الفصل الثالث والثلاثون
1 - في لغة الكتاب المقدس، ما معنى كلمة «نبي»؟
* النبي هو من يتكلم عن آخر، كما قيل «فقال الرب لموسى: انظر! أنا جعلتك إلهاً لفرعون، وهارون أخوك يكون نبيَّك» (خر 7: 1) أي أن موسى يكون مصدر التبليغ وهارون آلته. وهذه هي نسبة النبي إلى الله، فالله يعلن للنبي مشيئته والنبي يبلغ ذلك للذين يرسله الله إليهم. وقيل عن هارون في علاقته بموسى «هو يكون لك فماً» (خر 4: 16). وقيل في النبي «مِثل فمي تكون» (إر 15: 19). ومن جهة توظيفه أو إقامته كليماً لله «وأجعل كلامي في فمه، فيكلّمهم بكل ما أوصيه به. ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي، أنا أطالبه» (تث 18:18، 19). فيتضح من هذا أن النبي هو من يتكلم باسم الرب، ويكون آلةً بيده، لأن كل من يقرأ كلمة الله أو يبشر بها يتكلم باسمه، ويعلن الحقائق المبنيّة على سلطانه. وبهذا المعنى لا يكون القسوس أنبياء، لأن العهدين القديم والجديد يميّزان بين الأنبياء والمعلّمين، فالأنبياء كانوا ملهَمين أصحاب وحي، وهذا لا ينطبق على المعلمين. فكل من قبِل إعلاناً من الله وأُوحي إليه بتبليغه يسمّيه الكتاب المقدس نبياً. ولذلك سُمي جميع الكتبة الأطهار أنبياء.
قسم اليهود أسفارهم إلى الناموس، والأنبياء، والمكتوبات المقدسة. أما التوراة (أي الأسفار الخمسة الأولى) فكاتبها موسى الذي لا ينكر أحد أنه كان نبياً. والقِسم الثاني الذي يشمل جميع الأسفار التاريخية والنبوية قد كتبها أيضاً الأنبياءُ والملهَمون. وهكذا يُقال عن القسم الثالث. وكانت النبوة بالمستقبل جزءاً من عمل النبي يمارسها عند الاقتضاء.
فعندما نقول إن المسيح نبي، نعني أنه المتكلم عن الله، يبلغ أفكار الله وإرادته للبشر. ومِن جملة أهداف ظهور المسيح على الأرض أن يتكلم بكلام الله، كما قال «الكلام الذي تسمعونه ليس لي بل للآب الذي أرسلني» (يو 14: 24). وقيل أيضاً «يسوع الناصري الذي كان إنساناً نبياً مقتدراً في الفعل والقول» (لو 24: 19).
2 - كيف يمارس المسيح وظيفة نبي؟
* (1) في أنه كلمة الله الأزلي ومصدر كل معرفة الخلائق العاقلة ولاسيما البشر، وفيه كل كنوز الحكمة والعلم، ومنه يصدر كل ما ينوّر البشر في حقائق الخلاص (يو 1:1-5).
(2) في مجيئه إلى هذه الأرض معلماً، قام بوظيفته النبوية وعلّم البشر بواسطة الوعظ والأمثال، وفسّر شريعة موسى وإعلانات الأنبياء، وأعلن إرادة الله وماهية ملكوته وغاية عمله. كما أنه ألهم الأنبياء والرسل بواسطة الروح القدس في العهدين القديم والجديد.
(3) في أنه لم يزل منذ صعوده إلى الآن يمارس هذه الوظيفة نفسها، فألهم الرسل الأطهار، ورسم خدمة التبشير بالمسيحية، وأرسل الروح القدس. وهكذا مارس المسيح وظيفة نبي قبل مجيئه في الجسد وبعده، فأعلن لنا مشيئة الله بواسطة كلمته وروحه. وقد تمّم المسيح وظيفته النبوية لغايتين: (أ) إصلاح أحوال اليهود الروحية، و(ب) إعلان الحق للعالم أجمع. فقيل عن الغاية الأولى «لم أُرسَل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة» (مت 15: 24). وبهذا المعنى كان نبياً بين أنبياء العهد القديم وخاتم السلسلة النبوية. وقال بولس إن المسيح «صار خادم الختان من أجل صِدق الله، حتى يُثبِّت مواعيد الآباء» (رو 15: 8) وكان هو ذلك النبي الذي قيل إنه مثل موسى ولكن أعظم منه. وثبّت المسيح الشريعة القديمة وأكرمها وتمم مطالبها. غير أنه بذلك أبطلها وجاء بشريعةٍ جديدة (هي الإنجيل المقدس، والموعظة على الجبل متى 5-7) جمع فيها غايات الشريعة القديمة الروحية. وأعلن نبوات شتى عن مستقبل ملكوته. غير أن اليهود رفضوا تعاليمه كما رفضوا شخصه، ولم يؤمن برسوليته إلا قسم منهم.
أما من جهة الغاية الثانية (وهي إعلان الحق للأمم) فتمّت بإعلانه أنه الطريق والحق والحياة للعالم أجمع. ولا يزال هو مصدر كل نورٍ للبشر يُعلن مشيئة الله ويفسرها كما قال «تعليمي ليس لي بل للذي أرسلني» (يو 7: 16) وقال «أتكلم بهذا كما علّمني أبي» (يو 8: 28). وأثبت تعاليمه بالمعجزات، وكان هو نفسه أعظمها. وكان دائماً يعلّم بسلطان، وتعليمه كما ورد في الإنجيل هو الإعلان الأخير للعالم، فانتهت الوظيفة النبوية فيه. وأما الرسل الذين جاءوا بعده فكانوا ملهَمين ليوضحوا الإعلان الذي أتى هو به. وكان المسيح نبياً بتعليمه وبمثاله، وبذلك علّم البشر كيف يعيشون، وبأي روح ينبغي أن يمجدوا الله ويعاملوا البشر. فكان بذلك نوراً للعالم وأعظم الأنبياء، ووجب علينا أن نسمع أقواله ونطيع أوامره.