الفصل الثاني والثلاثون
وساطة المسيح
1 - ماذا حمل المسيح على التجسد؟
* ليس تجسد ابن الله الأزلي (حسب الكتاب المقدس) حادثةً اضطرارية في ذاتها، وإنما هو اتضاع اختياري، فإن الله (لأجل فداء البشر) بذل ابنه الوحيد الذي أتى إلى العالم ليخلصنا من خطايانا، واشترك معنا في اللحم والدم «ليبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت (أي إبليس) ويعتق أولئك الذين خوفاً من الموت كانوا جميعاً كل حياتهم تحت العبودية» (عب 2: 15). وهذا التجسد وإن[ لم يكن ضرورياً في ذاته كان ضرورياً لفداء البشر، ولم يعلن الله لنا طريقةً أخرى يمكن أن نجد بها خلاصنا. وذلك يوافق تعليم الكتاب المقدس أن اسم المسيح هو الاسم الوحيد الذي يقدر به البشر أن يَخلصوا (أع 4: 12). ولو أمكن نوال البر بطريقةٍ أخرى لكان المسيح قد مات بلا سبب (غل 2: 21). ولو كان الناموس قادراً أن يحيي لكُنّا قد تبرّرنا بالناموس (غل 3: 21).
2 - لماذا دُعي المسيح وسيطاً؟
* بما أن قصد تجسد المسيح، وقصد تتميمه عمل الفداء هو مصالحتنا مع الله، سُمي المسيح «وسيطنا» لأنه دخل بيننا وبين الله، ليكفّر عن خطايانا ويشفع فينا. وبما أن المسيح كفّر عن الخطية، ولا يقدر غيره على ذلك، يكون هو الوسيط الوحيد بين الله والناس، وصانع السلام (أف 2: 16 و1تي 2: 5).
3 - ما هي الصفات اللازمة لإتمام وساطة المسيح؟
* يعلّمنا الكتاب أن الصفات اللازمة للوسيط بين الله والناس هي:
(1) أن يكون إنساناً: وقد اتّخذ المسيح طبيعتنا لا طبيعة الملائكة. لقد جاء ليفدينا، فكان ضرورياً أن يولد تحت الناموس الذي خالفناه ليكمل كل برّ، ويتألم ويموت ذبيحةً ليكفّر عن خطايانا، وليشترك في حياتنا البشرية ليشعر بضعفاتنا. فلذلك «كما تشارك الأولاد في اللحم والدم، اشترك هو أيضاً كذلك فيهما» (عب 2: 14).
(2) أن يكون بدون خطية: كان يجب أن الذبيحة التي تُقدّم على المذبح (حسب شريعة موسى) تكون بلا عيب. والذي يقدم نفسه إلى الله ذبيحةً عن خطايا العالم يجب أن يكون هو نفسه بريئاً من الخطية. فمن المستحيل أن يكون المخلص من الخطية خاطئاً، لأنه لا يقدر أن يصل إلى الله، ولا أن يكون ذبيحة عن الخطايا، ولا مصدر القداسة والحياة الأبدية لشعبه إن لم يكن هو باراً قدوساً. ولذلك يجب أن يكون رئيس كهنتنا قدوساً بلا شر ولا دنس ومنفصلاً عن الخطية (عب 7: 26). لذلك كان هو بدون خطية (عب 4: 15 و1بط 2: 22).
(3) أن يكون إلهاً: لأنه لا يقدر أن ينزع الخطية إلا دم من هو أعظم من مجرد مخلوق. ولأن المسيح هو الله، فقد قدّم نفسه ذبيحةً مرةً واحدة فأكمل إلى الأبد المؤمنين (عب 7: 27 و9: 26). وكذلك لا يقدر إلا شخص إلهي أن يبيد سلطان الشيطان وينقذ الذين سباهم. ولا يقدر على تتميم عمل الفداء العظيم إلا القادر على كل شيء، صاحب الحكمة والمعرفة غير المحدودتين، ليكون رئيس كنيسته وديّاناً للجميع. ولا يقدر أن يكون مصدر الحياة الروحية لجميع المفديين إلا مَن حلّ فيه كل ملء اللاهوت.
فجميع هذه الصفات التي نص الكتاب على ضرورتها لتأهيل الوسيط للوساطة بين الله والناس قد اجتمعت في المسيح.
ونتج من ثبوت تلك الصفات لوسيطنا أن وساطة المسيح التي تشمل كل ما فعل وكل ما لا يزال يفعله لخلاص البشر هي عمل شخص إلهي. فجميع أعمال المسيح وآلامه في إجراء وساطته كانت أعمال وآلام شخص إلهي، فالذي صُلب هو ربّ المجد، والذي سكب نفسه للموت هو ابن الله.
ويتّضح صدق هذا التعليم مما يأتي:
(1) ينسب الكتاب المقدس كفاية عمل المسيح وسلطانه وصدق كلامه وحكمته وقيمة آلامه إلى أنه الله الذي ظهر في الجسد.
(2) عدم كفاية وساطة من هو «إنسان فقط» ليتمّم لوازم تلك الوظيفة، لأنه لو كان وسيطنا إنساناً فقط لعجز عن فداء البشر الساقطين، فلا يبقى بعد للإنجيل مجد ولا قدرة ولا كفاية.
(3) لوازم العمل: فلا يقدر على فداء البشر الساقطين إلا من هو إله وإنسان معاً. فوظيفة المسيح النبوية تستلزم أن له كل كنوز الحكمة والعلم، ووظيفته الكهنوتية تستلزم شرف ابن الله ليجعل عمله نافعاً. ولا يقدر سوى شخص إلهي أن يستعمل السلطان الذي دُفع للمسيح باعتبار كونه وسيطاً. والخلاصة، أنه لا يقدر إلا الابن الأزلي أن ينقذنا من عبودية الشيطان وموت الخطية، أو يقيم الأموات، أو يهب الحياة الأبدية، أو يغلب جميع أعدائه وأعدائنا، لأننا نحتاج إلى مخلِّص قدوس بلا شر ولا دنس، منفصل عن الخطاة بل أرفع من السماوات.
4 - هل يصحّ اتّخاذ غير المسيح وسيطاً بيننا وبين الله؟
* كلا، لأن ذلك يخالف الكتاب المقدس. على أن بعض الكنائس تعتقد أن القديسين والملائكة ولا سيما مريم العذراء وسطاء، وكذلك الكهنة، وهم يعتقدون أنه بدون توسُّط الكهنة لا يمكن المصالحة مع الله. ونشأ ذلك من مبدأين خاطئين:
(1) الاعتقاد بالوظيفة الكهنوتية، فإنها تعلّم أن الإنسان لا يحصل على فوائد الفداء إلا بواسطة الكهنة، لأن فوائد الفداء تتم بواسطة الأسرار، والأسرار لا تفيد إلا إذا مارسها المفرَزون لذلك قانونياً. وأن الكهنة يقدمون ذبائح ويمنحون الحِل من الخطايا، وأنهم وسطاء بالحقيقة، وإن كانوا أقل درجة من المسيح. وأنه لا يقدر إنسان أن يأتي إلى الله إلا بواسطة الكهنة. ويعتقدون أن لكل مؤمن في كنيستهم شركة في عضوية الكنيسة، بواسطتها تكون له علاقة بالمسيح. ولذلك كان للكهنة يد السلطة والقوة والوساطة في كل ما يختص بعلاقة المؤمن بالمسيح بواسطة الكنيسة وأسرارها.
أما الإنجيليون فيعتقدون أن للمؤمن اتحاداً شخصياً بالمسيح رأساً بواسطة الإيمان به والاتكال عليه، وأن الكنيسة هي جماعة هؤلاء المؤمنين بالمسيح والمنسوبين إليه رأساً. ولذلك ليس للكنيسة ولا للمتوظفين فيها شيء من صفات الوسيط أو أعماله غير الشفاعة التوسُّلية في تضرُّع وصلاة بعضهم لأجل بعض.
(2) الاعتقاد بالاستحقاق البشري: وهو أن ما يُعمل من الأعمال الصالحة بعد التجديد له استحقاق حقيقي أمام الله، وأن القديسين من شعب الله يمكنهم أن يبلغوا من الاستحقاق درجةً تزيد على ما يطلبه الله منهم. وهذا يمكن أن ينفع غيرهم، فيلتجئ الخطاة منهم إلى القديسين طالبين فائض استحقاقاتهم أمام عرش الله العظيم. هذا بالرغم من أن الكتاب يعلّمنا أن الوساطة هي من عمل المسيح وحده، فهو وسيطنا الوحيد.
5 - ما هي الأدلة على أن المسيح هو الوسيط الوحيد؟
* الأدلة على ذلك: (1) نص الكتاب الصريح «يوجد إله واحد ووسيط واحد بين الله والناس: الإنسان يسوع المسيح» (1تي 2: 5).
(2) قام المسيح بجميع ما تقتضيه الوساطة فيما يختص بالكفارة والشفاعة على الأرض وفي السماء (1يو 2: 1 وعب 7: 25 و9: 12، 24).
(3) قام المسيح بما يختص بوساطته إلى درجة الكمال، حتى لم يبقَ وجهٌ لدخول غيره في ذلك. وكمال عمل المسيح ناتج من سموّ شأنه وكمال صفاته (عب 10: 14 وكو 2: 10).
(4) الخلاص بالمسيح تام وكاملٌ لكل مؤمن حقيقي، وليس بغير المسيح خلاص، ولا يقدر أحدٌ من البشر أن يأتي إلى الآب إلا به (يو 14: 6 وأع 4: 12).
(5) لا مكان لوسيطٍ آخر بيننا وبين المسيح، لأنه صار أخاً لنا ورئيس كهنة أميناً وقادراً أن يرثي لضعفاتنا. وهو يدعو كل واحد للإتيان إليه رأساً (عب 2: 17 و4: 15 ومت 11: 28). ولأن التوسُّط بين المسيح والبشر من خواص الروح القدس الذي وحده يُقبِل بالناس إلى المسيح ويخبرهم روحياً بما للمسيح (يو 16: 14) فلا شك أن المسيح هو وسيطنا الوحيد، لأنه وحده تمّم كل ما يلزم لمصالحتنا مع الله، وله وحده الصفات التي تؤهّله لذلك.
ويعلّمنا الكتاب المقدس أن للروح القدس اشتراكاً مهماً في إتمام وساطة المسيح. كما يعلّمنا أن كل ما يمكن للبشر أن يفعلوه هو التبشير بالمسيح وتعليم الحق في هذا الموضوع المهم. فالروح القدس يعمل في قلب الإنسان ويعلّمه ويحثّه ويُقنعه ويجدده ويقوده إلى المسيح بنور المعلَنات الإلهية (يو 15: 26 و16: 13، 14 وأع 5: 32 و1كو 12: 3). والروح هو معزّينا الذي يمكث معنا ويعلّمنا ما للمسيح، ويبكت العالم على خطية وعلى بر وعلى دينونة (يو 14: 16، 26 و15: 26 و16: 7-9). فالمسيح هو شفيعنا (1يو 2: 1) وهو حي في كل حين ليشفع فينا في السماء (عب 7: 25 ورو 8: 34). أما الروح القدس فيعين ضعفاتنا في الصلاة هنا على الأرض، ويعلّمنا كيف نصلي، ويشفع فينا على هذا المنوال بأنّات لا يُنطق بها، وبحسب مشيئة الله يشفع في القديسين (رو 8: 26، 27). وعليه فبالمسيح لنا قدوم في روحٍ واحد إلى الآب (أف 2: 18).
هذا هو تعليم الأسفار المقدسة في وساطة المسيح وعناية الروح القدس بنا لنوال فائدة تلك الوساطة. وليس في كل ذلك أدنى إشارة إلى وسيطٍ غير المسيح، أو إلى تدخُّل أحدٍ من بني جنسنا في تلك الوساطة.
6 - ما هي البراهين التي يقدمونها على صحّة تعليم شفاعة القديسين، وما هو الرد عليها؟
* أهم البراهين إسناداً لشفاعة القديسين هي:
(1) لما كان المسيحيون يصلّون بعضهم لأجل بعض في هذه الحياة (1تس 5: 25 و2تس 3: 1) فمن باب أولى أن الذين انتقلوا منهم إلى السماء يصلّون لأجل إخوتهم الذين لا يزالون عُرضة لأخطار هذه الحياة. وبالتالي يجوز طلب شفاعة القديسين في السماء، كما يجوز طلب صلاة القديسين على الأرض.. والجواب على ذلك: (أ) الخلاف في هذه المقارنة واضح، وهو أننا مأمورون بالصلاة بعضنا لأجل بعض في هذه الحياة، خلافاً لطلب شفاعة القديسين بعد الموت. (ب) إننا نطلب من إخوتنا المسيحيين على الأرض أن يصلّوا، وذلك مختلف عن الصلاة للقديسين الذين انتقلوا للسماء وطلب شفاعتهم. (ج) نعلم أن المؤمنين الأحياء يسمعون طلبنا منهم في هذه الحياة، وأما أهل السماء فلا يشاركون الله في صفاته، ومنها الحضور في كل مكان واستماع الصلاة ومعرفة خفايا القلب وسرائره. وبدون هذه الصفات لا نرى كيف يسمعون صلواتنا ويشفعون فينا عند الله؟ أما أن أهل السماء يفرحون بخاطئ واحد يتوب فلأن السماء تعلن لهم الخبر، لكن الصلاة لهم والاستغاثة بهم لا تبلغهم. (د) قولهم إن للقديسين المالكين مع المسيح استحقاقات يقتربون بها إلى الله، وإن علاقتهم الطبيعية بنا تحملهم إلى الشفاعة فينا يخالف تعليم الكتاب والاعتقاد المسيحي العام أن استحقاقات المسيح غير متناهية، ولا تقبل عوناً بشرياً، فالمسيح يفوق الملائكة والقديسين في المحبة للبشر، ويشفق عليهم بما لا يُقاس.
(2) يقولون إن شفاعة القديسين أمر ثابت من عادة الكنيسة منذ قرونها الأولى، وإجماع آباء الكنيسة، وقوانين المجامع.. والجواب على ذلك: لم تعتقد الكنيسة الرسولية شيئاً من ذلك، بدليل خلوّ أسفار الرسل منه. فلو كانت شفاعة القديسين من تعاليمهم لذكروها في كتبهم، كما علّمونا عن شفاعة المسيح. وأما قول الآباء وقوانين المجامع، فهي لا تثبت إلا إذا كانت مبرهنةً من الوحي الإلهي. فإذا لم يكن لها هذا البرهان تصبح بلا سلطان ولا فائدة في المناقشات الدينية.
(3) يستندون على بعض آيات في الكتب المقدسة (تك 20: 7 و26: 5 و1مل 11: 12 وأي 42: 8 ولو 7: 3-6 ورؤ 5: 8). فإذا تأملنا هذه الآيات مع قرائن الكلام يظهر أنها لا تسند التعليم بشفاعة القديسين، ولا تناقض التعليم الموحَى به وهو أن الشفاعة لدى الله في الخطاة أمرٌ محصور في المسيح وخاص به، باعتبار عمله الكهنوتي على الأرض وفي السماء (انظر 1تي 2: 5 ويو 14: 6 ومت 11: 28 ويو 6: 17 و1يو 2: 1 وعب 7: 25). وهذه الآيات تنفي توسُّط أحد غير المسيح لأجل الخطاة.
7 - ما هي وظائف المسيح الثلاث التي يمارسها في توسّطه بين الله والناس؟
* هي وظائف النبي والكاهن والملك. وقد جرت العادة منذ زمان طويل عند اللاهوتيين أن يبيّنوا وساطة المسيح بهذه الوظائف الثلاث. ومما يثبت لياقة ذلك وموافقته وأهميته أنه مبنيٌّ على نصوص الكتاب المقدس، وأنه لقي القبول عند المسيحيين زماناً طويلاً. وقد جاءت هذه الوظائف منسوبةً للمسيح بوضوح في الكتاب المقدس، وكان أول من نسبها مجتمعة معاً إليه باعتباره وسيطنا المؤرخ «أوسابيوس». ومن تعاليم الكتاب في هذا الموضوع ما يأتي:
(1) كانت هذه الوظائف في العهد القديم متميّزة، فإن النبي باعتباره نبياً لم يكن كاهناً، وكذلك الملك أيضاً لم يكن كاهناً ولا نبياً. وكان أحياناً شخص واحد من شعب الله يحتلّ وظيفتين من هذه الثلاث، مثل موسى وداود، فإن الأول كان كاهناً ونبياً، والآخر نبياً وملكاً. ومع ذلك كانت كل وظيفة متميّزة عن الأخرى.
(2) هناك نبوات بأن المسيح يكون نبياً وكاهناً وملكاً، ومن ذلك قول موسى «يقيم لك الرب إلهك نبياً من وسطك من إخوتك مثلي» (تث 18: 15). وكثيراً ما ذكر الكتاب أن المنقذ الآتي يمارس جميع واجبات النبي لأنه يعلِن مشيئة الله، وأن يكون معلّم البر العظيم، ونور إعلان للأمم ومجداً لشعبه إسرائيل. والنص على أنه يكون كاهناً ليس أقل وضوحاً ولا أقل تكراراً من ذلك. قال المرنم «أقسم الرب ولن يندم، أنت كاهنٌ إلى الأبد على رتبة ملكي صادق» (مز 110: 4). وقال النبي زكريا أنه يكون كاهناً على كرسيه (زك 6: 13). وقال إشعياء إنه يحمل خطايا الشعب ويشفع في المذنبين.
وأما وظيفة الملك فقد تكرر ذكرها في النبوات، حتى ظن اليهود أن المسيا يكون ملكاً فقط، لأنه ورد فيها أنه يملك على جميع الأمم، ولا يكون لمُلكه نهاية، وأنه يكون ملك الملوك ورب الأرباب.
(3) يقدم العهد الجديد لنا المسيح نبياً وكاهناً وملكاً، ويعلّمنا أيضاً أن الذين يقبلونه يقبلونه بجميع هذه الوظائف. وقال المسيح إن كل النبوات تشير إليه، فموسى تنبأ بأنه يكون نبياً، وداود تنبأ بأنه يكون كاهناً، ودانيال تنبأ بالملكوت الذي أتى ليقيمه.
(4) ليس هذا الكلام مجازياً، فقد مارس المسيح وظائف النبي والكاهن والملك، فلم تكن له هذه الألقاب فقط، بل إنه أكمل العمل الذي تضمن كل ما عمله الأنبياء والكهنة والملوك القدماء، والذي كان يرمز لعمل المسيح الأكمل.
(5) باعتبارنا بشراً ساقطين وجهلاء، مذنبين ومدنَّسين وعاجزين، نحتاج إلى مخلِّص يكون نبياً يعلّمنا، وكاهناً يكفّر عن خطايانا ويشفع فينا، وملكاً يتسلط علينا ويحمينا. ويشمل الخلاص الذي نقبله منه كل ما يقدر أن يعمله النبي والكاهن والملك بموجب المعنى الأسمى لهذه الكلمات. فإننا نستنير بمعرفة الحق، ونتصالح مع الله بموت ابنه ذبيحةً عن خطايانا، وننجو من سلطان الشيطان وندخل إلى ملكوت الله وكل ذلك يقتضي أن يكون فادينا نبياً وكاهناً وملكاً معاً، فهذا يوافق غاية رسالته وعمله، ويجب أن يكون هذا التعليم عقيدتنا إذا شئنا أن نقبل الحق كما هو معلَنٌ في كلمة الله.
لم تكن هذه الوظائف في العهد القديم معاً لشخص واحد، فلم يكن أحدٌ في مدة النظام الموسوي نبياً وكاهناً وملكاً في وقتٍ واحدٍ. وكان متى اجتمعت اثنتان منها في شخص واحد لا يمارسهما في وقت واحد، فكان يمارس أحياناً الواحدة وأحياناً الأخرى. أما المسيح فقد اجتمعت كلها فيه في وحدة متحدة اتحاداً كلياً، لأنه كان يعلّم، ويمارس وظيفة الكاهن، ويستعمل سلطانه على النفس بتحريرها من العمى والضلال ومن قوة الخطية وسلطان إبليس. والآن يتسلط المسيح على العالم بالحق والمحبة، وصولجانه هو الإنجيل.
8 - هل هناك علاقة بين هذه الوظائف الثلاث: نبي وكاهن وملك؟
* لا يمكن أن نفصل بين هذه الوظائف الثلاث لما بينها من العلاقة الشديدة، فهي بالحقيقة ثلاثة فروع لوظيفة واحدة غير منقسمة، وهي الوساطة القائمة في المسيح بالتعليم والتكفير والسلطان. وأهمّ هذه الأعمال الثلاثة هو التكفير، وهو الغاية العظمى من تجسد المسيح بدليل قوله «ولكنه الآن قد أُظهر (أي المسيح) مرة عند انقضاء الدهور ليبطل الخطية بذبيحة نفسه» (عب 9: 26). ولا شك أن غاية التكفير كانت مصحوبة بغايات أخرى، منها إظهار صفات الله للبشر، ومنها وجود معبود منظور يوافق احتياجاتنا، ومنها إقامة مثالٍ كامل نقتدي به يعلّمنا الحق بسلطان فائق. غير أن الأمر الجوهري في التجسد كان تقديم الذبيحة الكافية عن الخطية.
أما وصف عمل المسيح إجمالاً بأنه نبوي وكفاري وملكي معاً، فهو في غاية المناسبة، لأنه يبيّن لنا فوائد وساطته على نوع جامع مفهوم. لأننا نراه معلّماً عظيماً يعلّمنا الحق السماوي، ورئيس كهنة يكفّر عن خطايانا بموته ذبيحة، وملكاً يملك بسلطان إلهي. وقد اشتهرت هذه الفروع الثلاثة لعمل الوساطة في كل الأديان البشرية في كل عصر في تاريخ العالم، ورُسمت في العهد القديم بأجلى بيان في الوظيفة النبوية والكهنوتية والملكية، وفي العهد الجديد اجتمعت في شخص المسيح وعمله بوضوح تام. وكل من بحث في الصفات اللازمة للوسيط بين الله والناس اقتنع بلزوم اجتماع هذه الأعمال الثلاثة في الوساطة، لأن الفداء من الخطية يستلزم التعليم، والتكفير، وانضمام الرعية الحاصلة على الخلاص في ملكوت ثابت أبدي. ولا نقدر أن نغفل أي واحد من هذه الأعمال الثلاثة، وإلا سلبنا من المسيح جانباً من وظيفته، ونظرنا إلى عمله نظراً محدوداً. فلا يمكننا أن نعظّم المسيح كما ينبغي إذا نظرنا إلى عمله النبوي وأهملنا أنه كاهن وملك. وهكذا من جهة كهنوته ومُلكه. ولا ننال فائدة تامة من وساطته إلا إذا كان لنا نبياً يعلّمنا، وكاهناً يكفّر عنا، وملكاً يملك علينا ويحامي عنا.