (يوحنا 19:39 و40 ومتى 27:60). فالذي حدث أنه مات فعلاً.
(4) الآلام التي قاساها المسيح كان لا بد تميته، فقد قُبِض عليه في منتصف الليل، وعومل معاملة وحشية في دار رئيس الكهنة، ثم في دار ولاية بيلاطس، ثم سيق إلى قصر هيرودس وأُعيد منه إلى قصر بيلاطس، ثم جُلد، وحمل صليبه إلى مكان الصلب وسقط تحته، ثم دُقَّت المسامير في يديه ورجليه وغُرس الشوك في جبينه، وقاسى من العطش والحمى، وبقي معلَّقاً على الصليب يدمي مدة ست ساعات، ثم طعنه جندي بالحربة في جنبه. فكيف يبقى بعد كل هذا على قيد الحياة؟
(5) تحدَّثت نبوات التوراة عن موت المسيا مخلِّص العالم، فأعلن داود هذا قبل الصَّلب بألف سنة (مزمور 22:16)، وتنبأ به إشعياء قبل الصلب بسبعمئة سنة (إشعياء 53:5-10)، وأوضحه النبي زكريا قبل الصلب بخمسمئة سنة (زكريا 12:10). وأعلن المسيح مراراً أنه سيموت (راجع متى 12:40 و17:22 و23، ومرقس 8:31 و9:31 و10:33، ويوحنا 2:19-21 و10:10 و11). ثم صرخ قائلاً: »يا أبتاه، في يديك أستودع روحي« ولما قال هذا أسلم الروح« (لوقا 23:46 - راجع يوحنا 19:30 و47-49). وقد سمع صرخة موته كل الواقفين حول الصليب.. وتنبأ المسيح أيضاً بقيامته، وواضح أنه لا يقوم من الموت إلا الذي يموت (راجع مزمور 16:10 وإشعياء 26:19 ودانيال 12:2 ومتى 12:40 و17:22 و23 ويوحنا 2:19-21).
قال المعترض: »ورد في متى 27:51-53 »وإذا حجاب الهيكل قد انشقّ إلى اثنين من فوق إلى أسفل، والأرض تزلزلت، والصخور تشققت، والقبور تفتحت، وقام كثير من أجساد القديسين الراقدين وخرجوا من القبور بعد قيامته، ودخلوا المدينة المقدسة وظهروا لكثيرين«. وقال نورتن إن هذه الحكاية كاذبة، والغالب أنها كانت رائجة بين اليهود بعد ما صارت أورشليم خراباً. فلعل أحداً كتبها في حاشية النسخة العبرية لإنجيل متى، وأدخلها الكاتب في المتن. فلو حدثت هذه فعلاً لآمن كثيرٌ من الرومان واليهود«.
وللرد نقول: وردت هذه الأقوال في متن جميع النسخ القديمة، فإنكارها إنكارٌ للحقائق الثابتة بالإجماع والتواتر والأسانيد الثابتة الصحيحة. ولا نتعجب إذا لم يصدق الكفرة هذه الأقوال لأنهم يرفضون المعجزات عموماً. ولكننا نتعجب من الأمة اليهودية التي قاومت المسيح وكفرت به رغم ما أجراه بينهم من معجزات.
لو كان عمل المعجزات والآيات كافياً وحده في هداية الأنفس إلى الحق، لاهتدى فرعون وقومه إلى الحق وآمنوا بالإله الحي بسبب معجزات النبي موسى. ومع أن بني إسرائيل رأوا قوة الله القاهرة، إلا أنهم تركوه واتخذوا العجل إلهاً لهم. ومع أن المسيح كان يفتح أعين العميان ويشفي الأكمه ويقيم الموتى، إلا أن اليهود رفضوه وصلبوه. وواضحٌ أن إقامة الموتى وفتح أعين العميان وشفاء المرضى بمجرد كلمة واحدة، وتسكين العواصف وغيرها من الآيات البينات، هي أعظم من انشقاق حجاب الهيكل وتشقيق الصخور وقيام الموتى من القبور. فالمعجزات ليست هي الواسطة الوحيدة في هداية الناس. ومع هذا فإن احتمال إيمان كثيرين من اليهود والرومان بالمسيح، بعد انشقاق حجاب الهيكل قائم، لا يقدر أحدٌ أن ينكره.
اعتراضات على قصة القيامة
متى 28:1-15 ومرقس 16:1-11 ولوقا 24:1-12 ويوحنا 20:1-18
اعترض المعترض على قصة القيامة، وقال إنها وردت مختلطة متناقضة في روايات البشيرين الأربعة.
وللرد نقول: لا توجد قضية أشار إليها الملحدون لإثبات التناقض في الإنجيل أكثر من قضية قيامة المسيح بحسب الوارد عنها في البشائر الأربع:
ولكي ننفي هذه الشبهة نقول أولاً إنه لم ترد في أية بشارة على حِدة خلاصةٌ شاملة لكل الحقائق المختصّة بقضية القيامة. فمتَّى يقول إن مريم المجدلية جاءت مع المريمات الأخريات إلى قبر المسيح في صباح ذلك اليوم العظيم. ومرقس يذكر بهذا الصدد مريم المجدلية ومريم أم يعقوب وسالومة. ولوقا أورد أسماء مريم المجدلية ويونّا ومريم أم يعقوب. أما يوحنا فلا يذكر بهذا الصدد إلا اسم مريم المجدلية فقط. وليس في هذا تناقض، فالبشائر الأربع متفقة في إيراد اسم المجدلية. ثم إن مرقس ولوقا أوردا اسم مريم أم يعقوب التي يشير إليها متى بمريم الأخرى (متى 27:56)، بمعنى أن اسم مريم هذه قد ورد في ثلاث بشائر. إذاً يوجد اتفاق تام بين كل ما جاء في البشائر عن النساء اللاتي أتين إلى القبر. صحيحٌ أن مرقس انفرد بذكر سالومة بينهن، كما انفرد لوقا بذكر يونّا، ولكن هذا لا يدل على أن مرقس ولوقا متناقضان. كل ما في الأمر أن قول هذا يكمل قول ذاك. فسالومة كانت بين النساء في ذلك الصباح كما كانت يونّا أيضاً. ومع أن يوحنا لا يذكر إلا مريم المجدلية، إلا أنه يشير في كلامه إلى مصاحبة بعض رفيقات لها، إذ يقول إنها »لما وجدت القبر فارغاً ركضت إلى بطرس ويوحنا وقالت لهما: أخذوا السيد من القبر ولسنا نعلم أين وضعوه« (يوحنا 20:2). فقولها: »لسنا نعلم« بصيغة الجمع يبيّن أنها لم تذهب وحدها.
وقد قال البعض بوجود تناقض بين يوحنا ومرقس في تعيين وقت ذهاب النساء إلى القبر. فمرقس يقول إنهن أتين عند طلوع الشمس، بينما يقول يوحنا إن مريم المجدلية جاءت إلى القبر والظلام باقٍ. ولكن لا تناقض بينهما، لأن يوحنا يتكلم عن وقت بدء السير إلى القبر، بينما مرقس يشير إلى وقت الوصول إليه. وبديهي أنه كان لا بد لأولئك النساء من قطع مسافة قبل الوصول إلى القبر، سواء كنَّ مقيمات في أورشليم أو في بيت عنيا التي تبعُد عنها قليلاً. فعندما بدأنَ في السير كان الظلام باقياً، ولكن عند وصولهن إلى القبر الواقع شمال أورشليم كانت الشمس على وشك الطلوع.
على أن النقطة التي كثُر فيها البحث أكثر من سواها هي الإشارة إلى الملاكين اللذين ظهرا للنساء وأخبراهنَّ عن القيامة. فمتى ومرقس يقولان إن ملاكاً واحداً كلّم النساء، بينما لوقا ويوحنا يذكران ملاكين كانا عند القبر وزفَّا بشارة القيامة إلى أولئك النساء. فيقول الملحدون إن هذا تناقض ظاهر. ولكن القارئ المدقق يرى خطأ قولهم هذا. فلم يقُل متى ومرقس إنه لم يكن عند القبر إلا ملاك واحد. وإشارتهما إلى ملاك واحد لا تمنع إمكانية وجود ملاكين أو أكثر عند القبر. ولنتأمل فيما حدث عند ميلاد المسيح، إذ ظهر ملاك واحد للرعاة. وفي الحال ظهر معه جمهور من الجند السماوي. وربما كان سبب ذكر متى ملاكاً واحداً أن »ملاك الرب نزل من السماء وجاء ودحرج الحجر عن الباب وجلس عليه« (متى 28:2). فهو يخص بالإشارة هذا الملاك، وهو الذي كلم النساء. ولما كانت مأمورية الملاك هذه على جانب عظيم من الأهمية، ذكر متى هذا الملاك فقط، دون أن يعلّق أهمية على وجود سواه من الملائكة عند القبر. كما أن عدم إشارة مرقس إلى وجود ملاك آخر قد يكون راجعاً إلى اهتمامه بالملاك الذي حمل بشرى قيامة المسيح. ولعل ما كان مهماً في نظره هو أن النساء لم يتلقَّيْن هذه البشرى من أحد الرسل، بل من ملاك مرسَل من الله. فسواء كان عند القبر ملاك واحد أو ملاكان، هذا أمر ثانوي. ولا يخفى أن عدم الإشارة إلى وجود شخص ما في ظرف معيَّن لا ينفي وجوده. فلنفرض مثلاً أنك قد حظيت بالمثول بين يدي رئيس الدولة، وكان رئيس الوزراء ساعتئذ حاضراً. وعند رجوعك إلى البيت قد تقول لأهلك: رأيت رئيس الدولة، وقال لي كذا وكذا. وبعد قليل قد تقابل صديقاً لك وتقول له: رأيت هذا الصباح رئيس الدولة ورئيس الوزراء، وقالا لي كذا وكذا. وإذا قابلت صديقاً آخر تقول له: اُتيحت لي رؤية رئيس الدولة ورئيس الوزراء هذا الصباح، فقال لي رئيس الدولة كذا وكذا. فهل يجرؤ أحدٌ على اتّهامك بالتناقض في هذه الأقوال الثلاثة؟
وعليه يجب أن نعامل الكتاب المقدس عند الحكم على ما جاء به بمبدأ العدل الذي نطلبه لأنفسنا، فنجده خالياً من كل تناقض. فمن المحتمل في قضية القيامة أن أحد الملاكين هو الذي نطق بالبشارة. ومن المحتمل أيضاً أن الثاني كان يردّد كلام الأول تأييداً له. وكيفما كانت الحال، فالبشيرون لهم الحق أن يشيروا إلى أحدهما أو كليهما معاً.
ثم يوجد في موضوع القيامة نقطة أخرى قيل بوجود تناقض فيها، وهي قول يوحنا إن المسيح ظهر لمريم المجدلية عند القبر بعد رجوعها من عند بطرس ويوحنا، اللذين أخبرتهما بعدم وجود جسد المسيح. بينما متى يقول إن المسيح ظهر للنساء وهنَّ عائدات من القبر إلى الرسل حاملات بشرى القيامة من الملاك. ولا حاجة إلى الاسترسال في شرح نقطة ظاهرة كهذه، فعند رجوع مريم من القبر لتخبر التلاميذ بعدم وجود جسد الرب، دخلت باقي النساء القبر حيث رأين الملاكين اللذين أسمعاهنَّ بشرى القيامة. وفيما هن راكضات إلى التلاميذ بهذه البشرى رجعت مريم إلى القبر، وهناك ظهر لها الرب المقام.
قال المعترض: »يُعلم من إنجيل متى 28:1-7 أن مريم المجدلية ومريم الأخرى لما وصلتا إلى القبر نزل ملاك الرب ودحرج الحجر عن القبر وجلس عليه، وقال: »لا تخافا أنتما.. اذهبا سريعاً قولا لتلاميذه«. وفي مرقس 16:1-5 إنهما وسالومة لما وصلن إلى القبر »رأين أن الحجر قد دُحرج« ولما دخلن القبر رأين شاباً جالساً عن اليمين. وفي لوقا 24:1-4 إنهن لما وصلن وجدن الحجر مدحرجاً، فدخلن ولم يجدن جسد المسيح، فصرن محتارات، فإذا رجلان واقفا بهنّ بثياب برّاقة. وهذا تناقض«.
وللرد نقول: تفيد عبارة متى أن الملاك كان قد دحرج الحجر قبل مجيء مريم المجدلية ومريم الأخرى، فإنهما لما أتتا إلى القبر حدثت زلزلة عظيمة، لأن ملاك الرب كان قد نزل من السماء ودحرج الحجر عن الباب، فجزع الحراس. وهذا مثل ما ورد في مرقس ولوقا.. أما من جهة النساء فذكر لوقا أنه أتت نساء أخريات. واقتصر بعض البشيرين على ذكر بعضهنَّ لشهرتهنّ، مثل مريم المجدلية لأنها كانت أول من بادر بتبليغ الرسل.
أما اقتصار البعض على ذكر ملاك واحد دون الآخر فلأنه هو الذي خاطبهم وكلمهم، إذ لا يُعقل أن يتكلم الملاكان في آن واحد ذات الكلام عينه.
أما قول بعض البشيرين إنه رجل لابس ثياباً بيضاء، وفي محل آخر يقول إنه ملاك، قلنا إن الملاك يتشكل بشكل الإنسان. والملائكة هم أجساد لطيفة قادرة على التشكّل بصور مختلفة، فرآهم الرسل كذلك.
قال المعترض: »هناك تناقض بين متى 28:8 ومرقس 16:8. يقول متى 28:8 إن النسوة خرجن من القبر بسرعة ليخبرن التلاميذ، بينما يقول مرقس 16:8 إن النسوة هربن خائفات، ولم يقلن لأحدٍ شيئاً«.
وللرد نقول: يصف مرقس مشاعر النسوة وهن راجعات من القبر، فلم يتوقفن عند بيوت الأصدقاء لإفادتهم بما رأين وسمعن، لأنهن كنّ خائفات. ولا يقول مرقس إن النسوة لم يخبرن التلاميذ، بل يقول (مرقس 16:7) إن الملاك أمرهنّ بإخبار التلاميذ وبطرس أن المسيح سبقهم إلى الجليل. ولو لم تخبر النسوة التلاميذ ببشارة الملاك لكان هذا عصياناً منهن، وهذا غير معقول، فالنسوة كنّ طائعات محبّات للمسيح وللتلاميذ، ولا بد أنهن أبلغن رسالة الملاك.
قال المعترض: »ورد في متى 28:9 و10 أن الملاك لما أخبر المرأتين أنه قد قام من الأموات، ورجعتا، لاقاهما المسيح في الطريق وسلم عليهما، وقال: »اذهبا قولا لإخوتي أن يذهبوا إلى الجليل وهناك يرونني«. ويُعلم من لوقا 24:9-11 أنهن لما سمعن من الرجلين رجعن وأخبرن الأحد عشر وسائر التلاميذ بهذا كله، فلم يصدقوهن. وقال يوحنا 20:14 إن المسيح لقي مريم عند القبر، وهذا تناقض«.
وللرد نقول: واضحٌ أن المسيح لاقاهنَّ لما تركن القبر المرة الثانية، فإنهن أتين أول مرة، ثم بادرن وأخبرن التلاميذ، ثم عُدْن ثانية. فالمسيح ظهر أولاً لمريم المجدلية لما كانت وحدها (يوحنا 20:14) ثم ظهر لباقي النساء كما قال متى.
قال المعترض: »جاء في متى 28:10 و16 و17»فقال لهما يسوع لا تخافا. اذهبا قولا لإخوتي أن يذهبوا إلى الجليل، وهناك يرونني.. وأما الأحد عشر تلميذاً فانطلقوا إلى الجليل إلى الجبل حيث أمرهم يسوع. ولما رأوه سجدوا له، ولكن بعضهم شكّوا«.. ولكن جاء في يوحنا 20:19»ولما كانت عشية ذلك اليوم، وهو أول الأسبوع، وكانت الأبواب مغلقة حيث كان التلاميذ مجتمعين لسبب الخوف من اليهود، جاء يسوع ووقف في الوسط وقال لهم: سلام لكم« وهذا تناقض«.
وللرد نقول: تتحدث هذه الآيات عن ظهور المسيح لتلاميذه بعد قيامته. والنقطة الوحيدة التي قد يجد فيها القارئ صعوبةً هي عدم إشارة متى إلى ظهور الرب للتلاميذ في أورشليم. ولكن متى لم ينفِ هذه الحقيقة، ولو أننا لا نعلم سبب إغفاله ذكر ظهور الرب في أورشليم بعد قيامته. ولكن واضح تماماً أنه لا تناقض من هذا القبيل بينه وبين يوحنا. كل ما في الأمر أن رواية يوحنا أوفى من روايته.
قال المعترض: »جاء في متى 28:19 »عمِّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس« ولم يقل إنهم إله واحد«.
وللرد نقول: واضح أن الأقانيم الثلاثة واحد، فإن المسيح يقول »عمدوهم باسم« لا »بأسماء«. أما أن الله واحد فهذا واضح في كل الكتاب، فقد قال المسيح إن أول الوصايا هي »الرب إلهنا رب واحد« (مرقس 12:29)، وقال الرسول يعقوب: »أنت تؤمن أن الله واحد. حسناً تفعل« (يعقوب 2:19).
اعتراض على متى 28:19 - نعلن، أو لا نعلن عن المسيح
انظر تعليقنا على متى 8:4