الفصل الخامس والثلاثون
كفارة المسيح
1 - كيف تشرح الكنيسة الإنجيلية عمل المسيح الكهنوتي؟
* تقول إن المسيح يمارس وظيفة كاهن بتقديمه ذاته مرة واحدة ذبيحة ليوفي العدل الإلهي حقه، ويصالحنا مع الله وبشفاعته فينا على الدوام. وإنه بطاعته الكاملة، وتقديمه نفسه ذبيحة قدمها بروح أزلي مرة لله، أوفى عدل أبيه إيفاءً كاملاً، واشترى المصالحة بل الميراث الأبدي في ملكوت السموات لأجل كل الذين أعطاه أبوه إياهم، فأرضى إلى التمام عدل أبيه، بمعنى أنه أوفى عدل أبيه إيفاءً كاملاً، لأن «إرضاء» و«إيفاء» بمعنى واحد، فهما تشيران إلى عمل المسيح الكفاري في رفع حكم العدل الإلهي بالدينونة على الخاطئ. غير أن «إيفاء» أصحّ في هذا المقام، ولو أن «إرضاء» تصحّ باعتبار علاقة الكفارة بالله في كمال صفاته. والكفارة التي قدمها المسيح هي نيابية، ناب المسيح عن الخاطئ في تقديمها، ونتج منها أن الله رضي بالمؤمن وصالحه لنفسه بكفارة المسيح التي تكفّر عن خطاياه، وتبرّره من جرمه، أي ترفع عنه حكم الشريعة الذي أخذه المسيح على نفسه عنه، وتنسب للخاطئ بر المسيح الكامل النقي، وبذلك تتم المصالحة ويكمل الفداء.
2 - ما هي الكلمات المستعملة في التعبير عن وظيفة المسيح الكهنوتية، وأعمالها ونتائجها؟
* منها الخطية والجرم والقصاص والطاعة والذبيحة والكفارة والتكفير والإرضاء والإيفاء والنيابة والمصالحة والفداء.
3 - ما هو تعريف الخطية والجرم والقصاص؟
* الخطية هي التعدي على شريعة الله، أو عدم طاعتها، وهي نوعان : أصلية أي ما لنا بالوراثة، وفعلية أي ما لنا بأعمالنا الاختيارية (انظر فصل 26 س 12-19). والأمر الجوهري فيها هو علاقتها بشريعة الله، فهي مخالفة لها وعصيان عليها. وتتضمن الفساد والجرم، وتستحق الدينونة أمام قداسة الله وأمام عدله أيضاً (انظر فصل 26 س 19). فالله بالنظر إلى الخطية هو المشرّع والقاضي الذي وضع شريعة عادلة ومقدسة وعلّم بلزوم حفظها وعقاب جميع المتعدّين عليها، فيحكم كقاضٍ على كل متعدٍ حكماً عادلاً. وحفظاً لكمالاته وإكراماً لقداسة وشرف شريعته، وإثباتاً لسلطانه الأخلاقي في الكون ينبغي أن يُجري أحكام العدل على الخاطئ، إلا إذا وجد من يكرم الشريعة ويحتمل القصاص نيابة عنه، فيوفي العدل حقه، ويرفع كل ما يمنع رضى الله بالخاطئ المذنب، كما عمل المسيح. غير أن الله وإن كان مشرّعاً وقاضياً فهو أيضاً أب حنون يحب أولاده الخطاة. وقد غلبت محبة الآب ورحمته الصعوبات المتعلّقة بالخطية، وتنازل الله لتدبير الخلاص للخطاة، لا بإجراء قصاص الشريعة عليهم، بل بإرسال ابنه لينوب عنهم بكفارته ويشتري لهم الفداء التام.
والجرم كلمة يُعبَّر بها في اصطلاح علم اللاهوت عن علاقة الخطية بالعدل، أي إلى الشريعة العادلة. وهي بهذا المعنى تحيط بأمرين: (أ) استحقاق اللوم، وبهذا المعنى لا يمكن أن يُلام إلا المجرم فعلاً، لأن الصفات الذاتية لا تُنسب إلا لصاحبها، ولا تزول بالتبرير أو الصفح. ولا يمكن أن الجرم الشخصي بهذا المعنى يُنسب أو ينتقل من شخص لآخر. و(ب) الأمر الثاني أن الجرم يستحق العقاب أو الالتزام بإيفاء العدل حقه. وبهذا المعنى يمكن إزالة الجرم بإيفاء العدل شخصياً أو نيابياً، ويمكن نقله من شخص لآخر بالحسبان الشرعي (انظر فصل 27 س 8، 9). فإذا سرق إنسان أو ارتكب ذنباً آخر له عقاب في قانون البلاد، يمكن إزالة جرمه (بالمعنى الأخير) بأن يحتمل شخص آخر عقاب ذلك الجرم، فيتحرر بذلك من قصاص القانون، ويكون هذا غاية العدل. فبهذا المعنى قيل إن جرم معصية آدم حُسب علينا، وإن المسيح احتمل جرم خطايانا، وإن ذبيحته واسطة تبريرنا من الجرم.
أما كلمة «قصاص» فيُراد بها العقاب، وهو هنا احتمال المسيح عقاب الشريعة عنا. ليس أن المسيح احتمل ذات القصاص المعيّن للإنسان الخاطئ الذي هو الموت الأبدي، ولا أنه احتمل ذات العذاب الذي يصيب الهالكين نوعاً ومقداراً، بل إنه احتمل ما عيّنه له الله من القصاص النيابي للتعويض عن القصاص المفروض على البشر الخطاة. وباستعمال كلمة «قصاص» للتعبير عن آلام المسيح الكفارية نقصد ما احتمله المسيح ليوفي العدل حقه، بدون تعيين ماهية الآلام أو مقدارها، لأن لآلام المسيح قيمةً كفّارية خاصة، لسموّ مقامه وشرف شخصه. ونختار كلمة قصاص إشارة إلى تلك الآلام لنميّز غايتها عن الآلام التي تقع على سبيل البلية والتأديب. لأن غاية آلام المسيح لم تكن تأديبه، ولا لإقامته مثالاً للصبر وإنكار النفس، بل ليحتمل ما يطلبه العدل إيفاءً لمطالب العدل. لأن القصاص الذي احتمله المسيح يختلف جداً عن القصاص الذي يحتمله الخاطئ الهالك. ولكن لما رضي الله بعمل المسيح الكفاري وبقيمة آلامه يُعتبر أنه كافٍ لإيفاء العدل حقه عن جميع البشر. وبهذا المعنى يليق استعمال كلمة «القصاص» للتعبير عن علاقة آلام المسيح بشريعة الله، لأن الكفارة تتم باحتمال القصاص المطلوب. غير أن ما وُضع على المسيح قصاصاً يختلف كل الاختلاف عما كان يجب أن يحل بالخاطئ نفسه.
4 - ما هو تعريف الطاعة والذبيحة؟
* يُراد بطاعة المسيح كل ما يتعلق بحياته وخدمته في وقت التجسد، وما انتهت إليه من تقديم نفسه ذبيحة عن الخطاة. ولذلك كانت ذبيحة المسيح جزءاً من طاعته الكاملة كما قيل «أطاع حتى الموت موت الصليب» (في 2: 8) أي أن موت المسيح ذبيحة كان تكملة لطاعته النيابية. والمقصود بذلك أنه لأجل خلاص البشر قام مقامهم لدى الشريعة، وقدم لها طاعة كاملة عنهم. ولكن بسبب خطية البشر لم يكفِ مجرد الطاعة بدون كفارة عن الخطايا، فقدم تلك الكفارة جزءاً من خدمة الطاعة. وبتلك الطاعة التي كانت الكفارة قسماً منها لم يكفر عن الخطية فقط، بل اشترى ميراثاً أبدياً سماوياً لجميع المؤمنين به. فكلمة «طاعة» كلمة شاملة تحيط بكل عمل المسيح في وقت التجسد إلى أن انتهى بموته كفارة، كقوله «هأنذا أجيء. في درج الكتاب مكتوب عني لأفعل مشيئتك يا الله. فبهذه المشيئة نحن مقدَّسون بتقديم جسد يسوع المسيح مرة واحدة» (عب 10: 7، 10). وقوله «لأنه كما بمعصية الإنسان الواحد جُعل الكثيرون خطاة، هكذا أيضاً بإطاعة الواحد سيُجعل الكثيرون أبراراً» (رو 5: 19).
ويشير معنى الذبيحة إلى موت المسيح كفارة على الصليب كأنه مذبوح على مذبح لأجل خطايا العالم. على أن حياة المسيح كلها كانت ذبيحةً، لأن احتماله المشقات والآلام والأحزان والأحمال المقترنة بحياته على الأرض كان من نوع الذبيحة، كما قال هو نفسه (ليس إشارة إلى موته فقط بل إلى حياته) «أمَا كان ينبغي أن المسيح يتألم بهذا ويدخل إلى مجده؟» (لو 24: 26). فإن كانت كلمة «ذبيحة» تشير غالباً إلى موته على الصليب، إلا أنها تشمل أيضاً كل ما احتمله ليتمم عمل الفداء على الأرض.
5 - ما هو تعريف الكفارة والتكفير والإرضاء والإيفاء والنيابة؟
* كفارة المسيح هي عمله الذي تم بطاعته الكاملة الاختيارية لمشيئة الله، ليخلص البشر من لعنة الشريعة ويصالحهم مع الله. ولم تكن تلك الكفارة لأجل نفسه بل لأجل جنسنا الساقط، كما قيل «فإن المسيح أيضاً تألم مرة واحدة من أجل الخطايا، البار من أجل الأثمة، لكي يقرّبنا إلى الله» (1بط 3: 18). وتُبنى قيمة تلك الكفارة على أنه ابن الله الأزلي، كما قيل «هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررت» (مت 17: 5). ويصح أن ننظر إلى كفارة المسيح من أوجه مختلفة، منها علاقتها بمحبة الله وقداسته وعدله، أو في عملها في الإنسان ولأجله. وقد اصطلح اللاهوتيون على كلمات تعبّر عن هذه العلاقات المختلفة، فقيل مثلاً إن كفارة المسيح تكفر عن الخطية وترضي الله وتوفي العدل حقه، وإن المسيح تمم عمله الكفاري نيابةً عنا.
وقيل إن كفارة المسيح تكفر عن الخطية، وهو وصفٌ لمفعول الكفارة في خلاص الخاطئ من لعنة الشريعة ورفع الدينونة عنه. وقيل كذلك إن الكفارة ترضي الله، وهذا وصفٌ لمفعول الكفارة في إزالة غضب الله، وعن رضاه بقبول الخاطئ للمصالحة. وقيل كذلك إن الكفارة توفي العدل حقه حتى لم يبقَ شيء من الدَّين يُطالب به العدلُ الإلهي الخاطئ الذي آمن. فالإيفاء مأخوذ من الاصطلاحات الشرعية، والتكفير من الاصطلاحات اليهودية المختصة بالنظام الموسوي وخدمة الهيكل. ويُشار بالإيفاء إلى تأدية مطالب الشريعة، ويُشار بالتكفير إلى ستر النفس المذنبة بدم الذبيحة حتى لا يُطالَب المذنب بالقصاص لأنه رُفع عنه بوضعه على الحيوان المذبوح لأجله، ويُشار بالإرضاء أو الاستعطاف إلى تحويل غضب الله إلى رضى بناءً على وساطة المسيح وكفارته كما قيل «في هذا هي المحبة: ليس أننا نحن أحببنا الله، بل أنه هو أحبنا وأرسل ابنه كفارة لخطايانا» (1يو 4: 10). ولم تكن الكفارة ما حمل الله على محبة البشر، ولكنها فتحت باب المصالحة بينه وبين الخطاة، بدون إهانة لشريعته المقدسة، لأنه إلهٌ محبٌّ يقبل التكفير، والمصالحة هي ذاتها ثمر محبته.
فالتكفير هو سبب رضى الله، لأن ذنب الخاطئ صار مستوراً، والله صار راضياً. وبما أنه لا بد من القصاص على الجرم بمقتضى عدل الله (لأن القصاص هو كراهة الله للخطية وحكمه العادل عليها) تمّ التكفير عن جرم الخاطئ بالإيفاء، أي بالقصاص النيابي. فرضي الله بذلك، لأن مِن طبيعته أن يصفح عن الخاطئ ويباركه. وكلمة «راضٍ» و«محب» ليستا مترادفتين. نعم إن الله محبة لأنه أحبنا ونحن خطاة، وقبِل الإيفاء عنا. ولكن الإيفاء أو التكفير لا يحرك المحبة في قلب الله، بل يجعله راضياً على الذين عصوا شريعته، وبهذا يبيّن محبته.
وقد فشلت الفلسفة البشرية في فهم طبيعة الله وعلاقته بخلائقه الخطاة. ولكن إذا التفتنا إلى تعليم الكتاب المقدس في ذلك سهُل علينا فهمها، لأنه ورد في العهدين القديم والجديد أن الله عادل بمعنى أن طبيعته تطلب قصاص الخاطئ، ولا يمكن أن يكون غفران بدون تكفير نيابي أو شخصي. ومن المعلوم أن طريق الخلاص جاء بالتمثيل والرمز في النظام الموسوي، وجاء بالتفسير في كتب الأنبياء، وجاء بالإعلان الواضح في العهد الجديد. وكلها تتضمّن نيابة ابن الله المتجسد عن الخطاة.
وبكلمة «إيفاء» نشير إلى كل ما فعله المسيح ليوفي مطالب ناموس الله وعدله. والإيفاء نوعان متميزان بينهما فرق في حقيقتهما ونتائجهما: فالنوع الواحد مالي أو تجاري، والنوع الآخر عقابي أو قضائي. فبالمعنى المالي، متى دفع المديون كل ديونه يتحرر من الدين، لأن الإيفاء هو تأدية كل ما يُطالَب به، فلا تكون بعد ذلك رحمة ولا نعمة من الدائن الذي استوفى دينه. ولا فرق عنده سواء أوفاه المديون نفسه أم شخص آخر عوضاً عنه، لأن دعوى المداين هي على المبلغ المستحَق، لا على الشخص المديون. أما في الجنايات ففي ذلك فرق، لأن الطلب هو على المجرم، وهو نفسه المطلوب للعدالة. وفي هذه الحالة لا تقبل المحاكم البشرية أن يحل شخص محل آخر، لأن الأمر الجوهري ليس العقاب بل إجراء العقاب على المذنب الذي يكابده. قال الله «النفس التي تخطئ تموت». وليس من اللازم أن يكون العقاب من نوع الجرم، بل من النادر أن يكون كذلك، لأن كل ما يُطلَب هو أن يكون جزاءً عادلاً على قدر الجرم تماماً. فعقاب التعدي على شخص ربما كان جزاءً نقدياً، وعلى السرقة القيود في السجن، وعلى خيانة الملك النفي أو الموت. ومن أهم الاختلافات بين الإيفاء المالي والعقابي هو أن المالي يتوقف على سداد الدَّين فيصير المديون حراً، ولا يجوز إبقاؤه مسجوناً، ولا وضع شروط لإطلاقه. وأما المجرم المجبَر على الإيفاء العقابي فلا يحق له أن يقيم آخر مكانه، لأن هذا ليس له مثيل في المحكمة البشرية، ولذلك لا يستفيد من البدل. أما إذا قبل القاضي بالبدل، تترتب حينئذ فائدته على ما يشترطه القاضي على البدل وما يقابله من تعهُّد له به، فربما والحالة هذه يتم إطلاق المذنب حالاً بدون شرط، أو يتأخر إلى حين على شروط معلومة، أو يتم بالتدريج لا دفعة واحدة.
وبما أن إيفاء المسيح ليس مالياً بل هو عقابي أو قصاصي، أي إيفاء عن الخطاة لا عن مديونين ديناً مالياً ينتج ما يأتي:
(1) إنه لا يقوم بتقديم شيء مساوٍ له في القيمة، فعقاب اللص ليس استرجاع المسروق، ولا تعويض قيمة المال. بل هو غالباً يختلف تماماً عن حقيقة الجرم، كالجَلْد والسجن. فإن عقوبة الهجوم على شخص بقصد ضربه لا يكون بتنفيذ نفس هذا العمل ضد المذنب، بل قصاص آخر يوازي ذنبه. وكذلك هناك فرق كبير بين قصاص تلك الجنايات وقصاص النميمة والخيانة والعصيان. فكل ما يطلبه العدل الإلهي في الإيفاء العقابي أن يكون إيفاءً حقيقياً لا مجرد ما يرضى به القاضي الأرضي. نعم قد يختلف في النوع ولكن يجب أن يكون ذا قيمة جوهرية تساويه، فغرامة إنسان بدراهم قليلة لأجل القتل عمداً نوعٌ من الاستخفاف، ولكن الموت أو السجن الطويل لأجل إعدام الحياة هو إيفاء حقيقي للعدل.
ويعلمنا الكتاب أن المسيح أوفى العدل الإلهي عن خطايا البشر، وأن ما كابده كان مجازاة حقيقية وافية بالعقاب الذي أُعفي منه المجرم وبالفوائد الموهوبة. أي إن آلامه وموته كافية لتتمم جميع الغايات المقصودة بقصاص البشر على خطاياهم. فهو أوفى العدل الإلهي حقه، وجعل تبرير الخاطئ موافقاً له. ولكنه لم يتألم بنوع وقدر الآلام المفروض أن يكابده الخطاة. غير أن قيمة آلامه تفوق ما استوجبوه إلى غير نهاية، لأن موت إنسان فريد وصالح جداً، واتِّضاع ابن الله الأزلي وآلامه وموته يفوق بما لا يُقاس قيمة وقوة ما يكابده جميع الخطاة من العقاب.
(2) إيفاء المسيح هو من النعمة، لأن الآب لم يكن مضطراً أن يقدم المسيح بدلاً عن البشر الساقطين، ولا كان المسيح مضطراً أن يتخذ تلك الوظيفة. ولكن لمجرد النعمة أوقف الآب إجراء الشريعة، وقبل الآلام النيابية وموت ابنه الوحيد. والمسيح من محبته التي لا نظير لها رضي أن يأخذ طبيعتنا ويحمل خطايانا ويموت عنا، البار عن الأثمة ليقرّبنا إلى الله. وكل ما يناله الخطاة من فوائد بسبب إيفاء المسيح هي عطايا مجانية وبركات لا حقَّ لهم فيها.
(3) يؤكد الإيفاء منح البركات الناتجة عنه لشعب الله المؤمن بالمسيح. وهذا عدلٌ لسببين: (أ) إن الله وعد المؤمنين بهذا الإيفاء جزاءً لطاعة المسيح وآلامه. وعاهد الله المسيح أنه إذا تمم شروط الوساطة وأوفى خطايا شعبه، يبارك كل المؤمنين به للخلاص. و(ب) إن ذلك من خواص الإيفاء، فإذا أُوفيت مطالب العدل لا تُطلَب بعد، والله لا يتقاضى أجرة الخطية مرتين. وهذه هي المشابهة بين عمل المسيح وإيفاء الدين المعتاد.
(4) إيفاء المسيح مبنيٌّ على العهد المقطوع بين الآب والابن، فتتوقف فوائده بشروط ذلك العهد. فإن شعب الله يولدون في الخطية كبقية البشر، ويبقون تحت الدينونة إلى أن يؤمنوا، وحينئذ يتبررون وينالون فوائد الفداء الكاملة بالتدريج، فينال المؤمن الفوائد شيئاً فشيئاً في هذه الحياة إلى أن تُكمل له في الحياة الأبدية.
أما النيابة فتشير إلى أن المسيح قام مقام غيره في عمل الفداء. والمقصود بالقصاص النيابي ليس الآلام التي تُقاسَى لأجل خير الآخرين فقط، لأن آلام الشهداء ومحبي أوطانهم وصانعي الأعمال الخيرية تُكابَد لأجل خير الكنيسة والبلاد والجنس البشري، ولكنها ليست نيابية، لأن النيابة حسب استعمالها تشمل معنى البدل. فالآلام النيابية هي ما يكابده شخص عوضاً عن آخر، وتقتضي بالضرورة تحرير المكابَد عنه إذا تمت جميع شروط ذلك. والنائب هو البدل، أو من يأخذ مكان الآخر ويعمل عوضاً عنه. وعلى ذلك تكون آلام المسيح النيابية هي ما احتمله عن الخطاة، فقام مكانهم وعمل ما يجب ليوفي العدل الإلهي حقه. وما فعله وكابده يُغنيهم عن القيام بما يطلبه الناموس لتبريرهم. وهذا الاعتقاد بالتعويض والطاعة والآلام النيابية موجود في كل أديان العالم، ومثبَتٌ من كلمة الله ومتضمَّن في تعاليمها، مما يبرهن أن العمل النيابي ليس بشرياً محضاً، بل هو ناشئ من مصدر إلهي، ويوافق ليس عقل الإنسان فقط بل عقل الله أيضاً. ولا يليق أن نستعمل كلمات بمعنى يختلف عن معناها المقرر، فلا يصح أن نقول إن آلام المسيح نيابية، بمعنى أنها استُخدمت لخير الجنس البشري فقط، لأن ذلك يمكن أن يُقال عن الآلام التي يكابدها شهيد من أجل وطنه. أما المقصود بنيابة آلام المسيح فهو كالمقصود بنيابة إنسان عن آخر ليخلصه من العقاب الذي يستوجبه، وكالمقصود بنيابة موت ذبائح العهد القديم عن موت المذنب.
فممّا سبق يتضح أن علماء اللاهوت يستخدمون كلمة «كفارة» ليشرحوا عمل المسيح الذي تممه لخلاص البشر. والتكفير هو ستر الخطايا برش دم الذبيحة كما كانت العادة في ذبائح العهد القديم (لا 17: 11 ورو 3: 25 وعب 2: 17 و1يو 2:2 و4: 10). والإرضاء هو تحويل غضب الله إلى الرضى عن الخاطئ بناءً على وساطة المسيح. على أن الرضى هنا يمتاز عن المحبة، لأن محبة الله لا تتوقف على الكفارة، أما الرضى فهو نتيجة إيفاء العدل حقه، والنيابة تعبّر عن قيام المسيح مقامنا أمام الشريعة الإلهية (1بط 3: 18 وعب 7: 25).
6- ما هو تعريف المصالحة والفداء؟
* في الكتاب كلمتان مهمتان تشيران إلى عمل المسيح ونتيجته، وهما «كفَّر» و«صالح». فكلمة كفّر تشرح هدف عمل المسيح، ودُعي عمله كفارة ومفعوله تكفيراً (رو 3: 25 وعب 2: 17 و1يو 2:2 و4: 10 ولا 17: 11). وكلمة «صالح» تشرح نتيجة ومفعول عمل المسيح في إزالة المخالفة بين الله والخطاة. ودُعيت تلك النتيجة المصالحة (رو 5: 11 و2كو 5: 18، 19 وأف 2: 16 وكو 1: 20). وقد أُضيف إلى هاتين الكلمتين المشهورتين كلمتي إرضاء وإيفاء، كما سبق الكلام. غير أن الكلمتين الأخيرتين من باب الاصطلاحات اللاهوتية أكثر مما هما من لغة الكتاب. على أنهما تشرحان تعليم الوحي في كفارة المسيح. أما من جهة نتيجة الكفارة من حيث أنها عمل قد تم، فهي على ثلاثة أوجه: (أ) علاقتها بالله وحده، و(ب) علاقتها بالله والإنسان معاً، و(ج) علاقتها بالإنسان وحده. فبالنسبة لله هي بيان محبته وقداسته وعدله وثبوت حكمه الأخلاقي (2كو 4: 6 و1يو 4: 10) وبالنسبة لله والإنسان معاً هي واسطة مصالحة الخطاة معه. وبالنسبة إلى الإنسان هي واسطة فدائه.
أما من جهة المصالحة فيعلّمنا الكتاب أن الله هو طالبها كما قيل «الله كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه» (2كو 5: 19) وقد عيَّن وساطة المسيح بكمالها طريقاً للوصول إلى المصالحة. وكان هذا في نيّة الآب السماوي قبل إرسال ابنه، وكانت كفارة المسيح واسطة إتمام ذلك القصد كما قيل «جعل الذي لم يعرف خطية خطية لأجلنا، لنصير نحن برَّ الله فيه» (2كو 5: 21). وبهذا المعنى دُعيت بشارة الإنجيل «خدمة المصالحة» والمبشرين «سفراء عن المسيح» والذي قبل الإنجيل وآمن بالمسيح دخل في حال المصالحة والسلام، والذين قبلوا المسيح واتكلوا على كفارته وتبرروا بدمه نالوا السلام التام وخلصوا من الغضب (رو 5: 9-11).
أما «الفداء» فهو نتيجة كفارة المسيح بالنسبة للإنسان لأنه نال بها الفداء، أي تخلَّص من لعنة الشريعة ومن عبودية الخطية ومن القصاص الأبدي بعمل المسيح الذي دفع عنه فدية دمه الكريم، كما قيل «ابن الإنسان جاء ليبذل نفسه فدية عن كثيرين» (مت 20: 28) وأيضاً قوله «كنيسة الله التي اقتناها بدمه» (أع 20: 28) وقوله «الذي فيه لنا الفداء بدمه غفران الخطايا» (أف 1: 7) وقوله «عالمين أنكم افتُديتم لا بأشياء تفنى بفضة أو ذهب.. بل بدم كريم» (1بط 1: 18، 19) وقوله «لأنك ذُبحت واشتريتنا لله بدمك» (رؤ 5: 9) وأيضاً «ليس بدم تيوس وعجول بل بدم نفسه دخل مرة واحدة إلى الأقداس فوجد فداءً أبدياً» (عب 9: 12) فالمسيح قدم نفسه فدية عن خطايا العالم أجمع (يو 3: 16 وعب 2: 9). غير أن ذلك الفداء المعد للعالم لا يكون فعالاً ونافعاً إلا للمؤمنين بالمسيح، الذين بالتوبة والإيمان ينالون فوائد الكفارة.
7 – ما هي التفسيرات الرئيسية للكفارة في تاريخ الكنيسة؟
* كانت هناك ثلاثة تفسيرات رئيسية في تاريخ الكنيسة:
(1) رأي أوريجانوس الإسكندري (185-254م) وهو أن موت المسيح كان فدية قدَّمها المسيح للشيطان ليحرر البشر الساقطين من سجنهم. وبموت المسيح افتدى هؤلاء الساقطين وخلَّصهم. وقبل الشيطان أن يحل المسيح مكان البشر، ولكنه لم يستطع أن يبقي المسيح في قبضته، لأنه قام من الموت منتصراً. وهكذا خسر الشيطان أسراه من البشر، ولم يقدر أن يحتفظ بالمسيح الفدية.
(2) رأي أبيلارد (1079-1142م) وهو أن موت المسيح يترك أثراً جليلاً على البشر المذهولين من محبته لهم، فيتوبون ويحبونه لأنه أحبهم أولاً ، وهكذا يتغيَّرون بفضل موت المسيح.
(3) رأي أنْسِلْم (1033-1109م) وهو يقول إن الخطية إهانة لامتناهية ضد الله، ولذلك تتطلَّب إرضاءً مساوياً لله. ولا يستطيع كائن ما، إنسان أو ملاك، أن يزيل هذه الإهانة، فلا بد أن الله نفسه يأخذ مكان الإنسان، وهذا ما عمله المسيح، الله الذي ظهر في الجسد، فأرضى العدل الإلهي بموته ونيابته عن البشر. وعلى هذا لا يكون موت المسيح فدية مقدَّمةً للشيطان، ولكنه دين يُسدَّد لله.
وقد نحا مصلحو القرن السادس عشر نحو رأي أنسلم، فقال مارتن لوثر إن المسيح قبل طوعاً أن ينوب عن البشر في تحمُّل عقابهم، وحُسب خطية ليصيروا هم بر الله فيه. وقال جون كلفن إن المسيح حمل في نفسه عقاب الإنسان الخاطئ المدين.
8 - ما هي الأدلة على لزوم الكفارة؟
يتبيّن لزوم الكفارة من:
(1) البرهان العقلي: الله قدوس والإنسان خاطئ، وخطية الإنسان ضد القداسة الإلهية. والخطية تستحق الدينونة، ولا يصح مغفرة الخطية إلا بواسطةٍ تزيل تلك الدينونة وتحمل عن الخاطئ جرمه. وهذا لا يتم بمجرد توبة الخاطئ وإصلاحه، لأنه ولو صار صالحاً لا يزيل ذلك عنه دينونة الخطايا التي ارتكبها. ولو غفر الله له خطاياه بدون كفارة لم يبقَ عند الخاطئ إكرام لشريعة الله، وحينئذ لا يحترم قداسة الله ولا يميز سموَّ حُكمه الأخلاقي ولا يعرف حقيقة رحمته ولا يمجده في كمال صفاته. ولذلك لابد من الكفارة لرفع دينونة الخطية وإظهار صفات الله بأكمل بيان.
(2) توافق الكفارة احتياج الإنسان الأخلاقي: فللإنسان طبيعة أخلاقية وضمير يعلّمه سموّ العدل والقداسة. وإذا اقتنع بخطيته ولم يعرف كفارة، انزعج ضميره واضطربت طبيعته الأخلاقية. وأما المغفرة بواسطة الكفارة فتوافق مطالب ضمير الإنسان وتسد كل احتياجاته الأخلاقية.
(3) توافق الكفارة مطالب الشريعة: لأن الشريعة الإلهية والبشرية تطلب قصاص المذنب. والشريعة التي بدون قصاص ليست شريعة حقيقية، والقصاص ضروري لكرامة الشريعة وشرف لمطالبها، فلذلك تطلب قصاص الخاطئ أو كفارة ترفع عنه القصاص، لأن العفو بدون كفارة ولا قصاص إهلاك للشريعة وإهانة لها. قال المسيح «إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل» (مت 5: 18) وهو أتى ليكمل الشريعة ويكرمها. فالعفو بدون كفارة اعترافٌ بأن الخطية لا تستحق القصاص، ويمكن غض النظر عنها بدون إهانة للقداسة والعدل.
(4) حدوث الكفارة في تاريخ الديانة الإلهية: فلو لم يكن للكفارة لزوم لما أوجدها الله. ويتضح لزومها من أقوال الكتاب. قال البشير «وابتدأ يعلّمهم أن ابن الإنسان ينبغي أن يتألم كثيراً ويُرفض من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة ويُقتل» (مر 8: 31) وقال المسيح «كما رفع موسى الحية في البرية، هكذا ينبغي أن يُرفع ابن الإنسان» (يو 3: 14) وقيل أيضاً «كان بولس يحاجُّهم موضحاً ومبيّناً أنه كان ينبغي أن المسيح يتألم» (أع 17: 3) «لأن كل رئيس كهنة يُقام لكي يقدم قرابين وذبائح. فمِن ثمّ يلزم أن يكون لهذا أيضاً شيء يقدمه» (عب 8: 3) وقال «بدون سفك دم لا تحصل مغفرة» (عب 9: 22).
(5) يقتضي حكم الله الأخلاقي الكفارة: فالله حاكم أخلاقي يراعي نظام حكمه، ولا يسمح بوقوع العصيان والتشويش في أخلاقيات الكون. ولو لم يحاسب المتعدّين ويحكم عليهم بالقصاص لكان هذا إهانة له ولأوامره. على أنه قد بيّن في الكفارة كراهته للخطية، وغضبه على الخطاة، وإكرام شريعته، وفتح باب المصالحة للمذنبين.
(6) وجودها في كل الأديان البشرية: وذلك يبيّن أن ضمير الإنسان يطلبها عموماً، ولا يكتفي بمجرد التوبة عن الخطية بل يطلب كفارة. وطريق التكفير هو سفك الدم، فينوب المذبوح عن المذنب في احتمال القصاص. وكل ذلك دليل على لزوم الكفارة في الديانة.
9 - ما هي الاعتراضات على لزوم الكفارة، وما هو الرد عليها؟
* (1) الاعتراض الأول: الله أب صالح فلا يطلب كفارة عن الخطية. والجواب على ذلك: أن علاقة الله بالبشر ليست فقط علاقة أب صالح، بل هي علاقة حاكم أخلاقي بار أيضاً. ولا بد من اجتماع هاتين الصفتين في الله، والتوافق بينهما. وإذا كان من الخطأ أن ننسب إليه العدل الواجب في الحاكم بغضّ النظر عن الرحمة الواجبة في الأب، كان من الخطأ أيضاً أن ننسب إليه المحبة الأبوية في معاملته لأولاده الخطاة بغضّ النظر عن اهتمامه بسلطان شرائعه وعدالة حكمه. ويخطئ من يظن أن في هاتين الصفتين تناقضاً، فهما متوافقتان مجتمعتان في كل أحكامه وأعماله، ولا سيما في مسألة الكفارة، لأنه لا يجوز أن نغفل أن الذي اقتضى عدله الصارم هذه الكفارة العظيمة عن خطايا البشر، هو نفسه الذي اقتضت رحمته الفائقة أن تجهزها، حتى تلاثم الحق والرحمة (مز 85: 10) وثبتت عدالة الحاكم عاملة مع محبة الأب ليخلص الخطاة.
ومن جملة هذا الاعتراض قول بعضهم إن الكفارة تظاهر سياسي، قصد الله به تشييد سلطان الشريعة والنظام الأخلاقي في العالم. وهذا القول يخالف ما نعلمه من صفات الله الجوهرية التي تطلب التكفير عن الخطايا لنوال المغفرة. ويقول الكتاب إن الرب بار في كل طرقه (مز 145: 17) «إله أمانة لا جور فيه. صدّيق وعادلٌ هو» (تث 32: 4) «عيناك أطهر من أن تنظرا الشر، ولا تستطيع النظر إلى الجور» (حب 1: 13) يجازي كل واحد حسب أعماله، ويرسل السخط والغضب على كل نفس إنسان يفعل الشر (رو 2: 6، 8). فهذه هي أقوال الله الصادقة بشأن بعض صفاته التي لا يجوز إهمالها.
(2) الاعتراض الثاني: الكفارة غير ضرورية، لأنه لا مانع عند الله من رجوع الخطاة إليه، وإنما المانع الوحيد هو عدم إيمانهم بما أعلنه من محبته ورحمته وعدم قبولهم إياها. والجواب على ذلك أنه لا يمكن أن يكون المانع عند الله شيئاً من الحقد والضغينة الشخصية ضد الخاطئ، لأن هذا ضد طبيعته المليئة بالمحبة. ومن الواضح في الأسفار الإلهية أن المانع هو كراهته الشديدة للخطية، ودينونته العادلة عليها، وعزمه المعلَن بأنه إذا كان هو واضع الشريعة والديان العادل، لزم بالضرورة أنه يعاقب الخطاة. ولو لم يكن الأمر كذلك لتعذّر علينا أن نفهم أقوال الكتاب الكثيرة بهذا الشأن، ومنها قوله «الله قاضٍ عادل، وإله يسخط في كل يوم» (مز 7: 11). «وجه الرب ضد عاملي الشر» (مز 34: 16). «آثامكم صارت فاصلة بينكم وبين إلهكم، وخطاياكم سترت وجهه عنكم حتى لا يسمع» (إش 59: 2). «لأن غضب الله معلَن من السماء على جميع فجور الناس وإثمهم» (رو 1: 18). وفي الكتاب أدلة واضحة على غضب الله الطاهر على الخطاة، وعلى عزمه العادل أن يدينهم على خطاياهم.
(3) الاعتراض الثالث: إذا كان الإنسان يقدر أن يغفر للذين يخطئون إليه بدون أن يطلب إيفاءً أو كفارة، فلماذا لا يفعل الله ذلك؟ إننا نخالف أمر الله القائل «كونوا رحماء كما أن أباكم أيضاً رحيم» (لو 6: 36). فكيف نقول إن الله لا يغفر الخطية بدون الإيفاء عنها؟ ألا يكون ذلك إعلاناً أن الإله الذي أمرنا أن نشابهه في رحمته أقل رحمة منا؟ أوَلا ننسب بذلك إلى الإله العظيم ما نحسبه معيباً وملوماً في الإنسان؟ وللرد نقول: نشأ هذا الاعتراض من تغافل الفرق العظيم بين الحقد الشخصي والحكم الشرعي. فقد يصفح الناس عن ذنوب وإهانات الآخرين لهم، وهذا لا يستلزم أنه يجب على ديان كل الأرض أن يفعل كذلك ويصفح عن مخالفة الشرائع الخاصة بملكوته العام، والتي تتعلق بخير جميع خلائقه العاقلة. لأن الإيفاء الذي يطلبه الله ليس إيفاءً شخصياً، فقد قال إنه لا يريد موت الخاطئ. ولكنه إيفاءٌ شرعي يطلبه، لا دفعاً لشعور الغضب أو الانتقام بل مراعاةً لعدله في مغفرة الخطية وحفظ استقامة حكمه وسلطان أوامره من الخلل والنقص والتقلب.
وصاحب هذا الاعتراض يتغافل أن الله لا يطلب فقط، بل هو يعطي أيضاً للإيفاء عن الخطايا التي يصفح عنها، وأنه قد جهّز مجاناً ما يطلبه لأجل الصفح. ومن هذا يتضح أن الله ليس أقل رحمة من البشر إذا غفر بعضهم لبعض بدون طلب شيء من التعويض، بل بالعكس إن رحمته تظهر جلياً من قيمة الكفارة التي يطلبها عدله، وقد جهزتها محبته الفائقة.
(4) الاعتراض الرابع يقول: لا يمكن إزالة عقوبات الخطية إلا بإزالة الخطية نفسها، فالسبيل الوحيد لتخليص الإنسان من عواقب الخطية هو تقديسه، فإذا حصل على ذلك خلص من عقابها. وقال المعترض أيضاً إن الكفارة ليست واسطة لتخليص الإنسان من عقاب الخطية، بل هي تعرُّضٌ لنظام حكم الله الأخلاقي وسلطان شرائعه. والجواب: لما كان الإنسان مخلوقاً أخلاقياً مسؤولاً، كانت علاقته بالإله الحي الديان العادل ذي السلطان الأعلى، لا بشرائع عاملة بنفسها. وصوت الطبيعة الأخلاقية التي فينا متى كانت صحيحة يرشدنا إلى أن الخطية قد طردتنا من رضى الله وعرّضتنا لعقاب غضبه العادل. والكتاب المقدس يعلّمنا أن «غضب الله معلَن من السماء على جميع فجور الناس وإثمهم» (رو 1: 18)، والدينونة التي يُحضِر الله كل عمل إليها، على كل خفيّ، إن كان خيراً أو شراً (جا 12: 14). ويتضح من ذلك أنه لو زالت عواقب الخطية الطبيعية وشرورها الزمنية بزوال الخطية (وهو غير الواقع) فإننا لا نزال نحتاج للخلاص من غضب الله البار ودينونته العادلة، لأن الخطية ليست مرضاً روحياً فقط يحتاج إلى الشفاء، بل هي جناية يعاقب الديان العظيم عليها أو يصفح عنها. وهذا واضح من شهادة الكتاب المقدس، ومن شعور الإنسان أو شهادة ضميره بأنه أثيم، وهو شاهد صادق بوجوب الدينونة التي تستحقها الخطية التي سبق ارتكابها، وبأن مجرد الإصلاح في المستقبل لا يستطيع أن يرفع الماضي أو يمحوه.
(5) الاعتراض الخامس: التوبة كافية لنوال المغفرة، فلا حاجة إلى الكفارة، فإن للتوبة فائدة ذاتية قائمة في نفسها، فإذا كانت توبة صادقة فإنها تشمل الحزن على الخطية، والرغبة في إصلاح الحياة. وهذا كل ما يطلبه الله تعويضاً عن الخطأ. فالتوبة تعترف بسلطان شريعة الله، وتعترف بإثم التعدي. وبناءً على هذا يجب اعتبار التوبة بمنزلة العقاب، وأنها كافية لتوفي مطالب الله صاحب الشريعة العظيم والقيام بمقاصده الحكيمة الصالحة. وللرد نقول: هذه الأقوال خاطئة مهما كان ظاهرها في أول وهلة صحيحاً، كما يظهر مما يأتي:
(أ) لا يصح اعتبار التوبة في أتم معناها أكثر من عمل ما يجب علينا في الزمن الحاضر، لأنها رجوع إلى سبيل الطاعة، يصحبها ما يجب على الخطاة من الاعتراف والحزن. فمهما كانت التوبة تامة فهي لا تكفّر عن الخطايا السابقة. كما أنها دائماً قاصرة عن الواجب، عاجزة عن التكفير عن الخطايا السابقة، وعاجزة عن منع ارتكاب الخطايا في المستقبل. ولا يصح القول إنها تقوم عند الله مقام العقاب، لأنها ربما أشارت إلى حكم الخاطئ في الخطية، ولكنها لا تشير إلى حكم الله فيها، أي فرط كراهته لها وشدة عقابه عليها، ومخالفتها لقداسة طبيعته وسلطان شرائعه واستقامة حكمه وخير خلائقه.
(ب) ونردّ على هذا الاعتراض بالنظر إلى الشرع البشري، فتوبة السارق عن السرقة والقاتل عن القتل والخائن عن خيانة الدولة لا تعتبر أبداً تكفيراً عن الذنب. وقد تمضي مدة طويلة بين زمن ارتكاب الجناية وزمن كشف الجاني، يحزن أثناءها الجاني ويتأسف على ما فعل، وتكون حياته حياة صلاح واستقامة. إلا أن كل ذلك لا يمنع الحكم عليه بالعقاب، لأن الحاكم ولو مال في هذه الحال إلى معاملة المذنب بالرحمة يرى أن مراعاة مقامهِ ووظيفته كحاكم، ومطالب الشريعة وخير الجمهور يقضي بأن يحكم على المذنب حسب نص القانون.
(ج) فضلاً عن أن كل توبة يستطيعها الإنسان قاصرة ناقصة لا تكفر عن الخطية، بل إن التوبة تحتاج إلى التكفير. ومن المعلوم أن التوبة لا تدّعي القبول عند الله، لأن التائب الحقيقي يحكم على نفسه بالخطأ ويدين نفسه ويسلم تسليماً تاماً بصدق كل ما توجبه عليه شريعة الله، وبعدل كل ما تحكم عليه من الويل، ويقر إقراراً قلبياً أنه لا يرى في نفسه شيئاً يدافع به عن نفسه أمام الحكم الصادر ضده. فكيف يصح إذاً أن ننسب للتوبة فضلاً أو عملاً للحصول على مغفرة الخطية؟
(د) في قلب الإنسان شعور طبيعي بلزوم وجود طريقة أخرى تعجز عنها التوبة لنوال الصفح عن الخطايا. وإلا بماذا نعلل انتشار الذبائح بين جمهور عظيم من البشر من الزمن القديم حتى الآن؟ لأننا نعلم من التوراة أن الذبائح فريضة إلهية وضعها الله بعد سقوط الإنسان، وسلّمها أولاد نوح إلى ذريتهم، ثم تمسكت بها كل الشعوب في كل العصور. فلا بد أن لها أساساً يوافق ما يشعر به القلب الخاطئ من الاحتياج إلى الكفارة. وهذا ما نلمسه من القوة العجيبة التي تصاحب دائماً التبشير بكفارة المسيح. فإن طبيعتنا الأخلاقية تلجئنا إلى احترام ما تطلبه القداسة، ولو كانت سيرتنا تخالفها. ويظهر أن ضمائرنا لا تطمئن بالنجاة من عواقب خطايانا بغير سبيل التبرير بواسطة الكفارة.
ومما يقال في هذا المعنى إنه لا يصح أن تُحمل أقوال الكتاب بشأن غضب الله على الخطية على سبيل المجاز. ولنا برهانان في ذلك، أولهما: شعور ضمائرنا بأن الله يغضب على الخطية، وهذا القول حقيقة لا مجاز. وثانيهما: المسيح وهو الله في جسد إنساني كان يغضب أحياناً بشأنها (مر 3: 5 و10: 14) وذلك دليل على غضب الله الفعلي على الخطية، كما نغضب نحن البشر على من يسبّب لنا الضرر.
10 - هل يستريح ضمير الإنسان إلى الديانة الخالية من تعليم الكفارة كما يستريح ضميره إلى الديانة المسيحية؟
* تقنع الكفارة طبيعة الإنسان الأخلاقية بسبب الضمير، فقد بقي الضمير في الإنسان بعد سقوطه في الخطية، وهو القوة الأخلاقية التي تميّز الحلال من الحرام، وتنشئ فينا عند العمل شعوراً بالرضا أو الإحساس بالخطأ. ويتفق الضمير عادةً مع شريعة الله التي نزلت على جبل سيناء، فهما شريعتان: الواحدة ظاهرة في الخارج، والأخرى باطنة في الداخل. ولهما سلطان من الإله الواحد الحقيقي الذي أعلنهما للإنسان على طريقتين متميزتين متوازيتين. وكما أن «بأعمال الناموس لا يتبرر كل ذي جسد» (رو 3: 20) فلا يقدر أحد أن يحفظ فرائض الله الطاهرة، هكذا لا يخلُص أحد من الدينونة بمجرد صوت الضمير. فإن الوصايا العشر وصوت الضمير صوتا موتٍ لجميع الذين يسمعونهما فقط. وكما أن الناموس في صرامته «مؤدّبنا (الذي يقودنا) إلى المسيح» (غل 3: 24) هكذا صوت دينونة الضمير والشعور بالإثم يقوداننا للتفتيش على تعليم النعمة في الإنجيل في أمر الخلاص بالكفارة.
وتأنيب الضمير يُصحَب دائماً برجاء الغفران واليقين أن الله يصفح عن الخطية كما أنه يعاقبها. وهو ما نشاهده في شريعة موسى التي أعلنت عقاب الله على الخاطئ ورحمته للتائب. بل إن الفطرة الإنسانية إذا تُركت لتستنبط عبادةً من تلقاء نفسها لم تضع أبداً ديانة تعلّم القنوط واليأس. ولما كانت جميع الأديان تفترض إمكان المغفرة، وتعلّم سبيلاً لنوالها، كان ذلك دليلاً واضحاً على أن تهديدات الضمير (مهما كان حكمها صارماً) لا تمنع رجاء الغفران. على أنه يتعسّر على الإنسان التوفيق بين هذين الأمرين، كما يتعسر عليه التوفيق بين مطالب الناموس والنعمة. وقد نشأ من ذلك طريقتان مختلفتان لحل هذا المشكل العظيم في الديانة، وهو: كيف ينال الإنسان السلام مع الله؟ الطريقة الأولى عجزت عن التوفيق بينهما، فأهملت حكم الضمير بالعقاب، والتجأت إلى الميل الأقوى في طبيعة الإنسان، أي رجاء الرحمة. وهذه طريقة الذين لا يؤمنون بالمسيحية، بل يرجون الغفران رجاءً مبهماً ويسدّون آذانهم عن صوت الضمير. ومنها الديانة البوذية التي توصي الإنسان بالجد في الكمال بدون ذبيحة أو كفارة أو إقرار بالذنوب. ومنها قول أصحاب مذهب سوسينيوس الذين لا يرون في العدل الإلهي ما يمنع خلاص الخطاة الذين يتوبون عن خطاياهم بدون كفارة.
وقد شهدت ضد خطأ هذه الأقوال كل ذبيحة قدّمها إنسانٌ ولو في ظلام الأديان الوثنية، كما شهدت ضدها ذبائح الديانة اليهودية المفروضة من الله، والتي شهدت أنه «بدون سفك دم لا تحصل مغفرة». ويفوق هذه ضياء صليب المسيح الساطع، الذي يعلن شريعة الحق الإلهي، وهي أنه لا بد من عقاب الخطية أو التكفير عنها، وأنه بالذبيحة فقط يتم التوفيق بين مطالب الناموس والنعمة وبين تأنيب الضمير ورجاء الغفران. وهذان الميلان المتضادان في طبيعتنا الروحية يجدان ما يوفّق بينهما في كفارة المسيح فقط، فهي من جانب تعترف بحقوق شريعة الله التي يتعداها الخاطئ في القصاص العادل، ومن الجانب الآخر تعلن ما عند الله المحب للبشر من الرحمة. وبهذا تؤيد الكفارة شهادة الضمير ضد الخطية والقصاص الهائل الذي تستحقه، ومن الجانب الآخر ننال ما نتوق إليه من السعادة والشركة مع الله بفضل «غِنى نعمته الفائق» (أف 2: 7). وهكذا تجد طبيعة الإنسان الدينية ما يوافقها في كفارة المسيح، فالذين قبلوا الإيمان بالمسيح يختبرون شعور الضمير الشديد بالذنوب وعدم الاستحقاق، مجتمعاً فيهم مع اليقين التام بالخلاص كأنه فوز حاضر.
11 - ماذا يقول الكتاب المقدس في كفارة المسيح؟
* نجد في الكتاب ما يأتي:
(1) العبارات التي تفيد أن المسيح مات لأجل الخطاة (مت 20: 28 ومر 10: 45 ولو 22: 19، 20 ويو 6: 51 و10: 11، 15، 18 و15: 12، 13 ورو 5: 6-8 و8: 32 و2كو 5: 14، 15، 21 وغل 2: 20 و3: 13 وأف 5: 2، 25 و1تس 5: 9، 10 و1تي 2: 5، 6 وتي 2: 14 وعب 2: 9 و1بط 3: 18 و1يو 3: 16).
(2) العبارات التي تفيد أن المسيح مات بسبب خطايانا (رو 4: 25 و8: 3 و1كو 15: 3 وغل 1: 4 وعب 10: 12 و1بط 3: 18 وإش 53: 5، 8).
(3) العبارات التي تفيد أن المسيح حمل خطايانا (عب 9: 28 و1بط 2: 24 وإش 53: 6، 11، 12).
(4) العبارات التي تفيد أن المسيح جُعل خطية وصار لعنةً لأجلنا (2كو 5: 21 وغل 3: 13).
(5) العبارات التي تفيد أن المسيح مات ليرفع خطايانا ويغفرها (يو 1: 29 وعب 9: 26 ومت 26: 28 و1يو 1: 7، 9 ولو 24: 46، 47 وأع 10: 43 و13: 38، 39 وأف 1: 6، 7 وكو 1: 13، 14 ورؤ 1: 5، 6).
(6) العبارات التي تفيد أن موت المسيح ينقذنا من الدينونة والقصاص (يو 3: 17 ورو 8: 1، 3، 4 وغل 3: 13 و1تس 1: 10 و5: 9، 10).
(7) العبارات التي تفيد أن موت المسيح أساس التبرير (إش 53: 11 ورو 5: 8، 18، 19 و3: 24، 26 و2كو 5: 21).
(8) العبارات التي تفيد أن آلام المسيح ثمن مدفوع لأجل خلاصنا، أو فدية موضوعة لأجل فدائنا (مت 20: 28 وأع 20: 28 ورو 3: 23، 24 و1كو 6: 19 و غل 3: 13 و4:4، 5 وأف 1: 7 و كو 1: 14 و1تي 2: 5، 6 وتي 2: 14 وعب 9: 12 و1بط 1: 18، 19 ورؤ 5: 9).
(9) العبارات التي تفيد أننا ننال المصالحة مع الله بواسطة آلام المسيح (رو 5 :10، 11 و2كو 5: 18-20 وأف 2: 16 وكو 1: 21، 22).
(10) العبارات التي تفيد أن موت المسيح كفارة عن الخطية (عب 2: 17 و1يو 2:2 و4: 10 ورو 3: 25).
(11) العبارات التي تنسب إلى المسيح الكهنوت (مز 110: 1، 4 وعب 3: 1 و2: 17 و5: 4-6 و9: 11، 12 و10: 11، 12، 21 و4: 14 و7: 1-17، 26).
(12) العبارات التي تفيد أن المسيح كان نائب الخطاة (رو 5: 12، 18، 19 و1كو 15: 20-22 و45-49).
(13) العبارات التي تفيد أن موت المسيح كان ذبيحة أو تقدمة لأجل الخطية (لو 22: 19، 20 ويو 1: 29 ورو 3: 25 و1كو 5: 7 وأف 5: 2 و1بط 1: 18-21 و1يو 2:2 و4: 10 ورؤ 1: 5، 6 و5: 9، 10 و7: 14، 15 وعب 2: 17 و7: 26، 27 و9: 12-14 و22-28 و10: 11-14).
(14) العبارات التي تفيد أن آلام المسيح على الأرض كانت أساساً لشفاعته في السماء (عب 4: 14-16 و7: 24، 25 و9: 23، 26).
(15) العبارات التي تفيد أن وساطة المسيح تأتينا بموهبة الروح القدس (يو 7: 39 و14: 16-26 و15: 26 و16: 7 وأع 2: 33 وغل 3: 13، و14 وتي 3: 5، 6 وأف 1: 3، 4).
(16) العبارات التي تفيد أن وساطة المسيح وآلامه ينقذاننا من قوة الشيطان وينهيان مملكته في العالم (يو 12: 31، 32 و16: 11 وعب 2: 14، 15 وكو 2: 15 ورو 8: 38، 39 و1يو 3: 8 ورؤ 11: 15).
(17) العبارات التي تفيد أن بركات الحياة الأبدية وأمجادها هي نتيجة آلام المسيح وشفاعته (يو 3: 14-16 و5: 24 و6: 40، 47، 51 و10: 27، 28 و14: 2، 3 و17: 1، 2 ورو 5: 20، 21 و6: 23 و2تي 2: 10 وعب 5: 9 و9: 15 و1بط 5: 10 و1يو 5: 11 ويه 21).
(18) العبارات التي تعبِّر عن أفكار المسيح في آلامه (يو 18: 11 ولو 12: 50 ويو 12: 27 ومت 26: 36-44 ولو 22: 44 ومت 27: 46).
(19) العبارات التي تفيد أن المسيح وعمله هما واسطة خلاصنا (يو 14: 6 وأع 4: 12 و1كو 3: 11 و1تي 2: 5 ومت 11: 28 ويو 6: 37 وأع 16: 31 و2كو 5: 20 و6: 1 وعب 2: 3 و1يو 3: 23 ورؤ 21: 6 و22: 17).
(20) العبارات التي تفيد أننا ننال فوائد الخلاص بواسطة الإيمان بالمسيح (يو 1: 12 و3: 18، 36 و6: 35 وأع 13: 38، 39 و16: 31 ورو 1: 16 و3: 28 و5: 1 و10: 4 وغل 5: 6 وأف 2: 8، 19).
(21) العبارات التي تفيد أن المسيح أتى وتألم ومات إتماماً للعهد بينه وبين الآب (عب 7: 22 و8: 6 و12: 24 و13: 20).
(22) العبارات التي تفيد أن المؤمنين متحدون بالمسيح اتحاداً سرياً (يو 15: 1-8 و17: 21، 22 ورو 6: 5 و2كو 4: 10 وغل 2: 20 وأف 2: 5، 6 و4: 15، 16 و5: 25-32 وفي 3: 10 وكو 2: 12 و3: 1).
(23) العبارات التي تفيد أن موت المسيح هو إثبات وشرحٌ لمحبة الله (يو 3: 16 ورو 5: 8 و8: 32 و1يو 4: 9، 10).
مما سبق من أقوال الكتاب بياناً لشفاعة المسيح وآلامه وموته والغاية في ذلك يظهر منه ما يأتي: (1) المسيح هو المخلص. (2) آلام المسيح كانت كفارية. (3) وكانت نيابية (4) وأنها واسطة مصالحتنا مع الله. (5) المسيح هو الفادي، وموته فدية عنا. (6) موت المسيح وفَّى العدل الإلهي حقه. (7) حُسبت خطايانا على المسيح. (8) آلام المسيح من نوع القصاص. (9) كفارة المسيح دليل على محبة الله وثمرها. (10) الكفارة واسطة المغفرة. (11) كفارة المسيح كاملة ومنفعتها غير محدودة. (12) فوائد الكفارة مقدَّمة للجميع وينالها الإنسان بالإيمان.
ومن هذا نرى أن عبارات العهد الجديد عن الكفارة وفوائدها ثابتة واضحة في نبوات العهد القديم عن آلام المسيح، وفي الذبائح اليهودية التي كانت رموزاً إلى ذبيحة المسيح.
12 - ما هي غاية الكفارة؟
* غايتها إيفاء عدل الله كاملاً لينال بها المؤمنون المصالحة مع الله والميراث الأبدي في ملكوت السماء، وقد تم ذلك بقيام المسيح مقام الخطاة، وعمل كل ما يطلبه ناموس الله وعدله من الخاطي، سواء كان من باب الطاعة أو من باب احتمال لعنة الشريعة وقصاصها، حتى أن الناموس لا يدين بعد ذلك من آمن بالمسيح، لأنه لم يبقَ بعد للعدل أن يطلب من الخاطئ غير ما عمله المسيح واحتمله لأجل الخطاة. وعمل المسيح هذا إيفاء كاف لسبب شخص المسيح، ولذلك كان للمؤمنين به نصيب في رحمة الله ورضاه، فلا يمكن إجراء الدينونة عليهم لأنه لم يبق بعد للعدل ما يطلبه، كما أن المجرم حسب الشرع البشري إذا احتمل ما يحكم به الشرع جزاءً لذنبه لا يبقى عُرضة للدينونة ولا يُعاقب على ذلك الذنب. وهذا ما توضحه الأسفار المقدسة وكتب اللاهوتيين، فلا يبقى لصاحب الدَّين بعد الإيفاء التام طلب آخر.
وهذا الكمال في عمل المسيح الإيفائي لا يعود إلى أنه تألم في النوع أو في المقدار نفس الآلام الواجبة على الخاطئ، بل يعود إلى مقام المسيح الفائق، لأنه لم يكن إنساناً فقط بل إلهاً وإنساناً في شخص واحد، فكانت طاعته وآلامه طاعة وآلام شخص إلهي. ولا يعني هذا أن الطبيعة الإلهية نفسها تألمت، بل لأنه ذات واحد ذو طبيعتين متميزتين، يصح أن يُنسب إليه ما يُنسب إلى إحدى طبيعتيه، كما أن الإنسان إذا أُهين في جسده كانت الإهانة لذاته. فإن لم يكن هذا المبدأ صحيحاً يكون صلب المسيح مشابهاً لقتل واحدٍ من عامة الناس ظلماً. وقد جاء في الكتاب أن الله اشترى الكنيسة بدمه، وأن رب المجد صُلِب. «لأنه إن كان دم ثيران وتيوس.. يُقدس إلى طهارة الجسد، فكم بالحري يكون دم المسيح، الذي بروح أزلي قدَّم نفسه لله بلا عيب، يطهر ضمائركم من أعمال ميتة لتخدموا الله الحي» (عب 9: 13، 14). فنسب في هذا القول فضل فاعلية ذبيحة المسيح إلى فضل مقام شخصه الفائق.
ونشأ عن كمال عمل المسيح الإيفائي أنه أفضل كل أنواع الإيفاء عن الخطية، حتى أنه لا يُبقي لها محلاً على الإطلاق. وأما ما فُرض على المؤمنين المبررين من الآلام فليس من باب العقاب، لأن الله لا يقصد به الإيفاء عن الخطية، بل هو تأديب لخير المتألم وبنيان الكنيسة ومجد الله.
13 - برهن أن كفارة المسيح تكفي في ذاتها لتوفي العدل الإلهي.
* أجمعت الكنيسة كلها على أنه بسبب مقام المسيح السامي، وماهية آلامه ودرجتها، يكون إيفاؤه مطالب العدل الإلهي ذا استحقاق غير متناهٍ، وأن قيمته الذاتية في غاية الكمال، وكافية لتكفّر عن جميع خطايا البشر. ولكن البعض أنكروا ذلك لأنهم لم يميزوا بين الإيفاء المالي والإيفاء العقابي. نعم إن بينهما تشابهاً ولكن بينهما كذلك فرقاً. أما وجوه التشابه فهي إن النتيجة واحدة، وهي خلاص الموفى عنه. كما أن المدفوع في كليهما يساوي الدين بالحقيقة، وفي الحالين يطلب العدل تحرير المديون. وأما وجوه الفرق فهي أن الإيفاء العقابي لا يستلزم مقداراً خاصاً أو نوعاً خاصاً من الآلام، وأن قيمة الإيفاء العقابي تتعلق بذات الموفي خلافاً للإيفاء المالي، وأن فوائد الإيفاء العقابي توهب بشروط مقررة عند الواهب والموهوب له، بخلاف الإيفاء المالي.
ثم إن القول بأن عمل المسيح إيفائيٌ لا لسبب قيمته الذاتية، بل لمجرد إحسان الله في قبوله مبني على رأي باطل، وهو أن الله ينسب إلى شيء قيمة وهمية، وأن ذلك الشيء يساوي ذات القيمة الوهمية التي يقبله الله بها. وهو خطأ بدليل ما يأتي:
(1) معنى هذا القول أنه ليس لشيء قيمة حقيقية، فكأن الله يقبل أي شيء عوضاً عن أي شيء آخر، فيقبل الكل عوضاً عن الجزء أو الجزء عوضاً عن الكل، ويقبل الصواب عوضاً عن الخطأ أو الخطأ عوضاً عن الصواب، ويقبل دم الحمل عوضاً عن دم ابن الله الأزلي. وهذا مستحيل لأن طبيعة الله لا تتغير، فلا يتغير حكمه وحقه وصلاحه، ولا يمكن أن يقبل شيئاً على سبيل الإيفاء وهو أقل من الإيفاء المطلوب.
(2) هذا القول ينكر ضرورة عمل المسيح. فهل نصدّق أن الله يرسل ابنه الوحيد إلى العالم ليتألم ويموت لأجل خلاص العالم، بينما يمكن نوال ذلك بطريقة أخرى أسهل؟ لأنه لو أمكن أن يكفّر الإنسان عن خطاياه، أو أن يكفر أحد عن خطايا جميع العالم، لكان موت المسيح عبثاً.
(3) هذا القول يبطل قول الرسول «لا يمكن أن دم ثيران وتيوس يرفع خطايا». فإن كانت كل تقدمة من المخلوقات تساوي نفس القيمة التي يقبلها الله بها (كما قال أحد القائلين بهذا المذهب) فلماذا لم تكفِ ذبائح العهد القديم لرفع الخطية؟ إن ما جعلها عديمة الكفاية والفاعلية هو عدم فائدتها الذاتية. وما يجعل إيفاء المسيح فعالاً هو فائدته الذاتية.
(4) هذا القول يناقض نصّ الكتاب، الذي يعلّم ضرورة موت المسيح تلميحاً وتصريحاً. فيقول «إن كان بالناموس برٌّ فالمسيح إذاً مات بلا سبب» (غل 2: 21). أي لو أمكن الحصول على البر اللازم لخلاص الناس بطريقة أخرى لكان موت المسيح إسرافاً لا مبرر له. وقوله «لو أُعطي ناموسٌ قادرٌ أن يحيي لكان بالحقيقة البر بالناموس» (غل 3: 21).ومعناه أنه لو وُجدت طريق أخرى لخلاص الخطاة لاختارها الله. وقال المسيح «أَما كان ينبغي أن المسيح يتألم بهذا؟» (لو 24: 26) أي كان لا بد من آلامه لخلاص الخطاة. وقال الرسول أيضاً «لاق بذاك الذي من أجله الكل وبه الكل، وهو آتٍ بأبناءٍ كثيرين إلى المجد أن يكمل رئيس خلاصهم بالآلام» (عب 2: 10). أي أن آلام المسيح لازمة بسبب ما يطلبه عدل الله، لا عن مجرد لزوم حكمه، ولا لأجل إيجاد قوة أخلاقية تعمل في قلب الخاطئ. ومعنى قوله «لاق به» أي كان موافقاً لكمالاته وصفاته.
(5) هذا القول يناقض تعليم الكتاب في عدل الله، لأن العدل من الصفات الإلهية، ويطلب قصاص الخطية. فإذا غُفِرت لا بد أن تكون مغفرتها موافقة للعدل الإلهي، أي بناء على الإيفاء العقابي الشرعي الحقيقي. ولذلك قال الرسول إن الله أرسل المسيح كفارة بالإيمان بدمه، فيكون الله باراً في تبرير من هو من الإيمان بيسوع (رو 3: 25، 26).
(6) هذا القول يناقض تعليم الكتاب في أن هبة المسيح ومحبته ظهرتا بأعظم صورة في الكفارة. فيلزم أولاً أن الغاية المقصودة تستحق تلك الهبة، وثانياً أن الهبة كانت ضرورية لنوال تلك الغاية. فلو أمكن أن نحصل عليها بطريقة أخرى لما ظهرت المحبة الإلهية في هبة المسيح أعظم ظهور.
(7) هذا القول يناقض كل ما يعلّمه الكتاب في صدق الله، وعدم تغيير الناموس وضرورة إكرامه، وعدم فائدة الذبائح لأجل الخطية إلا ذبيحة المسيح، واستحالة الخلاص إلا بواسطة عمل ابن الله. إن الكتاب وقلب كل مؤمن يشهدان أن لدم المسيح فقط قيمة كافية للتكفير عن الخطايا.
14 - برهن أن كفارة المسيح توفي عدل الله.
* يطلب عدل الله قصاص الخاطئ، وقد أخذ المسيح على نفسه ذلك القصاص ليوفي العدل حقه نيابةً عنا. وجاءت كلمة «عدل» في الكتاب بمعنى الاستقامة في الصفات والعمل. وجاءت وصفاً للحاكم الذي يراعي حقوق شعبه ومصالحهم، وهو العدل المعروف بين الناس. وجاءت أيضاً بمعنى العدل الجزائي أو العقابي، الذي يطلب جزاءً عادلاً للثواب والعقاب، بدون التفات إلى ما ينشأ عن العقاب من النتائج الصالحة. والعدل من صفات الله، فيلزم من ذلك أن عمل المسيح يوفي بالضرورة هذا النوع من العدل، وأن الكفارة تتعلق بالعدل العقابي (انظر ف 12 س 50-57).
ويعلمنا الكتاب أن الله عادل، وهذا يحمله على معاقبة كل خطية، وأن إيفاء المسيح الذي يجعل مغفرة الخطية ممكنة قُدّم للعدل الإلهي، وغايته الأصلية الجوهرية ليس التأثير الأخلاقي في المذنبين أنفسهم، ولا العمل التعليمي في غيرهم من الخلائق العاقلة، بل إيفاء ما يطلبه العدل حتى يكون الله عادلاً إذا برر الخاطئ.
15 - برهن أن عمل المسيح الكفاري يوفي ما يطلبه الناموس.
* ربما ظهر أن ذلك داخل في السؤال السابق، وجوابه: إذا كان عمل المسيح يوفي العدل فهو بالضرورة يوفي الناموس. غير أن كلمة «ناموس» في الاصطلاح الجاري أعم من العدل، لأن العدل يطلب عقاب الخطية، وأما الناموس فيطلب أكثر من ذلك.
ويقتضي بيان ذلك النظر في القضايا الآتية: (1) ناموس الله لا يتغير، فلا يمكن إبطال وصاياه وعقابه. والله قدوس طبعاً، فلا بد أن يطلب دائماً القداسة في خلائقه العاقلة، ولا بد أن يكره الخطية دائماً. ولأنه عادل لا بد أن يدين جميع الخطاة. (2) علاقتنا بالناموس على نوعين: عهدي وأخلاقي. أما العلاقة العهدية فقال الكتاب فيها «تحفظون فرائضي وأحكامي التي إن عملها إنسان يحيا بها» وأيضاً «ملعون كل من لا يثبت في جميع ما هو مكتوب في كتاب الناموس ليعمل به». (3) أعتقنا الإنجيل من هذه العلاقة العهدية للناموس، فلم يبقَ علينا أن نكون خالين من كل خطية وأن نطيع الناموس طاعة تامة، وإلا لما استطاع أحد أن يخلُص. قال الرسول «لسنا تحت الناموس بل تحت النعمة» (رو 6: 14). (4) هذا العتق من الناموس لا يتم بإبطاله ولا بنقض مطلوبه، بل بعمل المسيح إتماماً له عنا. قال الرسول «مولوداً تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني» (غل 4: 5).
ويلزم من القضايا المار ذكرها: (أ) أن عمل المسيح يوفي ما يطلبه الناموس. فالمسيح بنيابته عنا وقيامه مقامنا عمل واحتمل بطاعته وآلامه وبره كل ما يطلبه الناموس. (ب) مَن يقبل بر المسيح بالإيمان ويتكل عليه يتبرر بحسبان ذلك البر له، وينال الخلاص. ومن يرفض قبول بر الله هذا وحاول إثبات بر نفسه، تُرِك للناموس أي يطلب منه أن يكون خالياً من الخطية، وإلا وجب عليه العقاب.
16- ما هي الأدلة على أن كفارة المسيح توفي عدل الله عن الخطاة؟
* عرفنا مما سبق: (1) أن عمل المسيح لأجل خلاصنا هو إيفاء حقيقي لا حدود لمقامه وفائدته وقيمته في ذاته. (2) إنه يوفي العدل العقابي الذي يطلب ضرورة عقاب الخطية. (3) إنه كان إيفاءً لناموس الله، قام بما يطلبه الله من البر الكامل لتبرير الخطاة.
أما الأدلة على صدق هذا التعليم في هدف الكفارة فهي خمسة: (1) أن المسيح كاهننا. (2) أنه ذبيحتنا. (3) أنه فادينا. (4) شرط نوالنا الخلاص به والفوائد التي نقبلها منه. (5) اختبار المؤمنين الديني.
17 - كيف تبرهن من الكتاب أن المسيح يخلِّصنا لأنه كاهننا؟
* جاء في الكتاب أن المسيح يخلِّص الناس لأنه كاهن، وليس لأنه يستعمل السلطان ولا التعليم ولا التنوير العقلي ولا العمل الخارجي الأخلاقي، ولا بالعمل الداخلي، سواءٌ كان طبيعياً أم فوق الطبيعة، مفهوماً أم سرياً. ولكنه يخلِّص الناس لأنه ينوب عنهم ويقوم مقامهم ويستغفر لهم ويشفع فيهم، بدليل نبوات العهد القديم التي قالت إن المسيح يكون كاهناً وملكاً معاً، وإنه يكون كاهناً على رتبة ملكي صادق. وجاء في العهد الجديد لا سيما الرسالة إلى العبرانيين (التي تركز على أن المسيح كاهن وعمله كهنوتي) القضايا الآتية:
(1) ينوب الكاهن عن الخطاة لأن الله أقامه مقامهم ليعمل عنهم ما لا يستطيعون أن يعملوه لأنفسهم. فإذْ عجزوا عن أن يصلوا إلى الله بسبب إثمهم ونجاستهم، اقتضى الأمر إقامة شخص ذي سلطان إلهي ليظهر عنهم أمام الله، ليصالحهم معه.
(2) لا تتم هذه المصالحة إلا بواسطة كفارةٍ عن الخطية، فلا يُنزع ذنب الخطية إلا بهذه الطريقة، لأنه بدون سفك دم لا تحصل مغفرة. فالكاهن هو من يُقام عوضاً عن الناس لينوب عنهم في تقديم القرابين والذبائح عن الخطية.
(3) تمت هذه الكفارة بإقامة ذبيحةٍ مقام الخاطئ احتملت عنه الموت، أي حملت خطاياه حسب عبارة الكتاب المقدس. فلا يُنزع الذنب إلا بالعقاب الفعلي أي بالكفارة، فإما أن يُعاقب الخاطئ نفسه، أو يُقام شخص آخر مقامه ليحمل ذنبه وعقابه، ويُعتقه من ذنبه ويبرره منه. وهذه هي المسألة الجوهرية في الرسالة إلى العبرانيين.
(4) لما كانت حقيقة الكهنوت، والكيفية التي يخلِّص بها الكاهن من ينوب عنهم، قالت رسالة العبرانيين: (أ) خدم الكهنة في العهد القديم بهذه الطريقة التي عيّنها الله، والتي بها ينال المذنب المغفرة الطقسية لخطاياه، فيتمتع بالبركات الخاصة ببني إسرائيل. و(ب) لم تستطع الذبائح أن ترفع الخطية، لأن لا فائدة ذاتية فيها (عب 9:9).
(5) بناءً على ذلك كان الكهنوت الهاروني وذبائحه أموراً مؤقتة، ومجرد رموز وظل للكاهن الحقيقي والذبيحة الحقيقية الموعود بهما منذ البدء.
(6) اتَّخذ المسيح ابن الله الأزلي طبيعتنا، ليكون رئيس كهنةٍ رحيماً أميناً يكفّر عن خطايا الشعب.
(7) المسيح كاهن حقيقي لأن فيه كل الصفات اللازمة للكهنوت، فكان إنساناً ونائباً، وقدّم ذبيحةً، وكان قادراً أن يرثي لشعبه. وقد دعاه الله للكهنوت كهارون. ولأنه قام فعلاً بكل ما يستلزمه الكهنوت. وذلك مثبت من كل الكتاب ولاسيما في العبرانيين ص5.
(8) لم تكن الذبيحة التي قدمها لنا رئيس كهنتنا العظيم دم بهائم بل دم نفسه الكريم.
(9) إنها الذبيحة الواحدة التي أكملت إلى الأبد المقدسين (عب 10: 14).
(10) إنها أبطلت كل ما سواها من الذبائح، فلم تبقَ حاجة لذبائح.
(11) الذي يرفض هذه الطريقة للخلاص يهلك، إذ لا تبقى له ذبيحة عن الخطايا (عب 10: 26).
فإن كنا نؤمن بصدق الكتاب المقدس وجب أن نؤمن أن المسيح يخلصنا، لا بمجرد قدرته، ولا بالإقناع الأخلاقي، بل لأنه كاهن، ولأنه قدم نفسه ذبيحة كفارة لأجل خطايانا.
18 - كيف تبيّن من الكتاب أن المسيح يخلصنا لأنه ذبيحة؟
* هناك ارتباط كامل بين المسيح الكاهن، وتقديمه نفسه ذبيحة عنا. ويتضح ذلك من قرابين العهد القديم، فبعضها دموي، وبعضها غير دموي. والقصد ببعض القرابين الدموية شيء وببعضها شيء آخر، ومنها ما يتعلق بالكفارة، وهو المسمّى بقرابين الخطية، وأهمها ذبائح يوم الكفارة العظيم. والقصد منها:
(1) استعطاف الله واستغفاره حتى يرضى، وتصير مغفرة الذنب التي تقدَّم الذبيحة لأجله موافقاً ولائقاً بالصفات الإلهية.
(2) الذين غُفرت خطاياهم نالوا هذا العطف الإلهي بواسطة التكفير عن الذنب، أي أنهم قدموا قرباناً يستر الخطية حتى لا يعود الله يراها، فيزول القصاص.
(3) تمّ هذا التكفير بالعقاب البدلي، فالحيوان المذبوح أخذ مكان المذنب فحمل ذنبه، واحتمل القصاص الذي استوجبه.
(4) نتيجة قرابين الخطية هي العفو عن المذنب ورضى الله عنه ليعود ويتمتّع بالفوائد التي خسرها. فإذا كان ما ذُكِر هو المعنى الصحيح لذبيحة الخطية حسب الكتاب، فيكون معنى قوله إن المسيح ذبيحة هو أنه ناب عن الخطاة، أي حمل ذنبهم واحتمل عقاب الناموس عوضاً عنهم، فصالحهم مع الله. ليس بمعنى أن الله أخذ يحبهم بناءً على الكفارة، بل أنه صار من الموافق لصفات الله أن يغفر لهم ويردَّهم إلى الشركة معه وإلى رضاه.
والأدلة على صدق أن المسيح يخلِّصنا لأنه ذبيحة:
(1) كانت ذبائح العهد القديم عن الخطية للتكفير، ويتضح هذا الأمر مما يأتي: (أ) كلام الكتاب الصريح فيها، فإنها سُميت فيه «قرابين الخطية» و«قرابين الإثم» أي قرابين يقدمها الخطاة لأجل الخطية. وقيل إنها تحمل خطايا المذنب وتكفر عن الخطية، أي تسترها عن نظر العدل الإلهي، وأن القصد بها تحصيل المغفرة الذي لا يكون بالتوبة أو الإصلاح قبل تقديم القربان، بل بسفك الدم، أي بدفع نفس عن نفس وحياة عن حياة. ويقول سفر اللاويين إن سبب النهي عن استعمال الدم في الطعام هو أنه أُفرز للتكفير عن الخطية (لا 17: 10، 11). (ب) هناك أربعة شروط ليكون تقديمها مقبولاً: الأول، أن تكون الحيوانات الطاهرة المعينة لتلك الخدمة بدون عيب، وذلك رمز إلى عدم خطأ المسيح الذي صار بديلاً عن الخطاة. والثاني: أن المذنب نفسه يقدم الحيوان إلى المذبح إظهاراً لاعترافه بأنه يستحق العقاب لأجل خطيته. والثالث: أن يضع يديه على رأس الحيوان إظهاراً لمعنى الإبدال وتحويل الخطية، أي وضع خطيته على رأس الحيوان. والرابع: أن الكاهن الذي يذبح الحيوان يأخذ دمه بناءً على أنه خادم الله ويرشّه على المذبح، أو يحمله رئيس الكهنة في يوم الكفارة العظيم إلى قدس الأقداس حيث كان رمز المحضر الإلهي، ويرشّه على غطاء تابوت العهد دلالة على أن الخدمة قد انتهت إلى الله، وعلى أنه قُصد بها ردّ غضبه أي إيفاءُ عدله، وفتح السبيل إلى غفران الخطية المجاني. وكان وضع يدي المذنب على رأس الحيوان ضرورياً لهذه الخدمة.
والمعنى العام لوضع الأيدي هو تسليم الشيء، لذلك جرت ممارسة هذا العمل في أحوال مختلفة، منها التعيين للوظيفة، للدلالة على تسليم السلطان إلى الذي وُضعت عليه الأيدي. وكذلك في منح موهبة أو بركة روحية، وفي إقامة واحد مكان آخر للدلالة على تحويل المسؤولية منه إليه، وهو المقصود بوضع اليدين على رأس الحيوان الذي يقوم مقام من يقدمه، ليتحول إليه ذنبه على نوعٍ رمزي. وبناء على ذلك قيل إن الحيوان المذبوح يحمل خطايا الشعب، أو إن خطاياهم ُوُضعت عليه. وكان مدلول هذا العمل واضحاً على نوع خاص في خدمة يوم الكفارة العظيم، فإن الله أمر بأخذ تيسين من المعز ليكون أحدهما ذبيحة خطية، وليُطلق الآخر في البرية. وكان الاثنان ذبيحة واحدة، فكان هارون يضع يديه على رأس التيس الذي يُطلق ويعترف عليه بكل ذنوب بني إسرائيل ويجعلها على رأس التيس، ويرسله بيد من يلاقيه إلى البرية ليحمل التيس عليه كل ذنوبهم إلى أرض مقفرة (لا 16: 21، 22). فيتضح من ذلك أن القصد بوضع اليدين هو الدلالة على تحويل الذنب من المذنب إلى الحيوان، كما ورد في إشعياء 53 أن عبد الرب جعل نفسه ذبيحة إثم. وفسر النبي ذلك بقوله إنه حمل خطية كثيرين، وإن تأديب سلامنا عليه، وإن الرب وضع عليه إثم جميعنا. فهذه العبارات وأمثالها في الكتاب تدل على أن الخطية لا تُرفع بالإصلاح، ولا بالتجديد الروحي، بل بحمل ذنبها وعقابها.
والآيات التي تدل على أن المسيح ذبيحة لأجل الخطية كثيرة جداً، لا يسعنا أن نذكرها بالتفصيل. وخلاصة الأمر أن أسفار العهد الجديد (ولاسيما الرسالة إلى العبرانيين) تعلّم صريحاً أن كهنوت العهد القديم هو رمز لكهنوت المسيح، وأن ذبائح ذلك النظام رموز إلى ذبيحته، وأنه كما أن دم الثيران والتيوس كان يقدس تقديساً طقسياً كذلك دم المسيح يطهر النفس من الذنب. وكما كانت في مجالها الخاص كفارة تقوم بالقصاص البدلي، كذلك ذبيحة المسيح في المجال الأعلى غير المحدود الذي يتعلق به عمله. وبناءً على هذه العلاقة بين العهد القديم والجديد تكون الذبائح في الفرائض الموسوية عند المسيحيين تعليم صريح وبرهان قاطع على أن عمل المسيح هو كفارة عن خطايا العالم وإيفاء للعدل الإلهي.
(2) شهادة العهد القديم ولا سيّما إشعياء 53. فلم ينحصر هذا التعليم العظيم في نظام العهد القديم الرمزي، بل نص عليه في إش 53 حيث يقول إن المسيح يكون رجل أوجاع ويحتمل أعظم الإهانات ويُقتل ويحتمل تلك الآلام لأجل خير الآخرين، ثم قال إن ذلك نيابي بدليّ، فقد احتمل عوضاً عنا العقاب الذي استوجبناه ليخلصنا.
(3) يتضح من أقوال العهد الجديد أن عمل المسيح هو ذبيحة عن الخطية (قارن إجابة سؤال 10). وقد اخترنا منها ما يأتي: (أ) قول بولس «الذي قدمه الله كفارة بالإيمان بدمه» (رو 3: 25). وفي عب 9: 14 يقارن الرسول ذبائح الناموس بذبيحة المسيح، ثم قال ما معناه إنه إذا كان دم البهائم (قوام الحياة الحيوانية) أفاد في التطهير الخارجي أو الطقسي، فكم بالحري يفيد دم المسيح الذي له روح أزلي (أي طبيعة إلهية) وقدم نفسه بلا عيب في تطهير الضمير، أي في إقامة كفارة حقيقية عن الخطية. والمقصود بالتطهير في الأمرين هو التطهير من الذنب لا التجديد الروحي، لأنه كما أن ذبائح العهد القديم كانت للكفارة لا لإصلاح السيرة، كذلك ذبيحة المسيح. والنتيجة أو الغاية في الحالين هي مصالحة الله والاتحاد به. غير أن الشرط الأول الجوهري في تلك المصالحة هو التكفير عن الذنب. وعند نهاية عب 9 قال الرسول إنه لم يُطلب من المسيح أن يقدم نفسه مراراً كثيرة.. فإذ ذاك كان يجب أن يتألم مراراً كثيرة منذ تأسيس العالم، ولكنه الآن قد أُظهر مرة واحدة عند انقضاء الدهور ليبطل الخطية بذبيحة نفسه، وهدفها ونتيجتها الإيفاء عن الخطية كعمل ذبائح الكفارة في العهد القديم. ومما يؤيد ذلك قوله: إن المسيح جاء المرة الأولى ليحمل خطايا كثيرين، وسيأتي المرة الثانية بلا خطية، أي بدون ذلك الحَمْل الذي أخذه بإرادته على نفسه في مجيئه الأول ليحمل ذنب خطايانا، ليوفي عنها للعدل الإلهي. فإذا جاء المرة الثانية لا يكون ذلك على سبيل الذبيحة للإثم، بل لإكمال خلاص شعبه. ومثل هذه الآية قوله «جعل الذي لم يعرف خطية خطيةً» (2كو 5: 21) ليوضح كيفية مصالحة الله العالم، إذْ لم يحسب لهم خطاياهم. وعلى ذلك يحقّ له أن يغفر للخطاة ويعاملهم معاملة الأبرار وهم خالون من البرّ، لأن الذي كان بلا خطية عومل معاملة الخاطئ لأجلنا وبالنيابة عنا. (ب) قول بولس إننا «مقدَّسون بتقديم جسد يسوع المسيح مرة واحدة» (عب 10:10). والمقصود بالتقديس حسب الأصل اليوناني هو التطهير، فإن الخطية تُعتبر دائماً في الكتاب المقدس نجاسة لسبب جُرمها وفسادها الأخلاقي. أما جُرمها فيُطهَّر بالدم بواسطة التكفير بالذبيحة، وأما فسادها فيُطهر بتجديد الروح القدس. ويتميز المقصود بالتطهير (في المعنيين) من سياق الكلام. فإذا قيل إنه يتم بالذبيحة، أي بموت المسيح أو دمه، كان المقصود به نزع الجُرم، حتى يكون كل ما قيل في شأن خلاصنا أو مصالحتنا مع الله أو تطهيرنا أو تقديسنا بدم المسيح أو بموته هو نص صريح على أنه ذبيحة كفارة عن الخطية. (ج) قول يوحنا إن المسيح «كفارة لخطايانا. ليس لخطايانا فقط، بل لخطايا كل العالم أيضاً» (1يو 2:2). والكلمة اليونانية المترجمة «كفارة» مشتقة من فعل معناه مشهور في الكتاب المقدس، وهو إيفاء العدل حقه واستعطاف الله بذبيحة عن الخطية. وقال أيضاً «هذه هي المحبة: ليس أننا نحن أحببنا الله، بل أنه هو أحبنا، وأرسل ابنه كفارةً لخطايانا» (1يو 4: 10).
وما أوردناه من الآيات ليس إلا بعض ما جاء في العهد الجديد على أن المسيح قربان للإثم، بالمعنى الخاص بهذه الكلمة في الكتاب المقدس. على أن فيه عبارات كثيرة تتضمن هذا المعنى وتدل على أن موته من نوع الذبيحة، أو تدل على كهنوته في عمل الإيفاء عن الخطية. ومنها قول بولس إن المسيح قُدِّم «مرة لكي يحمل خطايا كثيرين» (عب 9: 28) وقول بطرس «الذي حمل هو نفسه خطايانا في جسده على الخشبة» (1بط 2: 24) وهذا التعليم واضح في وظيفة رئيس الكهنة التي هي التكفير عن الخطية، وإرجاع الشعب إلى رضى الله ونوالهم بركات عهده معهم. وكل ذلك رمز للمسيح وعمله، لأنه جاء ليخلِّص البشر من خطاياهم ويردَّ لهم التمتع ببركات العهد الجديد الأفضل، الذي هو وسيطه. ولذلك اتخذ طبيعتهم لا طبيعة الملائكة ليموت ويصالحهم بموته مع الله. فصار شبيهاً بإخوته «في كل شيء ليكون رحيماً ورئيس كهنة أميناً في ما لله حتى يكفر عن خطايا الشعب» (عب 2: 17).
واضح إذاً أن العهد الجديد يعلّم أن المسيح خلَّص شعبه بممارسة وظيفة كاهن لأجلهم، وكانت فيه كل الأهلية اللازمة لتلك الوظيفة، فعُيّن لها ومارس جميع لوازمها، وأنه كان ذبيحة كفارة عن خطايا الناس، فقيل مراراً كثيرة إنه قربان عن الخطية (بالمعنى المشهور لهذه العبارة في العهد القديم) وإنه حمل خطايانا وكفّر عن خطايا الشعب، وبموته وصليبه وذبيحة نفسه صالح الذين استوجبوا الغضب الإلهي مع الله. وهذه الأقوال في الكتاب كثيرة موضحة بشواهد وأمثلة عديدة. وهي الجزء الجوهري في تعليم الكتاب المقدس في كيفية الخلاص.
19 - كيف تبرهن من الكتاب أن المسيح يخلِّصنا لأنه فادينا؟
* الفداء هو الإنقاذ من الشر والبلية بتأدية الفدية. والأفعال التي تعبّر عن هذا المعنى في الأصل اليوناني معناها الأول «اشترى» ثم «اشترى بدفع الثمن فديةً» (أع 20: 28 وأف 1: 7 و1بط 1: 18، 19). فجاء في الكتاب أن الثمن أو الفدية المؤدّاة عنا هي المسيح نفسه أو دمه أو موته. ولما كانت الشرور أو البلايا الناشئة عن ارتدادنا عن الله متنوعة ذُكر فيها فداء المسيح على أنواعٍ مختلفة أيضاً وهي:
(1) الفداء من عقاب الناموس: فإن أهم نتائج معصية آدم الوقوع تحت عقاب الناموس وهو أول تأثيراتها، لأن أجرة الخطية هي الموت، وكل خطية لا بدّ تعرّض الخاطئ لغضب الله ولعنته. فكان الأمر الأول في خلاص الخطاة هو فداءهم من هذه اللعنة التي بها يبقون مبتعدين عن الله. وابتعادهم هذا يوجب بالضرورة الشقاء والخضوع لسلطان الخطية، لأن الإنسان ما دام تحت اللعنة يكون منقطعاً عن المصدر الوحيد للقداسة والحياة. فهذا هو تعليم الكتاب، وهو واضح ولا سيما قول الرسول إن المسيح فدى شعبه من لعنة الناموس، لا بمجرد إجراء سلطان مطلق، ولا بترجيعهم إلى حال البر بواسطة عمل أخلاقي يعملونه، بل بصيرورته لعنة لأجلهم (رومية 6 و7). وقال إشعياء إن الرب «سُرَّ أن يسحقه» وإنه «مضروب من الله ومذلول» وإن هذه الآلام بسبب الخطية، لا خطيته هو بل خطيتنا نحن التي حملها، وإن تأديب سلامنا عليه. فالقصد بهذه الآلام التكفير أو إيفاء العدل حقه، وفيها كل الصفات الجوهرية للقصاص، حتى أن المسيح صار لعنةً لأجلنا (غل 3: 13).
(2) الفداء من الناموس: لأن الكتاب يقول إن المسيح أنقذنا من الناموس وفدانا من عبودية الشريعة. وهذا لا ينحصر في الإنقاذ من عقابه، بل يعم أيضاً خلاصنا من الالتزام بإتمام ما يطلبه. وهذا هو المعنى الجوهري في تعليم بولس في التبرير. وتفصيل ذلك أن الناموس يطلب الطاعة التامة فيقول «اعمل هذا فتحيا» وأيضاً «ملعون كل من لا يثبت في جميع ما هو مكتوب في كتاب الناموس ليعمل به». ومنذ سقوط آدم إلى الآن لم يستطع أحدٌ أن يقوم بهذا الطلب. على أنه لابد من ذلك، أو الهلاك! ويقول الكتاب إنه لا طريق للخلاص إلا بالطاعة التامة، وهو ما عمله المسيح عن البشر. قال الرسول إن المسيح وُلد تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس (غل 4:4، 5) وقال للمؤمنين «لستم تحت الناموس بل تحت النعمة». وقال إن هذا الإنقاذ من الناموس حصل بجسد المسيح، وإننا لذلك نتبرر لا بطاعتنا بل بطاعته (رو 6: 14 و7: 4 و5: 18، 19). والفداء المقصود ليس مجرد الإنقاذ، بل هو فداء حقيقي قائم بإتمام كل ما علينا للناموس.
(3) الفداء من سلطان الخطية: قلنا إن المسيح فدانا من عقاب الناموس ولعنته، وإن ذلك يعيد لنا رضى الله. ومن نتائج عمله أيضاً تجديد قلب المؤمن بالروح القدس، وذلك يوجب أن يفدينا أيضاً من سلطان الخطية. قال المسيح «من يعمل الخطية هو عبد للخطية». ولا يستطيع أحد أن يحرر نفسه من هذه العبودية. لذلك جاء المسيح وبذل نفسه ليطهر لنفسه شعباً خاصاً غيوراً على الأعمال الصالحة، ومات البار بدل الأثمة، ليأتي بنا إلى الله. وأحب الكنيسة وبذل نفسه لأجلها ليحضرها لنفسه كنيسة مجيدة لا دنس فيها ولا غضن أو شيء من ذلك. وهذا الإنقاذ من الخطية فداءٌ حقيقي، لأن تأدية الفدية أو إيفاء العدل شرط ضروري لرد رضى الله إلى الخاطئ، وهذا شرط ضروري للقداسة. وعلى ذلك قال الكتاب إن المسيح «بذل نفسه لأجل خطايانا لينقذنا من العالم الحاضر الشرير» (غل 1: 4). وقال «الذي بذل نفسه لأجلنا لكي يفدينا من كل إثم» (تي 2: 14). وقال «إنكم افتُديتم لا بأشياء تفنى بفضة أو ذهب من سيرتكم الباطلة التي تقلدتموها من الآباء، بل بدم كريم كما من حمل بلا عيب ولا دنس، دم المسيح» (1بط 1: 18، 19). ولأن الخلاص بالذبيحة خلاص بالفدية اجتمعت العبارتان في هذه الآية وغيرها. ومن أمثلة ذلك قول المسيح «جاء ابن الإنسان.. ليبذل نفسه فدية عن كثيرين» (مت 20: 28 ومر 10: 45). فلا يمكن التعبير عن معنى الإبدال بكلام أصرح من هذه الأقوال التي ذكرت أن خلاصنا قائمٌ بالفدية. وقوله إن دمه يُسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا (مت 26: 28). فذُكر موته هنا على سبيل الذبيحة. والعبارتان المتعلقتان بنوعي الإنقاذ واحدة، لأن الفدية إيفاءٌ لحقوق العدل، والذبيحة كذلك.
(4) الفداء من سلطان إبليس: قال الكتاب إن المسيح فدانا من سلطان إبليس، وإن إبليس هو رئيس هذا العالم وإلهه، وملكوته ملكوت الظلمة، وإن جميع الناس منذ آدم يولدون ويبقون فيه إلى أن يُنقلوا إلى ملكوت ابن الله، وإنهم رعية إبليس وقد اقتنصهم لإرادته (2تي 2: 26). وفيه أيضاً أن الوعد الأول هو أن نسل المرأة يسحق رأس الحية، وأن المسيح جاء ليبطل أعمال الشيطان أي ليطرحه من مُلكه المغتصَب ويحرر الخاضعين له (2كو 4:4 وكو 2: 15 وعب 2: 14، 15). فالمسيح ابن الله إلهٌ تعبدهُ الملائكة، وهو خالق السموات والأرض، وهو أزلي غير متغيّر (عب 1) وقد صار إنساناً ليبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت أي إبليس، ويعتق الذين خوفاً من الموت كانوا جميعاً كل حياتهم تحت العبودية (عب 2). ففي هذا الكلام ثلاثة أمور: (أ) الناس مستعبَدون، خائفون من غضب الله على الخطية. (ب) إنهم في هذا الحال خاضعون لإبليس الذي له سلطان الموت عليهم لأنهم خطاة. (ج) يتم إنقاذهم من العبودية المذكورة والخضوع لسلطان إبليس بموت المسيح الذي يعتقهم من عقاب الناموس، لأنه أوفى عدل الله حقه. والعتق من لعنة الناموس يعني التحرير من سلطان إبليس الذي يُجري العقاب. وقيل إن قوة الخطية هي الناموس (1كو 15: 56). فكل ما يوفي الناموس ينزع من الخطية قوتها، فيكون الفداء من الناموس هو الفداء من اللعنة، وهو الفداء من سلطان إبليس.
20 - كيف تبرهن أن المسيح يخلصنا بالإيفاء الكفاري كشرط لنوال الخلاص به، وما هي فوائد ذلك؟
* وضع الله شرطاً لنوال الفداء، فلا يكفي أن نقبل تعاليم المسيح، ولا أن نجتهد في السلوك حسب وصاياه الأخلاقية، ولا أن نثق بحمايته أو نخضع لسلطانه، ولا أن نفتح قلوبنا لجميع التأثيرات الصالحة الناشئة من شخصه أو عمله، بل يجب أيضاً أن نتكل عليه، أي أن نقبل ذبيحته ونرفض بر أنفسنا ونثق ببره لننال القبول لدى الله. ونحن نعجز عن إيفاء ما يطلبه عدل الله وناموسه بما نعمله أو نحتمله أو نشعر به، فنتكل اتكالاً تاماً على ما عمله المسيح واحتمله هو باعتباره نائبنا وبدلنا وضامننا. فهذا ما يطلبه الإنجيل وما يعمله كل مسيحي بالحق مهما كانت آراؤه اللاهوتية. وكل ما ذُكر من وجوب رفض البر الذاتي، ووجوب الإيمان بالمسيح على أنه علة الغفران والقبول عند الله مبنيٌ على أنه البدل الذي قام مقامنا في إيفاء كل ما يطلبه منا الناموس والعدل.
أما الفوائد التي نقبلها منه فأولها التبرير، إذ نتبرر بواسطته، فهو برنا، ونحن نصير بر الله فيه. ومن المعلوم أن التبرير هو نقيض الدينونة وإعلان إيفاء حقوق العدل حسب معنى كلمة التبرير الشائع دائماً في العهدين القديم والجديد، فإن الله أعلن في تبرير الخطاة أن ما يطلبه العدل منهم قد أُوفي. ولكن لم يوفه الخاطئ نفسه، بل المسيح.
21 - من اختبار المؤمنين، ما هو البرهان على موت المسيح كفارةً؟
* يتبيّن صدق ما سبق من التعاليم في موت المسيح الكفاري من شهادة المؤمنين في كل القرون، لأنهم جميعاً يتكلون على المسيح في أمر خلاصهم، ويحسبونه بديلهم في الطاعة والتألُّم، حاملاً عنهم خطاياهم ولعنة الناموس، ويعتبرونه ذبيحة كفارة تمحو ذنبهم وتوفي عدل الله عنهم، ويشكرونه لأنه بذل نفسه عنهم ليفديهم من عقاب الناموس ومن سلطان الشيطان وقوة الخطية وجميع نتائجها. وهذه حقائق إلهية أعلنها الروح في كلمة الله، وعلّمها كل الذين يخضعون لإرشاده. فهي الاقتناعات والإحساسات الباطنة التي شعر بها شعب الله من زمن الرسل إلى الآن، كما يتضح من قوانين إيمانهم وصلواتهم وترنيماتهم الروحية وكل ما كتبوه في شأن حياتهم الدينية الباطنة، مع اختلافهم في العرَضيات. فهو الرأس ونحن الأعضاء، وهو الكرمة ونحن الأغصان. ولسنا نحن الأحياء بل هو الحي فينا وهو الذي صار لنا حكمة وبراً وقداسة وفداءً، الذي دمه يطهرنا من كل خطية، والذي فدانا من لعنة الناموس إذ صار لعنة لأجلنا، وحمل خطايانا في جسده على الخشبة، وهو رئيس كهنتنا العظيم الحي إلى الأبد ليشفع فينا. وما أسهل أن نذكر الأدلة من تاريخ حياة الكنيسة الروحية على أن اعتقاد المؤمنين في المسيح في كل عصرٍ هو كما سبق.
22 - ما هي الاعتراضات على تعليم الكتاب في إيفاء المسيح، وما هو الرد عليها؟
(انظر إجابتنا على سؤال 8 من هذا الفصل) ونضيف إليها:
(1) قولهم إن المسيح البريء لا يجب أن يُعاقب، لأن القاضي يعاقب المذنب فقط، والمسيح بريء من الخطأ ولكنه حمل جُرم الخطية، وعومل معاملة الخاطئ. وهذا ظلم فظيع إن لم يكن مُحالاً، إذ بموجبه يحسب الله الشيء على غير ما هو عليه، فيعتبر البريء مذنباً.. وللرد نقول: يكون هذا الاعتراض في محله لو أُجبر البريء على الاحتمال عن المذنب، ولكن المسيح احتمل القصاص عنا باختياره ورضاه التام. والعقل البشري في كل عصر لم يستغرب وضع البريء بدل المذنب، ولا الذبائح عوضاً عن الخاطئ، ولا بَذْل واحد لأجل كثيرين، للتكفير بالعقاب البدلي. وقد قبل كثيرون صحّة قول الكتاب، وبأنه الطريقة الوحيدة التي تصالح الخطاة مع الإله العادل القدوس. فلا يصح القول إن هذا التعليم يناقض بديهيات العقل أو الضمير، بل هو يوافقهما.
وزعم كثيرون أن معنى الجُرم هو استحقاق اللوم، وأن الحكم بالقصاص يكون على من يستحقه. فيكون التعليم بالإيفاء والقصاص البدلي أمراً مستحيلاً، لأن الصفات الأخلاقية لا تتحول من واحد إلى آخر. وقد أصاب الذين قالوا إن الإنسان لا يكون صالحاً بصلاح آخر، كما أنه لا يصبح أبيض ببياض آخر. وإن صحّ أن القصاص لا يقع إلا على من يستحقونه بسبب اللوم الشخصي، فالقول بجواز قصاص البريء يناقض الحق. ولكن إذا أُريد بالجُرم في هذا المقام العلاقة بين الخطية والعدل والتزام الخاطئ بإيفاء ما يطلبه العدل بغضّ النظر عن استحقاق اللوم، فليس في طبيعة الإنسان الأخلاقية ولا في طبيعة الله المعلَنة في عنايته وكلمته ما يمنع القول إن هذا الالتزام قد يتحول لأسباب كافية من واحد إلى آخر، أو قد يقوم به واحد مقام آخرين.
(2) قولهم إن العدل العقابي ليس من صفات الله، فهو لا يطالب بتقديم إيفاءٍ للعدل.. فنجيب: إنه إذا صح هذا الزعم كان الاعتراض قاطعاً لا يُرد. ولكن إذا كان وجوب قصاص الخطية من البديهيات، فمن المحقق أن الله بمقتضى طبيعته لا بد أن يعمل ما يجب عمله. وجميع الناس يعلمون أن حكم الله على الخطاة باستحقاق الموت حكم عادل، وأن الصفح عن الخطية غير ممكن إلا بإيفاء العدل حقه، وأنه وإن لم تكن ذبيحة عن الخطية فلا بد من الدينونة (قارن إجابة سؤال 7 في هذا الفصل). وذلك كله راسخ في القلب البشري، ولا بد من ظهوره في زمنٍ ما بقوةٍ عاملة في الذهن والضمير.
(3) قولهم إنه لا يمكن وجود الشيء وضده في الله، فلا يمكن اجتماع ما يحمل الله على القصاص (كالعدل) وما يحمله على عدم القصاص (كالمحبة والرحمة) بل كل أعمال الله ناشئة عن مبدأ واحد وهو المحبة. ولأنه إله المحبة يطلب رجوع خلائقه إلى القداسة والسعادة بدون التفات إلى مطلوب العدل.. فنجيب: لا شك أن الله محبة، غير أن المحبة فيه ليست ضعفاً يسوقه إلى عمل ما لا يجوز عمله. فإن كان قصاص الخطية واجباً (كما يقول الضمير وكلمة الله) فليس فيه ما يحمله على تركه، لأن جميع صفاته متوافقة، وتوافقها من نوع الفضل الأخلاقي الذي يؤدي حتماً إلى أن ديان كل الأرض يصنع عدلاً، فيعاقب أو يغفر كما يطلب الفضل الأخلاقي. ثم أن محبة الله لم تمنع هلاك الملائكة الساقطين، ولم تقبل خلاص البشر الساقطين بدون كفارة كافية. وقد ظهرت محبته غير المحدودة في بذل ابنه ليحمل خطايانا وعقابها ويفدينا من لعنة الناموس بشخصه. «في هذا هي المحبة: ليس أننا نحن أحببنا الله، بل أنه هو أحبنا وأرسل ابنه كفارة لخطايانا» (1يو 4: 10). فقوله «كفارة» قول صريح لا يحتمل التغيير.
(4) قولهم إن تحويل الذنب أو البر من واحد إلى آخر حسب تعليم الكنيسة في الإيفاء غير ممكن.. فنجيب: هذا القول يصح إذا أُريد به تحويل الصفات الأخلاقية من واحد إلى آخر. وأما تحويل الجُرم بمعنى المسؤولية للعدل، وتحويل البر بمعنى ما يوفي العدل حقه فأمر ممكن، كإمكان إيفاء إنسان دين إنسان آخر. والكتاب يعلّمنا أن المسيح ناب عنا في إيفاء ديننا لعدل الله إيفاءً كاملاً، وأن الله أبطل الصك الذي علينا بتسميره إياه بالصليب، فحررنا بذلك تحريراً كاملاً كتحرير المديون إذا أبطل الشرع الصك المكتوب عليه.
(5) قولهم إن التكفير قول وثني، وزعموا أن اعتقاد التكفير أي احتمال البار بدل المذنب لإرضاء الله من أقوال الوثنيين التي ينفر منها العقل السليم.. فنجيب: إنه لا يصح للإنسان أن يجعل ذوقه أو إحساساته قياساً للحق، لأنه قد يكون التعليم غير موافق لذوقه دون أن يكون ذلك برهاناً على خطأ التعليم، كما يتضح من تسليمنا نحن الخطاة بحقائق كثيرة لا نرضى عنها. والقول بالتكفير ليس أمراً منكراً عند أكثر العقول، لأنه تعليم اليهودية والمسيحية، وهو تعليم عزيز يتوقف عليه الرجاء الوحيد للمذنب. فآلام البار بدل الأثمة من أعظم براهين المحبة «والجود بالنفس أقصى غاية الجود». لذلك تسجد السماوات والأرض أمام الصليب الذي تعلق عليه ابن الله الطاهر، حامل خطايا الناس. وحاشا أن يعتبر الخطاة المفديون الصليب عثرة، فهو الوسيلة التي توفّق بين عدل الله وإظهار محبته للخطاة إلى درجة غير محدودة.
(6) قولهم إنه لا حاجة إلى إيفاء العدل حقه، فزعموا أن كل ما هو لازم لمصالحة البشر مع الله يتم بقوة المحبة، وأن ما ينبغي عمله هو إقناع العقل بشرّ الخطية وإصلاح الخطاة، وهذان الأمران يتمّان بدون كفارةٍ أو عقابٍ للإثم. وقالوا إن عمل المسيح لم يكن إيفاءً للعدل، ولا كفارة عن الخطية.. وفي الرد على ذلك نقول: (أ) يعلّم الكتاب المقدس أن خلاص البشر يقتضي أكثر من العوامل والتأثيرات الأخلاقية أو إعلان الحق وإثباته. وإن ما يقتضيه هو نفس ما جرى من اتخاذ ابن الله طبيعتنا وقيامه مقام الخطاة وحمله عنهم لعنة الناموس، حتى أمكن بذلك أن يكون الله عادلاً ويبرر الخاطئ. ولأن هذا هو تعليم الكتاب فلا محل لقبول غيره. (ب) هذه الأقوال لا تخالف الكتاب فقط، بل خالية من الفائدة، لأنها لا تسدد احتياجات الإنسان ولا تزيل الشعور بالذنب، مع أن الشعور به أمر عام لا يُستأصل من الإنسان. وكلما زادت النفس استنارة اشتد فيها الشعور بالذنب والألم منه.
23- ما هو المذهب الصحيح في غاية الكفارة وحقيقتها؟
* للكفارة غايتان عظيمتان، هما: (أ) إزالة اللعنة التي استولت على البشر بسبب الخطية لينالوا المصالحة مع الله بالكفارة، و(ب) جعلهم شركاء الحياة الروحية بالروح القدس المحيي. وكلتاهما ضروريتان للخلاص، لأن علينا ذنباً ينبغي أن يُزال، ولنا أنفس ميتة بالخطية ينبغي أن تحيا حياة جديدة روحية. وقد قام عمل الفداء حسب تعليم الكتاب وإيمان الكنيسة بهاتين الغايتين. وبمقتضى عمل المسيح يتمّ إيفاء حقيقي غير محدود الاستحقاق في ذاته للعدل الإلهي، كافٍ وافٍ لخلاص شعبه، لأنه عمل لأجلهم وعوضاً عنهم ما لم يستطيعوا عمله لأجل أنفسهم، إذ أوفى عنهم ما يطلبه الناموس، وحمل عنهم العقاب الذي أوجبه عليهم. وبهذا يتصالحون مع الله، ويقبلون الروح القدس، ويصيرون شركاء في حياة المسيح فينالون التجديد والتبرير والتقديس في الزمان الحاضر، ثم الخلاص الأبدي.
ونتأمل هنا الغايتين المذكورتين آنفاً، لأن لعنة الناموس تُرفع عنا بصيرورة المسيح لعنةً لأجلنا، وبناءً على مصالحتنا مع الله نصير بواسطة الروح شركاء حياة المسيح، فإنه صار لنا براً وقداسة أيضاً، فنتطهر بدمه من الذنب، ونتجدد بروحه حسب صورة الله. وإذا متنا فيه للخطية نحيا فيه للبر، لأن الشركة في موته تُنتج الشركة في حياته.
ونذكر الآن بالاختصار أهم المذاهب الفاسدة في حقيقة الكفارة، وهما «المذهب الأخلاقي»، و«المذهب السياسي»، تمييزاً لهما عن «المذهب الإيفائي» الذي سبق الكلام عنه.
24 - ما هو المذهب الأخلاقي في الكفارة؟
* هذا المذهب ينفي كل معنى التكفير، أي إيفاء العدل بالقصاص البدلي، وينسب كل فاعلية عمل المسيح إلى ما يحدث من التأثير الأخلاقي في قلوب الناس بواسطة صفات المسيح وتعاليمه وأعماله. ولذلك سُمي غالباً مذهب «الكفارة الأخلاقي». وهو مبني على الزعم أنه ليس في الله صفة العدل العقابي، التي تقتضي بالضرورة أنه يعاقب الخطية. ولذلك لا حاجة إلى التكفير لننال، الغفران. ويزعمون أن كل ما يلزم لإعادة الخطاة إلى رضى الله هو انقطاعهم عن الخطية. ولهذا المذهب عدة وجوه:
(1) ينحصر عمل المسيح في خلاص البشر في تعليمه، فقد أتى بصورة جديدة رفيعة من الديانة، خلَّص بها الناس من ظلام الديانة الوثنية وآثارها الفاسدة.
(2) فضلاً عن الخير الناشئ عن تعليم المسيح، فإن معظم الخلاص الذي عمله يعود إلى موته، لأنه لا يصحّ أن نصرف النظر عن تعليم الكتاب المقدس أننا نخلص بدم المسيح وصليبه وآلامه. ولذلك قالوا إن المسيح يخلصنا ليس لأنه ذبيحة بل لأنه شهيد. وزعموا أن القصد بموته ختم تعاليمه بدمه، فاستحق لقب «مخلص العالم» لأنه أثبت صدق الحقائق التي علّمها، ولا سيما ما يتعلّق منها بالحياة الآتية ومحبة الله وإرادته أن يغفر الخطية.
(3) تعتمد قوة المسيح في خلاص الناس على ما أظهره من المحبة وإنكار الذات، لا بتعليمه، ولا بختم تعاليمه بموته. وقال أصحاب هذا الرأي إن هذا هو أعظم الأسباب العاملة في قلوب الناس، وهو أقوى تأثير يليّن قساوة القلب ويجذب الناس إلى الله. فلو لم يخلص الأشرار وينجذبوا بالمحبة التي لا تقتصر على كلام اللطف وأعمال المعروف، بل تمتد إلى كمال إنكار الذات واحتمال جميع آلام هذه الحياة وآلام الموت، لكانوا بدون رجاء، لأنه ليس لهم وسيلة أخرى تؤثر فيهم. ولما كانت محبة المسيح محبة لم يسبقها ولن يعقبها محبة مثلها، كانت تسميته ب«المخلص» هي المناسبة.
25 - ما هي الاعتراضات على «المذهب الأخلاقي» في الكفارة؟
* (1) إنه يصرف النظر تماماً عن جوهر تعليم الكتاب المقدس في الكفارة الحقيقية، وإن كان فيه بعض الحق. فهو يسلّم بأن هدف عمل المسيح هو ترجيع الإنسان إلى الله، والقداسة. وأن عمل المسيح أظهر أعظم ما يمكن من المحبة الإلهية، وأن إظهارها هو أعظم العوامل الروحية الفاعلة في قلوب الناس. غير أن الكتاب لا يقتصر على ذلك، بل يعلّم أن المسيح كاهنٌ قدّم نفسه ذبيحة للتكفير عن خطايانا، فحملها في جسده على الخشبة، وصار لعنة لأجلنا، وبذل نفسه فديةً لخلاصنا. ويعلّم أيضاً أن هذا التكفير عن الذنب ضروري قبل المصالحة مع الله وتجديد النفس وتبريرها وتقديسها بالنعمة الإلهية، لأن الخطاة بدونه أموات روحياً، واقعون تحت عقاب الناموس. وما داموا في هذا الموت فهُم تحت اللعنة، فإن كل العوامل الأخلاقية لا تفيدهم شيئاً، كما أن ضوء الشمس في رابعة النهار لا يفيد الأعمى، ووسائط الصحة لا تقيم أحداً من الموت. فرفض هذا المذهب لتعليم الكفارة (أي إيفاء العدل الإلهي) هو رفضٌ لجوهر تعليم الكتاب في خلاص الإنسان.
(2) إنه لا يطابق ما نحتاج إليه في حال السقوط. فإننا خطاة ومذنبون ومدنَّسون، ولا نقدر أن ننكر شعورنا بالمسؤولية للعدل الإلهي وضرورة إيفائه، كما يستحيل أن ننكر شعورنا بفساد الخطية. فالتكفير عن الخطية ضروري كما أن تقديس النفس ضروري أيضاً، لأن الإنسان في أشد حاجة إلى بر أفضل من بر نفسه، وإلى من يقوم مقامه أمام الله في التكفير عن الخطية وتحصيل الغفران الكامل لجميع ذنوبه وعطية الروح القدس. ولذلك كانت الديانة التي تنفي معنى التكفير، وتنادي بطريقٍ آخر لإزالة الذنب ليست وفق ما نحتاج إليه، وكان المذهب الأخلاقي في الكفارة باطلاً، لأنه يخلو من كل عمل كفاري يُسند إليه الخاطئ رجاءه.
(3) كل الأدلة السابقة على صدق تعليم الكفارة هي أدلة على فساد المذهب الأخلاقي الذي يغيّر كل طريق الخلاص، لأنه يغيّر علاقتنا بالمسيح من حيث أنه رأسنا ونائبنا. ويغيّر طريق قبولنا لدى الله، فإذا اعتقدنا أن المسيح مُصلِحٌ أو مثال أو معلّم أو شهيد فإننا ننقل حقيقة الديانة المسيحية نقلاً جوهرياً من حال إلى آخر.
26 - من هو صاحب «المذهب السياسي» في الكفارة، وما هو تعليمه؟
* صاحبه هو كروشيوس، في القرن 17 وتعليمه:
(1) لم يأخذ الله في مغفرة الخطية موقف من أخطأنا ضده، بل أخذ موقف الحاكم الأخلاقي. ولا بد أن يكون عمله موافقاً لخير رعيته. وعلى هذا فإنه يطلب خير شعبه، لا عقابهم.
(2) غاية القصاص هي ردع الناس عن الجرائم وحفظ النظام الأخلاقي، وتقديم أفضل مصالح للجمهور.
(3) كما أن الحاكم العادل لابد أن يعاقب على الذنوب المرتكبة، هكذا الله لا يغفر خطايا الناس إلا مع إظهار كافٍ لغضبه وعزمه على عقابها. وهذا هو المقصود بآلام المسيح وموته، فإن الله عاقب الخطية فيه ليظهر شرّ الخطية. وكان هذا عظيم التأثير لسبب عظمة مقام المسيح، فإنه بناءً على موته صفح الله للمذنبين التائبين، ورفع العقاب الذي أوجبه الناموس عليهم، مع الموافقة التامة لما تقتضيه أفضل مصالح حكمه.
(4) العقاب ألم يُجرَى بسبب الخطية، فلا يلزم إجراؤه بسبب استحقاق المذنب الشخصي، ولا بقصد إيفاء العدل، بل يكفي أن يكون بسبب الخطية. ولما كانت آلام المسيح ناشئة عن خطايانا، وقُصد بها جعل الصفح موافقاً لمصلحة حكم الله الأخلاقي، كانت داخلة في معنى العقاب حسب هذا التعريف. ولذلك أمكنه أن يقول إن المسيح احتمل قصاص خطايانا، لأن آلامه كانت مثالاً لما تستحقه الخطية.
(5) جوهر الكفارة هو إظهار غضب الله على الخطية بواسطة آلام المسيح وموته، فقد قصد بها تعليمنا أن الخطية عند الله تستحق العقاب، ولذلك لا ينجو المصرّون على خطاياهم من القصاص الذي يستحقونه. فحسب هذا المذهب يكون عمل المسيح تعليمياً فقط بالمثال أن الله يكره الخطية. وما الصليب إلا إشارة إلى ذلك.
27 - ما هي الاعتراضات على «المذهب السياسي» في الكفارة؟
* (1) إنه مبني على سوء فهم حقيقة القصاص، لأنه يزعم أن القصد الخاص بالقصاص هو خير المجتمع، فإذا أمكن الحصول على أفضل فائدة للجمهور بدونه فلا داعي له! ولكننا نقول إن الألم لخير الآخرين أو لخير المتألم ليس قصاصاً. فإن بتر العضو المهشم ليس من باب القصاص، وكذلك آلام الشهداء (ولو كان فيها خير الكنيسة والعالم). فلم تكن آلام بولس الكثيرة الدائمة قصاصاً، وإن كانت عظيمة الفائدة. وهكذا آلام المسيح إذا لم تكن على سبيل الحكم القضائي حسب مقتضى العدل لا يكون فيها ما يظهر كره الله للخطية.
والحكم على المجُرم لا يكون من باب القصاص إلا إذا أُجري ليوفي العدل حقه. قيل إن قاضياً قال مرة لمذنب: «حُكم عليك بالنفي لا لأنك سرقت المال، بل لأجل ردع الناس عن السرقة». ولا يخفى ما في هذا الحكم من ضررٍ لأخلاق الجمهور، لأن كل التأثير الأخلاقي الناشئ عن القصاص يعود إلى عدالته. ومن تألم لأجل خير الآخرين فهو شهيد، لا أثيم تحت حكم العدل. وقد بني كل المذهب السياسي في الكفارة على هذا المبدأ الفاسد، لأنه لا يجوز القصاص إلا لخير الآخرين. فإذا أمكن الحصول على هذا الخير بدون القصاص لم يبق داعٍ إليه ولا مانع عن الصفح. ومن الواضح أنه إذا كان المبدأ الأول الأساسي في المذهب فاسداً، كان كل المذهب فاسداً تبعاً لذلك.
(2) هذا المذهب يناقض أحكام الناس الأخلاقية البديهية، لأن ضمير كل إنسان يشهد عليه بأنه خاطئ يستحق القصاص، لا لأجل خير الآخرين بل جزاءً لسوء عمله. فإذا لم يكن مذنباً لم يحق عليه القصاص. وإذا كان مذنباً فليس من حقه أن نسامحه، بل أن نوفي العدل حقه. كما أن هذه هي شهادة ضمير كل إنسان بالنظر إلى خطاياه، وبالنظر إلى خطايا غيره. فإذا حدث ذنب عظيم حكم الناس في الحال بوجوب عقاب الذين ارتكبوه، فإن خير الجمهور يقتضي قصاص المذنب. لكن ذلك من الفوائد العرَضية لا الغاية الخاصة المقصودة بالقصاص الذي يعود كل تأثيره الأخلاقي إلى أنه يحكم به بناءً على سوء العمل، لا على خير المجتمع. لأنه لو كان خير المجتمع هو المقصد الأصلي لخرج القصاص عن حقيقته، وفقد بالضرورة التأثير الأخلاقي الخاص به. وعلى هذا يكون المذهب الذي يغفل البديهيات العقلية غير موافق لحالنا، ولا يستطيع أبداً أن يقنع ضمائرنا. فإن القصاص هو من ضروريات حكم الله العادل لأننا نعلم أننا نستحقه. وإذا لم يحمله المسيح بدلنا وجب أن نحمله نحن. وإذا لم يكفر عن الخطية لا بد من الدينونة المخيفة.
(3) كل ما ذكرناه من أدلة على وجود صفة العدل العقابي في الله، وأن عدله لا يناقض صلاحه، هي أيضاً أدلة قاطعة على فساد المذهب السياسي في الكفارة. فالقول إن السعادة هي الخير الأعظم، والفضيلة هي الرغبة في تسبيب كل ما يمكن من السعادة ضعفت منزلته في مدارس الفلسفة، ووجب نفيه من مدارس اللاهوت، لأن الفضيلة تقوم بطلب القداسة لا السعادة، والقول بعدم وجود فرق أصلي جوهري بين الحلال والحرام يخالف طبيعتنا الأخلاقية. ولا يسلم أحد بأن الحلال هو ما يوافق رغبات صاحبه، وأن الحرام هو ما لا يوافقه، بغضّ النظر عن الضمير (انظر فصل 12 س 58 و64 و65).
(4) هذا المذهب يخالف أقوال الكتاب، لأنه ورد فيه مراراً أن المسيح كاهن وذبيحة وكفارة وبَدَل ونائب عن الخطاة، أي أنه قام مقامهم في حمل لعنة الناموس أو عقابه عنهم. وأما القائلون بهذا المذهب فأنكروا تلك الأقوال أو فسروها تفسيراً فاسداً.
(5) هذا المذهب كالمذهب الأخلاقي في الكفارة، فاسد لأنه ناقص. فقد قُصد بعمل المسيح حث الخطاة على الرجوع إلى الله، والتأثير في عقول كل الخلائق الناطقة لإقناعهم بشرّ الخطية وردّهم عن ارتكابها. غير أن القصد الأصلي منه هو غير ذلك، فإن هذا التأثير الأخلاقي في الخاطئ وفي جميع الخلائق العاقلة ناشئ عن أن عمل المسيح إيفاءٌ لعدل الله، وأنه من أعظم الأدلة على أن الخطية لا تُغفر بلا كفارة كافية.
28 - لأجل مَن مات المسيح كفارة؟
* بحثنا هذه المسألة في فصل 29 وأثبتنا أن كفارة المسيح عامة، على أن المختارين فقط ينالون الخلاص بها. ولكن هذه النتيجة ليست من حصر الكفارة في عدد محدد من الناس، بل من تخصيص فوائدها للمؤمنين الذين يقبلونها (تي 2: 6 و4: 10 وعب 2: 9 ويو 1: 29 و3: 17 و12: 47 و2كو 5: 14، 15 و1يو 2:2). والقول بعموم كفارة المسيح يوافق كل ما يعلمنا الكتاب المقدس من صفات الله، ولا سيما رحمته ونعمته، وغاية موت المسيح. وكذلك يؤثر في قلوب الناس تأثيراً حسناً حتى يجذبهم إلى الله، ويجعلهم بلا عذر إذا رفضوا وسائط الخلاص لأنها معدَّة من أجلهم.
29 - ما هي أخص نتائج الكفارة في علاقتها بالله وبالبشر؟
* للكفارة نتائج عظيمة في إظهار صفات اللاهوت، ولا سيما كمال المحبة والقداسة والعدل في الثالوث الأقدس، وفي إثبات حكم الله الأخلاقي وبيان أركانه، وفي فتح باب المصالحة بين الله القدوس والإنسان الخاطئ، وفي إنقاذ الإنسان من عبودية الخطية وإعداده للحياة الأبدية في حضرة خالقه. ولذلك كان للكفارة أعظم أهمية وأرفع شأن في الديانة المسيحية، وهي موضوع الشكر والحمد وأساس الرجاء والسلام، والواسطة الوحيدة الفعالة للخلاص عند جميع المؤمنين الحقيقيين.
30 - ما هي الأدلة على أن المسيح شفيعنا؟
* (1) مشابهة عمل رئيس الكهنة في النظام القديم لعمل المسيح، فإن رئيس الكهنة في ذلك النظام كان يأخذ في يوم الكفارة (بعد ما يقدم الذبائح عن الخطية في الدار الخارجية) دم الحيوانات ومجمرة فيها بخور موقَد، ويدخل إلى ما وراء الحجاب ويرش الدم على الغطاء ويقدمه لله. كذلك المسيح بعدما قدم نفسه على الصليب ذبيحةً عن خطايانا، اجتاز السماوات ليظهر هناك أمام الله لأجلنا. ولهذا السبب سُمي «خادم المسكن الحقيقي» الذي نصبه الرب لا الإنسان، فهو يمارس الآن وظيفة كاهن في السماء، حيث هو حيٌ إلى الأبد يشفع فينا.
(2) نصوص الكتاب الدالة على شفاعة المسيح: (أ) يظهر المسيح أمام وجه الله لأجلنا (عب 9: 24) ويقدم نفسه أمام الله بالنيابة عنا، بمعنى أنه وسيط تمم عمله لأجلنا يدافع عنا أمام عرش الله، ولذلك كان ظهوره أمام الله شفاعة دائمة فعالة في شعبه، تأتيهم بجميع بركات الفداء الذي صنعه. (ب) يشفع فينا (رو 8: 34 وعب 7: 25) ويسأل الله من أجلنا (يو 17: 9). (ج) تسميته بالباراكليت، بمعنى الشفيع (ايو 2: 1) والمعزي (يو 14: 16) أي المستغاث. وعلى ذلك فمعناها العام: المغيث، بغضّ النظر عن نوع الإغاثة. ولما كان المجرمون الجهلاء المخذولون المدعوون للمحاكمة يحتاجون فوق كل شيء إلى من يحامي عنهم، ويعمل ما يمكنه ليطلقهم، كان هذا هو المعنى الخاص المقصود بتسمية المسيح بالشفيع. فهو الوكيل المدافع عنا، الذي يقف في محكمة الله ليدافع عنا ويقدم عمل طاعته وآلامه لتبريرنا، ويجري وساطته المبنية على أنه ابن الله الذي يُسر به الآب ويستجيب له دائماً، وعلى إكماله جميع شروط عهد الفداء، فيحصل لشعبه على كل الخير الذي يحتاجون إليه. ولذلك تظهر شفاعة المسيح على الخصوص في الآيات التي موضوعها التبرير والمحاكمة (انظر رو 8: 34 و1يو 2: 1).
31 - ما هي حقيقة شفاعة المسيح؟
* قال بعض اللاهوتيين إن المقصود في الكتاب المقدس بشفاعة المسيح هو دوام وساطته وعمله في خلاص شعبه. وقال غيرهم إن شفاعته فينا تجري في السماء بالكلام الشفاهي حقيقة. والصواب أنها تتضمن جملة أمور:
(1) إنه يظهر أمام الله لأجلنا بناءً على أنه ذبيحةٌ عن خطايانا، ورئيس كهنتنا، وأننا ننال مغفرة خطايانا وعطية الروح القدس وكل خير نحتاج إليه بناءً على عمله.
(2) إنه يحمينا من حكم الناموس وشكايات إبليس.
(3) إنه قدم نفسه ضامناً لنا ليوفي ما يطلبه الناموس.
(4) إنه يقدم إلى الله أشخاص المفديين بتقديس صلواتهم وكل خدمتهم، ويجعلها مقبولة عند الله بواسطة استحقاقاته.
32 - مَن هم الذين يشفع المسيح فيهم؟
* قال المسيح «لست أسأل من أجل العالم.. بل من أجل الذين أعطيتني» (يو 17: 9، 20) فيظهر من ذلك أن شفاعته باعتبارها قسماً من كهنوته محصورة في الذين يقبلونه كاهناً لهم، وهو ينوب عنهم في عهد الفداء. وهذا الأمر ظاهر من حقيقة الكهنوت، ومن كلامه الصريح، ومن أن شفاعته فعالة بلا ريب لأن الآب يسمعه دائماً. فلو شفع في الجميع لخلصوا لا محالة، وهو خلاف الواقع.
33 - ما هي الأدلة على خطأ تعليم شفاعة القديسين؟
* قارن ما قلناه عن وساطة المسيح في فصل 32. ثم نقول إن الوسيط بين الله والناس واحد فقط وهو المسيح، وإن الكاهن العظيم الذي لا نقدر أن نقترب إلى الله إلا به هو واحد (المسيح) وإن الشفاعة هي وظيفة الكاهن. فيلزم أن المسيح شفيعنا الوحيد، وأن كل المؤمنين ملوك وكهنة لله على معنى يوافق أن المسيح وحده ملكنا وكاهننا، فيصحّ القول بشفاعة القديسين بعضهم لأجل بعض، بمعنى لا يناقض أن المسيح شفيعنا الوحيد، فيصلي المؤمنون بعضهم لأجل بعض ولأجل جميع الناس. فيكون المقصود بشفاعة القديسين هو الصلاة، وأما شفاعة المسيح فهي عمل قانوني لا يستطيع من يقوم به إلا من استطاع القيام بوظيفته. لأنه كما كان في العهد القديم يقدر كل إسرائيلي أن يصلي لأجل إخوته، ولكن لم يستطع أحد أن يدخل إلى ما وراء الحجاب ويتوسط قانونياً عن الشعب إلا رئيس الكهنة، هكذا في العهد الجديد يجب أن يُصلي بعضنا لأجل بعض، ولكن لا يستطيع أحد أن يظهر أمام الله عنا بناءً على أنه شفيع كهنوتي لنا، ويقدم استحقاقاته لاستجابة صلواته لأجل شعبه، إلا المسيح وحده.
أما الأدلة على خطأ شفاعة القديسين فكثيرة، نكتفي بذكر خمسة منها:
(1) بناؤه على توهُّم رتبة من البشر لا وجود لها في الحقيقة، هم الذين يُقال إنهم الآن في السماء لسبب استحقاقاتهم، وفي الملائكة. وليس للكنيسة سلطان في مثل هذا الحكم، ولا يحق لها أن تكتب في سفر الأرواح الممجدة من تشاء.
(2) تأديته إلى عبادة الأصنام بالفعل، لأن عبادة الأصنام هي نسبة الصفات الإلهية إلى مخلوق، وتقديم شيء من العبادة والكرامة الخاصة بالله إلى مخلوقٍ. ويخطئ الذين يعتقدون أن القديسين حاضرون في كل زمان ومكان، وقادرون على استماع الصلوات المقدمة لهم واستجابتها.
(3) إنه يحط من شأن المسيح الوسيط الوحيد والشفيع الفريد الكافي بين الله والناس، والمستعد دائماً لأن يسمع ويستجيب صلوات شعبه. فاتّخاذنا وسطاء أو شفعاء آخرين يقتربون إلى الله عنا دليل على اعتقادنا شيئاً من النقص في المسيح، ومساواةً لعمل الشفعاء مع عمل المسيح!
(4) مناقضته لتعليم الكتاب المقدس لأنه يُبنى على أن للقديسين قدرة عند الله بسبب استحقاقاتهم الشخصية. والكتاب المقدس يقول أن ليس لأحدٍ من البشر أمام الله حق أو استحقاق في خلاص نفسه، وبالتالي لا يكون له حق أو استحقاق في خلاص غيره.
(5) إنه من باب الخرافات التي تحط من شأن الإنسان. فالخرافة عبارة عن التصديق بلا برهان. واستشفاع القديسين مبني على التسليم به بلا برهان من الكتاب المقدس، فهو دعاءٌ يتوهّمه المصلي نافعاً وهو ليس كذلك. وهو يحط من شأن الإنسان لأنه يحوّل نظره من الخالق إلى المخلوق، ويسوقه إلى الاتكال على ذراع بشرية عوضاً عن قوة المسيح، فيحوّل قلوب الشعب وثقتهم عن المسيح إلى الذين لا يستطيعون أن يسمعوا ولا أن يخلِّصوا.