تقدُّم حشود الجحيم
The Hordes of Hell are marching
By Rick Joyner
Translated by Samir Sada
أُخذت من الصحيفة الدورية "مورنينك ستار" مُجلّد 5، عدد 2 ¨C 4 لعام 1995، ونُشرت في كتاب عنوانه التفويض الأخير ((The Final Quest
إنه حلم ورؤية شاملة إستلمته في بداية عام 1995. إنه كبقية الأحلام والرؤى مجازي التفسير. أحاول بقدر إمكاني أن أكون أميناً لما رأيته واختبرته.
------------------------------------------------------
الجيش الشرير
رأيت جيشاً شيطانياً عظيماً جداً يمتد مُتسعاً بقدر ما استطاعت عيني رؤيته. كان الجيش مقسماً الى فرق عسكرية، كل فرقة لها راية مختلفة عن الأخرى. كانت أكثر الفرق قوة في المقام الأول الإفتخار والبِر الذاتي والمُقدَّر من الناس والطموح الأناني والحكم الجائر، ولكن أكبر الفرق كانت فرقة الحسد. كان قائد هذا الجيش الضخم هو المشُتكي على الإخوة. كنت أعلم أن هناك فرق شريرة أخرى وراء نطاق رؤيتي، ولكن ما كنت أراه هو طليعة الجيش لهذا الحشد الفظيع القادم من الجحيم الذي اُطلِق من قيوده ضد الكنيسة.
كان للأسلحة المُحمّلة من قبل هذا الحشد أسماء منها: سيوف سُميت التخويف، ورماح سميت الغدر، وسهامهم سُميت الإتهامات ونشر الإشاعات وتشويه السمعة ومحبة إنتقاد الناس. وكان لفرق الشياطين الصغيرة والكشافة أسماء مثل: الرفض، والمرارة، وعدم المغفرة والشهوة وهذه كانت في مقدمة الجيش للإعداد للهجوم الرئيسي. كنت أعلم في قلبي أن الكنيسة لم تواجه البتة شيئاً كهذا سابقاً.
كانت مهمة الجيش الرئيسية هو عملُ إنشقاقٍ. كان الجيش مُرسلاً للهجوم على كل مستوى من العلاقات: كنائس مع بعضها، رعايا مع رعاتهم، أزواج وزوجات، أولاد وأهاليهم، وحتى الأولاد فيما بينهم. كانت فرق الكشافة مرسلة لتعيين الثغرات في الكنائس والعائلات والأفراد التي تتواجد فيها الرفض والمرارة والشهوة والتي يمكن إستغلالها والتسبب في عمل صدعٍ أكبر لتهيئة الطريق لفرق الجيش القادمة.
في هذه الرؤية، كان الجزء الأكبر من الصدمة هو أن هذا الحشد لم يكن راكباً على الخيول بل على المسيحيين! كان معظمهم مرتدين ملابس جيدة ويدل مظهرهم على الإحتشام والتهذيب والثقافة. أؤلئك كانوا المسيحيين الذين فتحوا أنفسهم لقوات الظلمة لدرجة أن العدو إستطاع إستخدامهم فيما كانوا يفكرون إنهم مستخدمين من قبل الله. كان المشتكي يعلم أن البيت المنقسم لا يمكنه الصمود، وكان هذا الجيش يُمثِّل محاولته الأساسية للتسبب في أنشقاق كامل للكنيسة لتسقط بكاملها من النعمة.
أسرى الحرب
تجرجر خلف الفرق الأولى حشد ضخم من المسيحيين المأسورين لهذا الجيش. كان جميعهم من المصابين، وكانوا ينقادون بفئة صغيرة من شياطين الخوف. وبدا لي أن أعداد الأسرى أكثر من الشياطين المتواجدة في هذا الجيش. وما أدهشني هو أنه كان لا يزال بحوزة هؤلاء الأسرى سيوفاً وتروساً، ولكن لم يستخدمها أحداً منهم. كنت مذهولاً لرؤية هكذا عدد كبير من الأسرى مأسوراً من قبل فئة صغيرة من شياطين الخوف، حيث كان بالإمكان تدميرهم أو جعلهم يفرون إن إستخدم الأسرى أسلحتهم.
كانت السماء فوق الأسرى ملونة بلون قاتم مع تواجد نسور برية تدعى الكأبة. كانت النسور تستقر على أكتاف الأسرى وتتقيأ عليهم. وكان القيء يدعى الإدانة. وحينما كان القيء يسقط على الأسير كان الأسير ينتصب على قدميه ويخطو بإستقامة لفترة ومن ثم يمشي مترهلاً، بصورة أضعف مما سبق. كنت أتساءل لماذا لا يقتل الأسرى تلك النسور بسيوفهم، لأنه كان بإمكانهم فعل ذلك.
وكان بين الحين والأخر يتعثر أسير ويسقط. وحال سقوط أسير أو أسيرة على الأرض، تبدأ بقية الأسرى في طعنه بسيوفهم والسخرية منه. ومن ثم ينادون النسور للمجئ وإلتهام الساقطين على الأرض حتى قبيل وفاتهم.
وفيما كنت أنظر ذلك أدركت أن هؤلاء الأسرى إنما يفكرون أن قيء الإدانة كان من عند الله حقاً. ثم فهمت أن هؤلاء الأسرى يفكرون بأنهم يسيرون في جيش الله. هذا كان السبب في عدم قتلهم لشياطين الخوف الصغيرة، او ربما فكروا أن تلك النسور إنما هي رسلٌ من عند الله. جعل سوادُ سحابة النسورِ الأمر صعباً على الأسرى حتى أنهم قبلوا بكل سذاجة كل شئ حدث لهم وكأنه أتٍ من عند الله.
كان الطعام الوحيد المُوفَّر للأسرى هو القيء المُتقيءِ من النسور. وكان الأسرى الذين رفضوا تناوله يضعفون تدريجياً الى حين سقوطهم على الأرض. أما الذين كانوا يتناولونه فكانوا يتقوون ولكن بقوة الأثيم. ومن ثم يبدأون بالتقيء على الأخرين. وحينما كان يفعل أحد الأسرى ذلك يقوم شيطانٌ ينتظر الركوب بالسماح له بالركوب ومن ثم الإرتقاء الى الفرق الأمامية.
وكان أسوأ من قيء النسور تلك المادة الغروية المثيرة للإشمئزاز التي كان يتبولها ويتغوَّطها الشياطين الراكبين على المسيحيين. كانت هذه المادة الغروية هي الإفتخار والطموح الأناني. هذا كان طبيعة الفرق التي كانوا تابعين لها. على أية حال، جعلتْ هذه المادة الغروية المسيحيين يشعروا بأن حالتهم أفضل من الإدانة مما صاروا يصدقون أن الشياطين هي رسلٌ من عند الله، وأن يفكروا بأن هذه المادة هي مِسحة الروح القدس.
ثم جاء صوت الرب إليَّ قائلاً، "هذه هي بداية يوم النهاية لجيش العدو. هذه هي خدعة إبليس الرئيسية، إذ تنطلق قوته الرئيسية للدمار حينما يستخدم المسيحيين للهجوم على مسيحيين أخرين. إستخدم إبليس هذا الجيش على مر العصور، لكنه لم يستطع أبداً القبض على هكذا عدد كبير لإستخدامه لأغراضه الشريرة. لا تخف، فأنا لي جيش أيضاً. عليك أن تصمد وتحارب لأنه ليس هناك بعدُ مكاناً للإختباء من هذه المعركة. عليك أن تحارب لأجل مملكتي ولأجل الحقِّ ولأجل أؤلئك الذين خُدِعوا."
كنتُ مشمئزاً وغاضباً جداً من الجيش الشرير إذ رغبت الموت على العيش في هكذا عالم. على أية حال، كلمة الرب هذه شجعتني كثيراً إذ جعلتني أصرخ على الفور على هؤلاء الأسرى المسيحيين ليشعروا بأنهم مخدعوين، معتقداً أنهم سيستمعون لي. حينما فعلت ذلك، بدا لي وكأن الجيش بأكمله إلتفت نحوي لكني إستمرت في صراخي. فكرت أن المسيحيين سيستقيظون ويدركون ما يحدث لهم، ولكن على العكس، بدأ العديد منهم يلتقطون سهامهم لإطلاقها عليَّ، فيما تردد أخرون وكأنه لا يعرفون ما يفعلونه بي. حينئذ علمت إني فعلت هذا الأمر قبل أوانه، وأنه كان خطأ تافهاً جداً.
إبتداء المعركة
ثم إلتفتُ ورأيت جيش الرب واقفاً خلفي. كان هناك ألاف الجنود، ولكن كنا نفوق العدو عدداً. كان عدد قليل من جنودنا مرتدين دروعاً، لهذا كانت الأكثرية محمية جزئياً. كان عدد المصابين بيننا كبيراً. وكان بحوزة معظم أؤلئك المرتدين دروعاً عدد قليل من التروس إذ كنت أعلم أنها لن تحميهم من الهجوم الضارِ القادم. وكان أكثرية أؤلئك الجنود من النساء والأطفال.
وتجرجر خلف هذا الجيش حشدٌ مشابه لحشد الأسرى الذين تبِعوا الجيش الشرير، لكنه يختلف في طبيعته. تراءى لي أنهم أناس سعداء إذ كانوا يلعبون ألعاباً ويغنون أغانٍ ويستمعتون بأوقاتهم ويتجولون من معسكر الى أخر. مما ذكرني ذلك بالبيئة المتواجدة في منطقة وودستوك. حاولت رفع صوتي محدثاً صخباً لاُحذرهم بأنه ليس الوقت لهكذا أشياء، وبأن المعركة وشيكة الأن، إستطاع قسم قليل سماع صوتي. والذين سمعوا أشاروا إليَّ بعلامة سلام قائلين إنهم لا يؤمنون بالحرب وأن الرب لن يدع أيَّ سوء يصيبهم. حاولت أن أشرح لهم بأن الرب أعطانا الدروع لسببٍ، ولكنهم كانوا يجيبون أنهم جاءوا الى مكانٍ لغرض الراحة والإستمتاع ولا شئ سيحدث لهم. بدأت أصلي بجدية الى الرب ليزيد الإيمان (التروس) لأؤلئك المرتدين دروعاً، لكي يساعدوننا في حماية أؤلئك الذين لم يكونوا مستعدين للمعركة.
جاء رسول إليَّ وأعطاني بوق وطلب مني أن أبوِّقه بسرعة. ففعلتُ، وإستجاب في الحال أؤلئك المرتدين قليلاً من الدروع فانتبهوا وجُلبت إليهم دروعاً أخرى، فارتدوها بسرعة. ولاحظت أن الذين كانوا قد اُصيبوا لم يكونوا مرتدين دروعاً فوق مكان الجروح، ولكني قبل أن أقول شيئاً وإذ بسهام العدو تسقط مثل المطر علينا. مما أدى الى جرح كل شخص لم يرتدي كامل درعه سواء كان رجلاً أم إمرأة. كما أن الذين لم يغطوا جروحهم اُصيبوا في ذات مكان الجرح. وبدأ الذين اُصيبوا بسهام الإفتراء يفترون في الحال على الذين لم يُصابوا. وبدأ الذين اُصيبوا بسهام نشر الإشاعات بنشر الإشاعات. بعدها بقليل تم حدوث إنشقاق خطير داخل معسكرنا. ثم بدأت النسور البرية تندفع بخفة لإلتقاط المجروحين وتسليمهم الى معسكر الأسرى. وكان لا يزال للمصابين سيوفاً وبإمكانهم بكل سهولة توجيه ضربات قوية للنسور لكنهم لم يفعلوا ذلك، بل بكل إرادتهم قبِلوا حملِهم لكونهم غاضبين على البقية منا.
كانت حالة أؤلئك المتواجدين في المعسكر خلف جيشنا أسوأ بكثير. بدا وكأنه فوضى تامة. حيث كان الألاف مطروحاً على الأرض من مجروحين ومُتأوهين. وكان الكثير من الذين لم يُصابوا جالسين فقط في خدرِ الشَّكِّ. وحُمِل المصابون والجالسون في الشَّكِّ بسرعة من قبل النسور. أراد البعض مساعدة الجرحى وإبعاد النسور عنهم، ولكن كان الجرحى بهكذا غضب حتى إنهم هددوا وأبعدوا أؤلئك الذين أرادوا مساعدتهم.
كان الكثيرون من الجرحى يسرعون بكل قوتهم من مشهد المعركة. كانت أول مواجهة مع العدو مدمرة جداً حتى حثتني على الإنضمام اليهم في المعركة. بدأ بعضاً من هؤلاء بالظهور وهم مرتدين ألبسة الدرع بكاملها مع تروس كبيرة. تغير طرب الحفلة الى تصميم رهيب.
بدأوا بإستعادة الأماكن التي كانت عائدة للذين سقطوا في المعركة، حتى أنهم بدأوا بتشكيل صفوف جديدة من الجنود لحماية خلفية الجيش وأجنحته، مما أحدث تشجيعاً عظيماً، وصمَّم كل واحد على الصمود والقتال حتى الموت، وفي الحال وقفتْ ثلاثة ملائكة عظيمة هي الإيمان والرجاء والمحبة خلفنا، وبدأ يكبر تُرس كل واحد منا.
الطريق العام
كان لدينا سيوف إسمها كلمة الله، وسهام تدعى حقَّ الإنجيل. أردنا إطلاق السهام لكننا لم نكن نعلم كيف نفعل ذلك من دون إصابة المسيحيين الذين كانوا ممتطين من قبل الشياطين. ثم تراءى لنا أنه إن أصبنا المسيحيين بالحقِّ فإنهم قد يستقيظون ويحاربون مُضطهديهم. أطلقت عدداً قليلاً من السهام، لكن معظمها أصابت المسيحيين. على أية حال، لم يستقيظوا عند إصابتهم بسهم الحقِّ ولا سقطوا جرحى على الأرض بل زادوا غيظاً وتقوَّت الشياطين الراكبين عليهم بصورة أكبر. أنصدمنا جميعاً بهذا الوضع، فبدأنا نشعر أنه من الإستحالة الفوز بهذه المعركة، ولكننا كنا واثقين مع وجود الإيمان والرجاء والمحبة بأنه يمكننا على الأقل الإحتفاظ بمواقعنا. ثم ظهر ملاك أخر إسمه الحكمة وأرشدنا لمحاربة الجبال التي كانت خلفنا.
كان على الجبال بروزات صخرية عند مستويات مختلفة وكانت عالية بقدر ما أستطعت رؤيته. ولكن عند كل مستوى من الأدنى الى الأعلى، تواجدت بروزات تضيق أكثر فأكثر مما إزداد صعوبة الوقوف عليها. وسُمي كل مستوى بحسب حقٍّ إنجيليٍّ. فالمستويات السفلى سميت بحسب حقِّ الأساسِ مثل "الخلاص" و"القداسة" و"الصلاة" و"الإيمان" الخ. والمستويات العليا سميت بحسب تقدُّم حقِّ الإنجيل. وكلما تسلقنا مستويات عالية كلما تقوَّت سيوفنا وتروسنا وقلّت سهام العدو المنطلقة علينا.
خطأ مأساوي
بدأ البعض من الذين بقوا في المستويات السفلى بإلتقاط سهام العدو وإطلاقها على العدو. كان ذلك خطأ مأساوياً، إذ تفادى الشياطين بكل سهولة تلك السهام وتركوها لتصيب المسيحيين. وحينما كان المسيحي يصاب بإحدى سهام الإتهام أو الإفتراء، كان شيطان المرارة أو الغيظ يطير ويجثم على السهم، ثم يبدأ يتبول ويتبرّز بسمومه على ذلك المسيحي. حينما كان يحدث لمسيحيٍّ من إثنين أو ثلاثة شياطين إضافة الى تواجد الإفتخار والبر الذاتي فيه فإنه كان يبدأ في التحوَّل الى صورة ملتوية شبيه لتلك الشياطين.
إستطعنا رؤية ما يحدث من المستويات العليا التي كنا واقفين عليها، أما الذين كانوا واقفين على المستويات السفلى الذين كانوا يستخدمون سهام العدو فلم يستطيعوا ذلك. قرّر نصفنا الإستمرار في التسلق فيما ينزل النصف الباقي الى المستويات السفلى لشرح ما يحدث لهؤلاء المتواجدين هناك. حينئذ نُبِّه كل واحدٍ بالإستمرار في التسلق وعدم التوقف، ما عدا قلة من الذين تمركزوا في مواقعهم على كل مستوى لحماية الجنود المتسلقين الى المستويات العليا.
الاَمان
حينما وصلنا الى مستوى يدعى "إتحاد الإخوة" لم يستطع أيَّ سهم للعدو الوصول الينا. قرر الكثيرون في معسكرنا بالإكتفاء لِما صعدوا إليه. فهمتُ ذلك لأنه في كل مستوى جديد كان وضعُ موطئ قدمٍ محفوفاً بمخاطر أكثر. على أية حال، شعرت بقوة أكبر وخبرة أكثر بأسلحتي كلما إستمرت في الصعود، لذا قررت التسلق.
صارت خبرتي كافية بعدئذ للرماية وإصابة الشياطين من دون أن اُصيب المسيحيين. شعرت بأني إن مضيت في التسلق الى علو أكبر فسأتمكن من الرماية وإصابة قادة الحشد الشرير الذين كانوا واقفين في مؤخرة جيشهم. تأسفت للكثيرين الذين توقفوا عند المستويات السفلى فمَع أنهم كانوا في أمان إلا أنهم لم يتمكنوا من إصابة العدو. ومع ذلك، جعلتْ القوة والميزة التي نمت في أؤلئك الذين إستمروا في التسلق ليصيروا مقاتلين عظماء، إذ كان كل واحد منهم بحسب معرفتي قادراً على تدمير العديد من الأعداء.
كانت سهام الحقِّ عند كل مستوى متبعثرة هنا وهناك إذ علمت أنها تُركت من قبل أؤلئك الذين سقطوا في تلك المواقع. كان للسهام أسماء بحسب الحقِّ لذلك المستوى. كان البعض متردداً في إلتقاط تلك السهام، لكني علمت إننا بحاجة إلى جميعها لتدمير الحشد العظيم المتواجد في الأسفل. إلتقطتُ سهماً وأطلقته وبكل سهولة إستطعت إصابة شيطان مما جعل البقية تجمع سهاماً وتطلقها. بدأنا بتدمير فرق متعددة من جيش العدو. وبسبب ذلك ركَّز جيش العدو كل إنتباهه نحونا. وتراءى لي أنه كلما أحرزنا تقدماً كلما زادت المقاومة نحونا. ومع أن مهمتنا بدت وكأنه لا نهاية لها، لكنها باتت أكثر إنتعاشاً.
الكلمة هي مرساتنا
وكانت سيوفنا تكبر عند كل مستوى نصل إليه. حتى إني فكرت في ترك سيفي ورائي لأني لم أعد بحاجة إليه بعدُ فيما كنت صاعداً الى مستويات أعلى. وجدت في النهاية أنه من الأفضل الإحتفاظ بسيفي لأنه بدا لي أنه اُعطي لأجل غرضٍ ما. فغرزتُ السيف في الأرضية وربطتُ نفسي به فيما كنتُ أطلق السهام على العدو. ثم جاءني صوت الرب قائلاً، "إستخدمتَ الحكمة التي ستجعلك قادراً على الإستمرار في التسلق. سقط الكثيرون لأنهم لم يستخدموا سيوفهم كما ينبغي لتثبيت أنفسهم." بدا لي أنه لم يسمع ذلك الصوت أحدٌ غيري، لكن الكثيرين لاحظوا ما فعلته ففعلوا مثلي.
تسائلتُ لماذا لم يكلمني الرب قبل أخذي للقرار. ثم شعرت بطريقة ما أن الرب تكلم معي في السابق عن ذلك. ثم أدركت بأني كنت أتدرب طوال حياتي لهذا الأمر. كنت مستعداً لدرجة إني إستمعتُ الى الرب وأطعته طوال حياتي. كما كنت أعلم أنَّ بضعة أسباب لن تضيف أو تؤخذ مني الفهم والحكمة التي بحوزتي فيما كنت في المعركة. وكنتُ شاكراً بعمق لأجل كل تجربة إختبرتها في حياتي، وأتأسفُ لعدم تقديري لهكذا إختبارات في حينه.
بعدئذ صرنا نُصيب الشياطين بكل دقة تقريباً، فهاج غيظُ جيش العدو كنارٍ وكبريت. كنت أعلم أن المسيحيين الواقعين في فخ جيش العدو صاروا يشعرون بنارِ ذلك الغيظ. ولعدم قدرة الشياطين على إصابتنا صاروا يطلقون السهام على بعضهم البعض. وبسبب إخفاق سهامهم ضدنا بدأ الجيش يبعث النسور البرية للهجوم علينا. وتمكن أؤلئك الذين لم يستخدموا سيوفهم كمرساة من إصابة العديد من تلك النسور، ولكنهم اُصيبوا من بروزات الجبال الصخرية حيث كانوا واقفين. فوقع قسماً منهم على مستويات أخفض كما سقط قسماً منهم على قاع الأرض حيث حملتهم النسور.
سلاحٌ جديد
كانت سهام الحقِّ نادراً ما تخترق النسور، لكنها كانت تصيبهم وكافية لإبعادهم. وفي كل تراجع للنسور كان قسماً منا يتسلق الى مستوى أعلى. حينما وصلنا الى مستوى يدعى "غلاطية 20:2" كنا فوق ما تستطيع النسور الوصول إليه. كانت السماء في هذا المستوى تقريباً قد أعمتنا بتألقها وجمالها. وشعرت بسلام لم أشعر به أبداً في السابق.
كنت كثيراً ما أتشجع في السابق من روح المحاربة نتيجة لكراهية وإشمئزاز من العدو وكأني أفعل ذلك من أجل الملكوت والحقِّ ومحبة الأسرى. ولكن هنا على هذا المستوى تعلقتُ بالإيمان والرجاء والمحبة التي كنت سابقاً أتبعها من بعيد. هنا على هذا المستوى خضعتُ لمجدهم. حين تعلقت بهم توجهوا نحوي وبدأوا بإصلاح وصقل درعي. بعد قليل تغيَّرتُ تماماً وصرت أنضحُ المجد الموجود فيهم. حينما لمسوا سيفي، بدأ برقٌ رائع ينطلق منه. ثم قال المحبة، "أؤلئك الذين يصلون الى هذا المستوى هم الذين يؤتمنُ لهم بقواتِ الدهر القادمة. ولكن ينبغي أن أعلمك كيفية إستخدامها."
كان مستوى "غلاطية 20:2" واسعاً جداً لدرجة لم يكن هناك أي خطر للسقوط. كان هناك عدد غير محدود من السهام مكتوبٌ عليها إسم الرجاء. أطلقنا قسماً منها على النسور وقتلت السهام النسور بسهولة. وإستمر نصف الذين وصلوا الى هذا المستوى بإطلاق السهام فيما بدأ الأخرون بحمل السهام ونقلها الى أؤلئك الذين كانوا لا يزالون في المستويات السفلى.
كانت النسور لا تزال مستمرة في القدوم بأمواجٍ على المستويات السفلى، ولكن مع كل موجة من النسور كان عددها يقل بكثير عن السابق. إستطعنا من موقع "غلاطية 20:2" إصابة أيَّ عدو في الجيش عدا القادة الذين كانوا بعيدين عن مرمى الإصابة. حينئذ قررنا عدم إستخدام سهام الحقِّ الى حين تدمير جميع النسور أولاً، لأن سحابة الكأبة التي صنعها النسور جعلت الحق أقل فعالية. أخذ هذا الأمر وقتاً طويلاً ولكننا لم نكِلَّ أبداً.
كان الإيمان والرجاء والمحبة يكبر مثل أسلحتنا عند كل مستوى، حتى صار بهكذا حجم إذ أستطعتُ رؤية أناس بعيدين جداً عن مكان القتال. كما أن مجدها كان يشع في معسكر الأسرى الذين كانوا لا يزالون تحت سحابة النسور. إستمر الإنتعاش بالنمو في جميعنا، فشعرت بأن وجودي في هذا الجيش وفي هذه المعركة من أعظم المغامرات على الإطلاق.
بدأنا بعد تدمير معظم النسور التي كانت تهاجم جبلنا، بتوجيه السهام على النسور التي غطَّت الأسرى. وفيما بدأت سحابة الظلام تتبدد والشمس تشع عليهم، بدأ الأسرى يستيقظون وكأنهم كانوا في نومٍ عميق. وبدأوا في الحال يشمئزون من أوضاعهم، وخاصة من القيء الذي كان لا يزال يغطيهم، فبدأوا بتنظيف أنفسهم. وفيما نظروا الإيمان والرجاء والمحبة، رأوا الجبل الذي كنا عليه وبدأوا بالإندفاع نحوه. حينئذ بدأ حشد الشرير بإطلاق وابلٍ من سهام الإدانة والإفتراء عليهم، لكنهم لم يتوقفوا. كان العديد منهم قد أصيب بدزينة أو أكثر من السهام عند وصولهم الى الجبل ، ولكن تراءى لي أنهم لم ينتبهوا لهذا الأمر. وحالما بدأوا بتسلق الجبل بدأت جراحاتهم تشفى. بدا لي أنه مع تبدُّد سحابة الكأبة أنَّ كل شئ صار يتحسن بسهولة أكثر.
الفخ
كان للأسرى السابقين فرح عظيم في خلاصهم. تراءى لي أنهم مغمورين في التقدير لكل مستوى تسلقونه على الجبل مما أعطانا تقديراً أكبر لهذا الحقِّ. بعد ذلك نشأ في الأسرى السابقين عزيمة عنيفة لمحاربة العدو. لبسوا الدروع المجهزة لهم وتوسلوا بنا للسماح لهم بالرجوع ومحاربة العدو. فكرنا بالأمر، لكنه قررنا بعدئذ في البقاء جميعاً معاً على الجبل للمحاربة. ثم جاء صوت الرب قائلاً، "هذه هي المرة الثانية التي إستخدمتم فيها حكمة. لن تستطيعوا الفوز إن حاولتم محاربة العدو على أرضه، ولكن عليكم أن تبقوا على الجبل المقدس."
كنت منذهلاً لأخذنا قراراً أخر بهذه الأهمية لمجرد تفكيرنا ومناقشتنا فيه بصورة موجزة. ثم صممنا بأن نعمل كل ما في وسعنا أن لا نأخذ قراراً أخر بدون صلاة مهما كانت النتائج. ثم تقدَّم الحكمة ثانية إليَّ بسرعة، ومسكني من ذراعي الإثنين بثبات وحدق في عيني وقال، "عليك أن تفعل هذا!" ثم لاحظت بأنه مع تواجدي على مستوى عريض لـ "غلاطية 20:2" إلا إني إنحرفت الى الحافة دون علمي، ومن المحتمل السقوط بسهولة. ثم نظرت ثانية في عيني الحكمة فقال لي بكل جدية، "إنتبه جيداً حينما تفكر إنك واقفٌ خشية أن تسقط. يمكن أن تسقط في هذه الحياة من أي مستوى."
الأفاعي
كنا مستمرين لفترة طويلة في قتل النسور البرية والتركيز على الشياطين الراكبة على المسيحيين. ووجدنا أن للسهام التابعة لحقوق مختلفة تأثير أكبر على شياطين مختلفة. كنا نعلم أن المعركة ستطول لكننا لم نعد نتعرض الأن لإصابات كما أننا كنا قد إجتزنا مستوى "الصبر" ومع إنه تمكن المسيحيين من الإبتعاد عن الشياطين إلا ان القليل منهم وصل الى الجبل. فالكثير من المسيحيين أخذوا طبيعة الشياطين وإستمروا في الضلال. وفيما كانت ظلمة الشياطين تتبدد تدريجياً إستطعنا رؤية الأرضية وهي تتحرك حول أقدام هؤلاء المسيحيين. ثم رأيتُ أن أرجلهم كانت مقيدة بأفاعي تدعى الخزي.
فأطلقنا السهام على الأفاعي ولكن تأثيرها لم يكن كبيراً. ثم حاولنا إطلاق سهام الرجاء ولكن بدون نتيجة. ومن "غلاطية 20:2" كان الصعود سهلاً الى علو أكبر، لذا بدأنا بالصعود الى مستويات أعلى. ثم وجدنا أنفسنا في بُستان، والذي كان من أجمل الأماكن التي رأتها عيني. وكان مكتوب في مقدمة البستان "محبة الأب غير المشروطة". كان المدخل متألقاً وجذاباً لم ترى عيني مثله على الإطلاق، فاُجبرنا على الدخول. وحال دخولنا رأينا شجرة الحياة في منتصف البستان. كان لا يزال يحرسها ملائكة ذوو قوة رهيبة. نظروا إلينا وكأنهم كانوا يتوقعون قدومنا، لذلك تجرأنا على إجتيازهم والمضي نحو الشجرة. فقال أحدهم، "أؤلئك الذين يصلون الى هكذا مستوى من الذين يعرفون محبة الأب يمكنهم أن يأكلوا منها."
لم أدرك مدى جوعي. حينما ذقت الثمر وجدت أنه أفضل من أي شئ ذقته في حياتي، ولكن بدا لي وكأنه مألوفٌ. فقد جلب لي ذكريات عن شروق الشمس والمطر والحقول الجميلة وغروب الشمس على المحيط، بل أكثر من ذلك، عن الناس الذين أحببتهم. وفي كل أكلة كنت أشعر بمحبة أكبر لكل شئ ولكل إنسان. ثم جاء أعدائي الى ذهني وصرت أحبهم أيضاً. كان الشعور أكثر عظمة من أي شئ إختبرته، حتى أكثر من "غلاطية 20:2" ثم سمعتُ صوت الرب قائلاً، "هذا هو الأن خبزك اليومي. لن يُمنع عنك أبداً. تستطيع أن تأكل منه ما تريد وأي وقت تريد. ليس هناك نهاية لمحبتي."
رفعتُ نظري الى الأشجار لأرى مصدر الصوت، فرأيت الأشجار ممتلئة بنسور ناصعة البياض. كان للنسور أجمل عيون خلابة وثاقبة رأتها عيني. كانت تنظر إليَّ وكأنها تنتظر إرشادات. قال لي ملاك، "سيفعلون ما تأمره. هذه النسور تأكل الأفاعي." فقلت، "إذهبي وإلتهمي الخزي الذي قيَّد إخوتنا." ففتحوا أجنحتهم وجاء ريح عظيم رفعهم في الهواء. ملأت النسور السماء بمجد باهر. ومع تواجدي في مكانٍ عالٍ جداً إلا أني إستطعت سماع أصوات الرعب من معسكر العدو وأنا أنظر النسور البيضاء متجهة نحوه.
وقفَ الرب نفسه في وسطنا. لمس كل واحد منا ثم قال، "ينبغي عليَّ أن اشارككم ما شاركته مع إخوتكم بعد صعودي: رسالة ملكوتي. وضع العدو أعظم قواته للمعركة، لكنه لم يتحطم. جاء الأن وقتنا للتقدم نحو الأمام مع إنجيل ملكوتي. والنسور التي اُطلقت ستنطلق معنا. سنلتقط سهاماً من كل مستوى، ولكني أنا سيفكم وقائدكم. حان الوقت لسيف الرب لكي يُستلَّ من غمده."
بعد ذلك إلتفتُ فرأيت كل جيش الرب واقفاً في ذلك البستان. تواجد بينهم رجال ونساء وأطفال من جميع الأجناس والأمم، وكان الجميع يحملون رايات يحركونها في الهواء بإنسجام تام. علمتُ أنه لم يحدثَ شئ كهذا على الأرض قبلاً. علمت أن للعدو عدة جيوش وحصون أخرى في كل مكان على الأرض، ولكن ليس بإمكان أياً منها الوقوف أمام هذا الجيش الجبار. فقلتُ في نفسي، "ينبغي أن يكون هذا هو يوم الرب." وللتو أجاب جميع جند الرب بصوت رعدٍ رهيب، "يوم رب الجنود قد حان"
وقفنا في بستان الرب تحت شجرة الحياة. كان كل الجيش متواجداً هناك وجاثياً أمام الرب يسوع. وأعطى الرب الأمر بالرجوع الى المعركة لأجل الإخوة الذين كانوا لا يزالون مقيدين، ولأجل العالم الذي لا زال الرب يحبه. كان الأمر الذي أعطاه الرب رائعاً ورهيباً في اَنٍ واحدٍ. كان رائعاً لأنه صدر من الرب. وكان رهيباً لأنه يقتضي علينا مغادرة حضوره الجلي، إضافة الى البستان الذي كان أجمل من أي شئ أخر رأته عيني. فتركُ كل هذه والذهاب الى المعركة بدا وكأنه فوق الإدراك.
إستمر الرب في تحذيره: "أعطيتكم هبات روحية وقوة، وزيادة في الفِهم لكلمتي وملكوتي، ولكن السلاح الأعظم هو أنكم مُنحتم محبة الأب. فما دمتم سائرين في محبة أبي فإنكم لن تسقطوا أبداً. فثمر هذه الشجرة هو محبة الأب الظاهر فيَّ. ينبغي أن تكون هذه المحبة التي فيَّ خبزكم اليومي."
لم يكن الرب كما كنا نظن ذو مظهر وسيم ولافت للنظر، بل كان مظهره عادياً. ومع ذلك، فالنعمة من خلال حركته وكلامه جعلته أعظم شخص جذاب. كان فوق نطاق تعريف الإنسان في الجلال والنبل. ليس ممكناً لتصوير زيتي السعي لأخذ صورة مشابهة له ولكن بطريقة ما معظم الصور الزيتية عنه تشبهه. بدأت أفكر كيف بالإمكان أن يكون هو كل شئ أحبَّه الأب وقدَّره. كان ممتلئاً فعلاً نعمة وحقَّاً الى درجة بدا لي أنه ليس هناك شئ أهم من النعمة والحقِّ.
حينما أكلت الثمر من شجرة الحياة، تراءى لي أن التفكير عن كل شئ جيد عرفته في الماضي بات يملأ نفسي. حينما تكلم يسوع فإنه كان بذاته ولكن بصورة مُبَجَّلة. لم أرد أبداً مغادرة هذا المكان. تذكرت كيف كنتُ أفكر في الماضي أنه لابد أن يكون مكاناً مضجراً للملائكة الذين لا يفعلون شيئاً سوى عبادته قدام العرش. الأن علمت أنه ليس هناك شيئاً أكثر روعة أو بهجة من عبادته. هذا سيكون بالتأكيد الجزء الأفضل في السماء. لم اُصدِّق نفسي إنني ناضلت بضجرٍ كبير أثناء خدمات العبادة. علمت أن ذلك لم يكن سوى بعدي عن لمسة الواقع خلال تلك الأوقات.
العبادة في الروح والحق
كانت تغمرني الرغبة للرجوع الى تلك الأوقات أثناء فترات العبادة حينما سمحت لذهني بالتجول، أو إشغال نفسي بأمور أخرى. لم أستطع كبح الرغبة في التعبير عن عبادتي له، كان عليَّ أن أُسبِّحهُ! حينما فتحتُ فمي صُدمت بالعبادة العفوية التي إندلعت في الجيش كله في اَنٍ واحدٍ. كنت قد نسيت للتو تواجد أناس أخرين هناك، لكننا جميعاً كنا في وحدة تامة. ليس ممكناً التعبير عن تلك العبادة الرائعة بأيِّ لغة بشرية.
وفيما كنا مستمرين في العبادة، بدأ توهج ذهبي ينبعث من الرب، ثم توهج فضي حول الذهبي. ثم الألوان العميقة التي لم أرى مثلها على الإطلاق وهي تحيط بنا جميعها. بهكذا مجد دخلتُ الى عالم الإحساس الذي لم أختبره في السابق أبداً. على أية حال، إستطعت الإدراك أن مجده كان هناك على الدوام، لكننا حينما نركِّز عليه بالطريقة التي نعملها في العبادة، فإننا بكل بساطة نبدأ في رؤية مجده بصورة أكثر. كلما نُكثِّف العبادة كلما ننظر مجده أكثر. إن كانت هذه هي السماء، فإنها فعلاً أفضل بكثير مما كنت أحلم به.
إكتشاف مكان إقامتهِ
لم يكن لي علم عن مدى فترة العبادة هذه. فمن الممكن أن تكون قد دامت عدة أشهر، لم تكن هناك طريقة لقياس الوقت في ذلك النوع من المجد. وحدث إني أغلقت عيني في لحظة بسبب المجد الذي كنت أبصره في قلبي فقد كان هكذا عظيماً كرؤيتي له بعيني الجسدية. حينما فتحتُ عيني إندهشت لعدم وجود الرب هناك، بل تواجدتْ أعداد كبيرة من الملائكة واقفة في المكان الذي كنت فيه. إقترب إليَّ أحد الملائكة وقال، "إغلق عينيك ثانية." حينما فعلت ذلك، أبصرت مجد الرب ثانية فارتحت كثيراً.
ثم فسَّر الملاك قائلاً، "ما تراه بعينَي قلبك هو أكثر واقعية مما تراه بعينيك الجسدية." فأنا بنفسي قلتُ بنفسي هذه العبارة عدة مرات، ولكن قليلاً ما مشيت فيها فعلاً! وإستمر الملاك في القول، "لهذا السبب قال الرب لتلاميذه الأولين أنه من الأفضل أن أرحلَ لكي يتمكن الروح القدس من المجئ. الرب يسكن فيك. لقد علَّمتَ ذلك مرات عديدة لكن ينبغي الأن أن تعيشه، لأنك أكلت من شجرة الحياة."
ثم بدأ الملاك يقودني راجعاً الى البوابة ثانية. إعترضتُ بأني لا اريد المغادرة. فتفاجأ الملاك مما جعله يمسكني من ذراعي ويحدق في عيني. حينذاك إستطعت معرفته كملاك يدعى الحكمة، فقال، "لن تغادر هذا البستان أبداً. هذا البستان في قلبك لأن الخالق نفسه هو فيك. رغبتَ في الجزء الأعظم، ألا وهو العبادة والجلوس في محضره على الدوام، وسوف لن يؤخذ ذلك منك أبداً."
أعترفُ بما قاله الحكمة، ثم نظرتُ الى ثمر شجرة الحياة فيما إجتزت الملاك. تواجد فيَّ دافع لم أستطع مقاومته لإنتزاع كل ما أستطيعه قبل مغادرتي. وعارفاً بتفكيري، هزَّني الحكمة بخفةٍ، "لا، حتى هذا الثمر، الذي جُمع في خوف لن يتلف أبداً. هذا الثمر وهذه الشجرة هي في داخلك لأن الرب هو فيك. عليك أن تؤمن."
أغمضتُ عيني وحاولت رؤية الرب ثانية ولكني لم أستطع. عندما فتحت عيني كان الحكمة لا يزال ينظر إليَّ. إستمر الملاك بصبرٍ كثير، "لقد ذُقتَ العالم السماوي، وليس هناك أبداً مَن يريد الرجوع الى المعركة التي سبق أن خاضها. ليس هناك أبداً من يريد مغادرة محضر الرب الجلي. حينما أتى بولس الرسول الى هنا صارع كثيراً بين البقاء والعمل للرب مدى حياته أو الرجوع الى هنا للدخول في ميراثه، ولكن ميراثه يتعظم كلما بقي على الأرض. الأن بعد حوزتك على قلب عابد حقيقي سترغب على الدوام التواجد هنا، وتستطيع ذلك حينما تدخل في عبادةٍ حقيقية. كلما ركَّزتَ بصرك عليه كلما إزداد المجد الذي ستراه، بغض النظر عن المكان الذي أنت فيه."
أهدأتني كلمات الحكمة جداً. ثم أغلقتُ عيني ثانية لأشكر الرب لهذا الإختبار الرائع وللحياة التي أعطاني. فلما حاولت ذلك، بدأت رؤية مجده ثانية، وغمرتْ نفسي كل مشاعر إختبار العبادة السابقة. كانت كلمات الرب لي واضحة وبصوت عالٍ لكي أكون على يقين من سماعها، "لن أتركك أو أتخلى عنك."
فأجبتُ، "يا رب إغفر عدم إيماني. أرجوك ساعدني لئلا أتركك أو أتخلى عنك."
السير مع الحكمة
حينما فتحتُ عيني وإذ بالحكمة ماسكٌ ذراعي بإحكامٍ، "انا الهِبة الرئيسية التي اُعطيت إليك لأجل عملك،" وإستمر بقوله، "ساُريكَ الطريق، وساُحافظ عليك فيها، ولكن المحبة فقط ستجعلك أميناً. أعظمُ حكمة هي أن تحب الرب."
ثم أطلقني الحكمة وبدأ يمشي بإتجاه البوابة. فتبعته بترددٍ. تذكرتُ الإبتهاج وقت المعركة وتسلق الجبل، فقد كان رائعاَ، ولكن ليس بالإمكان مقارنته بحضور الرب والعبادة التي إختبرتها. ومغادراً كل ذلك سيكون أعظم تضحية اُقدِّمها. ثم تذكرت كيف أن كل ذلك كان موجوداً فيَّ، ومنذهلاً من نسيان كل ذلك بسرعة. بدأت أفكر في المعركة العظيمة التي كانت تندلع في داخلي، ما بين ما رأيته بعيني الجسدية وما رأيته بقلبي.
تحركت الى الأمام لأتمكن من السير جنب الحكمة وسألتُ، "لقد صليتُ لفترة 26 سنة لأُخْطفَ الى السماء الثالثة كما حدث مع بولس. هل هذه هي السماء الثالثة؟"
فأجابني، "هذا جزء منه، ولكن هناك الكثير."
فسألتُ، "هل سيُسمح لي رؤية المزيد؟"
فأجابني، "سترى الكثير. سأخذك الأن لترى أكثر."
بدأت أفكر في سفر الرؤيا. فسألتُ، "هل كانت رؤيا يوحنا جزءاً من السماء الثالثة؟"
فأجابني، "جزءٌ من رؤيا يوحنا كانت عن السماء الثالثة، ولكن معظم الرؤيا كانت عن السماء الثانية. أما السماء الأولى فكانت قبل سقوط الإنسان. السماء الثانية هي العالم الروحي إثناء فترة سيادة الشرِّ على الأرض. السماء الثالثة هي حين تسود محبة ومُلك الأب ثانية على الأرض من خلال مَلِكُكَ."
فسألتُ وأنا شاعر ببرودٍ غريب، "كيف كانت السماء الأولى يا ترى؟"
فأجابني رفيقي بحزمٍ وكأن سؤالي صدمه، "من الحكمة أن لا تقلق نفسك بهذا الشئ الأن. الحكمة هي أن تبحث لتعرف عن السماء الثالثة كما عرِفتها الأن. هناك المزيد لتعرفه عن السماء الثالثة عما تعرفه في هذه الحياة، وهي السماء الثالثة (الملكوت) التي ينبغي أن تكرز بها في هذه الحياة. سيُعلن لك الكثير عن السماء الاولى في السنوات القادمة، ولكن ليس من المفيد أن تعرف ذلك في هذه الفترة."
عزمتُ على تحليل البرودة الغريبة التي شعرت بها للتو، فأومأ الحكمة برأسه ليُؤكِّد على ذلك. فقلتُ "إنك رفيق عظيم،" كان ينبغي عليَّ قول ذلك فيما كنت مغموراً بالتقدير لهذا الملاك. وإستمرتُ قائلاً، "إنك ستجعلني أخطو فعلاً في الطريق الصائب."
فأجاب، "سأفعل ذلك بالتأكيد."
كنتُ مُوقناً لشعوري بالمحبة الصادرة من ذاك الملاك فقد كانت فريدة من نوعها، إذ لم أحِسُّ أبداً بمثل هذا الشعور من الملائكة الأخرى الذين أظهروا إهتماماً بالواجب أكثر من المحبة. إستجابَ الحكمة لأفكاري وكأني قلتها له بصوت عالٍ. فقال بجدية واضحة:
"من الحكمة أن نحِبُّ، ولن أكون الحكمة إن لم اُحِبُّك. كما أنه حكمة لتنظر الطيبة وصرامة الله. إنه حكمة أن اُحِبَّه وأن أخافه. تخدعُ نفسك إن فعلت غير ذلك. إنه الدرس التالي الذي عليك أن تتعلمه."
فأستجبتُ شاعراً لأول مرة أنه قد لا يعرفني الحكمة تماماً، "لستُ أعلم ذلك وأنا بنفسي علَّمته للأخرين عدة مرات."
أجاب الحكمة، "كنتُ رفيقك لفترة طويلة، وأنا أعرف ما تُعلِّمه. أما الأن فإنك ستتعلم عن
معنى بعضاً مما تُعلِّمهُ، كما قُلتَ ذلك بنفسك عدة مرات ¢أنه ليس بما تُؤمِنُ به في ذِهنك بل ما ينتج في قلبك في البِرِّ.¢"
إعتذرتُ، شاعراً بقليل من الخجل لأني إستجوبت الحكمة. لكنه قبِلَ إعتذاري بلطفٍ. حينذاك أدركتُ إني كنت إستجوبه وأتحدَّاه معظم حياتي، وكثيراً ما عند الأذية.
النصف الأخر للمحبة
إستمر الحكمة في كلامه، "هناك أوقات لعبادة الرب، وهناك أوقات لإكرام الرب بكل خوفٍ وإحترام. مثلما يتواجد وقت للغرس ووقت للحصاد، وإنه من الحكمة أن تعرف كل تلك الأوقات. فالحكمة الحقيقية هي معرفة الأوقات ومواسم الرب. جلبتكَ الى هنا لأنه حان الوقت لعبادة الرب في مجد محبته. وإني أخذك الأن الى مكان أخر لأنه جاء وقتك لتعبده في خوف حُكمه. إلى أن يحين وقتك لمعرفة كلاهما فإننا سنكون منفصلين عن بعضنا البعض."
فسألتهُ وشكٌّ يراودني، "هل تعني إني لو إنتظرت هناك في تلك العبادة الرائعة لكنتُ فقدتُكَ؟"
"نعم. كنتُ سأزورك دوماً متى إستطعتُ ذلك. لكننا نادراً ما كنا نسير في طريقين متعارضين. إنه من الصعب مغادرة هكذا مجد وسلام، لكن هذه ليست الرؤيا الكاملة للمَلِك. إذ هو أسد يهوذا والخروف. فهو الخروف للأطفال الروحيين. وهو الأسد للناضجين. ولكاملي النضج هو الأسد والخروف. عرِفتَ ذلك في ذِهنك، وسمِعتُكَ تُعلِّم ذلك، ولكن ستعرف ذلك في قلبك الأن، لأنك جاء الوقت لتختبر كرسي حُكم المسيح."
الرجوع الى المعركة
قبل مغادرة بوابات البستان سألتُ الحكمة إن كان بإمكاني الجلوس لبرهة للتأمل في كل ما اختبرته. أجابني، "نعم، عليك أن تفعل ذلك، ولكن لي مكان أفضل لتفعل ذلك."
تبعتُ الحكمة خارج البوابة وإستمرنا في النزول من الجبل. ولصدمتي كانت المعركة لا تزال قائمة، ولكن لم تكن كثيفة كوقت صعودنا الى الجبل. كانت سِهام الإدانة والإفتراء لا تزال تطير على المستويات السفلى للجبل، لكن معظم حشد العدو المتبقي كان يهاجم بضراوة تلك النسور البيضاء العظيمة. لكن النسور كانت تسود على الوضع بسهولة.
إستمرنا في النزول الى أن وصلنا الى قاع الجبل. ولكن فوق مستوى "الخلاص" و"القداسة" بقليل كان مستوى "الحمد والتسبيح". تذكرت هذا المستوى جيداً لأن إحدى هجمات العدو العظيمة جاءت عند محاولتي الوصول إليه. حينما وصلنا الى هناك صار ما بقي من التسلق أكثر سهولةٍ، حتى وإن أصاب سهماً دِرعك فالشفاء كان يحدث بوقتٍ أسرع.
حالما حدَّد العدو مكاني على هذا المستوى (لم ير العدو الحكمة)، بدأ بإطلاق وابل من السهام عليَّ. لكني تغلبت عليها بسهولة بتُرسي مما جعل العدو يتوقف عن الرمي. في هذا الوقت صارت سهام العدو منتهية تقريباً ولم يكن في حالة تسمح في تضييع بقية السهام المتواجدة لديه.
نظر الجنود الذين كانوا لا يزالون يحاربون في هذا المستوى إليَّ بدهشة بطريقة ضايقتني. حينذاك لاحظت مجد الرب ينبعث من سلاحي وترسي. قلت لهم بأن يتسلقوا الى قمة الجبل دون توقف، إذ كانوا يرغبون في رؤية الرب أيضاً. وحال موافقتهم على الذهاب رأوا الحكمة. فبدأوا يجثون قدامه لكنه منعهم وأرسلهم في طريقهم.
الأمين
كنتُ ممتلئاً محبة لهؤلاء الجنود، الذين كان العديد منهم من النساء والأطفال. كانت دروعهم مهترية وكانوا مغطيين بالدم، لكنهم لم يتخلّوا عن القتال. بل كانوا فرحين ومتشجعين. قلت لهم إنهم يستحقون تقديراً أكثر مما أستحقه أنا لأنهم حَمِلوا العبء الأكبر في المعركة ولثباتهم في مواقعهم. بدا لي وكأنهم لم يصدقوني، لكنهم قدَّروا كلامي. على أية حال، شعرت فعلاً بأني أقول ما هو حقٌّ.
كان ينبغي إحتلال كل مستوى من الجبل أو إنتظار مجئ النسور السوداء المتبقية وتلوثه بتقيئها وبِرازها حتى يصعب الوقوف عليه. كانت معظم بروزات الجبل محتلة من قبل جنود عرفتُ إنهم عائدون لطوائف أو حركات مختلفة التي أكدّت حقَّ المستوى الذي كانوا يدافعون عنه. كنتُ مرتبكاً للإرتفاع الذي حافظت عليه تجاه بعضاً من تلك الجماعات. كنت أفكر أن بعضهم لا يدركون الأمور وإنهم إنحرفوا عن الطريق، لكني رأيتهم يحاربون بأمانة ضد هجوم العدو الضاري. من الممكن أن تكون مواقع دفاعاتهم هي التي سَهَّلتْ عليَّ القدرة على الإستمرار في التسلق كما فعلتُ.
كان بعضاً من هذه المستويات في أماكنٍ تشرف على مواضع جيدة في الجبل أو على ساحة المعركة، ولكن بعضاً منها كانت منعزلة جداً إذ لم يستطع الجنود المتواجدين فيها سوى رؤية مواقعهم، وتراءى لي أنهم لا يعرفون ما يجري في بقية المعارك المحتدة. كانوا قد اُصيبوا من الإفتراء والإدانة وكان بالإمكان تشديد مقاومتهم إن نزل إليهم شخص من مستوى عالٍ وشجعهم على التسلق الى الأعلى. على أية حال، حين بدأ البعض بالنزول من القمة مُظهرين مجد الرب، صار المصابين يستمعون بفرح عظيم، وللتو بدأوا بالتسلق بشجاعة وعزم. وفيما كنت أنظر كل ذلك، لم يقل الحكمة الكثير، ولكن بدا عليه الإهتمامُ لرد فعلي.
إكتشاف الحقيقة
كنت أنظر العديد من الجنود المتواجدين على قمة الجبل وهي تنزل الى جميع المستويات لإراحة أؤلئك الذين تمسكوا بهذه الحقوق. وفيما كانوا يفعلون ذلك، بدأ كل مستوى يضئ بالمجد الذي كانوا يحملونه. ثم بدأ كل الجبل يضئ بالمجد الذي أعمى النسور البرية والشياطين المتبقية. بعدها بقليل ظهر مجد عظيم لدرجة أن الجبل بدأ يأخذ ذات الشعور مثل البستان.
بدأت أشكر واُسبِّح الرب وفي الحال كنت في محضره ثانية. صعبٌ عليَّ إحتواء إحساسي والمجد يغمر أعماقي. وكثف الإختبار لدرجة جعلني أتوقف. كان الحكمة واقفاً بجانبي. فقال لي واضِعاً يده على ذراعي، "تدخلُ أبوابه بحمدٍ ودياره بالتسبيح."
وهتفتُ، "لكن ذلك كان حقيقياً جداً! أنا شعرت وكأني متواجد هناك مرة أخرى،"
أجاب الحكمة، "كُنتَ هناك. لم يكن حقيقياً أكثر، ولكنك كُنتَ. مثلما قال الرب للصِّ على الصليب، ¢اليوم ستكون معي في الفردوس.¢ تستطيع أن تدخل الفردوس في أي وقت. فالرب وفردوسه وهذا الجبل جميعهم يسكنون فيك، لأن الرب نفسه في داخلك. ما حدث سابقاً إنما هو تذوق مبدئي قبل أن يكون حقيقياً الأن بالنسبة لك لأنك تسلقت الجبل. فالسبب أنه بإمكانك رؤيتي ولا يستطيع الأخرون رؤيتي هو لأنك دخلت في ذاك الذي أسكنُ فيه. هذه هي الحقيقة التي عرفها الأنبياء والتي أعطتهم جرأة عظيمة حتى في وقت صمودهم لوحدهم أمام الجيوش."
الفخ المميت
ثم نظرت الى المذبحة في الأسفل والى التراجع البطئ للجيش الشيطاني. كان خلفي العديد من المحاربين الرائعين وهم متحصنين بإستمرار في مواقعهم على الجبل. كنت أعلم أنه لدينا ما يكفي للهجوم وتدمير ما بقي من حشد العدو. "ليس بعدُ،" أجابني الحكمة. وإستمر في كلامه، "أنظر الى هناك." فنظرتُ في الإتجاه الذي أشار إليه، لكنه كان علي حماية عيني من المجد المنبعث من درعي لأتمكن من الرؤية. ثم إنتزعتُ لمحةً من حركة تواجدتْ في وادٍ.
لم أستطع إكتشاف ما كنت أراه، لأن المجد الذي كان ينبعث من درعي جعلني أستصعب الرؤية في الظلام. فسألتُ الحكمة لإعطائي شيئاً لتغطية درعي لأتمكن من الرؤية. فأعطاني عباءة لألبسها. أردتُ الإستفسار لأني شعرت ببعض الإهانة لكأبة العباءة، "ما هذه؟" فقال، "الإتضاع" وإستمر في كلامه، "لن تكون قادراً على الرؤية بدونها." فارتديتها على مضضٍ وفي الحال رأيتُ العديد من الأشياء التي لم أستطع رؤيتها سابقاً. نظرتُ بإتجاه الوادي والحركة التي كنتُ قد رأيتها. ولدهشتي كانت هناك فرقة كاملة لحشد العدو في حالة إنتظارٍ لتتربص بأي واحد يجازفُ النزول من الجبل.
سألتُ، "أي جيش هذا؟ وكيف فرّوا من المعركة سالمين؟"
وضّح الحكمة الأمر لي، "هذا هو الإفتخار." وتابعَ كلامه، "هذا هو الجيش الأصعب رؤيته بعد تواجدك في المجد. ستكون معاناة الذين رفضوا إرتداء هذه العباءة أكبر على أيدي العدو الأكثر خِداعاً."
وفيما إلتفتُ الى الجبل رأيت العديد من المحاربين الرائعين وهم يعبرون السهل لمهاجمة ما تبقى من حشد العدو. لم يكن أحداً منهم مرتدياً عباءة الإتضاع ولم يُبصروا العدو الذي كان مستعداً لمهاجمتهم من الخلف. إستعدتُ للركض لإيقافهم، ولكن الحكمة أوقفني قائلاً، "لن تستطيع إيقاف ذلك. لن يعترف بسلطتك إلا الجنود المرتدين هذه العباءة. تعال معي. هناك شئ أخر عليك رؤيته قبل أن تكون قادراً على القيادة في المعركة العظيمة الوشيكة القدوم."
أساس المجد
قادني الحكمة الى أسفل الجبل حيث المستوى الأسفل، المدعو "الخلاص" وأعلن الحكمة قائلاً، "أنت تعتقد أن هذا هو المستوى الأدنى،" وتابع كلامه، "لكن هذا هو أساس الجبل كله. في أي رحلة، أولُ خطوة هي الأكثر أهمية، وهي عادة الأكثر صعوبة. بدون "الخلاص" ليس هناك جبل."
كنت مرتعباً لهول المذبحة على هذا المستوى. فقد كان جميع الجنود مصابين بشدة، ولكن لم يكن أحد منهم ميتاً. وبالكاد أستطاعت هذه الأعداد الكبيرة التمسك بحافة الحياة. بدا على العديد منهم الإستعداد للسقوط في أية لحظة، ولكن لم يفعل أحدٌ ذلك. كانت الملائكة تكرز في كل مكان للجنود بفرح شديد حتى تسائلتُ، "لماذا هم فرحين لهذه الدرجة؟"
قال الحكمة، "هؤلاء الملائكة نظروا الشجاعة التي تمسك بها هؤلاء الجنود. صحيح أن الجنود لم يتقدموا لكنهم أيضاً لم يستسلموا. سيشفون سريعاً، بعدئذٍ سينظرون المجد في بقية الجبل، ومن ثم سيبدأون التسلق. سيكون هؤلاء محاربين عظماء في المعركة الوشيكة القدوم."
فأعترضتُ وأنا أنظر حالتهم، "ألم يكن من الأفضل لهم لو تسلقوا الجبل مثل الباقين أمثالنا؟"
"كان ذلك الأفضل بالنسبة لهم ولكن ليس بالنسبة لك. فببقائهم هنا جعل الأمر سهلاً لتسلقك وذلك بجعلهم معظم الأعداء منشغلين بالمعركة. مدَّ عدد قليل من المتواجدين في المستويات الأعلى أيديهم لمساعدة الأخرين للقدوم الى الجبل، أما هؤلاء ففعلوا ذلك. حتى عندما تمسكوا بالكاد بالجبل، فإنهم كانوا لا يزالون يمدّون أيديهم لرفع الأخرين. في الحقيقة، اُرشِدَ معظم المحاربين الأشداء الى الجبل عن طريق هؤلاء الأمناء. هؤلاء ليسوا بأقل بسالة عن أؤلئك الذين إستطاعوا الوصول الى القمة. فقد جلبوا فرحاً عظيماً للسماء لإرشادهم الأخرين الى "الخلاص". لهذا السبب أرادت جميع ملائكة السماء المجئ للكرازة لهم، ولكن تم السماح للملائكة الأكثر تقديراً لفِعل ذلك."
شعرتُ مرة ثانية بخزيٍّ مريع لموقفي تجاه هؤلاء القديسين العظماء. فالعديد منا سخروا منهم حينما كنا نتسلق المستويات العليا من الجبل. فعل العديد منهم أخطاء إثناء المعركة، ولكنهم أيضاً قدَّموا قلب الراعي أكثر من البقية. سيترك الرب التسعة والتسعين خروفاً ليُفتش عن ذاك المفقود. تثبت هؤلاء في مكانٍ أمكنهم الوصول الى المفقودين، وبذلك دفعوا ثمناً غالياً لعملهم هذا. أنا أيضاً أردتُ مساعدتهم لكنني لم أعرف من أين أبدأ.
ثم قال لي الحكمة، "من الصواب القيام بمساعدتهم، لكنك ستساعد أكثر بذهابك الى ما دُعيت لفعله. سيتعافى هؤلاء وسيتسلقون الجبل بسرعة. سينضمونَ إليك مرة أخرى في المعركة. فهؤلاء لا يعرفون الخوف ولا التراجع أمام العدو."
قوة الإفتخار
كنت أفكرُ كيف يعلمني النزول من الجبل والتسلق عليه حين لفت ضجيج صادر من ساحة المعركة إنتباهي. في هذا الوقت عبر الألاف من المحاربين الشجعان السَهل بغية الهجوم على ما تبقى من حشد العدو. كان العدو يفرُّ من جميع الجهات، ما عدا فرقة واحدة هي الإفتخار. كان جيش الإفتخار يتقدم خِفيةً خلف المحاربين الشجعان وعلى وشك إطلاق وابل من السهام. حينذاك لاحظت أنه لم يكن للمحاربين الشجعان دروعاً على ظهورهم إذ كانوا معرضين بصورة تامة للنسور البرية التي كانت على وشك الإنقضاض عليهم.
حينئذ علّق الحكمة قائلاً، "أنتَ علَّمت أنه لا درع لجهة الظهر، وهذا معناه أنك عرضة للإصابة إن ضُربت من قبل العدو. على أية حال، لن ترَ أبداً كيف ستكون معرضاً للإصابة إن تقدمت في الإفتخار."
لم يكنْ لي إلا أن أومأ برأسي تعبيراً عن شكري. لقد فات الوقت لفعل أي شئ، ولم يكن المشهد يُطاق الرؤية، لكن الحكمة قال لي بأن أنظر ذلك. ولصدمتي، حينما أصابت سهام الإفتخار المحاربين فإنهم لم يلاحظوا ذلك أبداً. على أية حال، إستمر العدو في إطلاق سهامه. كانت الدماء تنزفُ من المحاربين وكانوا يضعفون بسرعة دون أن ينتبهوا لذلك. بعدئذ صاروا ضعفاء جداً حتى على حمل تروسهم وسيوفهم، فألقوها أرضاً معلنين أنهم ليسوا بحاجة إليها بعد. ثم بدأوا بنزع أسلحتهم قائلين أنهم ليسوا بحاجة إليها بعد.
ثم ظهرت فرقة عدو أخرى وتحركت بسرعة. كانت تدعى المخادع القوي. أطلقت الفرقة وابل من السهام أصابت جميعها الأهداف. ثم نظرتُ وإذ بقلة من شياطين المخادعة تقود ذاك الجيش العظيم للمحاربين الشجعان، وتأخذهم أسرى الى معسكرات سجن مختلفة، كل معسكر كان يسمى بحسب مبادئ الشياطين المتنوعة. إنذهلت متسائلاً كيف تم التغلب الكامل على هذه المجموعة العظيمة للأبرار، ومع ذلك لم يعلموا بعد ما الذي أصابهم. وتسأئلت بدون تفكير، "كيف يمكن لهؤلاء الأقوياء جداً الذين صعدوا الى قمة الجبل، الذين رأوا الرب، أن يكونوا عرضة للإصابة؟"
وبتفجعٍ قال الحكمة "الإفتخار هو العدو الأصعب للرؤية فهو دوماً ينسل خلفك،" وتابع كلامه، "أحياناً يكون أؤلئك الذين وصلوا الى الإرتفاع الأعظم هم الأكثر عرضة للسقوط. عليك أن تتذكر دوماً أنه في هذه الحياة بالإمكان سقوطك في أيِّ وقتٍ من أيِّ مستوى. إنتبه أنه حينما تفكر بأنك واقفٌ، خشية أن تسقط، حينما تفكر أنك الأقل عرضة للسقوط إنما تكون في الواقع الأكثر عرضة. معظم الرجال سقطوا بعد الفوز العظيم."
حكمة للقتال
سألتُ، "كيف يمكن أن نحفظ أنفسنا من هكذا هجوم؟"
أجاب الحكمة، "إبقى بجانبي، أطلب الرب قبل عملِ أية قرارات هامة، ضع تلك العباءة عليك دوماً، حينئذ لن يتمكن العدو أبداً من مخادعتك كما فعل مع هؤلاء."
نظرتُ الى عباءتي. فوجدتها بسيطة وتافهة. شعرتُ وكأنها تُشعرني بشخص شريدٍ بدلاً عن مُحاربٍ. أجاب الحكمة وكأني تكلمتُ بصوت عالٍٍ، "الرب قريبٌ للشريدين مما هو للأمراء. لك قوة حقيقية لدرجة يُمكنك السير في نعمة الله، والله يعطي نعمته للمتضعين. لا يستطيع أي سلاح للعدو إختراق هذه العباءة، لأنه لا يستطيع شئ أن يتفوق على نعمة الرب. فما دمت قد إرتديت العباءة فإنك في مأمنٍ من أي نوع هجوم."
ثم رفعتُ نظري لأنظر أعداد المحاربين الذين كانوا ما يزالون على الجبل. صُدمت لرؤية القليلين منهم هناك. ثم لاحظت بأن جميعهم كانوا مرتدين ذات عباءة التواضع. فأردتُ الإستعلام، "كيف حدث ذلك؟"
أجابني الحكمة، "حينما نظروا المعركة التي كُنتَ بنفسك شاهداً عليها، جاءوا إليَّ لطلب المساعدة، وأنا أعطيتهم عباءاتهم."
"لكني فكرتُ أنك كنتَ معي طوال الوقت؟"
أجابني الحكمة، "إني مع جميع أؤلئك الذين يتقدمون لفعل مشيئة الأبِ."
فصرختُ، "أنت الرب!"
أجابني، "نعم،" وتابع كلامه، "قلت لك إني لن أتركك أو أتخلى عنك. إنني مع جميع المحاربين المنتسبين لي مثلما أنا معك. سأكون لك كل ما تحتاجه لتُنجزِ مشيئتي، وأنت إحتجت للحكمة." ثم إختفى.
المرتبة في الملكوت
تُركتُ واقفاً وسط مجموعة كبيرة من الملائكة الذين كانوا يكرزون للمصابين على مستوى "الخلاص". وحالما بدأت المشي مجتازاً تلك الملائكة، رأيتُ المحاربين ينحنونَ على ركبة واحدة ويُظهرون لي إحتراماً عظيماً. وفي النهاية سألتُ واحداً منهم لماذا فعلتم ذلك، لأن الأصغر منهم كان أقوى مني بكثير. فأجابني، "بسبب العباءة،". وتابع كلامه، "هذه هي المرتبة الأعلى في الملكوت."
فأعترضتُ، "هذه إنما هي عباءة بسيطة."
فأحتجَّ الملاك، "كلا. إنك ترتدي نعمة الله. ليست هناك قوة أعظم من ذلك!"
"ولكن هناك الألاف مثلي يرتدون ذات العباءة. كيف يمكن أن تُمثِّلَ هذه العباءة مرتبةً؟"
"أنتم الأبطال المفزِعين، أبناء وبنات المَلِك. الملك نفسه إرتدى ذات العباءة حينما مشى على هذه الأرض. ما دمتَ مرتدياً إياها فإنه ليس هناك قوة في السماء أو على الأرض تستطيع الصمود أمامك. كلُّ واحد في السماء والجحيم يعرف هذه العباءة. نحن خدام الرب، ولكنه يسكن فيك، وأنك مُرتديٍّ نعمته."
علمتُ بطريقة ما أنه إن لم أكن أرتدي تلك العباءة، ولم يكن درعي المتألق مكشوفاً، إضافة الى العبارة التي قالها الملاك وتصرف الملائكة تجاهي، لكان بالإمكان تغذيةُ إفتخاري. فبكل بساطة كان مستحيلاً عليَّ الشعور بالإفتخار مُرتدياً هكذا عباءة كئيبة وبسيطة. على أية حال، كانت ثقتي في العباءة في إزدياد سريع.
رجوع النسور البيضاء
ثم رأيت على الأفق سحابة بيضاء عظيمة وهي تقترب. نشأ أمل فيَّ لرؤيتها. إذ ملأت الجو بأملٍ مثل مطاردة شروق الشمس لظلام الليل. وفيما كان يكبر الأمل إستطعت تمييز النسور البيضاء العظيمة التي طارت من شجرة الليل. وبدأتْ بالهبوط على الجبل أخِذة مواقعها على كل مستوى بجانب مجموعات المحاربين.
إقتربتُ بحذرٍ واحترامٍ الى النسر الذي هبط بالقرب مني لأن حضوره كان رهيباً جداً. عندما نظر إليَّ بعينيه الثاقبتين، علمتُ إني لن أستطيع إخفاء شئ عنه. كانت عينيه بهكذا ضراوة وعزم حتى إني إرتعدتُ وكأن قشعرية سرت في داخلي لمجرَّد النظر إليه. وقبل أن أبدأ بسؤالي، أجابني.
"تريد أن تعرف من نحن. نحن الأنبياء المخفيين الذين حُفظنا لهذه الساعة. نحن عيون أؤلئك الذين مُنحوا الأسلحة الإلهية القوية. نحن نعرضُ كل ما يفعله الرب وكل ما يخططه العدو ضدك. طُفنا في الأرض ونحن معاً نعلم ما يُحتاج إليه للمعركة."
فسألته وأنا ساخط إذ تجرأتُ للتعبير عن مشاعري، "ألم ترَ المعركة التي حدثتْ للتو؟ ألم يكن بإمكانك مساعدة أؤلئك المحاربين الذين اُسِروا؟"
"نعم رأينا ذلك كله، وكان بإمكاننا تقديم المساعدة إن طلبوا ذلك. ولكن مساعدتنا لم تكن إلا لكبحهم. بإمكاننا القتال فقط في المعارك التي يأمرنا الأبُ ونحن نستطيع مساعدة أؤلئك الذين يؤمنون بنا. فقط أؤلئك الذين يقبلوننا على حالنا يستطيعون إستلام مكافأة النبي أو فوائد خدماتنا. فهؤلاء الذين وقعوا في الكمين لم يكن لهم العباءة التي ترتديها أنت، وأؤلئك الذين ليس لهم العباءة لا يستطيعون إدراك من نحن. فجميعنا نحتاج الواحد للأخر، إضافة الى المصابين ههنا وأخرين أيضاً من الذين لم تعرفهم بعد."
قلب النسر
وفيما كنت أتكلم مع النسر بدأت أفكر مثله. إستطعت بعد هذه المناقشة القصيرة رؤية ما في قلب النسر وصرت أعرفهُ كما عرِفَني. أدرك النسر ذلك.
فَنوَّه النسر، "لديك بعضاً من مواهبنا مع إنها لم تتطور جيداً. لم تستخدمها كثيراً. إنني هنا لكي أوقِظ هذه المواهب في العديد منكم، وأن أعلِّمكم كيفية إستخدامها. وبهذه الطريقة سيكون إتصالنا معكم يقيناً. ينبغي أن يكون الإتصال مؤكداً وإلا فإننا سنعاني الكثير من الخسائر غير الضرورية، هذا فضلاً عن فقدان العديد من الفرص العظيمة للنصرة."
فسألته، "من أين أتيتَ الأن؟"
أجابني النسر، "نحن نأكل الأفاعي. العدو هو خبزٌ لنا. طعامنا مصدره من عملِنا مشيئة الأب، وهي تدمير أعمال إبليس. كل أفعى نأكلها تساعدنا في تنمية رؤيتنا. كل معقل للعدو نهدمه يُقوينا ويجعلنا نحلق عالياً ونبقى في الجو لفترة أطول. جئنا للتو من وليمة، فقد إلتهمنا أفاعي الخزي التي قيَّدت العديد من إخوتنا وأخواتنا. سيكونون هم أيضاً ههنا قريباً. إنهم قادمون مع النسور التي تركناها خلفنا لكي تساعدهم في إكتشاف الطريق ولحمايتهم من هجمات العدو المعاكسة."
كان النسور واثقين بأنفسهم، لكنهم لم يكونوا مغرورين. كانوا يعلمون من هم، وما هي دعوتهم لإنجازه. كما كانوا يعرفوننا ويعرفون المستقبل. كانت ثقتهم تعيد اليقين بالنسبة لي، بل تفعل أكثر للمصابين الذين كانوا لا يزالون مطروحين على الأرض حولنا. أؤلئك الذين كانوا في ضعفٍ شديد حتى على الكلام كانوا جالسين يستمعون الى محادثتي مع النسر. كانوا ينظرون إليه مثل طفلٍ مفقود يبحث عن والديه وللتو وجدهما.
ريح الروح
حينما نظر النسر الى المصابين تغيَّرت ملامحه أيضاً. فبدلاً عن العزيمة الشديدة التي تمسكتُ بها تجاه المصابين وجدتُ النسر كجِدٍّ مُسنٍّ رقيقٍ ورحيم. فتح النسر جناحيه وبدأ يرفرفها بلطف، محركاً بخفة نسيماً بارداً ومنعشاً هبَّ على المصابين. لم أشعر بمثل هكذا نسيم في السابق. وفي كل أخذِ نفسٍ كنت أشعر بإحراز قوة وصفاء ذِهنٍ. بعدئذ وقف المصابون على أقدامهم وصاروا يعبدون الله بكل صدقٍ فإمتلئت عيني بالدموع. وشعرت ثانية بخجل عميق لإستهزائي بأؤلئك الذين بقوا على هذا المستوى. إذ بدو لي ضعفاء وبلهاء أمامنا نحن الذين تسلقنا الجبل، لكنهم تحمَّلوا أكثر بكثير مما تحملناه وبقوا أمناء. الله حفِظهم وهم أحبّوه محبة عظيمة.
ورأيت وأنا رافعٌ نظري الى الجبل جميع النسور وهي ترفرف أجنحتها بلطفٍ. وكان كل فردٍ على الجبل كان منتعشاً بالنسيم الذي كانوا يثيرونه، بدأ كل الذين على الجبل يعبدون الرب. تواجد في البداية قليل من التضارب في العبادة الناشئة من المستويات المختلفة، لكنه بعد فترة صار الجميع في كل مستوى يُرنِّمون بإنسجام تامٍ. لم أسمع أبداً أيَّ شئ جميلٍ مثله على الأرض. لم أرِد أبداً أن يصل الى النهاية. بعدها بقليل أدركت بأنها ذات العبادة التي كنا نعرفها في البستان، لكنها تبدو الأن حافلة وأكثر عمقاً. كنت أعلم أنها كذلك لأننا كنا نعبد أمام أعدائنا، وسط ظلمةٍ وشرٍّ عظيم محاط بالجبل، لذلك بدا ذلك جميلاً الى حد كبير.
لم أكن أعرف إن كانت هذه العبادة ستدوم ساعات أو أيام أو دقائق، لكن النسور توقفت أخيراً عن تصفيق أجنحتها وعن الحركة. فسألتُ النسر الذي كنتُ أتحدث معه، "لماذا توقفتم؟"
فأجابني، "لأنهم أصحاء الأن" مشيراً الى المصابين الذين تمكنوا من الوقوف حيث بدا عليهم أنهم في حالة ممتازة. وأضاف النسر، "العبادة الحقيقية تستطيع شفاء أي مجروح،"
فتوسلتُ إليه، "أرجوك إفعل ذلك ثانية،"
"نحن سنفعل ذلك مرات عديدة، ولكن ليس علينا أن نقرِّر الوقت. كان النسيم الذي شعرت به هو الروح القدس. هو الذي يوجهنا، لسنا نحن الذين نوجهه. هو الذي شفى المصابين وبدأ بجلب الإتحاد الذي إحتجنا إليه للمعركة القادمة. كما أن العبادة الحقيقية تسكب الزيت النفيس على الرأس، الذي هو يسوع، ومن ثم يسيل على الجسد كله، جاعلاً إيانا واحداً معه ومع بعضنا البعض. لن يبقى أحدٌ ممن هو مُتَّحِدٌ معه مصاباً أو نجساً. فدمه حياة نقية ويجري حينما نكون متحدين معه. وحينما نكون متحدين معه فإننا متحدون مع بقية الجسد أيضاً، لكي يتدفق دمه خلال الجميع. أليس هذا ما تفعله لشفاء جرحٍ في جسدك، بِِسَدِّكَ الجرح لكي يتمكن الدم من التدفق الى العضو المصاب لجلب التجديد إليه؟ حينما يكون عضو في جسدنا مصاب، فإنه علينا أن نتحد مع ذلك العضو الى أن يُشفى تماماً. فنحن جميعاً واحدٌ فيه."
كان لا يزال الشعور بالنشاط من العبادة مهيمناً لدرجة بدا هذا التعليمُ الضئيلُ الأكثر عمقاً من أي شئ أخر سمعتهُ مع إني كنت أعرفهُ وكنت اُعلِّمهُ بنفسي سابقاً. حينما يتحرك الروح القدس فإن كل كلمة تبدو رائعة بغض النظر عن بساطتها. كما أنها ملئتني بمحبة عظيمة حتى إني أردت ضمَّ كل واحد الى صدري، وبضمنهم النسور الضارية المُسنَّة. وفجأة تذكرت المحاربين الأشداء الذين اُسِروا. أحسَّ النسر بذلك لكنه لم يقل شيئاً بل تفرَّس فيَّ جيداً. وفي النهاية، تكلمتُ جهاراً، "هل نستطيع أن نستعيد أؤلئك الذين فُقِدوا؟"
قلب الملك المجروح
وأخيراً قال النسر، "نعم، حسن لك أن تشعر بما تفعله." وتابع كلامه، "نحن لسنا كاملين وعبادتنا ليست كاملة الى أن يُستعاد الجسد كله. حتى في العبادة الأكثر تألقاً، وحتى في محضر المَلِك، فإننا جميعاً نشعر بهذا الفراغ الى أن يصير الجميع واحداً، لأن مَلِكنا يشعر بذلك أيضاً. فنحن نحزن جميعاً لإخوتنا في العبودية، ولكننا نحزنُ بأكثرٍ لقلب مَلِكنا. فكما تُحبُّ أنت جميع أولادك لكنك تحزن لمن هو مجروح، كذلك المَلِك يُحبُّ جميع أولاده، ولكن المصابين والمضطهَدين يشدُّون معظم إهتمامه الأن. من أجل المَلِكِ علينا أن لا نكفَّ عن العمل حتى يُشفى الجميع. وما دام هناك مصابٌ، فإنه مصابٌ أيضاً"
الإيمان الذي يُحرِّك الجبال
وفيما كنت جالساً مع النسر، فكرتُ بعمق لأقوالهِ. وفي النهاية سألته، "أنا أعلم أنَّ الحكمة يتكلم الأن معي من خلالك، لأني أسمع صوته حينما تتكلم. كنتُ متأكداً من نفسي قبل المعركة الأخيرة، ولكني جُرفت تقريباً بذات الجرأة التي جرفتهم، وكان من الممكن أن يتم القبض علي بسهولة إن لم يوقفني الحكمة. أردتُ خوض المعركة بدافع بُغضِ العدو أكثر من رغبتي في تحرير إخوتي مع أن ذلك كان جزءاً من حوافزي. منذ قدومي الى هذا الجبل ومحاربتي في المعركة العظيمة، إلا أني أدرك الأن بأن معظم الأشياء الصائبة التي فعلتها، إنما فعلتها لأسباب غير صحيحة، وأن معظم الأشياء الخاطئة التي فعلتها، إنما فعلتها لتواجد حوافز جيدة. كلما زادت معرفتي كلما أشعر بأني لست على يقين من نفسي."
أجابُ النسر، "يبدو أنك كنت مع الحكمة لفترة طويلة،"
فقلت، "كان معي لفترة طويلة قبل أن أعرفه، لكني خائف إن كنتُ قاومته معظم تلك الفترة. أعلم الأن بطريقة ما أنه لا يزال ينقصني شئ ذو أهمية كبيرة، شئ عليَّ إحرازه قبل الذهاب الى القتال ثانية، ولكني لست أعلم ما هو."
بدت عيني النسر أكثر حِدَّةٍ عما رأيتها في السابق حين أجابني، "تعرف أيضاً صوت الحكمة حينما يتكلم إليك داخل قلبك. فأنت تتعلم جيداً لأنك ترتدي العباءة. ما تشعر به الأن هو الإيمان الحقيقي."
فأجبتهُ بحزم، "إيمان!" وتابعتُ كلامي، "إنني أتكلم عن شكوكٍ خطيرة."
"إنك حكيم حينما تشكُّ في نفسك. ولكن الإيمان الحقيقي يتوقف على الله، ليس عليك، وليس على إيمانك. فأنت قريب لذاك النوع من الإيمان الذي يستطيع تحريك هذا الجبل، ويجب تحريكه. ولكن لا يزال ينقصك شئ ضروري جداً. ينبغي أن يكون لديك إعلان عظيم عن المَلِكِ. مع إنك تسلقت الى قمة الجبل، واستلمت كل حقٍّ طوال الطريق، ومع إنك وقفت في بستان الله، وذُقت محبته غير المشروطة ورأيت إبنه مرات عديدة ، لكنك لم تفهم سوى جزءاً من مشورة الله الكاملة، وما فهِمتهُ سطحيٌّ أيضاً."
كنت أعلم أن كلامه صائب وسماعه مُعزيٍّ جداً. فقلتُ، "حكمتُ على أناس كثيرين وعلى حالات كثيرة بطريقة خاطئة. الحكمة أنقذ حياتي مرات عديدة، ولكن صوت الحكمة لا يزال صوتاً خفيفاً في داخلي، وأن صُخب أفكاري ومشاعري لا يزال عالٍ جداً. إنني أسمع الحكمة يتكلم من خلالك بصوت أعلى مما أسمعه داخل قلبي، لذا فإني أعلم أنه ينبغي أن أبقى قريباً منك."
أجابَ النسر، "إننا هنا لأنك تحتاجنا." وتابع كلامه، "إننا هنا لأننا نحتاجك. مُنِحتَ مواهب لا أحرزها أنا، مُنِحتُ مواهبٍ لا تحرزها أنت. إختبرتَ أشياءً لم أختبرها أنا، واختبرتُ أشياء ليست معروفة لك. اُعطيتْ لك النسور حتى النهاية، وأنت اُعطيتَ إلينا. سأكون قريباً منك لفترة، ومن ثم ينبغي أن تستلم نسورٌ أخرى مكاني. كل نسرٍ يختلف عن الأخر. ونحن النسور معاً اُعطينا أن نعرف أسرار الرب، وليس كل واحدٍ بمفرده."
أبواب الحق
ثم إرتفع النسر من على الصخرة الجاثم عليها وحلق فوق حافة المستوى الذي كنا واقفين عليه. وقال، "تعال،" وفيما كنتُ أقترب منه رأيت درجات سُلّم قادتني الى قاعدة الجبل. وهناك وجدت باباً صغيراً.
فسألتُ، "لِما لم أرَ هذا سابقاً؟"
أجابني، "حينما جئتَ الى الجبل لم تبقى على هذا المستوى فترة كافية لتنظر ما حولك،"
فقلتُ، "كيف عرفتَ ذلك. هل كُنتَ هنا حينما جئتُ أنا أولاً الى الجبل؟"
أجابني، "أكنتُ أعرف ذلك إن لم أكن هنا، لأن كل الذين فاتهم هذا الباب إنما فعلوا ذلك لنفس السبب، ولكن في الحقيقة كنتُ هنا، كنتُ واحداً من الجنود أخفقتَ في رؤيته عند صعودك الى الجبل."
حينئذ أدركتُ بأن النسر إنما هو إنسانٌ كنتُ قد قابلته بعد هِدايتي، والذي كانت لي فعلاً بعض المحادثات معه. فإستمرَّ، "كنتُ أريد بشغفٍ أن أتبعك أنذاك. بقيتُ على هذا المستوى لفترة طويلة وأحتاجُ الى تغيير. لكني لا أستطيع ترك كل هذه النفوس المفقودة إذ لا زلت أحاول إرشادهم الى هنا. حينما تعهدتُ أخيراً لفعل مشيئة الرب، بغض النظر في البقاء او عدم البقاء هنا، ظهر لي الحكمة وأراني هذا الباب. قال لي إنه الطريق الأقصر الى قمة الجبل. لهذا السبب وصلتُ الى القمة قبلك، ومن ثم تحولتُ الى نسرٍ."
حينئذ تذكرتُ بأني رأيت أبواباً مثل هذا الباب على إثنين من المستويات. حتى إني إختلست النظر خلال بابين منهما وتذكرتُ مدى دهشتي عندما رأيته. لم أتجرأ على الدخول في أحد منهما لأن تركيزي كان على المعركة ومحاولة الوصول الى قمة الجبل. فسألتُ، "هل كنتُ أصِل الى القمة إن كنتُ قد دخلت في إحدى هذه الأبواب؟"
فأجاب النسر بقليل من السخط، "ليس الأمر بهكذا سهولة. فعند مدخل كل بابٍ توجد ممراتٌ، واحد منها يقود الى القمة." وكأنه يعرف سؤالي التالي إستمرَّ في الكلام، "تقود الأبواب الأخرى الى مستويات أخرى من الجبل. وضع الأبُ تصميمها لكي يختار كل واحد مستوى نضجه بحسب إحتياجه."
قلتُ في نفسي، "هذا مستحيل! كيف إستطاع ان يفعل ذلك" ولكن النسر سمع أفكاري. فتابع النسر كلامه وكأني تكلمتُ بصوت عالٍ ما فكرت به، "كان ذلك سهلاً جداً،" وإستمر قائلاً، "النضج الروحي يقرَّرُ دوماً بإستعداد الشخص الذي يريد التضحية بكل رغباته من أجل الملكوت أو من أجل الأخرين."
كنتُ ألاحظ بإنتباه لكل ما قاله لي. كنتُ بطريقة ما أعرف أنه ينبغي الدخول في الباب المتواجد أمامي، وإنه من الحكمة بالنسبة لي تعلُّمَ كل ما أستطيعه من شخص متواجد هناك وبالتالي إختيار الباب الصائب للوصول الى القمة.
وإستمرَّ النسر، "لم أصعد مباشرة الى القمة، كما إني لم أقابل أحداً ممن وصل الى هناك. ولكني وصلتُ الى القمة أسرع من الأكثرية لأني تعلمت الكثير عن التضحية بالنفس فيما كنت اُقاتل على مستوى "الخلاص" هذا. أنا أريتكُ هذا الباب لأنك ترتدي العباءة وكُنتَ ستجده في كل الأحوال، ولكن الوقت قصير وإني هنا لأساعدك لتنضج سريعاً. هناك أبواب على كل مستوى، وكل باب يقود الى كنوزٍ تفوق تصورك. لن يتم الإحراز عليها جسدياً، ولكن كل كنز تمسكه في يديك سيجعلك قادراً على الإستمرار في قلبك. قلبك هو الكنز لبيت الله. فعند وصولك الى القمة ثانية، فإن قلبك سيسع كنوزاً أكثر قيمة من كل كنوز الأرض جميعاً. ولن تُؤخذ منك أبداً، فهي لك الى الأبد، لأنك مُلكٌ لله. إذهب بسرعة. فسُحُب العاصفة تتجمع الأن والمعركة العظيمة وشيكة الحدوث."
فناشدتهُ، "هل ستذهب معي؟"
أجابني، "كلا. إنني عائد الى هذا المكان. لدي الكثير لأفعله لمساعدة أؤلئك المصابين. لكني سأراك ثانية هنا. ستلتقي بالعديد من إخوتي وأخواتي النسور قبل رجوعك، وسيكونوا أكثر قدرة على مساعدتك مني في المكان الذي تلتقي بهم."
كنوز السماء
كنتُ قد أحببت ذلك النسر كثيراً حتى إني لم أرِد مغادرته أبداً. كنتُ سعيداً لمعرفتي إني سأراه ثانية. بدأ الباب يشدُّني الأن مثل المغنطيس. فتحته ودخلت فيه. أذهلني المجد الذي أبصرته جداً حتى إني سقطت في الحال على رُكبتيَّ. فاق جمال الأحجار الكريمة والذهبية والفضية أي شئ رأيته على الأرض. كانت الغرفة كبيرة جداً لدرجة بدت لي وكأنها بلا حدود. كانت الأرضية فضية والقوائم ذهبية، وكان السقف الماسٍ خالِص يبعث ألوان مختلفة إستطعت معرفة قسماً منها ولم أستطع معرفة العديد منها. كانت الملائكة بصورة لا تُعَدُّ متواجدة في كل مكان، ومرتدية أردية وبزَّات لم تكن من مصدر أرضي بتاتاً.
وفيما بدأت السير داخل الغرفة، إنحنتْ جميع الملائكة مُرحِّبةً بي. تقدَّم أحدهم الى الأمام ورحَّب بي قائلاً إسمي. شرح لي أنه بإمكاني الذهاب الى أي مكانٍ ورؤية أي شئ أريده في الغرفة. إذ ليس هناك شئ يعيق الداخلين في هذه الغرفة.
لم أستطع حتى الكلام إذ كنت مغموراً بالجمال المتواجد هناك. ولاحظتُ أخيراً بأنه أكثر جمالاً من البستان الذي رأيته سابقاً. وفاجئني ملاكٌ بقوله، "هذا هو البستان! هذا واحد من الغرف في بيت أبيك. نحن خُدامك."
وفيما كنت أمشي، تبعتني مجموعة عظيمة من الملائكة. إلتفتُ وسألت قائدهم عن سبب المجئ ورائي. فأجابني، "بسبب العباءة. اُعطينا لك لنخدمك هنا وفي المعركة الوشيكة القدوم."
لم أعرِف ما أفعله مع الملائكة فإستمرت في المشي. جَذبتْ إنتباهي أحجارٌ زرقاءة كبيرة وكأن الشمس والسُّحب متواجدة فيها. عندما لمستها إنتابني ذات الشعور الذي غمرني حنيما أكلت ثمر شجرة الحياة. شعرت بطاقة وصفاء عظيم في الذهن، ومحبة لكل واحد ولكل شئ مُمَجَّدٍ. بدأت ألاحظ مجد الرب. وكلما طال لمسي لهذا الحجر كلما إزداد المجد. لم أرِد ابداً ترك يدي من على الحجر، ولكن المجد إزداد بهكذا كثافة حتى جعلني ألتفتُ الى جهة أخرى.
ثم وقعتْ عيني على حجر أخضر جميل. فسألتُ الملاك الواقف بجانبي، "ما الذي يتواجد في هذا الحجر؟"
فأجابني، "كل هذه الأحجار هي كنوز الخلاص. أنت الأن تلمس العالم السماوي، وهذا الحجر هو إستعادة الحياة،"
وفيما لمست الحجر الأخضر بدأت أنظر الأرض في ألوان غنية ومذهلة. كانت تنمو في عمقها كلما طالت فترة بقاء يدي على الحجر وزادت محبتي لكل ما رأته عيني. ثم بدأتُ أرى إنسجاماً ما بين كل الأشياء الحية على مستوى لم أراه قبلاً. ثم بدأت أنظر مجد الرب في الخليقة. بدأ المجد يكبر الى أن جعلني ألتفت الى جهة أخرى بسبب كثافته.
ثم أدركتُ أنه لا فكرة لي عن فترة وجودي هناك. علمت أن إدراكي عن الله وعن الكون الذي خلقه إزداد بصورة جوهرية بمجرد لمسي لهذين الحجرين، لكنه تواجد هناك الكثير منها. تواجدت في تلك الغرفة أحجار أكثر مما يستطيع إنسان إستيعاب هكذا عددٍ في حياته كلها. فسألتُ الملاك، "كم عدد الغرف الأخرى المتواجدة؟"
فأجابني، "هناك غرف مثل هذه على كل مستوى من الجبل تسلقته."
فسألت، "كيف يمكن لشخص إختبار ما يتواجد في غرفة من هذه الغرف، فكم بالحري معظم الغرف؟"
"عليك أن تفعل ذلك على الدوام. هذه الكنوز المحتوية لحقِّ الرب يسوع الأساسية كافية لأن تدوم لعدة حياة حالية تعيشها. لن يستطيع إنسان معرفة كل ما توجب معرفته عن أيٍّ منها في حياة واحدة، ولكن عليك أن تأخذ ما تحتاجه وتحافظ على تقدمك نحو مقصدك."
بدأت بالتفكير ثانية عن المعركة الوشيكة الحدوث، وعن المحاربين الذين اُسروا. لم يكن ذلك تفكيرٌ سارٌ وأنا متواجد في هكذا مكان مجيد، لكني علمت بأنه عليَّ أن أرجع الى هذه الغرفة على الدوام، وإنه لدي فقط فترة قصيرة لأجد طريق الرجوع الى قمة الجبل، ومن ثم الرجوع الى المعركة ثانية.
إلتفتُ الى الملاك وسألته، "عليك أن تساعدني لأجد الباب الذي يؤدي الى قمة الجبل."
أجاب الملاك وهو ينظر إليَّ مُتحيِّراً، "نحن خدامك، عليك أن تقودنا. هذا الجبل كله لغز لنا. نرغب جميعاً النظر في هذا اللغز العظيم، ولكن بعد تركنا لهذه الغرفة التي أتينا إليها لمعرفة القليل عنها، سنكون قد تعلمنا أكثر منك."
فسألتُ، "هل تعرفون أماكن كل الأبواب؟"
أجابني، "نعم، ولكننا لا نعرف الى أين تؤدي. بعض الأبواب جذابة جداً، وبعضها عادي، وبعضها كريه. حتى أن واحداً منها فظيع."
فسألته وأنا في إرتياب، "أتتواجد في هذا المكان أبواب كريهة؟ وأحدها فظيعٌ؟ كيف يمكن أن يحدث هذا؟"
أجابني، "لسنا نعلم، ولكني أستطيع أن أريك إياه."
فقلت، "أرجوك، إفعل ذلك"
تمشينا لبعض الوقت مجتازين الكنوز التي لا يمكن وصفها، والتي وجدتُ صعوبة كبيرة في التوقف للمسها. كان هناك الكثير من الأبواب أيضاً، وفوق كل باب حقٍّ إنجيلي يختلف عن الباب الأخر. حينما دعاها الملاك "جذابة" شعرت بأنه يُصوِّرها على غير حقيقتها. أردتُ بشغفٍ الدخول في كل باب، ولكن حب الإستطلاع عن الباب الفظيع جعلني أستمر في المشي. ثم رأيته. كان "فظيعاً" تماماً كما صرّح بذلك الملاك. إمتلكني الخوف وجعلني بالكاد ألتقط أنفاسي.
النعمة والحق
إبتعدتُ عن الباب وتراجعت بسرعة. كان بقرب الباب حجرٌ أحمر جميل فإندفعت إليه لأضع يدي عليه. وفي الحال وجدتُ نفسي في بُستان جثسيماني أنظرُ الرب وهو يصلي. كان الكرب الذي أبصرته أفظع من الباب الذي للتو رأيته. وإذ كنت مصدوماً سحبت يدي المرتعشة عن الحجر وسقطت على الأرضية في تعبٍ شديد. أردت بإلحاحٍ الرجوع الى الأحجار الزرقاءة أو الخضراءة، ولكن كان عليَّ أن أستجمع قوتي وإحساس التوجيه. وبسرعة كانت الملائكة حولي تخدمني. بعدئذ صرت بحالة أفضل تكفي للقيام وبدء السير راجعاً الى الأحجار الأخرى. على أية حال، معاودة رؤية الرب وهو يصلي أجبرتني على التوقف.
فسألتُ، "ما الذي كان هناك؟"
أجابني الملاك، "حينما تلمسُ الأحجار تكون لدينا القدرة لرؤية القليل مما تراه أنتَ ونشعر القليل مما تشعره أنتَ. نحن نعلم أن هذه الأحجار جميعاً هي كنوز عظيمة، وأن كل هذه الإعلانات المتواجدة فيها لا تُقدَّرُ بثمن. نحن نُبصرُ للحظة كَرَبَ الرَّبِّ قبل صلبه، ونشعرُ بصورة وجيزة ما شعر به في ذلك اليوم الفظيع. يصعب علينا الإدراك عن كيف يمكن لله أن يعاني هكذا معاناة. فذلك يجعلنا أكثر تقديراً لهكذا إمتياز لنخدمك انتَ لِما فعله الله من أجلك."
كانت كلمات الملاك كبَرقٍ يندفع مباشرة داخل نفسي. كنت قد حاربت في المعركة العظيمة وصعدت الى قمة الجبل وصرت مألوفاً للعالم الروحي حتى إني قليلاً ما كنت أنتبه للملائكة كما أني أستطعت التحدث مع الملائكة العظيمة كمساوٍ لهم تقريباً. ومع ذلك لم أستطع تحمُّل المشاركة في لحظةٍ من معاناة مَلِكي دون الحاجة الى الفرار نحو إختبارٍ أكثر مسرَّة. وهتفتُ، "كان ينبغي أن لا أتواجدَ هناك. أنا، أكثر من أي واحدٍ أخر، أستحق أن أكون أسيراً للجيش الشرير!"
وبتحفظٍ قال لي الملاك، "يا سيدي. نحن نفهم أنه ليس أحد يتواجد بإستحقاقٍ. فأنت هنا لأنك اُختِرت قبل تأسيس العالم لغرضٍ. لا نعلم ما هو غرضُك، لكننا نعلم إنه عظيم جداً لكل واحدٍ على هذا الجبل."
"أشكرك. فإنك أعظم مساعدٍ لي. فلإحساسي إمتداد عظيم بهذا المكان، ويميل الى التغلب على إدراكي. أنت على حق. ليس من أحدٍ هنا لكونه مستحق. في الواقع كلما تسلقنا عالياً على هذا الجبل كلما صرنا غير مستحقين للتواجد هناك وكلما احتجنا أكثر الى النعمة للبقاء هناك. كيف إستطعتُ الوصول الى القمة في المرة الأولى؟"
أجابني الملاك، "النعمة"
ثم قلتُ، "إن أردت مساعدتي، أرجوك إستمر في تكرار هذه الكلمة في أي وقت تراني متحيرٌ أو يائس. هذه الكلمة صرت أفهمها أكثر من أي شئ أخر، وهي تجلب دوماً إنارة عظيمة لنفسي." وتابعت كلامي، "عليَّ الأن الرجوع الى الحجر الأحمر. أعلم الأن إنه الكنز الأعظم في هذه الغرفة، وينبغي أن لا أغادر حتى أحمل ذلك الكنز في قلبي،"
كانت كلماتي في هذا الوقت أكثر عزماً مما أشعر به في قلبي، ومع ذلك لم أعرف أن ذلك صواب.
حقُّ النعمة
كان الوقت الذي قضيته عند الحجر الأحمر أكثر الإختبارِ وجعاً. بكل بساطة لم أستطع في كثير من المرات إحتماله بل كان علي أن أسحب يدي من عليه. رجعتُ في عدة مرات الى الأحجار الزرقاءة أو الخضراءة لكي أنعِش نفسي قبل الرجوع إليه. إستصعب عليَّ جداً الرجوع الى الحجر الأحمر في كلِّ مرةٍ، ولكن محبتي وتقديري للرب كان ينمو من خلال لمسي للحجر اكثر من أي شئ أخر تعلمته أو إختبرته.
وأخيراً عندما غادر حضور الأب عن يسوع على الصليب، لم أستطع الصمود أكثر من ذلك. فقررت الإنصراف. أستطيع القول أن الملائكة الذين إختبروا ما كان يجري هناك كانوا متفقين معي تماماً. ببساطة لم تكن قوة الإرادة للمس الحجر ثانية موجودة فيَّ. لم أعد أشعر مثلما كالسابق حينما كنت أرجع الى الحجر الأزرق ثانية. فتمددت على الأرضية باكياً لِما كان الرب يجتازه. وبكيت لأني كنت أعلم بأني تخليت عنه مثل بقية تلاميذه. لقد خذلته حينما إحتاجني كثيراً، تماماً كما فعلوا به.
وبعد فترة بدتْ لي كأيامٍ عديدة، فتحتُ عيني. كان هناك ملاك أخر واقف بجانبي وأمامه ثلاثة أحجار، أزرق وأخضر وأحمر. قال لي، "كُلْ الأحجارَ" حينما فعلت ذلك تجدَّد كل كياني، وغمرتْ نفسي عاطفة وفرح عظيم.
حينما وقفت على قدمي، وقع نظري على الأحجار الثلاثة مثبتة في قبضة سيفي، وعلى ذراعيَّ الإثنين. قال الملاك، "هذه الأحجار هي مِلكُكَ الى الأبد. لن يستطيع أحد أن يأخذها منك، ولن تستطيع أن تفقدها."
فأحتجتُ، "ولكني لم أكل الحجر الأخير،"
أجابني، "يسوع وحده سيُنهي ذلك الإختبار. عملك كان جيداً، ولكن ينبغي أن تغادر الأن."
فسألتُ، "الى أين؟"
فأجابني الملاك وهو ينصرف بسرعة جلية، "عليك أن تُقرِّر، ولكن مع قُصر الوقت أقترحُ بأن تحاول التسلق الى قمة الجبل في أقرب وقت،"
ثم تذكرتُ الأبواب. وفي الحال بدأت أتوجه الى الأبواب الجذابة جداً. حينما وصلت الى الباب الأول لم يَعُد يروق لي بعد. ثم ذهبت الى الباب الأخر فانتابني ذات الشعور. فقلت بصوت عالٍ، "يبدو أن شيئاً قد تغير،"
أجابت مجموعة الملائكة بكاملها في الحال، "أنتَ الذي تغيرت،" فإلتفتُ لأنظر إليهم وكنت مندهشاً من التغيّر الذي جرى لهم. لم تعد لهم ملامح الوجوه الساذجة التي كانت لهم قبلاً، بل كانت ملامحهم أكثر فخامة وحكمة من أي ملاك رأيته سابقاً. علمتُ بأنهم يفكرون ملياً فيما جرى لي، لكني صرت أشعر بأكثر راحة لمجرد التفكير عن نفسي.
قلتُ لقائد الملائكة، "أطلبُ مشورتك،"
فقال لي، "إستمع الى قلبك. فهناك يسكن الأن كل حقٍّ من هذه الحقوق العظيمة."
إستجبت قائلاً، "لم أتمكن أبداً من الوثوق في قلبي، إنه خاضع للعديد من الأوهام والخدع والطموح الأناني، حتى إنه يستصعب سماع الرب وهو يتكلم عن التذمر المتواجد في القلب."
عرض قائد الملائكة كلامه بثقة غير متوقعة، "يا سيدي مع وجود الحجر الأحمر الأن في قلبك، لا أعتقد أن ذلك سيستمر ليكون صُلب الموضوع،" أسندت نفسي على الحائط معتقداً أن النسر لم يكن موجوداً هنا عندما إحتجتَ اليه كثيراً. قد يكون هذا الطريق مألوفاً لديه ويعرف أي باب أختارهُ. ففيما كنت أتأمَّل، كان "الباب الفظيع" هو الوحيد الذي إستطعت التفكير فيه، وبدون فضولٍ قرّرت الرجوع والنظر اليه. كنتُ قد غادرته بسرعة كبيرة في المرة الأولى حتى إني لم ألاحظ الحقَّ الذي يُمثِّله.
فلما إقتربت منه إستطعت الشعور بخوفٍ ينبع في داخلي، ولكن لم يكن رديئاً كما في المرة الأولى. كان مختلفاً عن بقية الأبواب، إذ تواجد ظلام داكن حول الباب، وكان عليَّ أن أقترب أكثر لأقرأ الحقّ الموجود عليه. فقرأتُ وأنا متعجب بعض الشئ: كرسي حكم المسيح. سألتُ بصوت عالٍ عالماً أن الملائكة لن تجيبني، "لماذا يكون هذا الحقُّ مخيف جداً" وفيما كنت أنظر اليه عرفت إنه الباب الوحيد الذي ينبغي عليَّ دخوله.
إستجاب لي الصوتُ المألوف للنسر قائلاً، "هناك أسباب عديدة تجعله مخيفاً"
فأجبتُ، "إنني سعيد بأنك رجعت ثانية. هل عملتُ إختياراً سيئاً؟"
فقال، "كلا! أحسنت الإختيار. هذا الباب سيقودك الى قمة الجبل أسرع من بقية الأبواب. إنه مخيف لأن الخوف الأعظم في الخليقة منشأه من هذا الباب: مخافة الله المقدسة. لمعرفة الحكمة الأعظم في هذه الحياة أو في الحياة القادمة موجود خلال هذه الأبواب، ولكن القليلين سيدخلون من خلالها."
سألتُ، "ولكن لماذا هذا الباب مظلم جداً"
فأجاب، "يعكس نور هذه الأبواب الإنتباه بأن الكنيسة الأن تُقدِّم الحق الموجود خلف الأبواب. فالحق خلف هذا الباب هو الأكثر إهمالاً في هذا الوقت، لكنه الأكثر أهمية من الجميع. ستدرك ذلك عندما تدخل. أعظم سلطة يمكن للإنسان إستلامها ستُؤتمنُ لأؤلئك الذين سيدخلون من خلال هذا الباب. حينما ترى يسوع المسيح جالساً على هذا العرش، ستكون أنت أيضاً مستعداً للجلوس عليه معه."
فسألته، "ثم لن يكون هذا الباب بهكذا ظلام وبغضة إن أعطينا إنتباهاً أكثر لهذا الحقِّ؟"
إستمر الملاك ورثاء في كلامه، "كلامك صائب. إن كانت الناس تعرف المجد ما وراء هذا الباب، فهو الأكثر إشراقاً. على أية حال، لا يزال هذا الباب صعب العبور من خلاله. قيل لي أن أرجع وأشجعك لأنك ستحتاج للتشجيع قريباً. سترى مجداً أعظم ولكن ايضاً رعباً أعظم لم تعرفه أبداً. ولكن إعلم هذا لأنك اخترت الطريق الأصعب الأن. سيكون أسهل لك بكثير فيما بعد. ولأنك مستعد لمواجهة هذا الحقِّ الصعب الأن، فإنك لن تعاني خسارة فيما بعد. يحب الكثيرون معرفة طيبة الرب ولكن القليلين مستعدون لمعرفة صرامته. إن لم تعرف كلاهما ستواجه دوماً خطر الخداع والسقوط من مجده العظيم."
فسألتُ، "أعلم أنه لن يكون بإمكاني المجئ الى هنا إن لم أقضِ الوقت الذي قضيته عند الحجر الأحمر. كيف حاولتُ بجهدٍ أخذَ الطريق السهل في حين كان معارضاً لطبيعة الرب؟"
فأجابني، "ولكنك إخترت الأن، لذلك أسرِع. فهناك معركة عظيمة أخرى وشيكة الحدوث، وأنت مُحتاجٌ في المقدمة."
كُرسي حُكم المسيح
حدقتُ للمرة الأخيرة حول الغرفة العظيمة داخل الجبل. كانت كنوز حقِّ الخلاص محفوظة هناك. تراءى لي أنه لا نهاية لإمتدادها أو لجمالها. لا يمكنني التصور أن تكون الغرف المحتوية على حقوق عظيمة أُخرى للإيمان أكثر تألقاً من هذه الغرفة، وهذا ساعدني لأدرك سبب عدم رغبة الكثير من المسيحيين مغادرة هذا المكان. كانت كل الأحجار الكريمة الضخمة التي تمثل واجهات مختلفة للخلاص تنضح مجداً يفوق أيَّ جمال أرضي. كان ذلك رائعاً يفوق الوصف، وعلمتُ أنه بإمكاني البقاء هنا الى ألأبد دون أيِّ شعور بالضجر.
هتف النسر الذي كان واقفاً بجانبي، "عليك الإستمرار،" ثم إستمر بكلامه بصوت أكثر هدوء، "ليس هناك سلامٌ وأمان أعظم من الثبات في خلاص الرب. جُلِبتَ الى هنا لتعرف ذلك لأنك ستحتاجه في المكان الذي تذهب إليه الأن. ولكن ينبغي أن لا تبقى ههنا لفترة أطول."
لمس تصريح النسر عن السلام والأمان شيئاً في داخلي. فكرت في المحاربين الشجعان الذين قاتلوا في المعركة من المستوى الأول للجبل، "الخلاص"، كان قتالهم عظيماً وحرَّروا الكثيرين، لكن جميعهم اُصيبوا بشدة في المعركة. ثم قاطع النسر أفكاري ثانية وكأنه كان يستمع إليها.
"لله تعريف مختلف عن السلام والأمان عما نعرفه نحن. لأن تكون مصاباً في المعركة هو إمتياز عظيم. لهذا السبب إفتخر بولس الرسول بالضرب والرجم الذي عاناه. ليست هناك شجاعة إن لم يكن هناك خطر حقيقي. حينما قال الرب أنه سيذهب مع يشوع للقتال من أجل أرض الموعد، كان يُحذِّره مرة تلو الأخرى ليكون قوياً وشجاعاً لأنه كان مزمعاً على القتال ومواجهة المخاطر. بهذه الطريقة يختبر الرب أؤلئك المستحقون الوعود ¨C أؤلئك الذين يحبون الله وتدبيره أكثر من سلامة أنفسهم. فالشجاعة هي برهنة الإيمانِ الحقِّ. لم يوعد الرب أبداً أن طريقه سيكون سهلاً، ولكن يُستحقُ المضيّ فيه. حرَّكت شجاعة أؤلئك الذين قاتلوا عند مستوى الخلاص ملائكة السماء لتقدير ما فعله الله في جنس الإنسان الساقط. اُصيب هؤلاء بجروح في الإنقضاض الفظيع، لكنهم لم يستسلموا ولم يتراجعوا. فبتسلقك الجبل يمكنك أن تقاتل بسلطان مما يؤدي الى تحرير نفوسٍ أكثر. ستملأ نفوس أكثر وأكثر هذه الغرف لكي تفرح السماء فرحاً أعظم، إن إستمرتَ."
ثم إلتفتُ ونظرتُ الى الباب المظلم والبغيض الذي كان مكتوباً فوقه: كرسي حكم المسيح. كانت نفسي تُغمر بدفءٍ وسلام في كل مرة أنظر ذلك الباب. أراد كل شئ فيَّ البقاء في تلك الغرفة، لم يكن في داخلي شئ يرغب عبور ذلك الباب. أجاب النسر ثانية لأفكاري.
"قبل أن تدخل الباب إلى أيِّ حقٍّ عظيم فإنه ستكون لك ذات المشاعر. حتى إنك شعرت هكذا حينما دخلت في هذه الغرفة التي تخص كنوز الخلاص. هذه المخاوف هي نتيجة السقوط. إنها ثمر شجرة معرفة الخير والشر. جعلتنا المعرفة عن تلك الشجرة معرضين للخطر ومفكرين في أنفسنا فقط. جعلت معرفة الخير والشر تبدو مخيفة المعرفة الصائبة لله، في حين كل حقٍّ مما ذكرته يقود الى سلام وأمان أعظم. حتى حكم الله ينبغي ان يكون مرغوباً لأن كل طرقه كاملة."
لحد الأن إختبرتُ ما فيه الكفاية لأن أدرك أنَّ ما يبدو دوماً صحيحاً هو طريق الأقل ثمراً وفي بعض الأحيان يقود الى مأساة. خلال رحلتي، الطريق الذي بدا أنه الأكثر مغامرة كان طريقاً أدى الى المكافأة الأعظم. ومع ذلك تراءى لي أنه في كل مرة كانت المغامرة أكبر. فلأخذِ قرار بالإستمرار صار أكثر صعوبة مرة تلو الأخرى.
صرَّح الملاك فيما بدا أقل سخطاً، "يتطلب إيمانٌ أكثر للمضي الى مستوى أعلى للعالم الروحي،" وأضاف ناظراً الى الباب، "أعطانا الرب خريطة للمجئ الى ملكوته حينما قال: ¢مَن أراد أن يُخلِّص نفسه يهلكها، ومن يهلك نفسه من أجلي يجدها.¢ هذه الكلمات فقط تستطيع أن تحفظك على الطريق الى قمة الجبل وتقودك الى النصرة في المعركة العظيمة القادمة. كما ستساعدك للوقوف أمام كرسي حكم المسيح."
عرفتُ أنه عليَّ الذهاب. علمت أنه ينبغي أن أتذكر هذه الغرفة المجيدة وكنوز الخلاص، كما علمت أيضاً أنه ينبغي أن لا أنظر إليها ثانية عند مغادرتي. كان عليَّ الذهاب. إلتفتُ وبكل ما جمعته من شجاعة فتحت الباب الى حيث كرسي حكم المسيح متهيأً للدخول. كانت مجموعة الملائكة المخصصة لي قد أخذت مواقعها حول الباب لكنها لم تدخل الى الغرفة.
فسألتُ فيما كنت محتاجٌ الى اَمانٍ ليكونوا معي، "ما الخبر. ألن تأتوا معي؟"
"المكان الذي تذهب إليه الأن ينبغي أن تذهب إليه لوحدك. نحن سننتظرك عند الجهة الأخرى."
وبدون إستجابةٍ درتُ وبدأت السير قبل أن اُغيِّر فكري. كان أصعبُ شئ فعلته. كنت في أكثر الظلمة رعباً مما إختبرته البتة. نشأ في داخلي خوفٌ رهيب جداً. بعدها بقليل صرت أفكر بأني دخلت الجحيم نفسه. فكرتُ بالتراجع، ولكن حينما نظرتُ الى الخلف لم أستطع رؤية شئ. إنغلق الباب ولم أستطع حتى معرفة المكان الذي كنت واقفاً فيه. عزمت على المضي، فصِرت أمشي ببطء، مُصلّياً الى الرب لكي يساعدني. وإذ فعلت ذلك، بدأ سلام يكبر في قلبي.
ثم لاحظت أن الظلمة لم تعد باردة بعدُ بل شعرت بالراحة. بعدئذٍ بدأت أنظر نوراً خافتاً. بدأ النور يكبر تدريجياً ليصبح نوراً متألقاً وصار بهكذا روعة حتى إني شعرت بأني أدخل السماء ثانية. بدأ المجد يتزايد الأن في كل خطوة. فتسألتُ كيف أن شيئاً رائعاً كهذا أمكنه الدخول الى هكذا ظلمة ورعبٍ. أردت أن أتذوق كل خطوة قبل أخذي الخطوة الأخرى.
أدى الطريق بعدئذ الى قاعة عظيمة حتى إني شعرت بأنها تسع لتحوي الأرض نفسها. ليس بالإمكان تصور جمال القاعة حتى من قبل المهندسين المنفذين لمشاريع ضخمة. لم أختبر أبداً شيئاً كهذا ملأ نفسي فيما كنت ناظراً هذه الغرفة العظيمة. كان المصدر الذي ينبعث منه المجد في نهاية الغرفة. كنتُ أعلم إنه الرب، وكنت خائفاً نوعاً ما فيما كنتُ أسير بإتجاهه. حتى إني لم أفكر في مدى إتساع المسافة بيننا. كان ذلك رائعاً حتى إني شعرت بأني سأمشي الى الأبد وأتمتع بكل خطوة أخطوها. مقارنة بالمقاييس الأرضية التي لا علاقة لها بما يحدث هنا، يمكنني القول بأني كنت أمشي لأيامٍ عديدة للوصول الى العرش.
كانت عيني مركّزة جداً على مجد الرب بحيث إني مشيت لوقت طويل قبل أن أنتبه لإجتيازي أعدادٍ كبيرة من الناس كانوا واقفين في صفوف الى جهتي اليسرى (كما أنه كان الكثيرون على جهتي اليمنى لكنهم كانوا بعيدين عني حتى إني لم أنتبه إليهم حتى وصلت الى العرش). وفيما كنتُ أنظر اليهم إستوجب عليَّ التوقف. كانوا باهرين من شدة الضياء وأكثر فخامة من أيِّ شئ أخر رأيته. كانت ملامحهم تأسر القلب. لم ينعُمَ وجه إنسان هكذا سلام وثقة. كان كل واحد منهم بهكذا جمالٍ يفوق كُلَّ مقارنة أرضية. وفيما إلتفت بإتجاه الذين كانوا قريبين مني رأيتهم ينحنون مُرحِّبين بي وكأنهم يعرفوني.
فسألتُ وأنا متفاجئ لجرأتي لأسألهم سؤالاً كهذا، "كيف عرِفتموني؟"
أجابني أحدهم، "أنت واحدٌ من القديسين الذين قاتلوا في المعركة الأخيرة."
وإستمر في كلامه، "كل واحد هنا يعرِفُك، كما يعرِفُك كل واحدٍ يحارب الأن على الارض. نحن القديسين الذين خدمنا الرب لعدة أجيال قبلك. نحن السحابة العظيمة من الشهود الذين اُعطوا الحقَّ لينظروا المعركة الأخيرة. نحن نعرفكم جميعاً، وننظر كل شئ تفعلونه."
ثم إنتبهتُ الى أحدهم كنتُ أعرفه على الأرض. كان مؤمناً أميناً ولكني لم اُفكِّر أنه فعل أي شئ ذو أهمية. كانت هيئته غير جذابة على الأرض مما جعلَتهُ شخصاً خجولاً. وها هو هنا بذاتِ الهيئة، لكنه بطريقة ما أكثر وسامةٍ من أيِّ شخص عرِفته على الأرض. إتجه نحوي بثقةٍ ووقارٍ لم أكن قد رأيتها فيه، أو في أيِّ شخص أخر قبلاً.
بدأ بقوله، "السماء هي أعظمُ بكثير مما نستطيع أن نحلم به على الأرض،" وتابع وهو ينظر الى ثوبي، "هذه الغرفة هي عتبة ممالك المجد التي تفوق قدرة تصورنا. كما أنه صحيح أن الموت الثاني هو أكثر فظاعة مما فهِمناه. ليست السماء ولا الجحيم مثلما كنا نفكر عنهما. إن كُنتُ أعرِفُ على الأرض ما أعرفه الأن لما عشتُ بالطريقة التي عِشتُها. أنت مباركٌ بنعمة عظيمة لمجيئك الى هنا قبل وفاتك."
ثم نظرتُ الى نفسي. كنت لا أزال أرتدي عباءة التواضع القديمة مع الدرع تحتها. شعرتُ بقذارةٍ وعدم نُضجٍ وأنا واقف أمام أؤلئك الذين كانوا بهكذا فخامةٍ وجمال. بدأتُ أفكر بأني واقع في مشكلة خطيرة إن ظهرتُ هكذا أمام الرب. تمكن أحد معارفي القدماء، مثل النسور، من فِهم أفكاري، فأجابني:
"أؤلئك الذين جاءوا الى هنا مرتدين هذه العباءة ليس هناك ما يخافونه. هذه العباءة هي مرتبة الإمتياز الأعظم، لهذا السبب إنحنى هؤلاء لكَ فيما كُنتَ تجتازهم."
أجبتُ وأنا مرتبك قليلاً، "لم ألاحظ أحداً ينحني لي،"
إستمرَّ قائلاً، "ليس هذا بغير لائقٍ. هنا نُظهِرُ إحتراماً وافياً لكل واحدٍ. حتى الملائكة تخدمنا هنا، لكننا نعبد إلهنا ومسيحه فقط."
كنت لا أزال خجلاً. كان عليَّ أن أُمسِكَ نفسي لأمتنع عن الإنحناء لهؤلاء المتألقين، وفي ذات الوقت أردت إخفاء نفسي لأني وجدت نفسي رديئاً. ثم بدأت أنوح لكون أفكاري تافهة هنا كما هي على الأرض، فكل واحدٍ يعرفني هنا! كما شعرت بنفسي مُلطَّخاً وأحمقاً وأنا واقف أمام أؤلئك العظماء والأنقياء. لكن ذاك الصديق القديم إستجاب ثانية لهذه الأفكار قائلاً:
"لدينا الأن أجساداً غير قابلة للفساد، أما أنت فليس لك. أذهاننا لا تُعيقها الخطية بعدُ. لذلك فإننا قادرون على الإدراك مرات عديدة عما يستطيعه أعظمُ ذِهن أرضي على إدراكه، وسنقضي الأبدية ونحن ننمو في قدراتنا على الإدراك. وكل هذا لكي يكون بإمكاننا أن نعرف الأب، وندرك المجد في خليقته. لن تستطيع على الأرض حتى على إدراك الأدنى مما يعرفونه هنا، ونحن بأنفسنا الأدنى من هؤلاء ههنا."
سألتُ وأنا مرتابٌ، "كيف يمكن أن تكونوا الأدنى؟"
"إنه مكان يخصُّ النبلاء. مكافأتِ حياتنا الأرضية هي مناصب أبدية لنا ههنا. هذه الأعداد الهائلة هنا هي أؤلئك الذين سماهم الرب (العذارى الجاهلات). نحن عرِفنا الرب، ووثقنا في صليبه لكي نتحرر من الإدانة، لكننا في الواقع لم نحيا له، بل لأنفسنا. لم نحفظ أواعينا مملوءة بزيت الروح القدس. لنا حياة أبدية لكننا أضعنا حياتنا على الأرض."
كنتُ مندهشاً لسماع هذا الكلام، لكني علمت أيضاً أنه لا يستطيع أحد أن يكذب في هذا المكان.
فأحتجتُ، "العذارى الجاهلات يَصرّون بأسنانهم في الظلمة الخارجية،"
فقال، "نعم فعلنا ذلك. الحزن الذي إختبرناه عند إدراكنا كيف أضعنا حياتنا، فاق أيِّ حُزن ممكن تصوره على الأرض. يمكن إدراك ظلمة ذلك الحزن أؤلئك الذين إختبروه. تتضاعف تلك الظلمة كثيراً حينما تُكشفُ بجنبِ المجد لذاك الذي خذلناه. أنت واقف الأن ضمن الذين لهم المراتب الأدنى في السماء. ليس هناك أغبياء أعظم من أؤلئك الذين يعرفون خلاص الله العظيم لكنهم يستمرون بالعيش لأنفسهم. فالمجئ الى هنا والتعلم عن حقيقة تلك الحماقة هو حزن يفوق ما تستطيعه نفسٌ أرضية إختباره. نحن أؤلئك الذين عانوا هذه الظلمة الخارجية بسبب هذه الحماقة العظمى."
كنت لا أزال مشكوكاً. فقلتُ، "ولكنك أكثر تألقاً وأكثر إمتلاءاً بسعادة وسلام مما كنت أتصور، حتى لأؤلئك المتواجدين في السماء. لست أشعر بأيِّ ندمٍ فيك، ومع ذلك فإني أعلم أنك لن تستطيع أن تكذب هنا. فكلامك ليس بغير معقول بالنسبة لي."
إستمر في كلامه وهو مُتفرِّس فيَّ جيداً، "الرب أيضاً يحبنا محبة أعظم مما تستطيع إدراكه. ذقتُ أمام كرسي حكمه أعظم ظلمة وندامة يمكن للنفس إختبارها. ومع أنه لا نقيس الوقت هنا كما تفعلون أنتم، لكنه بدا لي وكأنه دام بقدر فترة حياتي على الأرض. كل خطاياي وحماقتي التي لم أندم عليها مرَّت أمامي وأمام كل المتواجدين معي هنا. هذا الحزن لن تستطيع إدراكه الى أن تختبره بنفسك. شعرتُ بأني كنت في أعمق زنزانة للجحيم، حتى وأنا واقف أمام الرب. كان مصمماً حتى اُعيدَ النظر في حياتي تماماً. حينما قلتُ بأنني أسِفٌ وطلبت رحمة صليبه، مسحَ دموعي وأخرجني من الظلمة العظمى. نظرَ إليَّ بمحبة تفوق أي شئ تستطيع إدراكه الأن. وأعطاني هذا الرداء. لم أعد أشعر بالظلمة او المرارة التي عرفتها عند وقوفي أمامه، ولكني أتذكرها. هنا تستطيع أن تتذكر هذه الأشياء دون أن تشعر بالألم. لحظةٌ في قسم السماء الأدنى هي أعظم بكثير من ألف سنة لأفضل حياة على الأرض. تحوَّل حِدادي على حماقتي الى إبتهاج، وأنا أعلم بأني سأعرف السعادة الى الأبد، حتى وإن كنت في المكان الأدنى في السماء."
بدأتُ أفكر ثانية في كنوز الخلاص. وبطريقة ما عرفت أن كل ما قاله لي هذا الرجل قد كشفته لي تلك الكنوز. كل خطوة كنت أخطوها على الجبل، أو في الجبل، كشفتْ أن طرق الرب هي أكثر رهبة وروعة مما كنت أعرفها قبلاً.
إستمر صديقي القديم في كلامه وهو ينظرُ إليَّ بتعمدٍ، "لستَ هنا لكي تفهم بل لكي تختبر. المستوى التالي للمرتبة هو أعظم بكثير من المراتِ لما هو بحوزتنا. كل مستوى بعد ذلك أعظمُ من سابقه. ليس فقط أن الهيكل الروحي لمستوى يختلف عن المستوى الأخر في التألق، بل أيضاً مدى إقتراب كل مستوى الى العرش حيث مصدر المجد كله. ومع ذلك، لم أعد أشعر بحزنٍ لفشلي. فأنا لا أستحق شيئاً. إنني هنا بسبب النعمة وحدها، وأنا شاكر جداً لما هو لي. الرب مُستحق أن نحبه. كان بإمكاني أن أفعل أعمالاً رائعة هنا في ممالك السماء المختلفة، لكني أفضل البقاء هنا والنظر الى المجد، حتى وإن كنتُ عند حافات المستوى الخارجية."
ثم أضاف وهو ينظر بعيداً، "كل واحدٍ في السماء هو في هذه الغرفة الأن لينظُر كشفِ لغزه العظيم، ولينظُر إليكم أنتم الذين ستقاتلون في المعركة الأخيرة."
سألتهُ،
"هل تستطيع رؤية الرب من هنا؟ فأنا أرى مجده من بعيد، لكني لا أستطيع رؤيته."
أجابني، "أستطيع النظر أفضل منك بعدة مرات. نعم أنا أراه وأرى كل ما يفعله،
حتى من موقعي هذا. كما إني أستطيع أن أسمعه أيضاً. أستطيع أن أنظر الأرض. هو
أعطانا كل هذه القدرة. نحن السحابة العظيمة للشهود الذين ينظرون إليكم."
رجع ثانية الى مكانه وبدأتُ أمشي ثانية، محاولاً أن أفهم كل ما قاله لي. وفيما كنت أفكر مليَّاً عن الجمهور العظيم الذين تكلم عنهم بأنهم العذارى الجاهلات، الذين فضَّلوا النوم روحياً على الأرض، وعرِفت أنه إن ظهرت إحداهُنَّ الأن على الأرض لعبدتهم الناس كألهةٍ، ومع ذلك كُنَّ الأدنى مما هو موجود هنا!
ثم بدأتُ في التفكير بكل ما أضعته في حياتي من الوقت. كان تفكيراً أوجعني كثيراً حتى توقفتُ. ثم بدأتْ أجزاء من حياتي تمُرُّ أمامي. بدأت أختبر حزناً شديداً عن خطية واحدة فحسب. أنا أيضاً كنت واحداً من أعظم الأغبياء! قد أكون قد إحتفظت بزيت أكثر في مصباحي عن الأخرين، لكني أعلم الأن مدى حماقتي إذ كنت أقيس ما هو مطلوب مني وأقارنه بما يفعله الأخرين. أنا أيضاً كنت واحداً من العذارى الجاهلات.
حينما فكرتُ إني سأنهار تحت ثقل الإكتشاف الرهيب، تقدّم رجل كنت أعرفه وأُقدِّره كأحد رجال الله العظماء لكي يُثبتني. لمسَتهُ أنعشتني بطريقة ما. رحَّب فيَّ بحرارة. كان رجلاً أردت دوماً أن أكون من تلاميذه. كنت قد قابلته ولكننا لم ننسجم معاً جيداً. وكأناس أخرين حاولتُ الإقتراب اليه لكي أتعلم منه، لكني كنت ساخطاً منه وفي النهاية طلب مني المغادرة. ولسنوات عديدة شعرت بالذنب لما حدث وبأني فقدت فرصة عظيمة بسبب بعض الخلل في شخصيتي. ومع ذلك نسيت الموضوع، إلا إني لا زلت أحمل ثقل فشلي. حينما رأيته هنا تذكرت كل شئ، وانتابني شعور بالمرض. إذ أراه الأن بهكذا فخامة حتى إني شعرت بأكثر إشمئزاز وارتباك لحالتي الحقيرة. أردتُ الإختباء ولكن لم يكن هناك سبيل لتجنبه في هذا المكان. وتفاجئت به إذ كان دِفئه نحوي صادقاً جداً فأراحني تماماً. لم تعد هناك أية حواجز بيننا. في الواقع، محبته التي شعرت بها أزالت تقريباً معظم شعوري الذاتي.
قال لي، "إنتظرتُ بتلهّف لهذا اللقاء،"
سألتهُ، "هل كنت تنتظرني؟ لماذا؟"
"إنك واحد من العديدين الذين أنتظرهم. لم أدرك حتى حكمتُ بأنك واحد من الذين دُعيتُ لمساعدتك، بل لاُتلمِذك، ولكني رفضتُكَ."
إحتجتُ، "يا سيدي، كان إمتيازاً عظيماً لي بأن اُتلمذَ من قبلك، وإني لشاكر للوقت الذي أمضيته معك، ولكني كنت مُتكبراً جداً لذا فإني أستحق رفضك. أعلم أن عصياني وافتخاري أبعداني عن الحصول على أبٍ روحي صادق. لم تكن غلطتك بل غلطتي."
فقال لي، "صحيحٌ أنك كنت فخوراً ولكن لم يكن هو السبب لإنزعاجي منك، بل إنزعجت لعدم الاَمان الذي جعلني أتحكم في كل واحد من حولي. تضايقتُ لأنك لم تكن تقبل كل شئ أقوله دون الإستفهام عنه. ثم بدأتُ أبحث عن أي شئ خطأ فيك لاُبرِّر رفضي لك. بدأت أشعر بأنه إن لم أتحكم فيك فإنك يوماً ما ستخجلني أنا وخدمتي. كنت اُقدِّر خدمتي أكثر من تقديري للناس الذين اُعطوا لي، لذلك أقصيت الكثيرين أمثالك،"
إستمر في كلامه بصدقٍ تجهله ممالك الأرض، "كل الأطفال عصاة، ويفكرون أن العالم يدور حولهم. لهذا السبب يحتاجون للوالدين لتربيتهم. كل طفل يجلب لوماً على عائلته في بعض الأحيان لكنه ما يزال جزءاً من العائلة. أنا طردت الكثيرين من أولاد الله الذين أودعهم لي ليصِلوا الى النضج باَمان. أخفقت مع معظهم. عانى معظمهم من جراحات وفشل مريع، كان بإمكاني مساعدتهم لتجنبها. والكثيرين منهم أسرى لدى العدو الأن. بنيت منظمة كبيرة وكان لي نفوذ هام في الكنيسة، ولكن أعظم المواهب التي أودعها لي الرب كانت أؤلئك الذين اُرسِلوا لي للتلمذة، الذين رفضت الكثيرين منهم. لو لم أكن أنانياً ومهتماً بسمعتي لكنتُ مَلِكاً هنا إذ كنت قد دُعيت للجلوس على أعلى العروش. وكل ما أنجزتهُ أنتَ وما ستُنجزه لكان في حسابي السماوي أيضاً. لكنه بدلاً عن ذلك، أعطيتُ الكثير من إهتمامي لأشياء ذو أهمية أبدية قليلة جداً. أتعتقد أن ما يبدو جيداً على الأرض يبدو مختلفاً جداً هنا؟ هل ما يجعلك مَلِكاً على الأرض سيكون كثيراً ما حجر عثرة لأن تصير ملكاً هنا؟ فما يجعلك مَلِكاً هنا هو الإتضاع وعدم القيمة على الأرض. هل تسامحني؟"
قلتُ وأنا مرتبك قليلاً، "بالطبع. لكني أنا أيضاً أحتاج الى مسامحتك. فأنا لا زلت أفكر أن إحراجك والتمرُّد عليك جعل الوضع صعباً عليك."
أجابني، "صحيح أنك لم تكن مثالياً وأنا فطنتُ لبعض مشاكلك بصورة صحيحة، لكن ذلك لم يكن السبب في رفضي لك. لم يرفض الربُّ العالمَ حينما رأيتُ أنا إخفاق العالم. لم يرفضني الرب حينما رأى خطيتي. فقد بذل حياته لأجلنا. ينبغي على الأعظم دوماً أن يبذل حياته للأصغر. كنتُ أكثر نضجاً. كانت لي سلطة أكثر منك، ولكني أصبحت مثل أحد المعز في المَثلِ. رفضت الرب لرفضي لك وللأخرين الذين أرسلهم لي."
وفيما كان يتكلم، كانت كلماته تنفذ فيَّ بعمق. كنتُ أنا أيضاً مذنباً لكثير من الأشياء كانت تريح فكره. فالعديد من الرجال والنساء الذين تخلصتُ منهم معتبراً إياهم أناساً بدون أهمية يحاولون تضييع وقتي صاروا الأن يمرُّون خلال ذهني. كم أردتُ الرجوع الأن وجمعهم معاً ثانية! فقد كان الحزن الذي صِرتُ أشعر به أسوأ بكثير عن ضياع الوقت. لقد أضعتُ أناساً! العديد منهم في قبضة العدو الأن، مجروحين وأسرى في المعركة التي جرت على الجبل. كل هذه الحرب كانت من أجل الناس، ومع ذلك اُعتبِرتْ الناس الأقل شأناً. سنُقاتل لأجل الحق أكثر من قتالنا لأجل الناس الذين لأجلهم اُعطي الحقُّ. نقاتل لأجل الخدمات الكنسية فيما نركض بنعل مُزوّدٍ بمسامير فوق رؤوس الناس.
وفكرتُ في نفسي، "يعتقد العديد من الناس بأني قائد روحي! لكني في الواقع أنا الأصغر بين القديسين،"
قال رجلٌ أخر عرِفت أنه واحد من أعظم القادة المسيحيين في زمانه، "أفهم كيف تشعرُ. قال بولس الرسول عند نهاية حياته إنه الأصغر بين القديسين. ثم قبل وفاته دعا نفسه ¢الأعظم بين الخطاة¢ ألم يكن قد تعلم في حياته على الأرض أنه هو أيضاً سيكون في خطر لكونه الأصغر بين القديسين في السماء؟ ولكن لأنه تعلم ذلك على الارض لذلك فهو واحد من الأقربين الى الرب، وسيكون واحداً من أعلى المراتب طوال الأبدية."
ناظراً ذلك الرجل في مجموعة "العذارى الجاهلات" كان مفاجأة عظيمة لي إذ لم يخطر على بالي أبداً. فقلتُ له، "لا أستطيع أن أصدق بأنك واحد من الأغبياء الذين فضَّلوا النوم في حياتهم الروحية على الارض. لماذا أنت هنا؟"
"إنني هنا لأني فعلتُ واحدة من الأخطاء المميتة يمكن أن يعملها إنسان اُؤتمن له بإنجيل مخلصنا. تماماً كما إرتقى بولس الرسول الذي لم يكن أدنى من الرسل العظماء الى حساب نفسه أعظم الخطاة. أما أنا فأخذتُ الطريق المعاكس. بدأتُ عارفاً إني واحد من أعظم الخطاة الذين وجد نعمة، ولكني إنتهيت معتقداً بأني واحد من أعظم الرسل. كان ذلك بسبب إفتخاري العظيم، غير مُعرَّض للمخاطرِ كما بقية أصدقائي في هذا المكان، لذا بدأتُ أهاجم كل واحد لا يرى الأشياء كما أراها أنا. أؤلئك الذين تبعوني جرَّدتُ دعوتهم وحتى شخصيتهم، ضاغطاً عليهم ليكونوا جميعهم مثلي، لئلا يكون الذين حولي كما يريدون لأنفسهم. لم يتجرأ أحد أن يسألني لأني كنت سأسحقهم مُحَوِّلاً إياهم الى مسحوق، كنت أفكر أنه بجعلي الأخرين أدنى شأناً سأجعل نفسي عظيماً. فكرتُ بأنه من المفروض أن أكونَ الروح القدس لكل واحد. كانت خدمتي من الخارج تظهر كماكنة تُدار بنعومة حيث تواجد الجميع في إتفاق وكل شئ في ترتيب كامل، ولكنه كان أمرٌ لمعسكر إعتقال. أخذت أولاد الرب وجعلتهم اُناس أليِّين طبق الأصل لصورتي وليس لصورة الرب. وفي النهاية وجدت نفسي بأني لا أخدم الرب بل أخدم الوثن الذي بنيته لنفسي. وعند نهاية حياتي صرت في الواقع عدّواً للإنجيل الحقِّ، على الأقل في التطبيق، حتى وإن بدت كتاباتي وتعليمي خالية من أخطاءٍ وعيوبٍ كِتابياً."
فسألته، "إن كان ذلك صحيحاً بأنك أصبحت عدواً للإنجيل، فلماذا أنت هنا؟"
"إني هنا بنعمة الرب، كنتُ أثق في الصليب لخلاص نفسي، ومع ذلك منعتُ الأخرين عنه، مُرشداً إياهم الى نفسي بدلاً من إرشادهم للرب. يبقى الرب أميناً لنا حتى وإن لم نكن أمناء. كما أنه بنعمته أخذني الرب من الأرض قبل الوقت لكي يعطي الفرصة لأؤلئك الذين كانوا تحت سيطرتي بأن يجدوه ويعرفوه."
لم يصدمني شئ أكثر من الإعتقاد أن يكون أمر هذا الرجل صحيحاً. فالتاريخ أعطانا عنه صورة مختلفة تماماً. إستمر في كلامه وكأنه يقرأ ما يجري في قلبي:
"لله مجموعة من كتب التاريخ تختلف عما هو موجود على الأرض. كانت لكَ لمحة عنها، لكنك لست تعلم بعد عن مدى الإختلاف. التاريخ الأرضي سيزول ولكن الكتب الموجودة هنا ستدوم الى الأبد. إن إستطعت أن تبتهج بما تسجله السماء عن حياتك، فإنك مبارك فعلاً. الناس تنظر من خلال زجاج غامض، لذلك سيكون تاريخهم معتِماً دوماً، وبعض الأحيان مغلوطاً تماماً. قلة من الناس، بل في الواقع قلة من المسيحيين لهم موهبة التمييز. بدون هذه الموهبة يستحيل أن تُميِّز الحقِّ بدقة في الناس المتواجدين في الوقت الحاضر أو الماضي. حتى بوجود هذه الموهبة ليس الأمر سهلاً. الى أن تتواجد هنا وتُجرَّد مما لك، فإنك ستستمر في الحُكم على الأخرين من خلال تحيِّز مُشوّه، سواء إيجابياً أم سلبياً. لهذا السبب اُنذِرنا بأن لا نحكُم قبل الوقت. الى أن نتواجد هنا فإننا لن نتمكن أبداً من معرفة ما في قلوب الأخرين، سواء كانوا يُنجزون أعمالاً جيدة أم شريرة. تواجَدتْ حوافز جيدة حتى في أسوأ الناس، وحوافز شريرة حتى في أفضل الناس. في هذا المكان فقط يتمكن الناس من إستلام الحُكم لأعمالهم وحوافزهم."
فسألتهُ، "حينما أرجعُ الى الأرض، هل سأكون قادراً على تمييز التاريخ بدقةٍ لتواجدي هنا حالياً."
أنهى الإصلاحي العظيم كلامه قائلاً، "أنت هنا لأنك صليت الى الرب ليحكُم عليك بصرامة، لكي يُصحِّحك بقساوة، لكي تستطيع أن تخدمه بصورة أفضل. كان هذا واحداً من أحكم طِلباتك على الإطلاق. فالحكماء يحكمون على أنفسهم خشية أن يُحكم عليهم. حتى أن أفضل الحكماء يلتمسون أحكام الرب، لأنهم يدركون عدم إمكانهم حتى على الحُكم على أنفسهم بصورة جيدة. ولأنك متواجد هنا فإنك ستغادره بحكمة وتمييز أفضل بكثير، لكنك على الأرض ستنظر دوماً من خلال زجاج غامض لدرجةٍ ما على الأقل. ستساعدك خبرتك هنا لتعرف الناس بصورة أفضل، ولكن عند تواجدك هنا فإنك ستعرفهم تماماً بكل معنى الكلمة. حينما تغادر السماء ستأخذ إنطباعاً أكثر عن مدى القلة ما تعرفه عن الناس بدلاً عن مدى معرفة الكثير عنهم. هذا صحيح تماماً فيما يتعلق بتاريخ الناس. سُمح لي بالتكلم معك لأني الى حد ما تلمذتك من خلال كتاباتي، ومعرفة حقيقتي سيساعدك بشكل كبير"
ثم تقدمت إمرأة الى الأمام لا معرفة لي بها. كانت ذات جمال ورشاقة مثيرٍ، ولكن ليس بصورة شهوانية أو مغرية بطريقة ما بل كانت تعريفاً للوقار والنبل.
بدأتْ الكلام قائلة، "كنتُ زوجته على الأرض. الكثير الذي تعرفه عن زوجي أتى مني، لذلك ما سأقوله ليس فقط عنه، بل عن كِلانا. بإمكانك إصلاح الكنيسة دون أن تصلح نفسك. تستطيع أن تملي كلاماً عن مسلك التاريخ، ومع ذلك لا تفعل مشيئة الأب أو تمجيد الإبن. إن تعهدتَ لنفسك بصنع تاريخ إنساني، يمكنك أن تفعل ذلك، لكنه إنجاز سريع الزوال سيتبخر مثل دخان."
فأحتجتُ، "ولكن عمل زوجكِ، أو عملك، أثّر بصورة عظيمة على كل جيل بعده لحد الأن. يصعب لي أن أتصور مدى الظلام الذي سيعانيه العالم بدونه."
"هذا صحيح. ولكن تستطيع أن تربح العالم كله ومع ذلك تخسر نفسك. إلا إذا حفظت نفسك نقية حينئذ تستطيع أن تؤثر على العالم لأجل قصد الله الأبديِّ. خسر زوجي نفسه لي، ولم يربحها إلا عند نهاية حياته لأني أُخِذتُ من الأرض لكي يتمكن من ذلك. فعل الكثير ولكن أكثره كان لي مما للرب. ضغطتُ عليه، حتى إني أعطيته الكثير من المعرفة التي علَّمها للأخرين. إستغلته كإمتداد لغروري، لأني كإمراة لم يُعترف بي في حينه كقائد روحي. هيمنت عليه لكي أستطيع أن أعيش حياتي من خلاله. ومن ثم جعلته يفعل كل شئ لكي يبرهن لي نفسه."
قلتُ له وأنا أنظر إليه، "يبدو أنك كنت تحبها كثيراً جداً،"
"كلا. لم أحبها أبداً. ولا هي أحبتني. في الواقع، بعد سنوات قليلة من الزواج لم يعد يميل الواحد للأخر. لكننا إحتجنا الواحد للأخر، لذلك وجدنا طريقة للعمل معاً. وكلما كنا ننجح بهذه الطريقة كلما صرنا أكثر تعاسة، ومن ثم تعوّدنا أن نكون أكثر خداعاً لإحتيال الذين كانوا يتبعوننا. كنا تعساء فارغين عند نهاية حياتنا. كلما كسبتَ نفوذاً أكثر بترقية نفسك كلما إزداد نضالك للإحتفاظ بنفوذك، وزادت حياتك ظلاماً وقساوة. ملوك كانوا يخافوننا، لكننا كنا نخاف كل واحدٍ من مرتبة الملوك الى القرويين. لم نكن نثق بأحدٍ لأننا كنا نعيش في خداع أنفسنا لدرجة لم نكن نثق أحدنا في الأخر. كرزنا عن المحبة والثقة لأننا أردنا كل واحد أن يحبنا ويثق بنا، لكننا كنا نخاف وبسرية كنا نستخِفُّ بكل واحدٍ. إن كرِزتَ أعظم حقٍّ لكنك لا تعيشه فإنك أعظم منافق."
بدأ كلامهم يدق فيَّ كمطرقة، إذ إستطعت رؤية حياتي وهي متجهة ذات الإتجاه. كم كنتُ أفعل لترقية نفسي بدلاً عن المسيح؟ بدأتُ أرى كل ما فعلته لاُبرهِن نفسي للأخرين، خاصة لأؤلئك الذين لا يحبونني، أو الذين شعرت إني اُنافسهم بطريقة ما. بدأتُ أرى الكثير من حياتي مبنياً على المظاهر الكذابة لهيئة بارزة تناقض حقيقتي فعلاً. ولكني لم أستطع الإختباء هنا. لأن هذه السحابة العظيمة مِن الشهود تعرِفُ مَن كنتُ أنا ما وراء حجاب حوافزي البارزة.
نظرت ثانية اليهما، فرأيتهما صريحان ونبيلان حقاً حتى أنه كان من المستحيل أن أسأل عن حوافزهما. كانا سعداء في عرضِ أكثر خطاياهم الملتوية لأجل نفسي، وكانا سعداء بصدقٍ لقدرتهما على فعل ذلك.
قلت له وأنا أنوح رائداً بشدة تذكر كل تفاصيل هذا اللقاء، "قد أكون أخذتُ مفهوم خاطئ عن تاريخك وكتاباتك، أما الأن فإني اُقدِّرك أكثر. اُصلي بأن أتمكن من أن أحمِلَ من هذا المكان الإستقامة والحرية التي لكما الأن. تعبتُ من محاولة العيش للوصول الى صورة بارزة لنفسي. كم أتوق لهذه الحرية." ثم قدَّم الإصلاحي الشهير نصيحته الأخيرة قائلاً:
" لا تحاول أن تُعلِّم الأخرين بأن يفعلوا ما تفعله أنت. الإصلاح ليس عقيدة. مصدر الإصلاح الحقيقي هو من الإتحاد مع المُخلِّص فقط. حينما ترتبط بالمسيح، حاملاً الأعباء التي يُعطيك إياها، فهو سيكون معك ويحملها عنك. فإنك تعمل عمله فقط حينما تعمله معه، وليس مجرَّد له. الروح فقط يستطيع أن يولد ما هو روح. إن ربطت نفسك معه فإنك لن تفعل شيئاً لأجل السياسة أو التاريخ. إن فعلت أي شئ لأجل ضغوط سياسية أو فُرَصٍ ما فإن ذلك سيقودك الى نهاية خدمتك. ستقضي الأشياء التي تُعمل لأجل محاولتك صنع تاريخ على كل إنجازاتك، وسيخفِق تأثيرك الى الأبد. إن لم تحيا ما تكرزه للأخرين فإنك تُحرِّم نفسك من دعوة الله السامية، كما فعلنا نحن. سأقول لك ما يحفظك على طريق الحياة: أحِب المخلِّص وابحث عن مجده فقط. كل شئ تفعله لتمجيد نفسك سيجلب لك أكبر إذلال مريع يوماً ما. أي شئ تفعله من محبتك الصادقة للمخلِّص لتمجيد إسمه سيُوسِّع حدود ملكوته الأبديِّ، وفي النهاية يؤدي بك الى مكان أعلى سموّاً. عِش لما يُسجل هنا، ولا تهتم بما يُسجل على الارض."
بعد رحليهما غُمِرتُ بخطيتي. تذكرت إني في أوقات إستخدمت أُناساً لأهدافي الخاصة، أو حتى إستخدام مجد إسم يسوع، لتوسيع طموحاتي، أو لإظهار نفسي بصورة أفضل، كل ذلك بدأ يسقط عليَّ. في هذا المكان الذي فيه إستطعت رؤية قوة ومجد ذاك الذي إستغلته كثيراً، صار لي ذات المكان أكثر بُغضاً من أن أستطيع الصمود فيه. سقطت على وجهي في أسوأ يأس عرفته. فبعدما تراءى لي كأبديةٍ رؤية أؤلئك الناس وهذه الأحداث العابرة أمامي، شعرت بالمرأة وهي ترفعني لأقف على قدمي ثانية. قهرتني نقاوتها خاصة وأنا شاعر الأن بهكذا شرٍّ وفسادٍ. كانت لي رغبة عميقة لأعبدها لأنها كانت نقية جداً.
قالت لي مُشدِّدة في كلامها، "إلتفتْ الى الإبن،" وتابعت، "رغبتك لعبادتي أو لعبادة أخر في هذا الوقت إنما هو محاولة لصرف الإنتباه عن نفسك، وتبرير نفسك بخدمة لا تريدها. إنني نقية لأني وجَّهتُ نظري إليه. أنت تحتاج لأن ترى الفساد الموجود في قلبك، حينئذ ينبغي أن لا تسكن في نفسك، وأن لا تبحث لتبرير نفسك بأعمال ميتة، ولكن وجِّه نظرك إليه."
قالت كلامها بمحبة صادقة وبإهتمام حتى إنه إستحال أن يؤذيني أو يسيء لي. حينما لاحظت إني فهمت كلامها، إستمرت قائلة:
"النقاوة التي تراها فيَّ رأها زوجي فيَّ أولاً حينما كنا شباباً. كنتُ نسبياً نقية في حوافزي في ذلك الوقت، ولكني أفسدت محبته وأفسدت نقاوتي مخطئةً بالسماح له لعبادتي. لن تستطيع أبداً أن تكون نقياً لمجرَّد عبادتك لشخصٍ أنقى منك، بل بتجاوزهم جميعاً وإيجاد ذاك الذي جعلهم أنقياء، الوحيد الذي لا خطية فيه. كلما كانت الناس تمجِّدنا كلما كنا نقبل مجدهم لنا ويزداد انحرافنا عن طريق الحياة. ثم بدأنا نعيش لإكتساب مجد الناس والحصول على قوة نستخدمها ضد أؤلئك الذين لا يُمجِّدوننا. هكذا كان زوالنا، وهذا ما حدث للعديد من الموجودين هنا في القسم الأدنى، نحن الذين كنا قد دُعينا لنكون في الأماكن العليا."
وإذ أردتُ إطالة الحديث، سألتُ ما ورد في ذهني، "هل يصعب عليكِ وزوجكِ أن تكونا معاً هنا؟"
"أبداً. كل العلاقات التي لكم على الأرض مستمرة هنا، والجميع أنقياء هنا بسبب الحُكم الإلهي. كلما تكون مغفوراً كلما تزداد محبتك. بالطبع غفر لنا الرب أكثر من أي واحد، ونحن هنا نحبه أكثر من أي واحد أخر. وبعد أن غفرنا الواحد الأخر صرنا نحب أكثر الواحد الأخر. الأن علاقتنا مستمرة في عمق وصفاء أعظم لأننا وارثين مشتركين لهذا الخلاص. كلما تَعمَّقتْ جراحاته هكذا تعمقت الأن محبته لأجل شفائنا. كان بإمكاننا أن نختبر ذلك على الأرض، لكننا لم نتعلم المغفرة في حينه. إن كنا تعلمنا المغفرة، لما تمكنتْ المنافسة التي دخلت في علاقتنا وحرَّفت طريق حياتنا أن تعمل جذوراً فينا. إن أحببتَ بصدقٍ فإنك ستغفر بسهولة. كلما إستصعبتْ عليكَ المغفرة كلما إبتعدتَ عن المحبة الصادقة. المغفرة ضرورية إن أردت البقاء على طريق الحياة. بدون المغفرة يمكن لكثير من الأشياء أن تحرِّف الطريق الذي اُختير لك."
حينئذ أدركتُ أن هذه المرأة التي جلبتني الى هذه المواجهة لكي أتألم عن فسادي، كانت أيضاً أكثر إمرأة فاتنة قابلتها في حياتي. لم يكن إنجذاب عاطفي، لكني لم أرِد تركها. ومُدرِكة لأفكاري تراجعتْ خطوة مؤشِرةً بأنها على وشك الرحيل لكنها قدَّمت لي ملاحظة أخيرة.
"الحق النقي المُعطى بمحبة نقية يجذب الناس على الدوام. ستتذكر الألم الذي تشعر به الأن وهو سيساعدك بقية حياتك. الألم جيد، فهو يُظهر لك تواجد المشكلة. لا تحاول أن تخفف من الألم الى أن تجد مصدر المشكلة. كثيراً ما يجلبُ حقّ الله ألماً إذ يُبرز مشكلة نعانيها، ولكن حقَّه سيُظهر لنا دوماً الطريق الى الحرية والى حياة حقيقية. حينما تعرف ذلك فإنك ستبدأ في الإبتهاج في تجاربك، التي سُمح بها لتساعدك على السير في طريق الحياة."
"كما أن إنجذابك نحوي لم يكن غير لائق، إنه إنجذاب ما بين ذكر وأنثى اُعطي منذ البداية، وهو دوماً نقي في شكله الحقيقي. حينما يُربط حقٌّ نقيٌّ مع محبة نقية، فإن الرجال يُمكن أن يكونوا الرجال الذين خُلقوا لا لكي يُهيمنوا بخوفٍ، والنساء ممكن أن يكونوا النساء اللواتي خُلقن لأن محبتهم حلَّت محل الخوف. لا يمكن التلاعب أبداً بالمحبة أو محاولة السيطرة عليها بخوف لأن المحبة تطرد كل خوف. في ذات المكان الذي تكون فيه العلاقات أكثر فساداً يمكن أن يكون مكاناً فيه أكثر مسرَّةٍ. وفيما يتجدد ذهنك بروح الحق فإنك لن ترى العلاقات كفرصة تستلمها من الأخرين بل لإعطائها لهم. العطاء هو أعظم مسرَّةٍ بإمكاننا معرفته. إنه مذاق السماء حيث نعطيه للرب في عبادة طاهرة، والذي فيه نشوة حتى أن أكثر العلاقات روعة على الأرض ليست إلا لمحة عنه سريعة الزوال. ما نختبره في العبادة هنا لا يمكن لجسدك الصغير والضعيف غير الممجد أن يحتمله. ستُطَهِّرُ العبادة الصادقة لله النفسَ لإمجاد العلاقات الصادقة. لذلك، عليك أن لا تبحث عن علاقات، بل عن عبادة صادقة. حينذاك فقط تبدأ العلاقات لتكون ما يفترض فيها أن تكون. المحبة الصادقة لا تبحث مطلقاً عن الهيمنة، بل عن المكان الأوطأ للخدمة. إن كنا أنا وزوجي إحتفظنا بهذا الشئ في زواجنا، لكنا جالسين بجنب المَلِك الأن، ولكانت هذه القاعة العظيمة ممتلئة بنفوس أكثر بكثير."
وبكلامها هذا إختفتْ المرأة بين مراتب القديسين الممجدين. نظرتُ ثانية بإتجاه العرش والمجد الذي بدا أكثر جمالاً مما لمحته سابقاً. وضَّح لي الأمر رجلاً كان واقفاً بالقرب مني:
"في كل لقاء، فإن حجابٌ يُزال لكي تتمكن من رؤية الرب بأكثر وضوح. لن تتغير أنتَ بمجرَّد رؤية مجده بل برؤية مجده بوجه غير مُحَجَّبٍ. كل من يأتي الى حُكم الله الحقِّ فإنه سيمشي في رواق كهذا الرواقِ ليلتقي بأؤلئك الذين بإمكانهم المساعدة في إزالة أي نوع حجابٍ لا يزالون يرتدونه، فهي أحجبةٌ تُشوِّه رؤيتهم للرب."
إستوعبتُ الأن فِهماً أكثر مما أعطتني دراستي لسنوات عديدة على الأرض. فبدأت أشعر أنه لم تقودني كل دراساتي وبحثي على الأرض الى الأمام إلا لخطوة قوقعٍ بطيئة. كيف يمكن أن تُعِدُّني عدة أعمار الى الحكم؟ فحياتي لا تؤهلني كثيراً عن جميع أؤلئك الذين قابلتهم هنا، الذين بالكاد إستطاعوا الوصول الى هنا.
ثم برز رجل أخر من بين المراتب. كان مثل عُمري ولم أكن أعلم أنه توفي. لم ألتقي به على الأرض أبداً، ولكن كانت له خدمة عظيمة كنت اُقدِّرها كثيراً جداً، أرشدَتِ الألاف الى الخلاص من خلال الناس الذين درَّبهم، ونشأت عدة كنائس عظيمة. سألني إن كان بإمكانه أن يعانقني لدقيقة، فوافقتُ وأنا شاعرٌ ببعض الحرج. حينما تعانقنا مع بعضنا شعرت بمحبة كبيرة خارجة منه حتى أنَّ ألمي الكبير المتواجد في أعماقي توقف مفعوله. كنت مُتعوِّداً جداً على الألم حتى إني لم أنتبه له حتى توقف. بعد أن أطلقني الرجل قلتُ له أن معانقته شفتني من شئ ما. فرح بعمقٍ حين سمع ذلك. حينئذ بدأ يقول لي عن سبب تواجده في المرتبة الأدنى في السماء.
"أصبحت متكبراً جداً عند نهاية حياتي حتى إني لم أكن أتصوّر أن يفعل الرب أي شئ هام إلا إذا عمله من خلالي. بدأتُ ألمس مِسحة الرب، وأقوم بألإساءة الى أنبيائه. كنتُ أنانياً في إفتخاري حينما إستخدم الرب أحد تلاميذي، وأصبحت غيوراً حين كان الرب يتحرك من خلال أي فردٍ خارج خدمتي. كنتُ أبحث عن أي شئ خطأ يتواجد فيهم لأقوم بالهجوم عليهم. لم أكن أعلم إني في كل مرة أفعل ذلك بأني أنخفض مرتبة أخرى."
فقلتُ وأنا متفاجئ، "لم أكن أعلم أنك عملت أي شئ كهذا،"
"إنني حرَّضتُ أناساً في خدمتي ليتحققوا من الأخرين ويعملوا عملي القذر. طلبت منهم أن يطوفوا في الأرض ليجدوا أي خطأ أو خطية في حياة الأخرين بهدف فضحهم. أصبحت أسوأ شئ يمكن أن يصله إنسان على الأرض، صرت حجر عثرة تنتج أحجار عثرة أخرى. زرعنا الخوف والإنشقاق في الكنائس، كل هذا بإسم المدافعة عن الحقِّ. كنت متجهاً ببِرِّي الذاتي الى الهلاك. لكن الرب سمح برحمته العظيمة أن اُصيب بمرض ليُسبب موتاً بطيئاً ومخزياً. وقبل وفاتي رجعتُ الى صوابي وتبت. إني لشاكر لتواجدي هنا. قد أكون واحداً من الأقل مرتبة من التابعين للرب هنا ولكن هذا أكثر بكثير مما أستحقه. لم أستطع مغادرة هذه الغرفة الى أن اُعطيتُ فرصة لأعتذر لهؤلاء أمثالك لكوني مخطئاً في حقكم."
فقلتُ، "لم تفعل أي ضرر لي."
فأجاب، "أوه، لكني فعلت ذلك فعلاً. كان العديد من الهجومات الموجهة ضدك أتية من أؤلئك الذين هيّجتهم وشجعتهم على الهجوم على الأخرين. ومع إني لم أنجز الهجومات شخصياً لكن الرب إعتبرني مسؤولاً كهؤلاء الذين فعلوا ذلك."
فقلتُ، "إنني أرى ذلك. بالتأكيد أغفرُ لك."
كنتُ قد بدأتُ أتذكر كيف إني فعلت الشئ ذاته، حتى وإن كان على مقياس أصغر. أتذكر الأن كيف إني سمحت بعُضو سابق وساخط في الكنيسة لِنَشر سمومه في تلك الكنيسة دون أن أوقِفه. كنت أعرف أنه بالسماح لهم لفعل ذلك دون توبيخهم فإني أشجعهم على الإستمرار بعملهم. وأتذكر أن ما فعلته له ما يُبرِّره بسبب أخطاء تلك الكنيسة. ثم تذكرت كيف كنت اُردِّد قصص العديد منهم واُبرِّرُ قولي بأن ما يريدونه هو مجرَّد وضع قائمة صلوات لأجلهم. بعد قليل نشأ في قلبي فيض عظيم عن هكذا أحداث. حينئذ غمرني شرٌّ وظلام إكتسح نفسي ثانية.
حزنت كثيراً وسقطت على ركبتي، "أه، أنا أيضاً كنتُ حجر عثرة!" كنت أعلم إني أستحق الموت، أستحق أي نوع جحيم. لم أرَ أبداً هكذا قساوة ووحشية كما أراها الأن في قلبي.
جاءني صوت الفِهم لذاك الرجل قائلا، "كنا دوماً نعزي أنفسنا بالتفكير بأننا إنما نفعل فضلٍ لله حينما كنا نهجم على أولاده،" وتابع، "جيدٌ لك أن ترى ذلك هنا، لأنه يُمكنك الرجوع ثانية. أرجوك حذِّر تلاميذي عن هلاكهم الوشيك الحدوث إن لم يتوبوا. فالعديد منهم دُعيوا ليكونوا ملوكاً هنا، ولكن إن لم يتوبوا فإنهم سيواجهون أسوأ حُكم عليهم، يُصدر بِحقِّ أحجار عثرةٍ. كان مرضي المخزي نعمة من عند الله. حينما وقفتُ أمام العرش طلبت من الرب إرسال هكذا نعمة لتلاميذي. ليس بإمكاني العبور إليهم، ولكن الرب سمح لي هذه المرة لأتكلم إليك. أرجوك إغفر وحرِّر أؤلئك الذين هجموا عليك. في الواقع لا يفهمون إنهم إنما يفعلون عمل المُشتكي. أشكرك لأنك سامحتني، ولكني أرجوك أن تسامحهم أيضاً. فبإرادتك تستطيع أن تحتفظ بالخطايا أو تغطيها بمحبة. إني أناشدك بأن تحب أؤلئك الذين هم أعدائك."
إستصعبَ عليَّ سماع هكذا كلام إذ كنتُ مغموراً بخطيتي. كان هذا الرجل متألقاً ونقياً وله بالطبع قدرات غير معروفة على الأرض. ومع ذلك كان يناشدني بتواضع عظيم لم أشهد مثيله أبداً. شعرت بمحبة عظيمة تصدر عنه لم أستطع تصورها، ولكن حتى من دون تأثير محبته، فقد شعرت بذنب أكبر من ذنبِ أيِّ واحد من الذين هاجموني.
أجبتُ، "بالتأكيد ينبغي أن أكون مستحقاً لأي شئ فعلوه لي، بل أكثر بكثير،"
ناشدني قائلاً، "هذا صحيح، ولكن ليست هذه هي النقطة الأساسية. كل واحد على الأرض يستحق الموت الثاني، ولكن مُخلِّصنا جلب إلينا النعمة والحق. إن كان علينا أن نعمل عمله ينبغي علينا أن نفعل كل شئ بنعمةٍ وحقٍّ. الحق بدون نعمةٍ هو ما يجلبه العدو حينما يأتي كملاك نورٍ."
أجبته، "إن إستطعت التحرير من هذا ربما سأكون قادراً على مساعدتهم. ولكن ألستَ تدرك بأني أسوأ منهم كثيراً؟"
أجابني ولكن بمحبةٍ ونعمة عميقة، "إنني أعلم أن ما عبر في ذهنك للتو كان سيئاً،"
كنتُ أعلم إنه صار مهتماً بيّ وبوضعي الأن بقدر إهتمامه بتلاميذه فقلتُ من غير تفكير، "هذه هي السماء فعلاً. هذا هو النور والحق فعلاً. كيف يمكننا نحن الذين نعيش في هكذا ظلام أن نكون مفتخرين جداً، مفكرين بأننا نعرف الكثير جداً عن الله؟" فصرخت بإتجاه العرش، "يا رب أرجوك دعني أذهب حامِلاً معي هذا النور الى الأرض ثانية!"
وفي الحال تراءى لي جُند الرب جميعاً وهم واقفين بصمتٍ، وعلمت بأني كنتُ مركز إنتباههم. شعرت بنفسي تافهاً أمام كل واحد من هؤلاء المتألقين، ولكني حين علمت بأنهم جميعاً ينظرون إليَّ، إجتاحني خوفٌ كموجٍ عارمٍ. شعرت بأنه ليس هناك إدانة كالتي سأختبرها. شعرت وكأن العدو الأعظم للمجد والحقِّ قد ملأ ذلك المكان. كنتُ فاسداً جداً، وفكرت بأني لن أستطيع أبداً التعبير عن هكذا مجد وحق كما ينبغي. لم تكن هناك طريقة لأنقل حقيقة هذا المكان الرائع وأنا في فسادي هذا. كنتُ موقِناً أنه حتى الشيطان نفسه لم يسقط بقدر ما سقطتُ أنا من النعمة. فكرت أن هذا هو الجحيم. ليس هناك وجعٌ أسوأ من أن تكون شريراً كما أنا وأن تعرف عن تواجدِ هكذا مجدٍ. فأن أكون محروماً من هذا المكان هو عذاب أسوأ من أي حلم على الإطلاق. فكرتُ أنه لا عجب أن يكون الشياطين غاضبين ومعتوهين جداً.
حينما شعرتُ بذلك كنتُ على وشك النزول الى أعمق مكان في الجحيم، فصرخت، "يا يسوع،" وفي الحال شعرت بسلام. علمت أنه ينبغي أن أتحرك بإتجاه المجد ثانية، وبطريقة ما إكتسبتُ ثقة لفعل ذلك. إستمرت في المشي الى أن رأيت رجلاً كنتُ أعتبره واحداً من الكُتّاب العظماء على الإطلاق. كنت اُوقِّر عمق إدراكه في الحق بحيث كنت أعتبرهُ أعظم من كل الذين إلتقيت بهم في كل دراساتي.
فقلتُ من غير تفكير، "يا سيدي، كنت أتوق دوماً لهذا اللقاء،"
أجابني بإخلاص حقيقي، "كما أنا أيضاً،"
إستمرتُ بالكلام، "أشعر بأني أعرفك، وفي كتاباتك كنت أشعرُ بأنك تعرفني بطريقة ما. أعتقدُ بأني مُدين لك بأكثر من أي شخص أخر لم يُطوَّب في الكتاب المقدس،"
أجابني، "أنت كريم جداً. ولكني أسِفٌ لإني لم أخدمك بصورة أفضل. كنتُ إنساناً سطحياً وممتلئاً حكمة دنيوية أكثر من حقٍّ إلَهي."
أجبتهُ، "منذ قدومي الى هنا وتعلُّمي كل ما تعلمته، أعلم أن كل هذا صواب، لكني ما زلت أفكر أن ذلك هو بعضٌ من أفضل ما هو موجود على الأرض،"
قبِِلَ الكاتب الشهير كلامي بكل إخلاصٍ قائلاً، "أنت على حق. أن الأمر لمؤسف، كل واحدٍ هنا حتى أقرب الجالسين من المَلِك، كانوا سيعيشون حياتهم بصورة مختلفة إن اُعطي لهم أن يعيشوها ثانية، ولكني أعتقد بأني كنت سأعيش حياتي أكثر إختلافاً عن معظمهم. كنتُ مُقدَّراً من الملوك، ولكني خذلت ملك الملوك. إستخدمت الهبات العظيمة والفِطنة التي اُعطيت لي لأجذب الناس لنفسي والى حكمتي أكثر مما للرب. إضافة الى ذلك، كنتُ أعرف الرب عن طريق السماع، وتلك كانت الطريقة التي أجبرت الأخرين على معرفته. جعلتهم خاضعين لي والى أخرين من أمثالي. وجهتهم الى التفكير الإستنتاجي بدلاً عن الروح القدس، الذي بالكادِ عرِفته. لم أوجِّه الناس الى يسوع، بل الى نفسي والى الأخرين من أمثالي حيث تظاهرت بأني أعرفه. حينما رأيت الرب هنا، أردت أن أطحن كتاباتي واُحولها الى مسحوق، بالضبط كما فعل موسى بالعجل الذهبي. ذهني كان إلَهي وأردتُ من كل واحد أن يعبد ذهني معي. تقديرك لي لن يجلب فرحاً لي. إن كنتُ قضيت وقتاً طويلاً أبحث لأعرف عن الرب بدلاً عما فعلته في بحثي لأعرف عنه من أجل التأثير على الأخرين مستخدماً معرفتي، لكان العديد من المتواجدين هنا في هذه المجموعة الأدنى جالسين على العروش المُعدَّةِ لهم، ولتواجد أخرون غيرهم في هذه الغرفة."
فسألته، "أعلم بسبب تواجدي هنا أن تقييمك لعملك صائبٌ، ولكن ألستَ قاسياً بعض الشئ على نفسك؟" وتابعتُ، "عملُكَ أطعمني روحياً لسنوات عديدة، وحسب علمي فإن عملك فعل ذات الشئ لأناس كثيرين."
فأجاب، "لست قاسياً على نفسي. كل ما قلتُهُ هو صحيح كما تبرهن عند وقوفي أمام العرش. نعم قدَّمتُ الكثير، لكني أُعطيت تقريباً مواهب أكثر من أيِّ شخصٍ هنا، ولكني طمرتها تحت إفتخاري وطموحي الروحي. تماماً كما أدم الذي كان بإمكانه أن يحمل الجنس البشري كله الى أعظم مستقبل مجيد، لكن بغلطته قاد البلايين من الناس الى أسوأ مأساة، فمع السلطة تأتي المسؤولية. كلما اُعطيتَ سلطة أكثر، كلما زاد جهدك لكل من الخير والشر اللذان ستواجهها. سيعرف أؤلئك الذي سيحكمونَ مع الرب لأجيالٍ المسؤولية من النوع الأكثر عمقاً. ليس شخص يقف لوحده، وكل غلطة بشرية أو نصرة يَرجعُ صداها الى أبعد من إدراكنا، ولو لأجيال قادمة. لو كنتُ أرشدتُ ألالاف للصواب لكانت النتيجة تواجد الملايين ههنا. كل الذين يفهمون طبيعة السلطة الحقيقية فإنهم لن يبحثوا عنها أبداً، بل يقبلونها عند معرفتهم أنهم مرتبطون بالرب، فهو الوحيد الذي يستطيع أن يحمل السلطة بدون عائق. لا تبحث عن نفوذ لنفسك، بل اطلب الرب وكن مستعداً لأخذ نيرهُ. فتأثيري لم يُطعِمَ قلبك، بل أطعم إفتخارك في المعرفة."
سألتهُ فيما كنت أفكرُ بكتاباتي، "كيف أعرف بأني لا أفعل الشئ ذاته؟"
أجابني فيما كان راجعاً الى مرتبته، "إدرس لتبرهِنَ نفسك مقبولاً عند الله وليس عند الناس."
وقبل أن يختفي إلتفتَ إليَّ وإبتسم قليلاً، مُقدِّماً نصيحته الأخيرة قائلاً، "ولا تتبعني."
رأيتُ في المجموعة الأولى هذه العديد من رجال ونساء الله من جيلي ومن أجيال التاريخ. توقفتُ وتكلمت الى العديد منهم. صُدمت بإستمرار لتواجد الكثيرين في المراتب الأدنى مع أنه كان من المتوقع لهم أن يكونوا في المراكز الأعلى. شاركني العديد منهم بقصص مشابهة، إذ كان جميعهم قد سقط في خطية الإفتخار المميتة من بعد إنتصارات عظيمة، أو سقطوا بسبب الغيرة حينما كان لأناس أخرين مِسحة مثلهم. كما سقط أخرون بسبب الشهوة وتثبيط الهمة أو المرارة عند نهاية حياتهم وجاء الوقت ليؤخَذوا قبل عبورهم الخط الى الهلاك. أعطاني الجميع ذات التحذير: كلما إعتلت السلطة الروحية التي تسير فيها كلما زاد سقوطك لمسافة أبعد إن غادرت المحبة والتواضع.
فيما كنتُ مستمراً في السير نحو كرسي الحُكم بدأتُ أجتاز أؤلئك من ذوي المراتب العليا في الملكوت. وبعد تجريد العديد من الأحجبة مني في لقائي مع هؤلاء الذين عثروا في ذات المشاكل التي كانت لي، بدأت ألتقي الأن بأؤلئك الذين تغلبوا عليها. إلتقيتُ بزوجان خدما الرب وخدما الواحد الأخر بكل أمانة الى النهاية. كان مجدهما لا يوصف، وتشجعت بنصرتهما أنه بإمكاني البقاء على طريق الحياة وخدمة الرب بأمانة. أؤلئك الذين عثروا، عثِروا بطرق مختلفة. أؤلئك الذين إنتصروا حدث لهم ذات الشئ لكنهم لم ينحرفوا عن تكريسهم للوصية الأولى والأعظم: أحِبَّ الرب.
وبعملهما هذا أكملا الخدمة للرب، ليس للناس ولا حتى للأشخاص الروحيين. هؤلاء هم الذين عبدوا الخروف وتبعوه أينما ذهب.
حينما وصلت نحو منتصف الطريق متوجهاً الى العرش، فما وجدته مجداً لا يمكن وصفه لأؤلئك من ذوي المرتبة الأولى بدا لي الأن وكأنه الظلمة الخارجية مقارنةً مع المجد لهؤلاء الذين كنت للتو أجتازهم. فأفضل جمال للأرض ليس جديراً بأن يتواجد في أي مكان في السماء. قيل لي أن هذه الغرفة ليست إلا عتبة الممالك التي تفوق الوصف.
من الممكن أن يكون سيري نحو العرش قد أخذ أياماً، أشهراً، أو حتى سنوات. لا تتواجد طريقة لقياس الزمن في ذلك المكان. أكثر إنزعاج واجهته هو الإحترام العظيم الذي أظهره الجميع لي، ليس بسبب مَن كنتُ أنا أو لِما فعلته، بل ببساطة لأني كنت محارباً في معركة الأيام الأخيرة. ظهر مجد الله خلال المعركة الأخيرة بطريقة تشهد له كل قوة وكل سلطة، خُلقت أو ستُخلق، على طول الأبدية. إنكشف خلال هذه المعركة مجد الصليب، وعُرِفت حكمة الله بطريقة خاصة. فتواجدنا في هذه المعركة أدى الى إستلامنا واحداً من أعظم الإمتيازات التي اُعطيت للجنس البشري.
وفيما كنتُ أقترب من كرسي حكم المسيح، كان الذين في المراتب الأعلى جالسين أيضاً على عروش كانت جزءاً من عرشه. حتى أن الأدنى من هذه العروش كان أكثر تألقاً من أي عرشٍ أرضيٍّ مرات عديدة. كان قسماً من هؤلاء حُكاماً على مدن الأرض الذين سيأخذون مراكزهم قريباً. وأخرين كانوا حكاماً على شؤون السماء، وأخرين حكاماً على الشؤون المادية للخليقة مثل أنظمة النجوم والمجرات. على أية حال، كان واضحاً أن لهؤلاء الذين اُعطوا السلطة على المدنِ تقديراً أكثر من أؤلئك الذين إستلموا السلطة على المجرات. كان للطفل أهمية أكثر من مجرَّة نجوم، لأن الروح القدس كان يسكن في الناس، والرب إختار الناس كمكان سكناهُ الأبدي. بدا لي في محضر مجده أن قيمة كل الأرض تافهة كذرَّة رمل، ومع ذلك كانت مقدَّرةٌ بلا حدود لكونها محطُّ إهتمام كل جند السماء.
وإذ كنتُ واقفاً أمام العرش، شعرت بأني أصغر من ذرَّة رمل. ومع ذلك، شعرت بحلول الروح القدس عليَّ بطريقة أعظم مما حدث لي سابقاً. فبقوته إستطعت على الوقوف. هنا بدأتُ فعلاً أفهم الخِدمة كمُعزّياً لنا. فقد كان يقودني خلال هذه الرحلة كلها مع إني نادراً ما إنتبهتُ إليه.
كان الرب لطيفاً ورهيباً أكثر مما كنت أتصوره. فيه رأيت "الحكمة" الذي قادني الى أعلى الجبل، وشعرتُ بالألفة مع العديد من أصدقائي الذين عاشوا على الأرض. مَيَّزتُ الرب كشخصٍ سمِعته يتكلم معي مرات عديدة من خلال الأخرين. كما إني ميَّزته كشخص كثيراً ما رفضته حينما أتى إليّ في الأخرين. رأيتُ فيه الأسد والخروف، الراعي والعريس، ولكن أكثر من ذلك رأيته كحاكمٍ هنا.
حتى في حضوره الرهيب، كان المُعزي معي بهكذا عظمة مما جلب لي الراحة. وكان واضحاً أن الرب لم يرِد أبداً أن أشعر بمضايقة، كل ما أراده هو أن أعرف الحقَّ. لا تكفي كلمات بشرية لوصف مدى الرهبة أو مدى اللطف عند الوقوف أمام الرب. كنتُ قد إجتزت مرحلة الإهتمام سواءً كان الحُكم جيداً أم سيئاً بالنسبة لي، فقد عرفتُ للتو بأن الحُكم منصِفٌ، وإنه بإمكاني الثقة في الحاكم.
رأيتُ الرب ينظر الى العروش التي كانت حوله. شغل القديسون الكثير منها كما كانت هناك عروش فارغة. ثم قال، "هذه العروش هي للغالبين الذين خدموني بأمانة في كل جيل. أعدَّها أبي وأنا قبل تأسيس العالم. هل أنت مستحقٌ أن تجلس على أحدٍ منها؟"
تذكرتُ ما قاله لي صديق في إحدى المرات، "حين يسألك الله كلي المعرفة سؤالاً، فإنه لا يفعل ذلك للبحث عن معلومات."
نظرتُ الى العروش وإلى أؤلئك الجالسين عليها. إستطعت تمييز بعضاً من الأبطال العظماء في الإيمان، ولكن معظم الجالسين الذين عرِفتهم لم يكونوا معروفين على الأرض. فالكثيرين من الذين عرفتهم كانوا مُبشِّرين قضوا حياتهم في غموض. لم يهتموا أبداً بأن يُذكروا على الأرض بل من الرب. كنتُ مندهشاً بعض الشئ لرؤية البعض ممن كانوا أغنياءً أو حكاماً، الذين كانوا أمناء لما اُعطي لهم. على أية حال، بدا لي أن النساء والأمهات المُصليات الأمينات كُنَّ يشغلن عروشاً أكثر من المجموعات العازبة.
لم تكن هناك طريقة لأجيب بكلمة "نعم" الى سؤال الرب إن كنت أعتبرُ نفسي مستحقاً للجلوس على عرشٍ هنا. لم أكن مستحقاً للجلوس في رفقة أي واحدٍ من المتواجدين هناك. علمتُ إني اُعطيت الفرصة لخوض سباق للفوز بأعظم جائزة في السماء أو الأرض، ولكني فشلت. كنت يائساً، ولكن كان ما يزال هناك أملٌ واحد. ومع إني كنت فاشلاً معظم حياتي ، علمت بإني متواجدٌ هنا قبل أن تنتهي حياتي على الأرض. حينما إعترفتُ بأني لست مستحقاً لأشغل عرشٍ، سألني الرب:
"ولكن هل تريد هذا الكرسي؟"
أجبت، "بالطبع أريد ذلك من كل قلبي،"
ثم نظر الرب الى الأروِقةِ وقال، "هذه الكراسي الفارغة كان ممكناً أن تُشغل في أي جيل. قدمتُ الدعوة للجلوس هنا لكل واحد ناشد إسمي. لا تزال الدعوة متاحة. الان إذ حانت المعركة الأخيرة، فكثيرون ممن هم أخِرون سيكونون أولين. ستُشغل هذه الكراسي قبل إنتهاء المعركة. سيُعرف الذين سيجلسون هنا لشيئين: سيرتدون عباءة التواضع وسيكونون شِبهي. لديك العباءة الأن. إن إستطعت الإحتفاظ بها وعدم فقدانها في المعركة، فحينما ترجع ستكون شِبهي أيضاً. حينئذ ستكون مستحقاً للجلوس مع هؤلاء، لأني جعلتُك مستحقاً. اُعطيت لي كل السلطة والقوة، وأنا وحدي أستطيع إستخدامها. ستكون غالباً وستُؤتمن بسلطتي فقط عندما تبثت فيَّ تماماً. والأن إلتفت وانظر الى أهل بيتي."
أدرتُ وجهي ونظرت خلفي في الإتجاه الذي جئت منه. إستطعت مِن مِقدمة عرشه رؤية كل الغرفة. كان المشهد يفوق نطاق المقارنة مع أي مجدٍ أرضي. كانت الملايين تشغل المراتب. كان كل فرد في المستوى الأدنى أعظم روعة من جيش بكامله، وعلمت أنه لدي قوة أكبر. كانت قوتي تفوق سعتي لإستيعاب هكذا مجدٍ شاملٍ. ومع ذلك، إستطعت رؤية جزء صغير جداً من الذين شغِلوا الغرفة العظيمة.
ثم إلتفتُ ونظرت الى الرب فاندهشتُ لرؤية دموع في عينيه. كان قد مسح دموع كل واحدٍ هنا ما عدا دموعه. وفيما كانت دمعة تسيل على خديه أمسكها في يده. ثم قدَّمها لي قائلاً:
"هذه كأسي. هل ستشربها معي؟"
لم تكن هناك طريقة لأرفض طلبه. وفيما كان الرب مستمراً في النظر إليَّ بدأتُ أشعر بمحبته العظيمة. حتى وأنا كقذرٍ كان ما يزال يحبني. ومع إني غير مستحقٍ أرادني أن أكون قريباً منه. ثم قال لي:
"اُحِبُّ جميع هؤلاء محبةً لا تستطيع أن تدركها. كما اُحِبُّ جميع هؤلاء الذين من المفترض أن يكونوا هنا ولكنهم لم يأتوا. تركتُ التسعة والتسعين لأبحث عن ذاك المفقود. لا يترُك رعاتي الواحِدَ للبحث عن التسعة والتسعين مفقوداً. جئتُ لاُخلِّص المفقود. أتشارك قلبي في الذهاب لأنقاذ المفقودين؟ هل ستساعد في ملء هذه الغرفة، هل ستساعد في ملء هذه العروش وكل كرسيٍّ في هذه القاعة؟ هل تأخذ هذه المُهِمَّة لتجلب فرحاً للسماء، لي ولأبي؟ هذا الحُكم هو لأهل بيتي، وبيتي نفسه ليس ممتلئاً. لن تُحسم المعركة الأخيرة الى أن يمتلأ بيتي. حينئذ فقط سيحين الوقت لإسترداد الأرض وإزالة الشر من الخليقة. إن شربتَ هذه الكأس ستكون مُحبَّاً للمفقودين بالطريقة التي أحببتهم."
ثم أخذ كأساً بسيطاً جداً حتى إني تفاجئت بتواجد هكذا أشياء في غرفة بهكذا مجد، ووضع دمعته فيها. ثم أعطاني إياها. لم أذق أبداً شيئاً بهذه المرارة. علمت أنه يستحيل عليَّ أن أشربها كلها، أو حتى الكثير منها، ولكني كنت مصمماً لأشربها بقدر إمكاني. إنتظر الرب بصبرٍ حتى إنفجرتُ أخيراً في بكاء مرير وكأن أنهار حقيقية من الدموع تتدفق مني. كنتُ أبكي لأجل المفقودين، ولكن بأكثر من ذلك كنتُ أبكي لأجل الرب.
نظرتُ إليه في يأس فيما لم أستطع بعدُ إحتمال هذا الألم العظيم. ثم بدأ سلامه يملئني ممتزجاً بمحبته التي شعرت بها. لم أشعر أبداً شيئاً بهذه الروعة. كان هذا الماء الحيِّ الذي كنت أعرف أنه ينبع الى الأبد. ثم شعرتُ وكأن نارٌ إشتعل في المياه المتدفقة فيَّ. فبدأت أشعر بأن هذه النار ستلتهمني إن لم أبدأ في إعلان فخامة مجده. لم أشعر أبداً بهكذا حافز للكرازة، ولعبادته، وإستخدام كُل نفسٍ اُعطيت لي من أجل إنجيله.
هتفتُ ناسياً كل واحدٍ إلا هو، "يا رب. أنا أعلم الأن أن عرش الحُكم هذا هو عرش النعمة أيضاً، وإني ألتمس إليك الأن نعمةً من أجل خِدمتك. قبل كل شئ ألتمس منك النعمة! أسأل النعمة لإكمال دربي. أسألك النعمة لكي أُحبك كثيراً لدرجة أستطيع التحرير من الضلال والأنانية التي أفسدت حياتي. أدعو إسمك لأجل الخلاص من نفسي ومن شرِّ قلبي، وأن يستمر هذا الحب الذي أشعر به في التدفق في قلبي. أسألك أن تعطيني قلبك، تعطيني حبك. أسألك أن تعطيني نعمة الروح القدس ليَدين قلبي على خطيتي. أسألك نعمة الروح القدس للشهادة عنك كما أنتَ حقاً. أسألك النعمة لأشهد لكل ما أعددته لأؤلئك الأتين إليك. أسألك أن تكون النعمة عليَّ لأكرز حقيقة هذا الحُكم. أسأل النعمة لإشاركها مع أؤلئك المدعوين لإشغال هذه العروش الفارغة، لإعطائهم كلمات الحياة التي ستحفظهم على طريق الحياة وتمنحهم الإيمان ليفعلوا ما هم مدعوين لعمله. يا رب أسألك هذه النعمة."
ثم وقف الرب. وفي الحال وقف أيضاً كل الجالسين على العروش بقدر ما استطاعت عيني رؤيته. ثم توهجتْ عيني الرب بالنار، لم أراه مثل ذلك سابقاً.
"أنت ناشدتني النعمة. هذا المطلب لم أرفضه أبداًً. سترجع أنت وسيكون الروح القدس معك. ذُقتَ هنا طيبتي وصرامتي أيضاً. عليك أن تتذكر كِلاهما إن أردت البقاء على طريق الحياة. يتضمّنُ الحب الحقيقي لله حُكم الله. ينبغي أن تعرف طيبتي وصرامتي وإلا فإنك ستسقط في الضلال. هذه هي النعمة التي اُعطيت لك هنا، لِتعرِف كِلاهما. المحادثات التي كانت لك مع الإخوة هنا كانت نعمتي. تذكّر ذلك."
ثم وجه بسيفه نحو قلبي والى فمي والى يديَّ.
عندما فعل ذلك خرج نار من سيفه وأحرقني بألم شديد. ثم قال، "هذا أيضاً نعمة،" وتابع كلامه، "أنت لست إلا واحداً من العديدين الذين اُعدِّوا لهذه الساعة. أكرز وأكتب عن كل ما رأيته هنا. ما قلته لك قُله لإخوتي. إذهب ونادِ قادتي ليخوضوا المعركة الأخيرة. إذهب ودافع عن الفقراء والمضطهَدين، عن الأرامل واليتامى. هذه هي مُهِمّةُ قادتي، وإنها تتواجدُ حيث تجدهم. لأطفالي أهمية بالنسبة لي أكثر من نجوم السماء. أطعِم خرافي، إعتني بصغاري. أعطيهم كلمة الله لكي يحيوا. إذهب الى المعركة. إذهب ولا تتراجع. إذهب بسرعة لأني سأتي سريعاً. أطِعني واستعجل ليوم قدومي."
ثم أتت مجموعة من الملائكة ورافقتني مغادراً العرش. مشى قائد الملائكة بجانبي وبدأ بالقول:
"الأن إذ وقفَ الرب فإنه لن يجلس ثانية حتى تنتهي الحرب الأخيرة. لن يجلس الى الوقت الذي فيه توضع الأعداء تحت قدميه. حان الوقت الأن. فيالق الملائكة التي كانت واقفة بإستعدادٍ منذ ليلة الألام قد اُطلقت الأن الى الأرض. اُطلقت حشود العدو أيضاً. هذا هو الوقت الذي تنتظره كل الخليقة. سيُكمل السر العظيم لله قريباً. سنقاتل الأن حتى النهاية. سنقاتل معك ومع إخوتك."
ثم استيقظتُ.
وفيما أستمرت بالإبتعاد عن كرسي الدينونة، بدأت أفكر مليَّاً بكل ما إختبرته منذ حين. لقد كان إختباراً رهيباً ورائعاً معاً. مع أنه كان تحدياً وتمزّقاً في القلب، إلا أني شعرت بأمان لم أشعر به سابقاً. في البداية لم يكن تعريته سهلاً لأن يكون ظاهراً للعيان أمام الكثيرين، كما إني لم أكن قادراً حتى على إخفاء فِكر واحد. ولكن حينما استرخيت وقبلت الأمر، عالماً أن ذلك إنما يُطهِّر نفسي، تحول الى تحريرٍ عظيم. فعدم وجود شئ لأخفيه كان مثل طرح أثقل نير وأقوى القيود. بدأتُ أشعر وكأني إستطعت التنفس بشكل لم أستطيعه سابقاً.
وكلما إزددتُ إسترخاء كلما بدا لي أنه إزدادت قدرتي العقلية. ثم بدأت أشعر بمحادثة متواصلة لا تستطيع كلمات إنسان النطق بها. فكرتُ بكلام بولس الرسول عن زيارته للسماء الثالثة، حيث سمع كلاماً لا يمكن وصفه. هناك محادثة روحية تفوق بكثير أي محادثة بشرية. إنها أعمق وذو معنى أكثر من كلمات بشرية ينطقها الإنسان. فهي بطريقة ما محادثة نقية للقلب والذهن معاً، وهي بهكذا نقاوة إذ لا إحتمال لسوء الفهم.
وفيما نظرت الى شخص ما في الغرفة. بدأت أفهم ما كان يفكر به، تماماً مثل قدرته على فهمي. حينما نظرت الى الرب، بدأت أفهمه بنفس الطريقة. إستمرنا بإستعمال كلمات، ولكن كان لكل كلمة معنى بهكذا عمق لدرجة لا يمكن لقاموس أن يدركها. فتحرر ذهني لدرجة ان سعته تضاعفت عدة مرات. إمتلئتُ بفرح فاق كل إختبار سابق.
المحادثة الروحية
توضح لي أن الرب كان مستمتعاً بالتحدث معي بهذه الطريقة، تماماً مثلما كنت أنا معه. لم يحدث لي أبداً إني فهمت بهكذا عمق مدى ما تعني الرب أن يكون كلمة الله. يسوع هو وسيلة إتصال الله مع خليقته. كلماته هي روح وحياة، وفاقت معانيها وقوتها بصورة عظيمة ما يستطيع الإنسان الحاضر وصفه.
كلمات الإنسان هي شكل سطحي لمحادثة الروح. خلقنا الله لنكون قادرين على التحدث بمستوى يفوق كلمات البشر، ولكن بسبب السقوط وانهيار بُرج بابل، فقدنا هذا الإستيعاب. لا نستطيع أن نكون ما خُلقنا لأجله الى أن نستعيد ذلك ثانية، وبإمكاننا ذلك فقط حينما نكون أحراراً في محضره.
بدأت أفهم أنه عندما أخطأ أدم، هذا ما جعله يختبئ عن الله، فقد كانت بداية لأفظع تشويه لما خُلق الإنسان لأن يكون. وهذا أدى الى خفض قدراتنا العقلية والروحية. ولكن يمكننا إستعادتها فقط حينما نخرج من الإختباء ونصير واضحين وغير مزيفين. وهذا معناه إنفتاح لله وإنفتاح الواحد للأخر. إنه كالنظر الى مجد الرب بوجه غير مبرقع وتغيرنا الى صورته. لذا ينبغي علينا طرح الأحجبة الناتجة عن إختباءنا.
كان أول سؤال سأله الرب لأدم بعد خطيته، "أين أنت؟"، بذات الطريقة هو أول سؤال ينبغي أن نجيبه إن كنا نريد الرب أن يستردنا. بالطبع كان الرب يعلم مكان أدم. فالسؤال كان من أجل منفعة أدم. ذلك السؤال هو بداية بحث الله عن الإنسان.
قصة الإفتداء هو ملاحقة الله للإنسان وليس ملاحقة الإنسان لله. حينما نتمكن من إجابة هذا السؤال عالمين أين نحن في علاقتنا مع الله، فإننا سنُسترد تماماً إليه. لكننا سنتمكن من معرفة الإجابة على هذا السؤال حينما نكون في محضر الرب.
هذا كان جوهر إختباري كله عند كرسي الدينونة. علم الرب مسبقاً فيما يخصني. كل هذا الإختبار هو من أجل فائدتي، لكي أعلم أين كنتُ. كل ذلك كان من أجل الخروج من الإختباء وإخراجي من الظلمة والدخول في النور.
كما بدأت في إدراك مدى رغبة الرب في أن يكون واحداً مع شعبه. من خلال كل حكمهُ، لم يحاول أن يريني شيئاً سواء جيداً أم رديئاً بقدر ما أرادني رؤية الإتحاد معه. كان الرب يبحث عني أكثر مما كنت أبحث عنه. أحكامه حررتني وحكمهُ للعالم سيُحرِّر العالم.
باتت الظلمة في العالم أبدية نتيجة الإضطرار الى الإختباء، الذي بدأ مباشرة بعد السقوط. فـ "السير في النور" له مدلول أكثر من معرفة وإطاعة حقٍّ ما: فهو حق وحرية من الإضطرار للإختباء. حينما يأتي يوم الحساب، فإنه سيجلب التحرير الحاسم لأدم من مكان إختباءه. لن يكون فقط تحريراً حاسماً لأدم بل سيكون أيضاً بداية لتحرير الخليقة، التي كانت خاضعة للعبودية بسبب أدم.
"السير في النور" تعني لا إختباء بعد من الله أو من أي شئ أخر. لم يكن فقط عُري أدم وحواء قبل السقوط جسدياً بل روحياً أيضاً. حينما يكملُ خلاصنا، فإننا سنعرف هذا النوع من الشفافية ثانية. لكي نكون منفتحين على الأخرين تماماً، سيكون السبب في فتح أماكن لسنا نعلم في الوقت الحاضر إن كانت موجودة حقاً. هذا ما يحاول الشيطان أن يُزوِّرهُ من خلال حركة العصر الجديدة.
رجوع الحكمة
فيما كنتُ أسير متأملاً فيما تعلمته، ظهر الرب في الحال بجانبي بشكل الحكمة ثانية. كان ظهوره أكثر تألقاً مما رأيته سابقاً بل أكثر تألقاً مما كان على كرسي الدينونة. كنت منذهلاً ومبتهجاً في اَنٍ واحدٍ.
فسألته، "يا رب هل سترجع معي وأنت بهذه الحالة؟"
"سأكون دوماً معك بهذه الحالة. على كل حال أريد أن أكون أكثر لك من الطريقة التي تراني فيها الأن. لقد رأيت طيبتي وقساوتي ههنا، ولكنك لا زلت لا تعرفني تماماً كحاكم منصفٍ."
أدهشني كلامه. كنت قد قضيت وقتاً طويلاً قدام كرسي دينونته، وشعرت بأن كل ما تعلمته يخصُّ حكمه. توقف قليلاً عن الكلام لأستوعب كلامه ثم تابع:
"هناك حرية تأتي حينما تُصدِّق الحق، لأن كل من تحرَّر فهو حرٌّ حقاً. الحرية في محضري أعظم من مجرد إدراك الحق. إختبرتَ الحرية في محضري، ولكن لا يزال هناك الكثير لتفهمه عن حكمي. حينما أحكم، فإني لست أبحث عن تهمة أو تبرير بل لأُخرِج بِرّاً. يتواجد البِر فقط في الإتحاد معي. هذا هو حُكم البِر: جلب شخص في إتحاد معي.
"ترتدي كنيستي الأن الخزي لأنه ليس لها حكام. ليس لها حُكام لأنها لا تعرفني كحاكم. سأُقيم الأن حكاماً لشعبي ممن يعرفون حكمي. لن يقرروا فقط ما بين الناس وبين المسائل بل سيجعلوا الأشياء صحيحة وهذا معناه سيجعلوها تتفق معي.
"حينما ظهرت الى يشوع كقائدٍ للجند، أعلنتُ إني لستُ لا في جهته ولا في جهة أعدائه. لا أتحيز أبداً الى جهة. حينما أتي، فإني أتي لكي أتولى الأمر وليس لكي أتحيز الى جهة. ظهرت كقائدٍ للجند قبل أن يتمكن إسرائيل من الدخول الى أرض الموعد. الكنيسة الأن على وشك الدخول في أرض موعدها، وأنا أيضاً على وشك الظهور كقائدٍ للجند. حينما أفعل ذلك، فإني سأُزيل كل الذين يُجبرون شعبي للتحيز ضد إخوتهم.
"لا أتحيز في عدالتي بخصوص النزاعات البشرية، حتى تلك المتورط فيها شعبي. ما كنت أفعله لإسرائيل كنت أفعله للأعداء أيضاً وليس ضدهم. ولأنكم تنظرون من وجهة نظر بشرية، فهو منظور دنيوي لذلك لا تبصرون عدالتي. عليكم أن تبصروا عدالتي لكي تسيروا في سلطتي، لأن البر والعدالة هما أساس عرشي.
"ألصقتُ البِر في شعبي الذي إخترته. ولكن كما إسرائيل في البرية، كذلك حتى أعظم قديسي الكنيسة تراصفوا مع طرقي بجزءٍ بسيط من أوقاتهم، أو بجزء بسيط من افكارهم وقلوبهم. فأنا لست في جهتهم ولا ضد أعدائهم، لكنني أتٍ لأستخدم شعبي لخلاص أعدائهم. أُحبُّ كل الناس وأرغب خلاص الجميع."
إستخدام الإخوة من قبل الأعداء
"لم أستطع نسيان المعركة العظيمة التي قاتلنا فيها على الجبل. لقد أصبنا العديد من إخوتنا فيما كنا نحارب الشر الذي كان يسيطر عليهم. كان العديد منهم لا يزال في معسكر العدو، إما مستخدمين من قبل العدو أو محتجزين كأسرى. بدأت أتسائل فيما إذا كانت المعركة القادمة ستكون ضد إخوتنا ثانية. وكان الرب يراقبني فيما كنت اُفكر مليّاً في كل ذلك، فإستمر قائلاً:
"الى أن تنتهي المعركة المقبلة سيُستخدم بعض من إخوتنا دوماً من قبل العدو. ولكن ليس هذا ما أريد قوله لك الأن، لكني أريد أن أقوله لأُساعدك لكي ترى كيف يدخل العدو الى قلوبكم وأذهانكم، وكيف يستخدمكَ أنت! فإنك لا ترى لحد الأن كل شئ كما أراها أنا.
"ذلك شئ عادي مع شعبي. في هذا الوقت، حتى أعظم قادتي نادراً ما يكونوا في إنسجام معي. العديد منهم يعمل أعمالاً جيداً، ولكن القليل منهم يعمل ما دعوتهم لعمله. ويتم هذا في الغالب نتيجة الإنقسامات بينكم. لم أجئ لأتحيز الى أي مجموعة، لكني أدعو أؤلئك الأتين من بعيد إلى جهتي.
"كان إنطباعك قوياً حينما أعطيتك "كلمة معرفة" عن شخص مريض جسدياً، أو معرفة أخرى لست تعلمها. هذه المعرفة تأتي حينما تلمس ذهني حتى ولو لدرجة قليلة. أنا أعلم كل الأشياء. إن كان لك ذهني بصورة كاملة لكنتَ قادراً على معرفة كل شئ بذات الطريقة التي أراها أنا. ولكن مع ذلك فهناك الكثير للثبات فيَّ تماماً. فلمعرفة كيف تستخدم تلك المعرفة بصورة صحيحة ينبغي أن يكون لك قلبي. حينئذ فقط ستعرف حُكمي.
"أستطيع إئتمانك بمعرفتي الخارقة للطبيعة الى الدرجة التي فيها تعرف قلبي. لم تكن هِبات الروح التي أعطيتها الى كنيستي إلا إشارات صغيرة من القدرات للجيل القادم. دعوتك لتكون رسولاً لذلك الجيل. ينبغي أن تكون لك رغبة جدية لِلهبات لأنها جزء مني، وإني أُعطيها إليك لتتمكن أن تكون مثلي. أنت مُحِقٌّ في البحث لمعرفة فكري وطرقي ومقاصدي، ولكن ينبغي أن تكون لك الرغبة لمعرفة قلبي أيضاً. حينما تعرف قلبي حينئذ ستنفتح عيون قلبك. حينئذ سترى كما أرى أنا وستعمل ما أعمل أنا.
"إني مزمع أن أئتمن لكنيستي بكثير من القدرات للجيل القادم. على أية حال، هناك ضلال عظيم كثيراً ما يقع على أؤلئك الذين يثقوا بقوة عظيمة. إن لم تفهم ما أنا مزمع لأريك إياه، فإنك ستقع في ذلك الضلال أيضاً.
"طلبتَ نعمتي وسيكون لك ذلك. النعمة الأولى التي ستحفظك للسير في طريق الحياة هو معرفة مستوى الضلال الحالي. فالضلال يشمل أيَّ شئ لست تفهمه مثلما أفهمه أنا. فمعرفتك لمستوى الضلال الحالي يجلب إتضاعٍ وأنا أعطي نعمتي للمتضعين.
"لهذا السبب قلتُ، ²مَن هو أعمى إلا عبدي ... " ولهذا السبب قلت للفريسيِّين ²لدينونة جئتُ الى العالم .. لاُعطي البَصَر للذين لا يُبصرون وأُعمي الذين يُبصرون ... ... إن كنتم عُميان لما كنتم أثمةٍ، ولكن لأنكم تدَّعون أنكم تُبصِرون، فإن إثمكُم باقٍ. ²لذاك السبب أيضاً أصاب نوري بولسَ حينما دعوته. كشف نوري حالته الحقيقية. فأنت مثله ينبغي أن تصاب بالعُمي في الحياة الطبيعية لكي تتمكن من الإبصار بروحي."
نصيحة الرُّسل
ثم شعرت بأني مجبر لأُشاهد الجالسين على العروش الذين كنا نجتازهم. وإذ فعلت ذلك، وقع نظري على رجل عرفتُ أنه بولس الرسول. وفيما نظرتُ الى الرب أومئ لي بأن أكلمه.
فقلتُ وأنا شاعر بإرتباك وإثارة لهذا اللقاء، "كنتُ تواقاً جداً لهذا،" وتابعتُ، "إنني أعلم بأنك مُدرِكٌ كم أرشدت الكنيسة برسائلك ومن المحتمل أنها لا تزال تُنجز أكثر مما فعلناه جميعاً معاً. فأنت لا تزال واحداً من أعظم الأنوار على الأرض."
فقالَ بلطفٍ، "شكراً. ولكنك لست تدرك مدى تشوقنا للقائكم جميعاً. أنتم جنود في المعركة الأخيرة، أنتم أؤلئك الذين ننتظر جميعنا الإلتقاء بكم هنا. نحن رأينا تلك الأيام بصورة معتمة خلال رؤية نبوية محددة، لكنكم أُختِرتم لتعيشوا فيها. أنتم جنود مُعِدُّون للمعركة الأخيرة. أنتم أؤلئك الذين كنا ننتظرهم."
قلتُ فيما كنت لا أزال مرتبكاً، "ولكن ليس هناك طريقة أستطيع أن أنقل التقدير الذي نشعر به تجاهك وتجاه الأخرين الذين ساعدوا في إرشاد الطريق بحياتهم وكتاباتهم. كما أعلم أنه سنُعبِّر لكم عن تقديرنا طوال الأبدية، لذلك أرجوك، فيما أتواجدُ هنا بأن تدعني أسألك، "ما الذي تريد أن تقوله لجيلي يمكن أن يساعدنا في هذه المعركة؟"
فأجاب بولس وهو يحدق بعزمٍ في عيني، "كل ما أستطيع أن أقول لك الأن قد قلته لك سابقاً من خلال كتاباتي." وتابع كلامه، "على أي حال، أنت ستفهم ذلك بصورة أفضل إن أدركتَ بأني كنتُ مُقَصِّراً في جميع ما دُعيتُ لعمله."
فأحتجتُ، "ولكنك الأن جالس على أعظم العروش. ولا زلت تجني ثماراً أكثر للحياة الأبدية أكثر مما يأمله أي واحدٍ منا."
"بنعمة الله كنت قادراً على إنهاء مسيرتي، ولكني لم أنجز جميع ما دُعيت لإنجازه. كنت مقصراً في الأهداف العليا التي كان من الممكن السير فيها، كما فعل كل واحدٍ. أعلم أن البعض يدرك أنه لتجديفٍ أن يفكروا فيَّ كشئٍ أقل من النماذج العظيمة للخدمات المسيحية، ومع ذلك كنت صريحاً حينما كتبتُ عِند نهاية حياتي بأني كنتُ أعظم الخطاة. لم أقل بأني كنتُ أعظم الخطاة في حياتي بل بالأحرى كنتُ أعظم الخطاة في حينه. ومع ذلك أُعطيت الكثير من الفِهم، إلا إني نسبياً سِرتُ فيه قليلاً."
فسألتُ، "كيف يمكن أن يكون هذا. فأنا أفكر أنه مجرد تواضع."
"التواضع الحقيقي هو إتفاق مع الحق. لا تخف. فرسائلي هي حق وقد كُتبت بمِسحة الروح القدس. على أية حال، أُعطيتُ الكثير جداً ولم أستخدم جميع ما أُعطي لي. كل واحدٍ هنا كان مُقصَّراً فيما أُعطي له ما عدا واحداً. السبب في أنه ينبغي أن ترى ذلك شخصياً فيما يخصني هو أن الكثيرين لا زالوا يُشوِّهون تعليمي لأن لهم نظرة مشوَّهة عني."
"كما رأيتَ التتابع في رسائلي، فقد مضيتُ من شعوري بأني لم أكن الأقلَ شأناً من معظم الرسل المتفوقين، الى إعترافي بأني الأدنى من بقية الرسل. ثم رأيتُ بأني الأدنى بين القديسين وفي النهاية وجدت نفسي بأني أعظم الخطاة. لم أكن مجرد شخص متواضع بل كنت أتكلم حق واقعيٍّ. إئتُمِن لي أكثر بكثير مما إستخدمته. ليس ههنا إلا واحِدٌ فقط أمنَ بصدقٍ وأطاع تماماً وأنجز بحقٍّ كل ما أُعطي له. ولكن يمكنك أن تعمل أكثر مما فعلتُ أنا."
إعادة إكتشاف الأساس
فأجبته شاعراً بوهنٍ، "أعلم أن ما تقوله حقٌّ، ولكن هل أنت موقنٌ أن هذه هي الرسالة الأكثر أهمية بإمكانك إعطائها لنا بشأن المعركة الأخيرة؟"
أجابني بإقتناع راسخ، "إنني موقنٌ من ذلك. كما إني أُقدِّر نعمة الرب لإستخدام رسائلي كما فعل هو، لكني قلق للطريقة غير الملائمة التي يستخدمها الكثيرون. إنها الحقُّ للروح القدس وإنها الأيات المقدسة. أعطاني الرب أحجاراً عظيمة لأضعها في تشييد كنيسته الأبدية ولكن لم تكن أحجار الأساس. أحجار الأساس وضعها يسوع وحده. حياتي وخدمتي ليست النموذج لدعوتك، بل نموذج يسوع وحده.
"إن إستُخدِم كل ما كتبته كأساس، لما تمكن من حمل الثقل مقارنةً لذاك الذي يحتاج أن يُبنى عليه. ما كتبته يجب أن يُبنى على الأساسِ الواحدِ الذي بإمكانه الصمود ما أنت مزمعٌ على تحمله، لا ينبغي أن يستخدم كالأساسِ. عليك أن تنظر الى تعليمي من خلال تعاليم الرب، ولا تحاول أن تفهم الرب من منظوري أنا. كلمات الرب هي الأساس. أنا بنيتُ عليهم باذلاً غاية الجهد على كلامه. أعظم حكمةٍ وأعظم حقٍّ قويٍّ هو كلام الرب وليس كلامي.
"أنه لشئ هام أن تعرف بأني لم أسِر في جميع ما كان متاحاً لي. فهناك الأكثر مما هو متيسر لكل مؤمن ليسير فيه مقارنة بي. لدى جميع المؤمنين الحقيقيين الروح القدس. فقوة ذاك الذي خلق كل الأشياء تعيش فيهم. فأدنى القديسين له القوة لتحريك جبال أو لإيقاف جيوش أو لإقامة موتى.
"إن أردتَ أن تنجز جميع ما دُعيت لأن تعمله في يومك، فإن خدمتي ينبغي أن لا يُنظر إليها كأساسية بل كموقع بداية. ينبغي أن لا يكون هدفكم مثل هدفي، بل مثل هدف الرب. تستطيع أن تكون مثله وأن تعمل كل ما عمله، بل بأكثر من ذلك، لأنه دخَّر أجود خمره للأخِرِ."
تذكرتُ ثانية أنه لا يمكن أن يُقال هنا إلا الحق. أعلم أنه كان محقاً فيما يخص الإستخدام السئ لتعاليمه كأساس، بدلاً عن البناء فوق أساس الأناجيل. ولكني كنت ما أزال مستصعباً قبول ما ذكره بولس بأنه كان مُقصِّراً فيما دُعي لأجله.
نظرتُ الى عرش بولس والى المجد الذي هو فيه. كان أكثر بكثير مما حلمتُ به البتة عن مكانة القديسين العظماء في السماء. كان بولس صريحاً وثابتاً كما توقعته أن يكون. أنصدمت بكلامه كيف أنه لا يزال مهتماً بكل الكنائس. كنتُ معجباً به لدرجة كبيرة، ووجدت أن هناك إثم يحاول أن يحررني منه. ومع ذلك كان أعظم من بولس الذي كنتُ معجباً به. وعالماً ما كنتُ أفكر فيه، وضع يديه الإثنين على ذراعي ونظر في عيني بأكثرِ عزمٍ.
"إني أخيك. أحبك كما يفعل كل واحد هنا. ولكن عليك أن تفهم أن مسيرتنا قد إكتملت الأن. فنحن لا نستطيع أن نضيف أو نزيل ما زرعناه على الأرض، أما أنت فتستطيع. نحن لسنا رجاءك. أنت الأن رجائنا. حتى في هذه المحادثة كل ما أستطيعه هو أن اُصدِّق على ما كتبته، أما أنت فلا يزال الكثير لتكتبه. اُعبد الله فقط، وانمو في كل الأشياء نحوه. لا تجعل أي شخص هدفك بل الله فقط.
"قريباً سيسير الكثيرون على الأرض ويعملون أعمالاً أعظم بكثير مما عملناهُ. الأولون سيصيرون أخرين والأخرون سيصيرون أولين. لا مانع لنا في ذلك. إنه فرح قلوبنا لأننا واحد معكم. إستخدم الرب جيلي ليضع الأساس ويبدأ البناء عليه، وسيكون لنا دوماً الإمتياز للمشاركة في ذلك. ولكن كل أرضية تبنى على الأساس ينبغي أن ترتفع أكثر. لن نكون نحن المبنى الذي يُفترض فينا أن نكون إلا إذا إرتفعتَ أكثر"
الخدمة والرسالة
وفيما كنت أتأملُ في كلامه، راقبني جيداً. ثم إستمر قائلاً، "هناك شيئان أحرزناهما في وقتنا واللذان فقدتهما الكنيسة بسرعة. ولحد الأن لم تستعيدها الكنيسة ثانية ولكن عليك أن تفعل ذلك."
فسألته وأنا شاعرٌ بأن ما يريد قوله هو أكثر من إضافةٍ لما شاركه معي، "وما هي؟"
فقال وهو مُشدِّدٌ في كلامه، "عليك أن تستعيد الخدمة والرسالة،"
نظرت الى الرب فرأيته يومِئ برأسه مؤكداً ذلك ومضيفاً، "صحيح ما قاله لك بولس. لحد هذا الوقت كان بولس الأكثر أمانة في كِلاهما."
فناشدتُ بولس، "أرجوك وضح الأمر،"
فأجابني، "حسناً. بإستثناء القليل من الأماكن في العالم التي تتواجد فيها إضطهادات وصعوبات عظيمة، فإننا نادراً ما نميِّز الخدمة أو الرسالة التي تُكرز اليوم. لذلك، فالكنيسة اليوم ليست إلا شبحاً عما كانت عليه الكنيسة في وقتنا، علاوة على أنه كنا بأنفسنا بعيدين عن كل ما دُعينا لفعله. حينما كنا نخدم، كانت الخدمة أعظم تضحية يمكن أن يقدمها أحد، إذ كانت إنعكاس لرسالة أعظم تضحية عُمِلت وهي الصليب.
"الصليب هو قوة الله، وهو المركز لكل ما دُعينا أن نحياه. لديك الأن قوة صغيرة جداً لتغيير أذهان وقلوب المؤمنين لأنك لا تعيش ولا تكرز الصليب. لذلك فنحن نستصعب رؤية أي فارق ما بين الكنيسة والوثنية. هذا ليس الإنجيل او الخلاص الذي اُودِع لنا. عليكم الرجوع الى الصليب."
ومنهياً كلامه شدَّ على ذراعي كوالدٍ، ثم رجع الى كرسيه. شعرت وكأني إستلمت بركةٍ لا يمكن تصديقها وتوبيخٍ عميق في اَن واحدٍ. وفيما إبتعدت عنه، بدأت في التفكير في مستوى الخلاص على الجبل، وعن كنوز الخلاص التي رأيتها داخل الجبل. بدأت أفكر بأن معظم قراراتي حتى ذلك القرار في الدخول عبر الباب الذي قادني الى هنا، تأسس بصورة رئيسية على ما يجلبني نحو الأمام وليس على إدراكِ مشيئة الرب.
كنت لا أزال أحيا لنفسي، وليس للرب. حتى في رغبتي لقبول الأحكام ههنا، كنت متشجعاً بما يساعدني على الإنتصار دون أن أُعاني خسارة. كنت لا أزال متمتعاً في إكتفائي الذاتي وليس في المسيح.
كنيسة اليوم الأخير
كنت أعلم أن حديثي الوجيز مع بولس له عواقب أنه سيأخذ مني وقتاً طويلاً لكي أفهمه. شعرت بطريقة ما بأني إستلمت بركة من كل الكنيسة الأزلية. كنا جميعاً مبتهجين بالسحابة العظيمة من الشهود. كانوا ينظرون إلينا وكأننا أهالي فخورين يرغبون أفضل الأشياء لأطفالهم عما كانوا بأنفسهم يعرفونها. كان فرحهم الأعظم هو رؤية الكنيسة في الأيام الأخيرة وهي تصبح كل شئ لم تستطع الكنيسة في أيامهم إحرازه. كما علمتُ أيضاً بأني لا زلت مُخفقاً لِما كانوا قد أعدُّوه لنا للسير فيه.
فتدخل الرب قائلاً، "الكنيسة في الأيام الأخيرة لن تكون أعظم مما كانت في جيل بولس، حتى وإن عملت أعمالاً أعظم. كل ذلك عُمِل بنعمتي. على أية حال، سأُتيح نعمة أكثر وقوة أكبر للكنيسة في الأيام الأخيرة، لأنه ينبغي عليها أن تنجز أكثر مما أنجزته أي كنيسة في أي جيلٍ.
"سيسير مؤمني الأيام الأخيرة في كل قوتي التي أظهرتها، بل بأكثر من ذلك، لأنهم سيكونون الممثلين الأخيرين من كل الذين جاءوا قبلهم. ستُظهر الكنيسة طبيعتي وطرقي بشكل لم يسبق إظهارهما على الإطلاق. ولأني أُعطيكم نعمة أكبر فالذين يُعطى لهم الكثير يُطلب منهم الكثير."
كلامه هذا دفعني لأزيد التفكير في بولس. وفكرت في نفسي، "كيف يمكن أن نكون مكرسين وأوفياء أكثر منه؟"
فأجابني الرب، "لستُ أسألك أن تحرز ذلك. إنني أطلب منك أن تثبت فيَّ. لن تستطيع الإستمرار في قياس نفسك مقارنة مع الأخرين، ولا حتى مع بولس. ستكون مُقصِّراً على الدوام للوصول الى شخص تركز عليه نظرك، ولكن إن ركزت نظرك عليَّ فإنك ستذهب الى أبعد مما تظن لإنجازه من أن تأخذ لنفسك طريقاً أخر. كما كنت تُعلِّم بنفسك، كيف أنه إنفتحت أعين الإثنان اللذان ذهبا الى عمواس حينما رأوني أكسرُ الخبز. عندما تقرأ رسائل بولس أو ما كتبه أخرون، فإنه ينبغي أن تسمعني. فقط حينما تستلم خبزك مباشرة مني ستنفتح عيون قلبك.
"قد ينصرف معظم إنتباهك نحو أؤلئك الذين أكثرهم مثلي إن لم تنظر من خلالهم لتراني. كما أنه تتربص مكيدة أخرى لأؤلئك الذين يأتون ليعرفوا أكثر عن مِسحتي وقوتي من الأخرين. فإنهم دوماً ينحرفوا في إنتباههم ناظرين لأنفسهم. كما قلتُ قبل تحدثك مع بولس، ينبغي أن يكون خدامي عميان لكي يتمكنوا من الإبصار. سمحتُ لك بأن تتكلم مع بولس لأنه واحِداً من أفضل النماذج بهذا الشأن. بسبب نعمتي سمحتُ له بأن يضطهد كنيستي. حينما أبصر نوري أدرك أن طريقة تحليله هي التي قادته الى نزاع مباشر مع الحق الذي كان يدَّعي أنه يخدمه.
"تحليلاتك ستفعل ذلك دوماً. فهي ستقودك لتفعل بالضبط ما هو مناقض لمشيئتي. فمِسحة أكبر تجلب خطورة أعظم لِما يحدث لك، إن لم تتعلم ما فعله بولس. إن لم تحمل صليبك كل يوم وتطرح كل ما أنت عليه وكل ما هو لديك، فإنك ستسقط بسبب السلطة والقوة التي سأُعطيها لك. فإلى أن تتعلم أن تفعل الأشياء من أجل الإنجيل، فإنه كلما إزدادت تأثيراتك كلما زادت المواجهة للخطورة المترتبة عليها.
"في بعض الأحيان إنخدع الممسوحين في التفكير فلأني أعطيتهم قليلاً من معرفة أو قوة خارقة للطبيعة فإنه توجب أن تكون طرقهم مثل طرقي، وكل شئ يفكرون فيه ينبغي أن يكون مثل تفكيري. هذا ضلال عظيم وكثيرون عثروا بسببه. ستُفكر مثلي متى إتحدت معي تماماً. حتى مع أؤلئك الأخذين مِسحة أكبر من الذين ساروا على الأرض مثل بولس، فإن ذلك الإتحاد إنما كان جزئياً ولفترة وجيزة من الوقت. كان بولس ماشياً معي عن كثب أكثر من أي إنسان على الإطلاق. مع ذلك فإن مخاوف وضعفات إكتنفته لم أكن أنا مصدرها. وكان بإمكاني أن أُحرِّره منها، إذ طلب مني ذلك مرات عديدة، ولكن كان لدي سببٌ لعدم فِعل ذلك. أعظم حكمة بولس هي في قبوله لضعفاته، وعالماً إن كنتُ قد حررته منها لما إستطعت أن أئتمنه بمستوى الإعلان والقوة التي أعطيتها له.
"بولس عرِف ضعفاته وعلم كيف يميز بينها وبين الإعلان المُوحى بروحي. حينما إكتنفته الضعفات والمخاوف عرِف أنه لم يكن يُبصر من منظوري، بل من منظوره. وهذا ما جعله يبحث عني ويعتمد عليَّ. كما أن بولس كان حذِراً لئلا يتشوش بين ما يأتيه من ذهنه وقلبه وبين الأفكار التي تأتيه من ذهني وقلبي. لذلك إستطعت إئتمانه بإعلانات لم أستطع إيداعها للأخرين."
التفويض
بدأت في التفكير عن مدى وضوح كل ما يتواجد هنا، وكيف أنه في أغلب الأحيان، حتى حينما كان لي إختبار عظيم كهذا، إلا أني ما زلت أنساه بكل سهولة. سهلٌ الإدراك والسير في النور هنا، أما في المعركة فصار غامضاً ثانية. كما فكرتُ كيف أنه لم تكتنفني الكثير من المخاوف، كما حصل لبولس، ولكن ميولي كانت بنفاذ صبر وغضب، كما كانت كتشويه للمنظور الذي كان ينبغي أن يكون لنا وذلك بالثبات في الروح القدس. توقف الحكمة وإلتفت إليَّ وقال:
"أنت وعاء أرضي، وهذا ما ستكون عليه فيما تسير على الارض. على أية حال، يمكنك أن تراني بكل وضوح كما تفعل ذلك الأن إن نظرت بعيون قلبك. يمكنك أن تكون قريباً مني مثل أيَّ واحد إقترب مني، بل بأكثر من ذلك.
"جعلتُ الطريق بحيث يقترب إليَّ كل واحدٍ بحسب صِدق رغبتهم. إن رغبتَ فعلاً في الإقتراب مني أكثر مما فعل بولس، فإنه يمكنك ذلك. البعض سيرغب في ذلك، وسيطلبونه بإلحاح لدرجة أنهم يُكرِّسون أنفسهم تماماً له، طارحين جانباً أيَّ شئ يمنع صداقتهم الحميمة معي. وسيجدون ما يبحثون عنه.
"إن كان تفويضك هو السير في الأرض مثلما تسير معي هنا، فسأكون قريباً منك تماماً كما أنا معك الأن. إن بحثت عني فستجدني. إن إقتربت مني فسأقترب منك. إنها رغبتي لأُُعِدَّ لك وليمة وسط أعدائك. فهي ليست رغبتي فقط لأجل قادتي بل لأيِّ واحد يدعو إسمي. أريد أن أكون أكثر إقتراباً منك ومن كل واحد يطلبني، عما كان بإمكاني لأكون مع أي واحد عاش على الأرض. أنتَ الذي تقرر مدى الإقتراب ولست أنا. سيجدني أؤلئك الذين يبحثون عني.
"إنك هنا لأنك بحثت عن حُكمي في حياتك. بحثت عني كحاكمٍ ووجدتني الأن. ولكن عليك أن لا تفكر أنه لمجرد أنك رأيت كرسي حُُكمي، فإن كل أحكامك الأن ستكون أحكامي. سيكون لك حُكمي فقط فيما تسير في إتحادٍ معي وتبحث عن مِسحة روحي. هذا ممكن إحرازه أو فقدانه في كل يوم.
"سمحتُ لك بأن تُبصِر ملائكة وأعطيتك الكثير من الأحلام والرؤى، لأنك كنت تطلب ذلك بإستمرار. أُحب أن أعطي أطفالي عطايا جيدة كانوا يطلبونها لسنوات، وأنتَ طلبت الحكمة لذلك ستستلمها. سألتني لأحكُم عليك، لذلك ستستلم حُكمي. ولكن هذه الإختبارات لن تجعلك حكيماً تماماً ولن تجعلك حاكمٍ بارٍ. ستكون لك حكمة وقضاء فيما تثبت فيَّ فقط.
"لا تتوقف عن بحثك عني. كلما تنضج أكثر كلما ستعرف شدة إحتياجك لي. كلما تنضج أكثر كلما يقل طلبك في الإختباء، مني أو من الأخرين، لأن رغبتك ستكون السير في النور دوماً.
"رأيتني كربٍّ مُخلِّصٍ وحكمة وحاكمٍ. حينما ترجع الى المعركة، فإنه لا يزال بإمكانك رؤية كرسي حُكمي بعيون قلبك. حينما تسير في معرفةٍ فإن كل ما تفكر فيه وتفعله ينكشف إليك تماماً ههنا، لذا ستكون لك الحرية للعيش هناك كما أنت هنا. فقط حينما تختبئ، مني أو من الأخرين، حينذاك سترجع الأحجبة لتخفيني عنك. أنا الحق والذين يعبدونني ينبغي أن يفعلوا ذلك بالروح والحق.
"لن يتواجد الحقُّ في الظلام أبداً، ولكن اطلبوا دوماً البقاء في النور. النور يكشف ويجعل الشئ جليـَّاً. فقط حينما تطلب الإنكشاف وتدع ما في قلبك لأن ينكشف، فإنك ستسير في النور كما أنا في النور. الشِركة الحقيقية معي تحتاج الى كشف كامل. الشِركة الحقيقية مع شعبي تحتاج الى ذات الشئ.
"حينما وقفتَ أمام كرسي الدينونة، شعرتَ بأكثر حرية وأمان لم أشعر بها قبلاً على الإطلاق، لأنه لم يتوجب عليك أن تختبئ فيما بعد. شعرتَ بأمان أكثر لأنك علمت أن حُكمي حقٌّ ومُنصِف. فالترتيب الأخلاقي والروحي لهذا الكون الذي لي هو بالتأكيد كترتيب الطبيعة المؤسسِ على قوانين الطبيعة. أنت تثق بقانون الجاذبية الذي لي دون حتى التفكير فيه. ينبغي أن تتعلم بأن تثق بأحكامي بذات الطريقة. معايير بِرّي لا تتغير ولا ريب فيها. لتعيش بهذا الحق عليك أن تسير في الإيمان. الإيمان الحقيقي هو أن يكون لك ثقة في مَنْ أكون أنا."
قوة كلمته
"إنك تبحث لتعرف وتسير في قوتي لتتمكن من شفاء المرضى وإنجاز عجائب، لكنك لم تبدأ بعد في فِهم قوة كلمتي. لإقامة كل الموتى الذين عاشوا على الأرض لن يجعلني حتى أن أجهد نفسي. إني أُحافظ على كل الأشياء بقوة كلمتي. تتواجد الخليقة بسبب كلمتي وأنها متماسكة بسبب كلمتي.
"قبيل النهاية سأكشف قوتي على الأرض. كما أن أعظم قوتي التي كشفتها على الأرض، أو التي سأكشفها، لا تزال عرض صغير جداً لقوتي. لست أكشف قوتي لأجعل الناس يؤمنوا بقوتي بل لأجعلهم يؤمنوا بمحبتي.
"إن كنتُ أريد أن اُخلِّص العالم بقوتي حينما سرت على الأرض لكان بإمكاني تحريك الجبال بإشارة من أصبعي. لكان الناس حينئذ يجثون لي، ليس لأنهم أحبوني أو أحبوا الحق، بل لخوفهم من قوتي. لا أريد الناس أن تطيعني لخوفهم من قوتي بل لمحبتهم لي ومحبتهم للحق.
"إن لم تعرف محبتي، فإن قوتي ستؤذيك. لست أُعطيك المحبة لكي تعرف قوتي، بل أُعطيك القوة لكي تعرف محبتي. هدف حياتك ينبغي أن تكون المحبة، وليس القوة. بعدئذ سأعطيك القوة لكي بها تحب الناس. أُعطيك القوة لتشفي المرضى لأنك تُحبهم، وأنا أحبهم ولست أريد أن يكونوا مرضى.
"لذا عليك أن تبحث عن المحبة أولاً ثم الإيمان. لن تستطيع إرضائي بدون إيمان. لكن الإيمان ليس معرفة قوتي فقط، إنه معرفة حُبّي وقوة حُبّي. ينبغي أن يمارس الإيمان من أجل إستلام محبة أكبر. إسعى للإيمان لتزيد محبتك، ولكي تعمل أكثر بحبك. فقط حينما تسعى للإيمان لكي تحب حينئذ أستطيع أن أئتَمِن لك بقوتي. الإيمان يعمل بالمحبة.
"كلمتي هي القوة التي تُعين كل الأشياء. الى الدرجة التي فيها تؤمن أن كلمتي صادقة، حينئذ تستطيع أن تعمل كل الأشياء. أؤلئك الذين يؤمنون فعلاً أن كلامي صادق، سيكونون صادقين حينما يتكلمون بأنفسهم. إنها طبيعتي أن أكون صادقاً، والخليقة تثق بكلمتي لأني وفيٌّ بكلمتي.
"أؤلئك الذين هم مثلي هم أيضاً صادقين لكلامهم. كلامهم يقين، وتعهداتهم جديرة بالثقة. كلامهم "نعم" يعني "نعم" وكلامهم "لا" يعني "لا". إن لم يكن كلامك صادق حينئذ ستشك أيضاً في كلامي، لأن الخِداع هو في القلب. إن لم تكن أميناً لكلامك، فذلك لأنك فعلاً لا تعرفني. لكي يكون لك إيمان، عليك أن تكون أميناً. دعوتك لتسير بالإيمان لأني أمين. إنها طبيعتي.
"لهذا السبب سيُحكم عليك بسبب كلامك اللامبالي التي تنطقه. لتكون لامبالياً هو أن تقلل الإهتمام. الكلمات لها قوة والذين هم لا مبالين بكلامهم لا يمكن أن يثقوا بقوة كلمتي. من الحكمة أن تكون حذِراً بكلامك وأن تحافظ عليها كما أفعل أنا."
كانت كلمات الرب تتموج عليَّ مثل أمواج البحر العظيمة. شعرت مثل أيوب قدام الزوبعة. شعرتُ وكأني صرت أصغر فأصغر ثم أدركت بأنه صار أعظم. لم أشعر أبداً بهكذا إفتراضٍ. كيف أمكنني أن أكون بهكذا طيش مع الله؟ شعرت بنفسي كنملة تنظر جبلاً بعيداً. كنت أصغر من حبة الرمل، ومع ذلك كان يصرف وقته للتحدث معي. لم أستطع الصمود أكثر فانصرفتُ.
بعد لحظات شعرت بيد مطمئنة على ذراعي. كان الحكمة. كان مجده أعظم الأن، ولكن الحكمة كان بحجمي. فسأل، "هل تدرك ما حدث حينذاك؟"
كنت أعرف جيداً أنه حينما يسأل الرب سؤالاً فإنه لا يبحث عن معلومات. فبدأت أفكر مَليّاً ما الذي كان قد حدث. كنت أعرف أن ما حدث كان واقعياً. فمقارنة مع الرب، كنتُ أصغر من حبة رمل متواجدة على الأرض، ولسبب ما أرادني أن أختبر ذلك الإدراك بطريقة عميقة.
ومجاوباً لأفكاري قال بإهتمام:
"ما تفكر فيه هو صحيح، ولكن هذه المقارنة بين الإنسان والله ليست فقط في الحجم. لقد بدأتَ تختبر قوة كلامي. لتُؤتمن بكلامي هو أن تُؤتمن بالقوة التي تمسك الكون معاً. لم أفعل هذا لأجعلك تشعر بصغرك، بل لأساعدك لأن تدرك الجدية والقوة التي أؤتُمِنت بها، ألا وهي كلمة الله.
"في جميع مسعاك، تذكر أن كلمة واحدة من الله للإنسان لها قيمة أكبر من كل كنوز الأرض. عليك أن تفهم وتُعلِّم إخوتي بأن يُقدِّروا قيمة كلمتي. فكواحدٍ مَدعُوٍّ لنقل كلامي، عليك أن تُقدِّر قيمة كلامك. أؤلئك الذين سيحملون الحق ينبغي أن يكونوا صادقين."
لقاء مع مُبَشِّر
وفيما كنت أسمع هذه الكلمات، شعرت مرغماً لرفع بصري نحو أحد العروش بجانبي. وفي الحال رأيتُ رجلاً كنتُ أعرفه. كان مُبَشِّراً عظيماً حينما كنتُ طفلاً، والكثيرين شعروا بأنه سار في قوة أعظم من أيِّ شخص أخر منذ حداثة الكنيسة. قرأتُ عنه وسمعت بعضاً من رسائله المسجلة. كان صعباً أن لا يلمس أحدٌ تواضعه الأصيل، ومحبته الواضحة تجاه الرب والناس. ومع هذا، كنتُ أشعر أيضاً أن بعضاً من تعاليمه إنحرفت بصورة جديَّة. تفاجئت لكني إرتحتُ أيضاً لرؤيته جالساً على عرش عظيم. كنتُ مأسوراً بالتواضع والمحبة التي كانت لا تزال تنضح منه.
وفيما سألتُ الرب إن كان بإمكاني التحدث مع هذا الرجل، إستطعت رؤية مدى محبة الرب له. على أية حال، أومأ لي بالإستمرار في السير ولم يسمح لي بالتكلم مع المُبشِّر.
وضح الرب الأمر قائلاً، "أردت فقط أن تراه هنا. وأن تدركَ مكانته معي. هناك الكثير لتفهمه عنه. هذا كان رسولي لكنيسة اليوم الأخير، ولكن الكنيسة لم تسمعه لأسباب ستفهمها في الوقت المناسب. ضعفتْ عزيمته وسقط في الوهم لبعض الوقت، وشُوِّهت رسالته. كان عليه أن يستردها، كما أن أجزاءً أعطيتها لأخرين غيره شُوِّهت أيضاً."
وعارفاً أن كل شئ ههنا حدث بتوقيت تام مع كل ما هو مَعنيٌّ لي أن أفهمه، بدأت أفكر في العلاقة ما بين رؤيتي لهذا الرجل وبين ما كنا نتحدث للتو، أي عن القوة الدافعة للفساد.
أجاب الرب، "نعم. هناك خطر عظيم في المضي في قوة عظيمة. قد حدث ذلك للعديد من رسلي، وهذا جزء من الرسالة التي ينبغي عليهم تسليمها الى كنيسة اليوم الأخير. عليك أن تسير في قوتي، بل تسير بقوة أعظم من هذه الإختبارات. ولكن إن بدأتَ تفكرُ أن القوة هي تأييد مني إليك، أو أنها رسالتك، فإنك ستفتح الباب الى ذات الوهم. الروح القدس مُعطى ليشهد لي. إن كُنتَ حكيماً مثل بولس فإنك ستتعلم أن تفتخر أكثر في ضعفاتك مما في مقدراتك.
"الإيمان الصادق هو إعتراف صادق عن من أنا. لا أكثر ولا أقل. عليك أن تتذكر دوماً، حتى إن ثبتَّ في محضري ورأيتني كما أنا، فإنه من الممكن أن تسقط إن تراجعتَ عني لتنظر الى نفسك ثانية. هكذا بالذات سقط لوسيفر. سكنَ في هذه الغرفة ونظر مجدي ومجد أبي. على أية حال، بدأ ينظر الى نفسه أكثر مما ينظر إلينا. ثم بدأ يفتخر في مركزه وقوته.
فالكثيرين من خدامي الذين سُمح لهم أن ينظروا مجدي وإئتُمِنوا بقوتي سقطوا بذات الطريقة التي سقط بها لوسيفر. إن بدأتَ تفكرُ أنه بسبب حكمتك إتجه بِرّك أو حتى تكريسك نحو إعتقادٍ أصيل، فإنك ستعثر أيضاً."
الثقة
عرفتُ أن ذلك التحذير كان صارماً مثل أي شئ قيل لي هنا. أردتُ الرجوع والقتال في المعركة الأخيرة، ولكن كانت لي أسئلة جدية عن مقدرتي لفعل ذلك دون الوقوع في المكائد التي بدت متواجدة في كل مكان. نظرتُ ثانية الى الرب. كان هو الحكمة. ففكرت كم إحتجت إليه لأعرفه كحكمة حينما رجعتُ.
سمعته يقول، "جيدٌ لك أن تفقد ثقتك في نفسك. لا أستطيع إئتمانك بقوات الدهر القادمة حتى تفعل ذلك. كلما فقدتَ الثقة في نفسك كلما إستطعتُ إئتمانك بقوة أكبر.
إنتظرتُ فترة طويلة لأن يستمر في كلامه، لكنه لم يفعل. بطريقة ما عرفتُ أنه أرادني أن أكمل عبارتي، ولكني لم أعرف ما أقوله. على أية حال، كلما كنت أنظر إليه كلما كنت أشعر بثقة أكبر. وأخيراً عرفت ما أريد قوله.
فأضفتُ، "إن وضعتُ ثقتي فيك،"
"نعم. ينبغي أن يكون لك إيمان لتفعل ما دُعيت لِفعله، ولكن ينبغي أن يكون إيمانٌ فيَّ. لا يكفي أن تفقد الثقة في نفسك فقط، فإن ذلك إنما يقود فقط الى عدم أمانٍ إن لم تملأ الفجوة بالوثوق فيَّ. لهذا سقط الكثيرون من هذه الناس في أوهام.
"كان العديد من هذه الناس، رجالاً ونساءً من الأنبياء. ولكن قسماً منهم، بسبب الأمان، لم يسمحوا للناس أن يقولوا عنهم أنهم أنبياء. ومع ذلك لم يكن ذلك صائباً، لأنهم كانوا أنبياء. التواضع المزيف هو خِداع أيضاً. إن تمكن العدو من خِداعهم في جعلهم يفكروا أنهم ليسوا حقاً أنبياءً، فإنه يستطيع خِداعهم أيضاً في جعلهم يفكروا أنهم أعظم الأنبياء مما هم يظنون، وذلك بتغذية ثقتهم بأنفسهم. فالتواضع المزيف لن يطرد الإفتخار. إنه شكل أخر للأنانية، الذي يحقُّ للعدو إستغلاله. كل الفشل الذي يصيبك نتيجته شئ واحد: الأنانية. الطريق الوحيد لتتحرر من ذلك هو السير في المحبة. المحبة لا تبحث ما لنفسها.
وفيما كنتُ أفكر في كل ذلك، بدأ يأتيني وضوح رائع للذهن. إستطعت رؤية معظم الإختبار من البداية الى النهاية، وكأن الإختبار مركزٌ على رسالة بسيطة واحدة. فإنتحبتُ، "كم سهلٌ أن أنخدِع من بساطة التكريس لك."
إبتسامة الرب
ثم توقف الرب ونظر إليَّ نظرة أُصلي أن لا أنساها أبداً. لقد إبتسم. لم أرد الإساءة الى هذه الفرصة، ولكن بطريقة ما شعرتُ أنه حينما إبتسم إني لو سألته أي شئ لأعطاني إياه. لذلك إنتهزتُ الفرصة.
"يا رب، حينما قلتَ، "ليكن نور،" فكان نور. أنت صليتَ في يوحنا 17 بأننا سنحبك بنفس المحبة التي أحبكَ بها الأبُ. أرجوكَ هل تقول لي الأن، "ليكن فيك محبة،" لكي أحبك محبة الأبِ؟"
لم يتوقف عن إبتسامته، بل وضع ذراعه حولي كصديق. "قد قلتُ ذلك لك، قبل تأسيس العالم حينما دعوتك. كما قلته لإخوتكَ الذين سيُحاربون معك في المعركة الأخيرة. ستعرِفَ محبة الأب لي. هي محبة كاملة ستطرد كل مخاوفك. هذه المحبة ستجعلك قادراً على الإيمان بي لكي تعمل الأعمال التي عملتها، بل أعمالاً أعظم، لأني مع أبي، ستعرِفَ محبته لي، والأعمال التي أُعطيتَ لتعملها ستمجدني. الأن، لأجل نفسك، أقول ثانية، "لتكن محبة أبي فيك،"
كنت مغموراً بالتقدير لكل هذا الإختبار. فقلتُ، "أُحِبُّ حُكمك،" ثم أدرت والتفتُ ثانية الى كرسي الدينونة، لكن الرب أوقفني.
"لا تنظر خلفك. لست أنا الأن هناك لأجلك، إنني هنا. سأقودك من هذه الغرفة راجعاً الى مكانك في المعركة، ولكن عليك أن لا تنظر خلفك. عليك أن تنظر كرسي دينونتي في قلبك، لأنه هناك مكانه الأن."
ففكرتُ في نفسي، "بالضبط مثل البستان، ومثل كنوز الخلاص،"
"نعم. كل شئ أفعله، فإني أفعله في قلبك. هناك حيث يتدفق الماء الحي أتواجد أنا."
ثم أشار لي، فنظرتُ الى نفسي، نازعاً عباءة التواضع. فأنذهلتُ بما رأيته. كان درعي محتوياً على ذات المجد الذي كان يحيط بالرب. ثم غطيته ثانية بعباءتي.
"صليتُ الى أبي في الليلة قبل الصلب أن المجد الذي كان لي معه في البدء بأن يكون مع شعبي، لكي تكونوا واحداً. فمجدي هو الذي يُوَحِّد. ففيما تتحِدون مع الأخرين الذين يحبونني سيتعظم مجدي. كلما يتعظم مجدي بإنضمام أؤلئك الذين يحبونني كلما سيعرف العالم إني أُرسِلتُ من قبل أبي. الأن سيعرف العالم فعلاً أنكم تلاميذي لأنكم تحبونني وتحبون بعضكم بعضاً"
وفيما كنت مستمراً في النظر اليه، إستمرتْ ثقتي في الإزدياد. كانت وكأنها غسلتني من الداخل. وسرعان ما شعرتُ بالإستعداد لفعل أي شئ يطلبه مني.
أنجلو
قال لي فيما كنا نمشي معاً، "لا يزال هناك شخص عليك أن تلتقي به قبل رجوعك الى المعركة،" وفيما قال ذلك، إستمرت في ذهولي عن كيفية إزدياد مجده عما كان عليه قبل بضع دقائق.
وإستمر قائلاً، "في كل مرة تراني بعيون قلبك، يتجدد ذهنك أكثر،" وتابع كلامه، "يوماً ما ستكون قادراً أن تثبت بصورة مستمرة في محضري. حينما تفعل ذلك، فكل ما تعلمته بروحي سيكون في الحال متاحاً لك، وأنا سأكون متاحاً لك."
إستطعتُ أن أسمع وأفهم كل شئ قاله لي، ولكني كنت مسبياً بمجده لدرجة توجب عليَّ أن أسأله، "يا رب، لماذا أنت ممجدٌ الأن أكثر مما ظهرت لي كحكمة؟"
"لم أتغير أبداً، لكنك أنتَ تغيرت. تغيرتَ أنت إذ تنظر بوجه مكشوف. فإختباراتك أزالت الأحجبة عن وجهك لكي تتمكن من رؤيتي بأكثر وضوح. مع ذلك لا شئ يُسرع في إزالة الأحجبة من رؤيتك لمحبتي."
ثم توقفَ، فالتفتُ لأنظر الى الجالسين على العروش بجوارنا. كنا لا نزال في المكان حيث كان يجلس الملوك النبلاء. ثم إستطعت تمييز شخص كان على مقربة مني.
"يا سيدي، أنا أعرفك من مكان ما، ولكني ببساطة لا أستطيع أن أتذكر أين."
أجابني، "رأيتني مرة في رؤيا،"
تذكرتُ في الحال وأُصبت بصدمة، "إذن كنتَ شخصاً حقيقياً؟"
أجابني، "نعم،"
تذكرتُ اليوم، كشاب مسيحيٍّ كنتُ مُحبطاً لتواجد بعض الأمور في حياتي. ذهبتُ الى منتصف منتزه قرب شقة سكني وكنت مصمماً على الإنتظار إلى أن يكلمني الرب. فيما كنت جالساً أقرأ الكتاب المقدس، خُطفتُ في رؤيا، لم أرى مثلها على الإطلاق. رأيت في الرؤيا رجلاً كان يخدم الرب بحماسٍ. كان يشهد للناس عن الرب بإستمرار، ويعلم الكتاب المقدس، ويزور المرضى ليُصلي من أجلهم. كان متحمساً للرب وكانت له محبة صادقة للناس. ثم رأيتُ رجلاً أخر، إسمه أنجلو، كان شريداً لا مسكن له. حينما تاهت هرة صغيرة في طريقه، بدأ يرفسها لكنه كبح نفسه عن فعل ذلك، رغم ذلك كان لا يزال يدفعها بقوة عن الطريق برجله. ثم سألني الرب، عن أيٍّ من الرجلين أسَرَّهُ أكثر.
قلتُ بدون تردد، "الأول،"
أجابني "كلا، الثاني،" وبدأ الرب يقول لي قصتهما.
نشأ الرجل الأول في عائلة رائعة، كانت تعرف الرب دوماً. نشأ في كنيسة مزدهرة ثم دخل إحدى أفضل كليات الكتاب المقدس في المدينة. أُعطي له مئة حصةٍ من محبة الرب، لكنه إستخدم منها خمسٌ وسبعين فقط.
أما الشخص الثاني فولد أصمّاً. أُسيئت معاملته وبقي في الظلام في وضع مزدرٍ الى أن وجدته الحكومة عند بلوغه الثمانِ سنوات. نُقل من مُنشأة الى أخرى، أُسئ إليه بإستمرار في كل واحدة منها. أخيراً، إنتهت الحالة بطرده الى الشوارع. كان الرب قد أعطاه ثلاث حِصص من محبته لمساعدته على التغلب على كل ما يعانيه، ولكنه جنَّد كل جزء منها لمحاربة الغضب الذي في قلبه والتوقف عن ضرب الهرة الصغيرة.
نظرتُ الأن الى ذلك الرجل فرأيته ملكاً جالساً على عرش أكثر مجداً مما يتخيله سليمان الملك. وكان هناك عدد كبير من الملائكة في إنتظار أوامره. إلتفتُ إلى الرب في غمرة التعجب. لم أستطع التصديق أن ما رأيته كان حقيقياً، إذ لم يكن أقل من الملوك العظماء.
توسلتُ إلى الرب، "يا رب، أرجوك قل لي بقية القصة،"
"بالطبع، لهذا السبب أنت هنا. أنجلو كان أميناً في القليل الذي أُعطي له حيث أعطيته ثلاث حِصص من محبتي. إستخدمها جميعاً ليكُفَّ عن السرقة. وصلت حالته الى الجوع، لكنه رفض أن يأخذ أي شئ ليس عائداً له. إبتاع طعامه مما استطاع جمعه من القناني وفي بعض الأحيان كان يجد مَن يدعه للعمل في زريبته.
"لم يستطع أنجلو السماع لكنه كان قادراً على القراءة، لذا أرسلتُ له نبذة من الإنجيل. وفيما قرأها فتح الروح القدس قلبه وأعطى حياته لي. حينئذ ضاعفت له حِصص محبتي، وبكل أمانة إستخدمها. أراد أن يشارك الأخرين عني لكنه لم يكن يستطيع الكلام. ومع أنه عاش في هكذا فقرٍ إلا أنه صار يُنفِقُ أكثر من نصف ما يجمعه من المال في توزيع النبذات عند زوايا الشوارع."
سألتُ الرب ظاناً أنه جلب أعداداً كبيرة من الناس للرب ليُسمح له بالجلوس مع الملوك، "كم من الناس قادهم اليك؟"
أجابني الرب، "واحِداً" وتابع كلامه، "من أجل تشجيعهُ، دعوته ليُرشد لي رجلاً مُدمناً على الكحول وعلى مشارف الموت. تشجع كثيراً حتى أنه صار يقف في تلك الزاوية من الشارع لعدة سنوات من أجل جلب نفسٍ أخرى للتوبة. كل السماء كانت تناشدني لأجلبه الى هنا بسرعة، وأنا أيضاً أردت جلبه ليستلم مكافئته."
نوع أخر من الإستشهاد
فسألتُ، "ولكن ماذا فعل أنجلو ليكون ملكاً هنا؟"
"كان أميناً في كل ما أعطيته. تغلب على كل المصاعب حتى أصبح مثلي، ومات شهيداً."
"ولكن ما الذي تغلب عليه، وكيف صار شهيداً؟"
"تغلب على العالم بمحبتي. قلة من الناس تغلبوا على مصاعب كثيرة بقليل جداً مما لديهم. يسكن الكثيرون من شعبي في بيوت تتوفر فيها وسائل الراحة قد يحسدهم عليها ملوكاً عاشوا قبل قرنٍ واحدٍ، ومع ذلك لا يُقدِّروا ما في حوزتهم. أما أنجلو فقد كان يُقدِّر حتى صندوق من الكرتون في ليلة باردة ليحوله الى هيكل ممجد لمحضري.
بدأ أنجلو يحب كل واحد وكل شئ. كان تمتعه بتفاحة واحدة أكثر من تمتع بعضاً من شعبي بوليمة عظيمة. كان أميناً في كل ما أعطيته له، مع أنه كان قليلاً جداً مقارنة مع أعطيته للأخرين، بضمنهم أنتَ. أريتهُ لك في رؤيا لأنك إجتزته مرات عديدة. حتى أنك في مرة أشَّرت له بالذهاب الى أحد أصدقائك حيث كلمته عنه،"
"هل فعلتُ ذلك؟ ما الذي قلتهُ؟"
"قلتَ، هناك إيليا أخر قد فرَّ من محطة الباص. قلتَ عنه إنه من المتدينين غريب الأطوار أُرسل من قبل العدو ليصرف نظر الناس عن الإنجيل،"
كان هذا أسوأ كارثة عانيتها في كل هذا الإختبار. كنت أكثر من مصدوم، كنت مرتعباً. حاولت أن أتذكر ذلك الحدث، لكني لم أستطع، بكل بساطة لأنه تواجد هناك أخرين أمثاله. لم يكن لي الكثير من الشفقة لوعاظ الشوارع القذرين، معتبراً إياهم أدواتٍ للشيطان أُرسلوا ليصرفوا نظر الناس عن الإنجيل.
"إني متأسف يا رب. إني متأسف حقاً."
أجابني بسرعة، "مغفورٌ لك." أنك على صواب أنه يتواجد الكثيرين ممن حاولوا الكرازة بالإنجيل في الشوارع لاسباب باطلة أو مُضِلّة. كما أن هناك الكثيرين ممن هم مخلصين، حتى وإن كانوا غير مدربين أو غير متعلمين. لا ينبغي عليك أن تحكم بحسب المظهر. هناك العديد من الخدام الصادقين الذين يشبهونه في عمله كما يتواجد بين المحترفين اللامعين في الكاتدرائيات العظيمة والمنظمات التي بناها الناس من أجل إسمي."
ثم أومأ لي لأنظر الى أنجلو. حينما التفتُ إليه، كان قد نزل من عرشه ووقف أمامي مباشرة. وفاتحاً ذراعيه أعطاني أعظم معانقة وقبَّل جبهتي مثل أبٍ. إنسكبتْ المحبة عليَّ ومن خلالي حتى شعرت أنها أكثر مما يطيقه جهازي العصبي. حينما أطلقني أخيراً، كنت مترنحاً وكأني سكران، لكنه كان شعور رائع. كانت محبةٌ لم أشعر بها من قبل أبداً.
تابع الرب كلامه، "كان من الممكن أن تُنقلَ إليك على الأرض. كان لديه الكثير ليُعطي الى شعبي، لكنهم لم يرِدوا الإقتراب اليه. حتى أنبيائي تجنبوه. نما في الإيمان بشرائه كتاباً مقدساً وبعض الكتب التي كان يقرأها مرات ومرات. حاول الذهاب الى كنائس لكنه لم يجد أية كنيسة تستقبله. إن كانت تلك الكنائس قد استقبلته لكانت قد استقبلتني. كان هو دقةُ يدي على أبوابهم."
صرتُ أتعلم تعريفاً جديداً للأسى. فسألت الرب، "كيف توفي؟" مفكراً أنه ضحّى بحياته. فإستناداً على كل ما رأيته لحد الأن، كانت نصف توقعاتي إني بطريقة ما قد أكون مسؤولاً عن ذلك.
"تجمَّد حتى الموت محاولاً إبقاء سكير على قيد الحياة كان قد أُغمي عليه من البرد."
غالبٌ غير عادي
فيما كنت أنظر الى أنجلو، لم أستطع أن أُصدِّق مدى صلابة قلبي. كما إني لم أفهم كيف أن موته بهذه الطريقة جعلته شهيداً، حيث إني فكرت أنه لقبٌ مُدخَّرٌ لهؤلاء الذين يموتون لعدم المساومة بشهادة ولائهم للرب.
فقلت، "يا رب أنا أعلم أنه غالبٌ حقاً. ومجازٌ له حقاً التواجد ههنا. ولكن هناك من يموتون بطريقة يمكن إعتبارهم شهداء فعلاً؟"
"كان أنجلو شهيداً في كل يوم عاشه. كان يعمل فقط ما فيه الكفاية من أجل البقاء على قيد الحياة، وضحى بحياته بكل سرور لإنقاذ صديق محتاج. كما كتب بولس لأهل كورنثوس، أنه حتى لو أسلمتَ جسدك لأن يحترق، ولكن ليست لك محبة، فلا تُحسبُ شيئاً، ولكن حين تُسلِّم حياتك بمحبة، فإنها تُحسبُ كثيراً. أنجلو مات كل يوم، لأنه لم يعش لنفسه بل للأخرين. مع أنه كان يعتبر نفسه دوماً الأدنى بين القديسين، فإنه كان حقاً واحداً من عظماء القديسين. كما تعلمتَ أنتَ الأن، كثيرون من الذين يعتبرون أنفسهم من أعظم العظماء، كما يعتبرهم الأخرون أيضاً من أعظم العظماء، فإنهم يُحسبَونَ الأدنى ههنا. لم يمت أنجلو من أجل عقيدة، أو لأجل شهادته في الإيمان، لكنه مات من أجلي."
فتوسلتُ، "يا رب أرجوك ساعدني لأتذكر ذلك. حينما أعود راجعاً، لا تدعني أنسى ما أراه ههنا."
"لهذا السبب أنا معك الأن، وسوف أكون معك حينما ترجع. الحكمةُ هي أن ترى بعيني، وأن لا تحكم حسب المظهر. أريتُكَ أنجلو في رؤيا لكي تعرفه حين تجتازه في الشارع. إن كنت قد شاركتَ معهُ المعرفة عن ماضيه الذي أريته لك في الرؤيا، لأسلم حياته لي أنذاك. لكان بإمكانك تلمذة هذا الملك العظيم، ولكان له أثراً عظيماً على كنيستي.
"إن كان شعبي ينظر للأخرين بالطريقة التي أراها أنا، لأمكنه تمييز أنجلو وأخرين أمثاله. لقدَّموا إستعراضاً في أعظم المنابر. لأتى شعبي من نهاية الأرض للجلوس عند أقدامهم، لأنهم بعملهم هذا كانوا سيجلسون عند قدمي. لعَلَّمهم عن المحبة، وكيف يستثمروا الهِبات التي أعطيتها لكم لجلب ثمار أكثر."
كنت خجلاً جداً حتى إني لم أرِد النظر الى الرب، ولكن أخيراً التفتُ اليه لشعوري بوجع يقودني نحو أنانيتي ثانية. حينما نظرتُ اليه عُميت فعلاً بمجده. إستغرق ذلك وقتاً لكنه تنظمت عيني تدريجياً فتمكنت من رؤيته.
قال، "تذكر أن خطاياك مغفورة،" وتابع كلامه، "لست أُريكَ هذه الأشياء لأدينك، بل لأُعلِّمكَ. تذكر دوماً أن الحُنوِّ سيزيل الأحجبة عن نفسِكَ أسرع من أي شئ أخر."
فيما بدأنا السير ثانية، ناشدني أنجلو، "أرجوك تذكر أصدقائي الذين لا مأوى لهم. فالكثيرين منهم سيحبون مُخلِّصنا إن ذهب أحدٌ إليهم."
كانت كلماته بهكذا قوة حتى إني تأثرت جداً من أن أُجيبه، فأومأتُ برأسي. كنت أعلم أن كلماته هذه كانت مرسوماً صادراً من ملك عظيم، وصديقاً عظيماً لملك الملوك.
فسألتُ، "يا رب، هل ستساعدني لمساعدة أؤلئك الذين لا مأوى لهم؟"
أجابني، "سأساعِدُ كل واحدٍ يساعدهم. حينما تحب أؤلئك الذين أُحبهم، فإنك ستعرف دوماً مساعدتي. سيُعطى لهم "المساعد" بكيلِ محبتهم. طلبتَ مني مرات عديدة مِسحةً أكثر، وستستلمها. أُحب أؤلئك الذين أُحِبهم. وفيما تُحبهم فإنك تُحبني. وفيما تُعطي لهم فإنك تُعطيني، وأنا سأُعطيك أكثر في المقابل."
العيش كمَلِك
ساقني ذهني الى بيتي الجميل والى كل ما أمتلكه. لم أكن ثرياً، لكني علمتُ أنه بالمقاييس الأرضية كنت أعيش أفضل من الملوك الذين عاشوا قبل قرنٍ مضى. لم أشعر أبداً بالذنب عن ذلك قبلاً، لكني علمتُ الأن. بطريقة ما كان شعوراً جيداً، ولكن في نفس الوقت لم يكن الشعور صحيحاً. ثم نظرتُ ثانية الى الرب، لأني علمتُ أنه سيساعدني.
"تذكر ما قلته كيف أن قانون محبتي الكامل صنع النور وميَّزهُ عن الظلام. حينما يأتي إرباك كما تشعر الأن، فإنك تعلم أن ما تختبره ليس قانون محبتي الكامل. أبتهجُ لإعطاء عائلتي عطايا جيدة، تماماً مثلما تفعل أنت لعائلتك. أريدك أن تستمتع بها وتقدِّرها. ومع ذلك، عليك أن لا تعبدها، وعليك أن تشاركها بحرية حينما أدعوك لفعل ذلك.
"بإمكاني أن أُلوِّح بيدي وفي الحال يُزال كل الفقر في الأرض. سيكون هناك يوم الحساب حينما تُسقط الجبال والأماكن العالية، ويُرفع المساكين والمضطهَدين، ولكن ينبغي أن أفعل ذلك. حُنو الإنسان متعارض معي تماماً كإضطهاد الإنسان. إستخدم حُنو الإنسان كبديل لقوة صليبي. لم أدعوك للتضحية، بل للطاعة. ينبغي في بعض الأحيان أن تضحي من أجل أن تطيعني، ولكن إن لم تكن تضحيتك بالطاعة، فإنها ستفصِلُ بيننا.
"إنك مذنبٌ للطريقة التي أخطأت في حُكمك ومعاملتك لهذا الملك العظيم حينما كان خادمي على الأرض. لا تحكُم على أحد دون أن تسألني. فاتتك لقاءاتٌ غير متوقعة من التي عيّنتها لك، أكثر مما تتصور، لأنك ببساطة لم تكن حساساً لي. على أية حال، لم أُريكَ ذلك لأجعلك تشعر بالذنب، بل بالأحرى لأجلبك الى التوبة كي لا تستمر في تفويت هكذا فرصٍ.
"إن أذنبتَ في ردة فعلك، فإنك ستبدأ في فعلِ أمورٍ للتعويض عن ذنبِكَ، وهذا إهانة لصليبي. صليبي وحده يستطيع أن يزيل الذنب. ولأني ذهبت الى الصليب لأزالة ذنبك، فإن أي شئ يُعمل بذنبٍ فإنه لا يُعمل لأجلي.
إستمر الحكمة، "لستُ أستمتع برؤية معاناة الناس. ولكن شفقة الإنسان لن تقودهم الى الصليب، فهو وحده يستطيع إراحتهم من معاناتهم الحقيقية. فاتكَ أنجلو لأنك لم تخطو في شفقة. سيكون لك أكثر حينما ترجع، ولكن ينبغي أن تخضع شفقتك لروحي. ومع إني لم أشفي كل أؤلئك الذين كنت أشفق عليهم، لكني فعلت ما رأيت أبي يفعله. ليس عليك فقط أن تفعل أشياءً بدون شفقة، بل أيضاً في الطاعة لروحي. حينئذ فقط سيكون لشفقتك قوة إفتداءٍ.
"أعطيتكَ هِباتَ روحي. عرِفتَ مِسحتي في وعظاتك وكتاباتك، لكنك عرفتها أقل بكثير مما تظن. نادراً ما تُبصر فعلاً بعينيَّ أو تسمع بأذنيَّ أو تفهم بقلبي. بدوني لا تستطيع فِعل أي شئ يُفيد مملكتي أو يُعزِّز إنجيلي.
"حاربتَ
في معاركي، حتى إنك رأيت قمة جبلي. تعلمتَ رماية سهام الحق وإصابة العدو. تعلمتَ
قليلاً كيف تستخدم سيفك. ولكن تذكر أن المحبة هي سلاحي الأعظم. المحبة لن تفشل أبداً.
المحبة ستكون السلاح الذي يحطم أعمال إبليس. والمحبة ستكون السبب في جلب مملكتي.
المحبة هي الراية فوق جيشي، وتحت تلك الراية ينبغي أن تحارب الأن".
ثم رجعنا الى رِواقٍ ولم نعد في قاعة الحكم العظيمة. كان مجد الحكمة بكامله حولي،
لكني لم أستطع رؤيته بصورة واضحة. وفجأة وجدتُ باباً. كان أول حافز لي هو الرجوع لأني
لم أرد المغادرة، ولكني علمتُ أنه ينبغي أن أدخله. كان هذا هو الباب الذي قادني
إليه الحكمة. كان علي الدخول من خلاله.
الدعوة
وقفتُ أنظر الى الباب الذي كان عليه دخوله. كان باباً عادياً وكئيب. وفيما التفتُ لأنظر ثانية قاعة الحكم العظيمة، إنغمرتُ بإمتدادِ مجده. لم أرد المغادرة مع إن شرَّ قلبي كان مكشوفاً بشكل متواصل. ومع أن هذه العملية كانت موجعة إلا أنها حررتني لدرجة لم أرِد توقفها. كنت تواقاً فعلاً الى أكثر إيمانٍ راسخٍ.
فتدخل الحكمة عارفاً أفكاري، "سيكون لك أكثر. ما وجدته هنا سيمضي معك. على أية حال، ليس عليك المجئ الى هنا لكي تتغير. قوة الصليب كافية لتغييرك. ما اختبرته هنا يمكنك إختباره كل يوم. أُرسل الروح القدس ليُبكتك على خطية، ويقودك الى الحق، وليشهد لي. هو معك بإستمرار. عليك أن تتعرف أكثر على الروح القدس.
"الكثير من الناس يؤمنون في الروح القدس، ولكن القليل منهم يفسحون له المجال في حياتهم. وفيما يقترب هذا الدهر من نهايته فإن ذلك ستيغير.
الروح القدس على وشك التحرك فوق الأرض كما فعل في البداية. هو الذي سيتولى أمر الفوضى والإرباك المنتشر على الأرض، هو الذي سيجلب الخليقة الممجدة الجديدة في وسط الأرض. أنت على وشك دخول أزمان حيث يفعل الروح القدس عجائب بشكل متواصل، وسيكون العالم كله في رُهبة لأفعاله.
"سيفعل كل هذا من خلال شعبي. حينما يتحرك الروح القدس سيتنبأ أولاد وبنات الله. وسيحلم من الكبير الى الصغير أحلاماً وسيرون رؤى. وسيعملون بإسمي الأعمال التي عملتها، وأعمالاً أعظم لكي أتمجد في الأرض. كل الخليقة تئن وتتمخض لما سيفعله الروح القدس.
"ما ستجده من عبورك هذا الباب سيساعدك لتهيئة نفسك لِما هو أتٍ. أنا المُخلِّص لكني أنا أيضاً الحاكم. إني مزمع أن أُظهر نفسي الى العالم كحاكمٍ بارٍ. أولاً، ينبغي أن أكشف حُكمي لأهل بيتي. شعبي على وشك أن يعرف رِفقة الروح القدس. بعدئذ سيعرفون قوته لتبكيت الخطية. وسيعرفون أيضاً أنه سيقودهم دوماً الى الحق الذي سيُحرِّرهم. هذا هو الحقُّ الذي يشهد لي. عندما يأتي شعبي ليعرفني كما أنا، حينئذ سأستخدمهم ليشهدوا عني.
"أنا الحاكم، ولكن من الأفضل أن تحكم على نفسك بنفسك كي لا أضطر على الحكم عليك.
كما أن أحكامي على وشك أن تُسترد لشعبي. سأحكم على أهل بيتي أولاً. بعد ذلك سأحكم على الأرض كلها."
تألَّقَ مجد الحكمة في كل مكان حولي. لم أرَ هكذا روعة قبلاً، حتى ههنا. وكان تألقه يزداد فيما كان يتكلم عن أحكامه. حينئذ علمت أن المجد سينجلي بمعرفته كحاكمٍ ليكون أعظم مما كنت أعرفه قبلاً. بدأت أشعر بمدى صغري وتفاهتي في محضره إذ إستصعب عليَّ التركيز لما كان يقوله. فحينما فكرت بأني سأكون مغموراً بمجده، مدَّ يده ولمسني على جبهة وجهي بِرقةٍ ولكن بثبات. حينما فعل ذلك، تمكن ذهني من التركيز والصفاء.
"بدأتَ تنظرُ الى نفسِكَ. هذا سيجلب إرباكاً دائماً، مما سيصعب عليك أن تسمعني. في كل مرة تختبر لمستي، سيتصفى ذهنك. في كل مرة تشعر بحضوري، إعلَمْ إني جئت لألمسك من أجل أن تراني وتسمعني. عليك أن تتعلم أن تسكن في محضري بدون الوعي لذاتك والإنهماك في شؤون نفسك. هذا يسبب لك الإنحراف عن الحق المتواجد فيَّ والإتجاه الى الضلال المتواجد في الطبيعة الساقطة.
"كثيرون من الناس سقطوا حينما لمسهم روحي القدوس. زمن السقوط قد مضى. ينبغي أن تتعلم لأن تصمد حينما يتحرك روحي. إن لم تستطع الصمود حينما يتحرك روحي، فإنه لن يستطيع إستخدامك. ينبغي أن يسقط الملحدين قدامي، لكني بحاجة الى شعبي لأن يصمد لكي أستطيع إستخدامه."
فخر التواضع المزيف
سمعتُ سُخطاً في صوت الرب حينما قال لي ذلك. شعرت بأنه مثل ذاك السخط الذي كان يستخدمه مع تلاميذه في الأناجيل. وفي الحال فهمتُ أن سخطه كان يأتي عادة حينما بدأوا ينظرون إلى إحتياجاتهم أو فشلهم. فناشدته، "يا رب إني متأسف. ولكن محضرك غمرني جداً. كيف أتجنب الشعور بصغري حينما أكون قريباً منك كما الأن؟"
"أنت
صغير، ولكن ينبغي أن تتعلم أن تثبت في محضري دون النظر الى نفسك. لن تستطيع أن
تتعلم مني أو تتكلم إليَّ إن نظرت الى نفسك. ستكون في إحتياج دائماً. ستكون دوماً
غير جديرٍ لما أدعوك لفعله، ولكن لن تكون أبداً كفايتك أو جدارتك هي التي تجعلني
أستخدمك. ينبغي أن لا تنظر الى عدم كفايتك، بل تنظر الى كفايتي. ينبغي أن تتوقف عن
النظر الى عدم جدارتك وتنظر الى بِرِّي. حينما تُستخدمُ، فذلك يعود الى من أنا، وليس
الى من أنت.
"شعرتَ بغضبي فيما بدأت تنظرُ الى نفسك، هذا هو الغضب الذي شعرتُ به تجاه
موسى حينما بدأ يشكو عن مدى إحتياجه. هذا إنما يكشف أنك تنظرُ الى نفسك أكثر مما
تنظر إليَّ، وهو السبب الرئيسي بأني قادر على إستخدام قلة من شعبي لما أرغب في فعله.
هذا التواضع المزيف هو في الواقع شكل من الإفتخار الذي سبَّب في سقوط الإنسان. إذ
بدأ أدم وحواء يشعران بعدم كفاياتهما لذا إحتاجا أن يكونا أكثر مما صنعتهما لأن يكونا.
أخذا على عاتقهما أن يجعلا أنفسهما لما يتوجب عليهما أن يكونا. لن تستطيع أبداً أن
تجعل نفسك لما ينبغي أن تكون، بل عليك أن تثق بي لأجعلك ما ينبغي أن تكون."
بالرغم من أني لم أنسب التواضع المزيف الى سقوط الإنسان في البستان، لكني كنتُ أعلم أن هذا كان أعظم حجر عثرة سبَّبَ في منع الكثيرين أن يكونوا مفيدين للرب، وكنتُ بنفسي أُعلِّم هذا الشئ مرات عديدة. أما الأن وأنا في محضره فإن تواضعي المزيف قد إنكشف وتبين أنه أسوأ مما رأيتهُ في أي إنسان على الإطلاق. هذا الشكل من الإفتخار كان مثيراً للإشمئزاز، كما تمكنتُ من إدراك السبب في إشتعال غضب الرب.
حينما نكون في محضره، كل ما نحن عليه ينكشف بسرعة، وبالرغم من كل الحُكم الذي تحملته للتو، فإنه لا يزال لدي بعضاً من الخلل في المبادئ منعتني من معرفة الرب وخدمته التي دُعيت لها. وإذ كان ذلك صدمة كبيرة، لم أرِد أن يسكن فيَّ أيَّ غضبٍ بعد، لذا إلتفتُ لأنظر الى الرب، راغباً في رؤية مجدٍ أعظم يمكنني تحمله فيما كان معي في تلك الحالة. وفي الحال تحول إكتئابي الى نشوة. أرادت ركبتيَّ أن تنثني، ولكني كنتُ مصمماً على الوقوف قدر إمكاني.
بعد ذلك بقليل، إستيقظت. بعدها بأيام عديدة، شعرت بطاقة تتدفق فيَّ جاعلة كل شئ يبدو متألقاً. أحببتُ كل شئ رأيته. بدَتْ مسكة الباب رائعة تفوق الوصف. بدت البيوت والسيارات القديمة جميلة لي حتى إني تأسفت لعدم كوني فناناً يمكنه تصوّر جمالها وفخامتها بالرسم. بدت الأشجار والحيوانات كأصدقاء شخصية. كل شخص رأيته كان مثل مكتبة إعلانات وما تعنيها، وكنت شاكراً لأتعرف عليهم جميعاً طوال الأبدية. لم أستطع رؤية أي شئ من دون رؤية عظمته، بالكاد إستطعت التصديق بأني سِرتُ عِبر هذا كله في حياتي وفاتني منه الكثير.
ومع شعوري بتدفق كل هذه الإنفعالات والإعلانات فيَّ، إلا أني لم أعرف ماذا أفعل بها. علمت أنه إن لم أتعلم كيفية إستخدامها على الدوام فإنها ستضمحل، وهذا ما حدث بعد بضعة أيام. إذ شعرت وكأن معنى الحياة تنساب مني، وعلمت أنه عليَّ إستردادها. فما اختبرته كان أكثر روعة من أيِّ مخدر، فقد كنت مدمناً. هذا كان نتيجة رؤيتي لمجد الرب، وأردت رؤية المزيد. كانت رغبتي أن أتعلم كيف أثبت في محضره وأدع حياته تتدفق من خلالي من أجل أن ألمس الأخرين. كان عليَّ الثبات في الروح القدس والسماح له بإستخدامي. هذه كانت دعوتي.
شاهدان
كنتُ لأيام عديدة في كأبة عميقة. بدا لي كل شئ كئيباً جداً. حتى صوت الناس كان يثيرني، وأي إزعاج يتخلل في أي عمل أردت إنجازه كان يغضبني. فكرتُ بمدى ردائة كل فرد، وينبغي النضال لإحتواء الأفكار السوداء التي نشأت فيَّ تجاههم. شعرتُ وكأني قد انزلقت الى الجحيم وبأني أنزلق الى عمق أكثر كل يوم. وأخيراً صرختُ الى الرب وفي الحال وجدتُ نفسي واقفاً أمام الباب والحكمة واقف بجانبي.
"يا رب، أنني متأسف. لقد إنزلقت من محضرك في الطريق الى الجحيم كما يبدو."
أجابني، "لا يزال العالم كله موضوعاً في قوة الأثيم. وإنك تسير على حافة الجحيم كل يوم. من خلال منتصفه هناك طريق الحياة. هناك خنادق عميقة على كل جهة من طريق الحياة، لذا ينبغي أن لا تنحرف عن الطريق الضيق."
قلتُ، "سقطتُ في إحدى هذه الخنادق ولم أستطع الخروج."
أجابني، "لا أحد يستطيع إيجاد طريق للخروج من هذه الخنادق. فبمتابعتك لطريقك هو الذي أدى بك الى السقوط فيها، ولن يقودك أبداً طريقك على الخروج منها. أنا هو الطريق الوحيد للخروج. حينما تسقط، لا تُضيّع وقتك محاولاً إكتشاف طريقٍ للخروج، لأنك ستقود نفسك الى الغرق العميق في الطين. أطلب المساعدة فقط، أنا راعيك وسأساعدك دائماً حينما تدعوني."
قلتُ، "يا رب، لا أريد إضاعة وقتي محاولاً إكتشاف كل شئ، لكني أريد فعلاً أن أفهم كيف سقطتُ هكذا عميقاً بهكذا سرعة. ما الذي جعلني أنحرف عن طريق الحياة وأسقط في خندق مثل هذا؟ أنت الحكمة، وأنا أعلم أنه حكمةٌ لأن أسأل."
"من الحكمة أن تعرف متى تسأل لطلبَ الفِهم ومتى تسأل لطلبَ المساعدة. هنا من الحكمة لك أن تسأل. فقط حينما تكون في محضري تستطيع أن تفهم. فِهمك سينحرف دوماً حينما تكون كئيباً، ولن تستطيع أبداً رؤية الحق بدقة من ذلك المكان. الكأبة هي الإنخداع الذي يأتي من رؤيتك للعالم من منظورك. الحق يأتي من رؤيتك للعالم من خلال عينيَّ من مكان جلوسي، في جهة اليمين من الأب. مثل السرافيم في أشعياء 6، الذين يثبتون في محضري سيقولون: إمتلئت الأرض كلها من مجده."
تذكرتُ كيف إني كمؤمن ناشئ، قرأتُ هذه العبارة وفعلاً فكرتُ أن تلك السرافيم قد إنخدعت. لم أستطع الفهم كيف يمكنهم القول، "كل الأرض إمتلئت من مجده،" فيما بدت كل الأرض ممتلئة بالحروب والأمراض وإساءة الأطفال والغدر والشر في كل مكان.
ثم تكلم إليَّ الرب في يوم قائلاً، "السبب أن هذه السرافيم قالت أن الأرض كلها إمتلئت بمجدي هو لأنها تسكن في محضري. حينما تسكُن أنت في محضري، حينئذ لن ترى شيئاً إلا المجد."
قلتُ، "يا رب، أتذكر أنك علمتني ذلك، ولكن لم أحياه بصورة جيدة. قضيتُ الكثير من حياتي في رؤية الأشياء من الناحية المظلمة. أظن إني قضيت الكثير من حياتي جالساً في أحد تلك الخنادق بجانب طريق الحياة بدلاً من السير عليه."
أجابني الرب، "هذا صحيح. كنتَ بين الحين والأخر تستيقظ وتمشي عدة خطوات، ثم تنزلق في خندق على الجهة الأخرى. مع ذلك، أنجزتَ بعض التقدم، ولكن حان الوقت للبقاء على طريق الحياة. لم يعد لك وقتٌ أكثر لإضاعته في تلك الخنادق."
غمرتني طيبة الرب وصبره فيما إستمر في الكلام.
بدأ بالقول، "ما الذي جعلك تنزلق في الخندق في المرة الأخيرة؟"
وبعد التفكير بذلك، إستطعت أن أرى بأني أصبحت مستهلكاً بإحتفاظي على مشاعري بدلاً من التفكير في مصدر المشاعرِ.
إعترفتُ قائلاً، "إنحرفتُ بعيني عنك."
أجابني، "أعلمُ أن ذلك يبدو سهلاً، ولكن هذا هو كل ما فعلته، فإنحراف نظرك عني هو كل ما عليك أن تفعله لتنحرف عن طريق الحياة. عندما تثبت فيَّ فإنك لن ترى إلا مجدي. هذا لا يعني أنك لن ترى النزاعات والفوضى والظلمة والضلال الموجود في العالم، ولكن حينما تراها، فإنك سترى دوماً إجابتي عليها. عندما تثبت فيَّ فإنك سترى دوماً كيف أن الحق يسود على الضلال وسترى الأسلوب الذي تسير فيه مملكتي."
قلتُ، "يا رب، حينما أكون هنا، فإن كل هذا واقعيٌّ لي أكثر من أي شئ إختبرته على الأرض، ولكن حينما أكون على الأرض، فإن كل ما موجود هنا يبدو لي كحلمٍ وهمي. أنا أعلم أن هذا حقيقة صادقة وأن ما يخصُّ الأرض مؤقت. كما أعلم إن كان هذا المكان أكثر واقعيٍّ لي على الأرض، لأمكنني السير في حكمتك بصورة أفضل والبقاء في طريق الحياة. قُلتَ أنه من الحكمة أن أسأل. أسألك أن تجعل هذا العالم أكثر واقعيٍّ لي حينما أكون على الأرض. حينئذ سأكون قادراً على السير بأكثر كمال في طريقك. كما أسألك أن تساعدني لأنقل هذا الواقع الى الأخرين. الظلمة تزداد عظمتها على الأرض، وهناك القليل من لهم رؤيا. أسألك أن تعطينا قوة أكثر، دعنا نرى من مجدك أكثر، دعنا نعرف الحُكم الصادق الأتي من محضرك."
أجابني، "عندما تبدأ العيش بما تُبصِرهُ عَيني قلبك، فإنك ستسير معي، وستنظر مجدي. عيني قلبك هما نافذتك لرؤية عالم الروحي هذا. يمكنك من خلال عيني قلبك المجئ الى عرش النعمة في أي وقتٍ. إن جئت إليَّ ، فإني سأكون أكثر واقعيٍّ لك. كما سأئتمِنُ لك بقوة أكثر."
فيما كان يتكلم، وجدت نفسي مضطراً لألتفتَ وأنظر الأعداد الهائلة من الملوك والأمراء والأصدقاء وخدام الرب الذين كانوا جميعاً واقفين في قاعة الحُكم. فإعجوبة ومجد كل ما تواجد هناك كان عظيماً جعلني مسروراً للبقاء هناك على الدوام. كما إني كنتُ مندهشاً جداً لمجرد التفكير أن هذا المكان ليس إلا بداية السماء. ولكن مع كل عجائبها، فإن إعجوبة السماء كان محضر الرب. هنا في بداية السماء، هو كان الحكمة وكان الحاكم، اللذان يتشابهان.
فأردتُ الإستعلام، "يا رب. أنت هنا الحكمة والحاكم، ولكن كيف تعرفك بقية الممالك في السماء؟"
"أنا الحكمة وأنا الحاكم في كل مملكة، ولكني أيضاً أكثر من ذلك. ولأنك سألتَ، فإني سأُريك مَن أنا. مع إنك بدأت تعرفني كحكمة وكحاكم. عندما يحين الوقت فإنك سترى أكثر عني، ولكن هناك الكثير لتتعلمه عن أحكامي أولاً."
الشاهد الأول
قال صوتٌ لم أسمعه من قبل، "أحكام الله هي أول خطوة الى العالم السماوي." وتابع الصوت، "حينما يأتي يوم الدينونة، سيكون المَلِكُ معروفاً لدى الجميع، وستُفهم أحكامه. حينئذ ستتحرر الأرض. أنت طلبت أحكامه لتسري على حياتك، أطلب الأن أحكامه لتسري على العالم."
إلتفتُ لأنظر المتكلم. كان مظهره عظيماً ومتألقاً، لكنه أقل من الأخرين الذين إلتقيت بهم في قاعة الحكم. أعتقد أنه كان ملاكاً، لكنه قال بعدئذ:
"أنا لوط. إنك أُختِرتَ لتعيش في أوقات صعبة تماماً مثلما أُختِرتُ أنا. كما عاش إبراهيم وتشفَّع لأجل سدوم، عليك أن تفعل الشئ ذاته. إثناء الزمان الذي فيه ينطلق الفساد العظيم على الأرض، سيظهر للعيان أيضاً رجال ونساء من ذوي الإيمان العظيم. فكما إبراهيم عليك أن تستخدم إيمانك لتتشفع من أجل الاشرار، وعليك أن تشهد عن مجئ دينونة الله على الأرض. لا يستطيع الرب أن يتحمل إزدياد شر البشرية أكثر. أنا كنتُ ساكتاً وكثيرين هلكوا. لا ينبغي أن تكون مثلي، لا ينبغي أن تكون ساكتاً."
فسألتُ، "قل لي أكثر. كيف أُحذِّرهم؟"
أجابني، "إعتقدتُ بأني سأكون إنذاراً لمجرد كوني مختلفاً. لتكون مختلفاً عن البقية ليس كافياً. تتحرر قوة الروح القدس لتبكيت الناس على الخطية بالكلمة المقولة. ما فعله الرب في سدوم، إنما فعله كمثال من أجل أن لا يهلك الأخرون بذات الطريقة. بإمكانك أن تُحذِّر أؤلئك المتجهين نحو الدمار بأن تقُصَّ لهم قصتي. هناك الأن العديد من المدن لن يستطيع الرب إحتمال شرَّها بعد. إن لم ينهض أؤلئك الذين يعرفون الرب، فسيتواجد هناك العديد من سدوم عن قريب جداً.
"يوم الحساب قادم. حينذ ستعرف كل الخليقة حِكمة أحكام الرب، ولكن لا ينبغي عليك أن تنتظر ذاك اليوم. عليك أن تطلب أحكامه كل يوم، وعليك أن تجعلها معروفة على الأرض. إن سار شعب الرب في أحكامه فإن العديد من سكان الأرض سيعرفها قبل يوم الدينونة العظيم. وهكذا سيخلص أناس أكثر. إنها رغبته أن لا يهلك أحد وأن لا يعاني أحداً من شعبه خسارة في ذلك اليوم.
"سكان الأرض عميان. لن يُبصروا لمجرد محاولتك أن تكون شاهداً. رسالة الدينونة ينبغي أن تنطلق بكلام. الروح القدس يُعطي مِسحةً للكلام، ولكن الكلمات ينبغي أن يُتفوّه بها من أجل أن يُعطي الرب مِسحةً عليها.
"البِر والعدالة هما أساس عرشه. إقترب شعب الرب ليعرف شيئاً عن بِرِّه، ولكن القليل منهم يعرف عدالته. سيبقى عرشه في بيته، لذلك فحُكمهُ ينبغي أن يبدأ من بيته.
"ينبغي أن تعيش في الحقِّ الذي تعلمته هنا، وينبغي أن تُعلِّمهُ. أحكام الرب قادمة. إن سار شعبه في أحكامه قبل يوم الدينونة، فسيكون ذلك اليوم مجيداً لهم. إن لم يعِش شعبه في أحكامه، فسيعرفون هم أيضاً الأسى المُزمع أن يعرفه العالم. أحكامه لن تكون صادقة إن لم تطبق على الجميع. فمن خلالك ومن خلال الأخرين سيناشد شعبه ثانية لكي يحكموا على أنفسهم خشية أن يُحكم عليهم. ثم يتوجب عليك مناشدة العالم."
أرشدني لوط لأنظر الى الباب الذي كان قدامي. بدا الباب داكناً وغير مُسِرٍّ، فكرتُ بأنه مثل تعاليم حُكم الله. مجد الرب الذي أحاط بنا جعله يبدو أكثر كأبة. فعرفتُ الأن مدى تألق حكمه فعلاً. كما توصلتُ الى الإدراك تقريباً بأن كل باب يقودنا الرب من خلاله يبدو كئيباً في البداية ثم يصير متألقاً. بدا تقريباً أنه كلما كان الباب كئيباً كلما كان متألقاً عند الجهة الأخرى. يتطلب إيماناً لمجرد العبور من خلال أبوابه، ولكنها جميعاً تقود الى مجد أكثر.
إستمر لوط مع تسلسل أفكاري. فقد تعلمتُ، أن الأفكار في هذا المكان تذاع على الجميع.
"من خلال هذا الباب، ستختبر أكثر عن مجده. مجده ليس فقط إشراق تراه حوله أو في هذا المكان، وليس مجرد مشاعر تحسها فيما تثبت في الرب. فمجده ينكشف أيضاً خلال أحكامه. هذه ليست الطريقة الوحيدة التي فيها ينكشف مجده، لكنك بهذه الطريقة دُعيت ههنا لكي تفهم. من خلال ذلك الباب، ستتعلم طريقة أخرى لرؤية مجده. فبرؤية مجده سيتغير شعبه، وهو مُزمع أن يريهم مجده. حينما يُبصرون مجده، فإنهم سيبتهجون في كل طرقه، حتى في أحكامه."
الشاهد الثاني
ثم تكلم صوتٌ أخر، "أنا أيضاً أشهد لهذا الحق. حُكم الله مزمع أن يُكشف على الأرض. كما أن الرحمة ستسود على الحكم. يُبسِط الرب دوماً رحمةً قبل حُكمٍ. إن حذَّرت الناس أن أحكامه مقتربة فإن رحمته ستخلص العديد منهم."
لم أعرِف مَن كان المُتكلم، لكنه كان رجلاً أخر له نبل وهيبة عظيمة، كان تألقه يشير الى علو مرتبته.
قال، "أنا يونان. حينما تفهم أحكام الرب، ستفهم طرقه. على أية حال، حتى إن فهمتها فذلك ليس معناه أنك تتفق معها. الفِهم ضروري، ولكن ليس ذلك كافياً.
"كنتَ في أغلب الأحيان تسألُ عن حضور الرب ليسير معك. هذه حكمةٌ. كنتُ نبياً، وكنتُ أعرف الرب، ومع ذلك حاولت الهروب من محضره. كان ذلك حماقة عظيمة، ولكن ليس كالحماقة التي تفكر بها. توصلت الى إدراك التوهج العظيم المتوافق مع حضوره. توصلت الى إدراك المسؤولية المتوخاة من التقرب إليه. في محضره، يُلتهم كل الخشب والقش وما يبقى من الزرع بعد الحصاد. حينما تقترب إليه وخطية مخفية في قلبك، فإنها ستدفعك الى الجنون، فالكثيرين تعلموا ذلك خلال الدهور. لم أُحاول الهروب من مشيئة الرب بقدر ما كنت أهرب من محضره.
"حينما تسأل عن واقعية محضره، فإنك تسأل عن الواقعية التي رأيتها هنا لتكون معك. السماء بيتك الحقيقي، ولك الحق أن تشتاق إليه. كذلك، الله قدوس، فإن سرت مقترباً منه، فإنك أيضاً ينبغي ان تكون قديساً. كلما إقتربت إليه كلما تكون خطيتك المخفية مميتة."
أجبته، "إنني أفهم هذا. لهذا السبب سألتُ أحكام الله في حياتي."
إستمر يونان، ""الأن ينبغي أن أسألك: هل ستبحث عنه؟ هل ستأتي إليه؟"
أجبته، "بالطبع، أرغب محضره أكثر من أي شئ أخر. ليس هناك شئ أعظم من التواجد في محضره. أعلم أن الكثير من حوافزي للرغبة في التواجد معه هي أنانية، ولكن وجودي معه سيساعد على تحرري من هذا النوع من الأنانية. أريد أن أكون معه. سأتي إليه."
إستمر يونان، "هل ستفعل ذلك؟ لحد الأن كُنتَ أحمقاً أكثر مما كنتُ أنا. يمكنك المجئ بجرأة قدام عرش النعمة في أي وقتٍ ولأيِّ إحتياج، لكنك نادراً ما تأتي. الإشتياق الى محضره ليس كافياً. عليك أن تأتي الى الرب. إن إقتربت إليه فإنه سيقترب إليك. لماذا لا تفعل ذلك؟ إنك على الدوام أقرب إليه مما تشاء.
"أتى الكثيرون ليعرفوه ويعرفوا طرقه، لكنهم لم يأتوا إليه. في الوقت الذي تدخلُ قريباً، سيرحلوا هم عن طرقه لإنهم لم يأتوا إليه. ضحكتَ على حماقتي، التي كانت عظيمة، ولكن حماقتكَ هي أعظم من حماقتي. على أية حال، لستُ أضحكُ على حماقتك، بل أبكي من أجلك. مُخلِّصك يبكي من أجلك، إنه يتشفع من أجلك بإستمرار. حينما يبكي مُخلِّصك، كل السماء تبكي. أنا أبكي لأني أعلم مدى حماقة شعبه. أنا أعرفكَ لأنك مثلي تماماً، وكما أنا كذلك الكنيسة تهرب الى ترشيش، راغبة في التعامل مع العالم أكثر من الجلوس قدام عرشه المجيد. وفي نفس الوقت، فإن سيف أحكام الله مُعلَّق فوق الأرض. إنني أبكي لأجل الكنيسة لأني أعرفك جيداً."
ناشدتهُ، "إني مذنبٌ. فماذا ينبغي أن نفعل؟"
إستمر يونان، "عواصف عظيمة قادمة على الأرض. كنتُ نائماً حينما ضربت العاصفة المركب الذي كنت فيه فيما كنتُ هارباً من الرب. الكنيسة نائمة أيضاً. كنتُ نبياً لله، ولكن كان على الأمميين أن يوقظوني. هكذا الحال مع الكنيسة. لدى الأمميين فِطنة أكثر من الكنيسة في هذا الوقت. إنهم يعرفون متى تسير الكنيسة في الطريق غير الصحيح، وإنهم يهزّون الكنيسة محاولين إيقاظكم من أجل أن تطلبوا إلهكم.
"عن قريب سيقذفكم رؤساء العالم من المركب، تماماً كما فعل الرجال في ذلك المركب معي. لن يسمحوا لكم بالإستمرار في الطريق الذي تتجهون إليه. هذه هي نعمة الله لكم. حينئذ سيُؤدِّبكم بوحش عظيم أتٍ من البحر. وهذا سيبتلعكم لبعض الوقت، لكنه سيتقيئكم فتخرجون منه. حينئذ ستُبشِّرون برسالة الرب."
سألتُ، "أليس هناك من طريق أخر؟"
أجابني يونان، "نعم، هناك طريق أخر. مع إنه أتى وهو يأتي. فإن قِسماً يتواجد الأن في بطن الوحش. وقِسمٌ مزمع أن يُقذف من المركب، وقِسمٌ أخر لا يزال نائماً، ولكن تقريباً معظم الموجودين على المركب سائرين في طريق مخطئ، باحثين عن التجارة مع العالم. على أية حال، تستطيع أن تحكُم على نفسك ولن يضطر الرب في الحكم عليك. إن أيقظتَ نفسك وتُبتَ وذهبت في الطريق الذي يُرسلك إليه، فإنه لن يتوجب عليك أن تُبتلعَ من قبل الوحش."
سألتُ، "هل الوحش الذي تشير إليه مذكورٌ في سفر الرؤيا؟"
"إنه بذاته. فيما تقرأ في ذلك الإصحاح، أن الوحش أُعطي سلطاناً ليعمل حرباً مع القديسين ويغلبهم. هذا ما سيحدث لكل الذين لا يتوبوا. ولكن إعلم أن أؤلئك الذين هزمهم الوحش الأول سيُتقيئوا منه قبل مجئ الوحش الثاني، الذي منشأه من الأرض. مع ذلك سيكون الأمر أسهلاً لك إن تُبتَ. فمن الأفضل جداً أن لا تُبتلعَ من قبل الوحش.
"كما قصة لوط هي تحذيرٌ لأؤلئك الذين إنغمسوا في الفساد، فإن قصتي هي تحذيرٌ لأنبياء الرب، أي الكنيسة. فالكنيسة تهرب من حضور الرب. إنها تهرب الى نشاطٍ بدلاً من البحث عن حضور الرب. قد تُسمي نشاطك "خدمة تبشيرية"، لكنها في الحقيقة هروب من محضر الرب. كما قلتُ، الكنيسة تهرب الى ترشيش لكي تتمكن من المتاجرة مع العالم والبحث عن كنوز البحر، في حين أن كنوزاً أعظم، كنوز السماء، قلة من الناس تبحث عنها.
"خطية الرغبة في التجارة مع العالم أوقعت الكنيسة في شبكة، تماماً مثلما تشابكت أنا في بطن الوحش بأدغالٍ لفّت حول رأسي. فالأدغال، أي الإهتمامات بهذا العالم طوّقت نفسها حول عقل الكنيسة. تطلبَ مني ثلاث أيام لأرجع الى الرب لأني كنتُ متشابكاً جداً. وقد يستغرق فترة أطول للمسيحيين. فعقولهم متشابكة كثيراً مع العالم، وقد سقطوا الى هكذا عمقٍ بحيث فقد الكثيرين منهم الأمل في التحرير. عليك أن ترجع الى الرب بدلاً من الهروب منه. فهو يستطيع أن يحرِّرك من أيِّ مأزق، وهو يستطيع إنتشالك من أعظم الأعماق. لا تهرب منه بعدُ، بل أركض إليه!"
بعدئذٍ أضاف لوط، "تذكر رحمة الرب لنينوى. فقد رحمها بسبب كرازة يونان. لم يعش يونان بينهم محاولاً أن يكون شاهداً. بل كرز بكلمة الله. القوة هي في الكلمة. ليس هناك أيُّ ظلام لا تستطيع كلمة الرب إختراقه. سيتوب الكثيرون ويخلصوا إن ذهبت الى أؤلئك الذين يُرسلك الرب إليهم معطياً إنذارهُ."
ثم تدخل يونان، "حينما تكون مقصِّراً في إستلام نعمة الرب وتشابكتك الخطية، حينئذ يصعب عليك المجئ إليه. ينبغي أن تتعلم الركض الى الرب دوماً في كل الأوقات، وليس الهروب منه. حينما تدخل من خلال ذلك الباب، فإنك تدخل الأزمنة التي فيها تنطلق قوة الرب ومجده الى الأرض بطريقة لم يفعلها منذ بدء الزمان. كل السماء تنتظر الأشياء التي مزمعٌ أنت أن تراها. كما أنه سيكون زمن الظلمة الأعظم. لن تستطيع أن تتحمل لا المجد ولا الظلمة بدون نعمته. لن تسير في طرقه دون المجئ إليه يومياً. لا ينبغي فقط أن تطلب حضوره بل ينبغي أن تثبت في حضوره بإستمرار.
"أؤلئك الذين حاولوا أن يتبعوه لمجرد البحث عنه مرة في الإسبوع في خدمة كنيسة ما فيما يقضون بقية الإسبوع يطلبون العالم سيضمحلون سريعاً. أؤلئك الذين يدعون إسمه مفكرين أنه خادِمهُم سيضمحلون سريعاً. إنه ربُّ الكل والكل سيعرف ذلك سريعاً! أولاً، ينبغي أن يعرف شعبه ذلك، إذ ستبدأ الدينونة بأهل بيته.
"قد يكون هناك إفتراضٌ بأن تدعو إسم الرب حينما تريد شيئاً. ينبغي أن تطلبه لتسأله ماذا يريد هو، وليس ماذا تريد أنت. العديد من أؤلئك الذين لديهم بعض الإيمان لديهم أيضاً إفتراضات عظيمة: الخط ما بين الإثنين رفيعٌ جداً. حينما تأتي دينونة الله لأهل بيته، فإن شعبه سيتعلم الفرق ما بين الإيمان والإفتراض. أؤلئك الذين يحاولون أن يعملوا عمله بدونِهِ سيضمحلون. العديد من الناس لهم إيمان في الرب لكنهم يعرفونه فقط من بعيد. قد يعمل أؤلئك أعمالاً عظيمة بإسمه لكنه لا يعرفهم. أؤلئك الذين عرِفوه من بعيد سينوحون سريعاً لحماقتهم.
"الله ليس متواجداً من أجل بيته، بل بيته يتواجد من أجله. وبكل صبر ينتظر خارج بيته، قارعاً وداعياً، لكن قلة من الناس فتحوا له الباب. أؤلئك الذين سمعوا صوت الرب وفتحوا له سيكونون معه على مائدته. كما سيجلسون معه على عرشه، وسينظرون العالم مثلما ينظره هو. لا يستطيع الإفتراض أن يجلس معه على مائدته، ولا على عرشه. الإفتراض هو الإفتخار الذي سبَّبَ في السقوط الأول، وكل الظلمةِ والشرِّ اللذان على وشك أن يُحصدا من على الأرض جاءا بسببه.
"حينما نظر إبليس مجد الله، مال الى طريق الإفتراض. سكن إبليس في محضر الله وما زال منصرفاً عنه. هذا هو الخطر الأعظم لأؤلئك الذين ينظرون مجد الرب ويعرفون حضوره. لا تكن ميالاً للإفتراض بسبب ما رأيته. لا تكن مفتخراً بسبب الرؤى: هذا سيقودك دوماً الى السقوط."
الحكم الرحيم
كما قال يونان، كل كلمةٍ كانت كضربة مطرقة. كنت مرتعباً بسبب خطيتي. ليس فقط خجِلاً للطريقة التي كنت أفكر فيها عن الرب، بل كنت خجِلاً أكثر للسخرية من يونان لذات الأشياء التي فعلتها أنا أيضاً. ومع إني حاولت جاهداً لأن أقف لكن ركبتي لم تستطع حِملي لفترة أطول، فسقطتُ على وجهي. كانت كلماته كالضرب بالسياط وفي ذات الوقت كان الوجع مُرحباً به. كنتُ أعرف إني محتاج لأسمعه، ولم أرِد أن يتوقف يونان عن تعليمه لي الى أن تنفضح كل طرقي الشريرة. ما كانت تكشفه قوة كلماته كان عظيماً، بل كانت أكثر من ذلك. كانت لها من القوة جعلت كل عذرٍ يبدو مريعاً، إذ إجتازت كل حاجزٍ ومضت الى قلبي مباشرة. وفيما كنتُ مطروحاً على الأرضية، شعرتُ وكأني خاضِعٌ لعملية جراحية.
ثم
تدخل لوط قائلاً، "العديد من المؤمنين جعلوا السقوط في محضر الرب شيئاً
تافهاً ودون معنى، ولكن الكنيسة مزمعة السقوط تحت ذات القوة التي صرعتك: الإيمان. إذا
سقطتَ فيما لا تستطيع الوقوف حينئذ سينتج عن سقوطك الوقوف مع الحق."
كنتُ لا أزال غير راغب في التحرك. لم أرِد فِعل أي شئ الى أن أفهم تماماً ما كان يونان يقوله لي. لم أرد أن يغادرني الإيمان الى أن يفعل فعله. بدا لي أنهم يفهمون ذلك فيما كان هناك سكون لبعض الوقت، ثم إستمر لوط بالكلام:
"كان لكرازة يونان مِسحة عظيمة لم تُعطى بعدُ لإنسان. فبدون عجائب ولا علامات، عندما كرز، تابت إحدى أكثر المدن الشريرة المتواجدة على الإطلاق. إن كرِز يونان في سدوم، لكانت تلك المدينة باقية لحد هذا اليوم. قوة كرازة يونان كانت علامة. حينما إستيقظَ وتقيئهُ الوحش، أحرز هذه القوة. هذه هي قوة الكرازة التي ستُعطى الى الكنيسة في الأيام الأخيرة. هذه هي قوة الإيمان التي يريد الرب إعطائها للكنيسة. حينما يتم تقيئها من قبل الوحش الذي بلعها، حينئذ حتى أكثر الناس شراً سيستمع لكلماتها. هذه هي علامة يونان التي ستعطى للكنيسة. كلمات أؤلئك الذين إختبروا القيامة من العمق سيكون لها قوةٌ."
كنت لا أزال مصعوقاً. مع ذلك، كنتُ مُصمماً على الركض نحو الرب وليس منه، لذلك إلتفتُ لأنظر مباشرة الى الحكمة.
"يا رب، ممكن أن أنحرف أنا أيضاً عما هو أتٍ! إني مذنبٌ بحق كل هذه الأشياء. رأيت الكثير من مجدك، ولا زلت أسقط في الفِخاخ والإنحرافات التي تزيد إمتناعي عن الإنجذاب نحوك. أرجوك ساعدني في هذا. أنا محتاج بشدة الى حكمتك، ولكني محتاج الى رحمتك أيضاً. أرجوك إرسل رحمتك وساعدنا قبل أن تُرسل علينا الحكم الذي نستحقه. أطلبُ رحمة الصليب."
أجابني الحكمة، "ستُعطى الرحمة لأنك طلبتها. سأُعطيك وقتاً أكثر. رحمتي لك هي وقتٌ. إستخدمْ الوقتَ بحكمة، لأنه عن قريب لن يكون هناك وقت. الوقت قريبٌ حينما لا أستطيع التأخير بعدُ. كل يوم أُوخِّر فيه حُكمي هو رحمة. أنظر إليه كما أقول وإستخدمه بحكمة.
"أرغب دوماً إظهار رحمتي بدلاً عن الحكم، ولكن النهاية قريبة. الظلمة تكبر وزمان الضيقة العظيمة سيقع عليكم قريباً. إن لم تستخدم الوقت الذي أُعطيه لك، فإن الضيقات ستباغتك. إن إستخدمتَ الوقت الذي أُعطيه لك بحكمة، فإنك ستغلب وتسود. هناك ميزة وهي شائعة في الغالبينَ في كل عصر: وهي إنهم لا يُضيّعون أوقاتهم!
"في رحمتي، أُعطيك هذا الإنذار. إنذر شعبي إني في رحمتي لن أدعهم يستغلوا رحمتي بعد. في رحمتي سيقع تأديبي عليهم. إنذرهم أن لا يُقسُّوا قلوبهم بل أن يتوبوا ويرجعوا إليَّ.
"صحيح أنك ممكنٌ أن تنحرِفَ أيضاً. محبتك ستزداد برودة وستنكرني، إن لم تُنكر نفسك وتحمل صليبك كل يوم. أؤلئك الذين يسعون لإنقاذ حياتهم سيخسرونها، ولكن الذين يخسرون حياتهم من أجلي سيجدون الحياة الحقيقية. ما سأُعطيه لشعبي سيكون حياة أكثر وفرة مما يطلبون، حتى في تخميناتهم.
"بعد إنتهائي من الحُكم على أهل بيتي، سأُرسل أحكامي على الارض كلها. في حكمي المنصف، سأُميِّزُ بين شعبي وبين أؤلئك الذين لا يعرفوني. العالم كله موضوع في قوة الأثيم الأن. هو الأن يُكافئ الإثم ويقاوم البِر. حينما يأتي يوم الدينونة، سيعرف العالم كله إني أكافئ البِر وأُقاوم المتكبرين.
"البِر والعدل هما أساس عرشي. فبسبب عدلي أُؤدِّبُ بصرامة أكثر أؤلئك الذين يعرفون الحق لكنهم لا يعيشونه. جلبتُكَ الى هنا لأريك أحكامي. إكتسبتَ فِهماً هنا، لكن هذا سيكون حكماً أعظم عليك إن لم تسِر فيما رأيته. للذي أُعطيَ الكثير، منه يُطلبُ الكثير. هنا عرِفتَ رحمة أحكامي. إن إستمرت في السماح للخطية أن توقعك في شرك، فإنك ستعرف قساوة حكمي. لا يزال الكثير من شعبي يُحبون الخطية. أؤلئك الذين يُحبون الخطية ويُحبون راحتهم وإزدهارهم أكثر مني سيعرفون قريباً قساوتي. أؤلئك لن يصمدوا في الأزمنة القادمة.
"سأُظهر قساوة للمتكبرين ورحمة للمتضعين. أكثر ما يُلهي شعبي ليست الصعوبات بل الإزدهار. إن بحث عني شعبي خلال أزمان الإزدهار، لكنتُ إئتمنتهم بأكثر ثروة من مملكتي. أرغب أن يكون لكم وفرة لكل عمل جيد. أريد أن يفيض سخائكم. سيزدهر شعبي في الغِنى الأرضي في الأزمنة القادمة، حتى في أزمنة الضيق، ولكن هذا الغِنى سيكون مني وليس من أمراء هذا الدهر الشرير الموجود حالياً. إن لم أئتمنك بغِنى أرضي، كيف سأئتمنك بقوات الدهر القادمة؟ ينبغي أن تتعلم أن تطلبني عند الإزدهار أكثر مما في الإفتقار. كل ما إئتمنته لك لا يزال مِلكي. سأئتمن لأؤلئك الذين هم أكثر طاعة.
"إعلم أن أمير الظلمة يُعطي إزدهاراً أيضاً. فهو مستمرٌ في تقديمه لشعبي ذات العرض الذي قدَّمه لي. هو سيُعطي ممالك هذا العالم لأؤلئك الذين يجثون ويعبدونه ويخدمونه بالعيش حسب طرقه. هناك إزدهار العالم وهناك إزدهار مملكتي. ستساعد أحكامي القادمة شعبي ليعرف الفارِق. سيكون غِنى أؤلئك الذين إزدهروا بخدمتهم أمير هذا الدهر الشرير وإستخدامهم طرق هذا الدهر الشرير حجر الرَّحى الذي سيُعلق على أعناقهم عند مجئ الفيضانات. قريباً سيُحكم على الجميع بالحق. أؤلئك الذين يزدهرون فيَّ لا يساومون في الحق من أجل الإزدهار.
"لأعلمكم التأديب يبدأ حُكمي بأهل بيتي لكي تتمكنوا من السير في طاعة. أجرةُ الخطية هو موتٌ، وأجرة البِر هو سلام وفرح ومجد وكرامة. هذا هو الحُكم، وهو عدل أن يبدأ بأهل بيتي."
ثم تكلم لوط ويونان معاً، "أنظر الأن طيبة وقساوة الله. إن أردتَ معرفته أكثر عليك أن تعرف كِلا الميزتين أكثر."
كان الإيمان أتٍ عليَّ كشلال، لكنه كان شلال ماءٍ حيٍّ. كان مُطهِّراً ومنعشاً، وكان صعباً. علمتُ أيضاً أن تأديب الرب سيحفظني مما سأواجهه بعد دخولي عِبر الباب. كنت بحاجة شديدة لكل التأديب ممكن الحصول عليه قبل دخولي الباب. أعلم إني سأحتاج الى تأديبه، وكنت صائباً في ذلك.
طريق الحياة
وإذ كنت أفكر ملياً بما قاله لوط ويونان بدأ الرب بالكلام.
"أنتَ سألتَ لتعرف عن حقيقة هذا المكان حتى وإنك تسير في العالم الأرضي. هذه هي الحقيقة التي سألت عنها: لترى كما أرى أنا. ليس أنه هذا المكان واقِعيٌّ. الواقعية هي أينما أكون أنا. حضوري يُعطي أيَّ مكانٍ حقيقة واقعة ويجعل كل شئ تنظره يبدو حياً لأني حياة، أبي جعلني حياة للخليقة كلها، في كلٍّ من السموات والأرض. كل الخليقة تتواجد من خلالي ولأجلي، وبعيداً عني ليس هناك حياة، وليس هناك حق.
"أنا الحياة الموجودة في الخليقة. حتى إني حياة في أعدائي. أنا هو. كل ما هو متواجد إنما يتواجد من خلالي. أنا الألف والياء، أنا البداية وأنا النهاية لكل الأشياء. ليس هناك حق أو واقع بعيد عني. ليس مجرد حقيقة هذا المكان الذي تبحث عنه، بل حقيقة حضوري. أنت تبحث عن المعرفة الحقيقية عني، وهذه المعرفة تُعطي حياة. هذه الحقيقة ببساطة متاحة لك في العالم الأرضي كما هنا أيضاً، ولكن ينبغي أن تتعلم ليس فقط البحث عني بل النظر إليَّ.
"أنا قوة الله. انا إظهار مجده. أنا حياة وأنا محبة. أنا أيضاً شخص. أُحب شعبي وأُريد أن أكون معهم. الأب يُحبني ويُحبكم ايضاً. فهو يُحبكم لدرجة أنه بَذلني من أجل خلاصكم. نريد أن نكون قريبين منكم. نُحب الجنس البشري ومكان إقامتنا الأبدي سيكون معكم. الحكمة هي في معرفتي ومعرفة أبي ومعرفة محبتنا. النور والمجد والقوة التي أنا مزمعٌ لأكشفها لكم في الأرض ستنطلق من خلال أؤلئك الذين قَدِموا لكي يعرفوا محبتي.
"إئتمن الأب لي بكل القوة. أستطيع أن أَمُرَ السموات وهي ستطيعني، لكني لا أستطيع أن أَمُرَ المحبة. المحبة بالأوامر ليس محبةٌ أبداً. سيأتي زمان حين أطلب الطاعة من الأمم، ولكن أنذاك يكون الوقت قد إنقضى لبرهنة محبتك. ففيما لست أطالبكم بالطاعة، أؤلئك الذين يأتون إليَّ يطيعونني لأنهم يُحبونني ويُحبون الحق، هم المستحقون أن يحكموا معي في مملكتي، هم الذين يحبوني ويخدموني رغم الإضطهاد والرفض. ينبغي أن تكون لك الرغبة للمجئ إليَّ. أؤلئك الذين صاروا مكان إقامتنا لن يأتوا بسبب أمرٍ أو لمجرد إنهم يعرفون قوتي، بل سيأتون لأنهم يحبوني ويحبون الأب.
"فالذين يأتوا الى الحق سيأتون لأنهم يحبوننا ويريدوا أن يكونوا معنا. إذ بسبب الظلمة هذا هو زمن المحبة الحقيقية. تُشرِق المحبة الحقيقية أعظم إشراقٍ ضد أعظم ظلمةٍ. أنتَ تحبني أكثر حينما تراني بقلبك وتطيعني، مع أن عينيك لا تستطيعان رؤيتي كما يفعلا الأن. ستتعظم المحبة والعبادة في الظلمة العظيمة الأتية على الأرض. ثم ستعرف الخليقة كلها أن محبتكم لي صادقة ولماذا نتوق الى السكن مع الناس.
"أؤلئك الأتين إليَّ الأن، محاربين جميع قوات العالم المتمرد عليَّ، يأتون لأن فيهم محبة الله الحقيقية. يريدون أن يكونوا معي لدرجة حتى وإن بدا كل شئ مصطنعٍ، حتى وإن بدوت لهم كحلم مُبهمٍ، فإنهم سيجازفوا بكل شئ لأجل الرجاء أن الحلم حقيقيٌّ. هذه هي المحبة. هذه هي محبة الحق. هذا هو الإيمان الذي يَسُرّ أبي. سيجثو الجميع حينما يروا قوتي ومجدي، ولكن أؤلئك الذين يجثون الأن فيما يرونني بصورة معتمةٍ من خلال عيون الإيمان هم المطيعين الذين يحبونني بالروح والحق. لأؤلئك سأئتمِنُ قريباً بالقوة والمجد للزمان الأتي، التي هي أقوى من أيِّ ظلمةٍ.
"فيما تستمر الأيام ظلمةً على الأرض، فإني سأُظهر مجدي بصورة أكثر. أنت ستحتاجُ الى ذلك لما هو قادم. مع ذلك، تذكر أن أؤلئك الذين يخدموني حتى وإن لم يُبصروا مجدي هم الأمناء والمطيعين الذين سأئتمنهم بقوتي. الطاعة في خوف الله هي بداية الحكمة، ولكن مِلء الحكمة هي أن تطيع بسبب محبتك لله. ثم سترى قوتي ومجدي.
"لستَ هنا بسبب أمانتك. حتى الإتضاع الذي جعلك تُصلي لأجل أحكامي كان عطيةً. أنت هنا لأنك رسول. لأني دعوتك لهذا الغرض، أعطيتُكَ الحكمة لتسأل ولتعرِف أحكامي. حكمةٌ لك أن تكون أميناً لِما تراه هنا، ولكن الحكمة الأعظم هي مجيئك عندي كل يوم. كلما تأتي إليَّ، كلما سأكون أكثر حقيقياً لك. أستطيع أن أكون حقيقياً لك على الأرض كما أنا لك الأن ههنا، وحينما تعرف حقيقة محضري، فإنك ستسير في الحق.
أنا هو
"أنتَ تراني الأن كرَبُّ الحُكمِ. ينبغي أن تراني كرَبُّ السبتِ أيضاً. أنا هو كِلاهما. ينبغي أن تعرفني كرَبُّ الجنود وتنظر جيشي، وينبغي أن تراني كأمير السلام. أنا أسدُ يهوذا، وأنا أيضاً الخروفُ. لتعرف حكمتي هو أن تعرف أوقاتي أيضاً. لا تسيرُ في حكمةٍ إن أعلنتني لأكون الأسد في حين أريد المجئ كالخروف. ينبغي أن تعرف كيف تتبعني كرَبُّ الجنود في المعركة، وينبغي أن تعرف متى تجلس معي كرَبُّ السبتِ. لكي تفعل ذلك، عليك أن تعرف أوقاتي، ويمكنك فقط معرفة أوقاتي ببقائك قريباً مني.
"الحُكم الأتي على الذين يدعون بإسمي لكنهم لا يبحثون عني سيفشلون تدريجياً في التوقيت معي. سيكونون في مكان مخطئ، عاملين أموراً خاطئة، وكارزين رسالة مغلوطة. سيحاولون أن يحصدوا في حين يكون الوقت للزرع ويزرعون في حين يكون الوقت للحصاد. بسبب ذلك، فإنهم لن يُنتجوا ثماراُ.
"إسمي ليس أنا كنتُ ولا إني سأكونُ، بل أنا هو. لكي تعرفني حقاً عليك أن تعرفني في الوقت الحاضر. لن تستطيع أن تعرفني كما أنا إن لم تأتي إليَّ كل يوم. لن تستطيع أن تعرفني كما أنا إن لم تثبت فيَّ.
"في هذا المكان ذُقت طعم أحكامي. كما أنك ستراني في طرقٍ أخرى. لن تكون قادراً أن تعرفني تماماً كما أنا الى أن تعيش في الأبدية. هنا كل هيئات طبيعتي المختلفة ستتطابق معاً بصورة كاملة، لكنه صعبٌ رؤيتها حينما تكون في عالم الزمن. تُعكس هذه القاعة العظيمة جزءاً مني، هو ما سيراه العالم في المستقبل. هذا سيكون جزءاً مهماً من رسالتك، ولكن لن يكون أبداً الرسالة الكاملة. في مدينة ما سأُرسل حكمي، لكني في مدينة أخرى سأُرسل الرحمة. سأُرسل مجاعة لأمةٍ ووفرةٍ لأمة أخرى. لكي تعرف ما أفعله أنا، عليك أن لا تحكم حسب المظاهر، بل من واقع حضوري.
"في الأزمنة الأتية على الأرض، إن كانت محبتك لي لا تزداد قوة، فإنها ستزداد برودة. أنا حياةٌ، إن لم تبقى بالقرب مني، فإنك ستخسر الحياة الموجودة فيك. أنا النورُ. إن لم تبقى قريباً مني، سيزداد قلبك ظلاماً.
"كل هذه الأشياء عرِفتها في عقلك وعَلَّمتها. أما الأن فعليك أن تعرفها في قلبك، وعليك أن تعيشها. تنبع ينابيع الحياة من القلب، وليس من العقل. حكمتي ليست فقط في عقلك، وليست فقط في قلبك. حِكمتي هي إتحاد كامل لكِلا العقل والقلب. ولأن الإنسان كان مخلوقاً على صورتي، فإن عقله وقلبه لن يتمكنا أبداً من الإتفاق بعيداً عني. حينما يتفق عقلك وقلبك، سأكون قادراً من إئتمانك بسلطتي. حينئذٍ ستسأل ما تريده وأنا سأفعله لأنك ستكون متحداً معي.
"وبسبب صعوبة الزمان الذي دُعيت للسير فيه، فإني أعطيتك الخبرة لتنظر كرسي دينونتي قبل الوقت المُعيّن للحُكم عليك. صلاتك قد إستجيبت الأن. فالذي لم تفهمه هو أنه خلال الوقت الذي فيه كنتَ تنتظرني لأجيبك على هذه الصلاة، كنتُ أُجيبها كل يوم من خلال كل ما سمحتُ حدوثه في حياتك.
"الأفضلُ أن تتعلم عن طرقي وأحكامي خلال خبرة الحياة من أن تتعلمها بهذه الطريقة. أعطيتك هذه الخبرة لأنك رسولٌ كما أن الوقت قصير. أنت تعرِفُ ما تعلمته هنا، لكنك لم تعيش بتلك المعرفة. أعطيتك هذه الخبرة كرحمةٍ، لكنه ينبغي أن تختار لتعيش بها.
"سأستخدم العديد من الرُّسل لأعلم شعبي لكي يعيش في حُكم مُنصِفٍ لكي لا يفنوا حينما تُصدر أحكامي على الأرض. ينبغي أن تستمع لرسلي وتطيع كلامهم الصادر مني دون تأخير، لأن الوقت قصيرٌ الأن. فسماع كلامي دون الطاعة سيجلب دينونة أكثر قساوةً عليك. هذا هو الحُكم المُنصف. للذي أُعطي الكثير، سيُطلب منه الكثير.
"هذه هي الأزمنة حين تزداد المعرفة. كما تزداد معرفة طرقي في شعبي. قد أُعطي لجيلك فِهمٌ أكثر من أي جيل أخر، ولكن القليلين يعيشون بفِهمهم. حان الوقت الذي فيه لن أتحمل أكثر أؤلئك الذين يقولون أنهم يؤمنون بي لكنهم لا يطيعوني. فالفاترين على وشكِ الإزالة من بين شعبي. أؤلئك الذين لا يطيعوني لا يؤمنون فعلاً بي. فإنهم بطريقة حياتهم يُعلِّمون شعبي أن العصيان مقبولٌ.
"كما كتب سليمان، ¢لأن الحُكم ضد عمل شرير لا يُنفذ بسرعة، لذلك إستسلمتْ قلوب أبناء الناس كاملاً لعمل الشر.¢ هذا ما حدث للعديد من شعبي، كما زادت محبتهم برودة. ستأتي أحكامي سريعاً كما النعمة لتحفظ قلوب شعبي من تسليم أنفسهم كاملاً للشر. إنهم مزمعون أن يعرفوا أن أجرة الخطية موتٌ. لن يستطيعوا الإستمرار في طلب إسمي لتحريرهم من مشاكلهم فيما لا يزالوا يُحبون الخطية. سأُعطي بعض الوقت لتحكموا على أنفسكم كي لا أضطر للحكم عليكم، ولكن الوقت الذي سأُعطيه قصير.
"ولأنك ههنا، فما مطلوب منك هو أكثر. كما إني سأمنحكَ نعمة أكثر لتعيش في الحق الذي تعرفه، ولكن عليك أن تأتي الى عرش نعمتي كل يوم لتستلم ذلك. أقول لك ثانية، حان الوقت على الأرض حين لن يتمكن أحدٌ الصمود في الحق دون القدوم الى عرش نعمتي كل يوم. ما أنا مزمع لأقوله هو أنه أنتَ وأؤلئك الذين معكَ ليس أن يعيشوا فقط، بل أن يصمدوا ويسودوا. فيما يصمد شعبي ويسود خلال فترة الظلمة القادمة، ستعرف الخليقةُ أن النور أعظمُ من الظلمة.
"الحياة والموت قد غُرِسا في الأرض، والحياة والموت على وشك أن يُحصدا. جئتُ لأعطيكم حياة. يأتي الأثيم ليعطي موتاً. في الأزمنة القادمة سيتم رؤية كِلاهما بصورتهما الكاملة. لذلك فإني سأُعطي أؤلئك الذين يطيعوني وفرة حياةٍ لم يُرى مثيلها على الأرض من قبل. سيكون هناك تمييز بين شعبي وأؤلئك الذين يخدمون الأثيم. إختَر الحياة لكي تعيش. إختَر الحياة بإطاعتك لي. إن إختَرتني وأن النور الذي فيك هو نوري الحقِّ، فإنه سينمو في تألقه كل يوم. وهكذا ستعرف بأنك تسير في نوري. البذرة التي بُذرت في أرض جيدة ستنمو وتتضاعف دوماً. ستُعرَفُ من ثمارك."
الحق والحياة
وفيما تكلم الربُّ، إزداد مجده. وكان مجده في بعض الأحيان عظيماً جداً لدرجة كنت أفكر إني سأُستنفد به. كان مجده يشتعل، ولكن ليس مثل النار، بل يشتعل من الداخل نحو الخارج. عرفتُ بطريقة ما بأني إما سأُستنفدُ بمجدهِ أو بالشرِّ الذي سأواجهه بعد دخولي عِبر الباب. كانت كلماته تخترقني وتُمسِكُ فيَّ بإحكام، لكني علمت أن النظر الى مجده أكثر أهمية، لذا صممتُ أن أتفرَّس فيه قدرَ ما استطعت.
بدا وكأنه أكثر إشراقاً من الشمس. لم أستطع رؤية كل سِماته بسبب الإشراق، ولكن فيما إستمرت في النظر إستطاعت عيني أن تتنظم لرؤية بعضٍ من إشراقه. كانت عينيه كالنار لكنه لم يكن لونها أحمر بل أزرق، مثل الجزء الأكثر حماوة للنار. كانت عينيه رهيبة ولكن مع ذلك كان لها من الجاذبية الرائعة اللامتناهية. كان لون شعره أسوداً ومتلألأً بأشياء فكرت في البداية أنها نجوم، ثم أدركتُ بأنه متلأللٌ بالزيت. علمت أن ذلك كان زيت الإتحاد الذي رأيته في رؤية سابقة. كان الزيت يشع مثل أحجار كريمة، لكنه كان أجمل وأكثر قيمة من أي كنز أرضي. وفيما كنت أنظر الى وجهه، شعرتُ بأن الزيت بدأ يُغطيني، وفيما حدث ذلك، إستطعت إحتمال وجعُ نار مجدهِ بصورة أفضل، إذ بدا وكأنه يمنح سلاماً وراحة، وحدث لي ذلك فيما كنت أنظر الى وجهه، لكني حينما كنت أنظر بعيداً عنه كان ذلك يتوقف.
شعرت بأني مجبرٌ للنظر الى قدميه. كانت قدميه مثل لهيب نار، ولكن بشكل برونزي أو لهيب ذهبي. كانت جميلة لكنها مخيفة أيضاً، وكأنها مزمعة على الحركة بخطوات مخيفة. وفيما كنتُ أنظر الى قدميه، شعرت وكأن زلزال سينفجر فيَّ، علمت ذلك فيما بدأ يتحرك، إذ أن كل شئ بالإمكان هزَّه صار يهتز. إستطعت الصمود لبضعة لحظات، ثم سقطت على وجهي.
حينما نظرتُ الى الأعلى، نظرت باباً. بدا الأمر الأن أقل جاذبية من قبل. وفي نفس الوقت، شعرتُ بشدة الحاجة الى الذهاب عِبر الباب قبل أن أغيِّر رأي. كانت دعوتي في الدخول من ذلك الباب، وإن رفضت ذلك فإني قد عصيت. في محضره، حتى فكرة العصيان بدت كقاعدة للأنانية أشدُّ بُغضاً من تفكير الرجوع الى المعركة في العالم الأرضي. وفيما نظرت الى الباب، سمعت صوتاً أخر يتكلم لم أستطع تمييزه. إلتفتُ لأرى من كان المتكلم. فرأيت أكثر الناس الطبيعيين جاذبية وفخامة وقوة.
قال، "أنا هابيل. السلطة التي يزمع الرب إعطائها لشعبه هي مِسحة الإتحاد. حينما كنا فقط أخوين على الأرض، لم نتمكن من العيش بسلام الواحد مع الأخر. منذ ذاك الوقت لحد وقتك هذا، تسير البشرية في طريق الظلمة المتزايدة. سينطلق القتل على الأرض بشكل لا مثيل له. حتى حروبكم العالمية ليست إلا ألام ولادة تؤدي الى ما هو قادم. ولكن تذكر: المحبة أقوى من الموت. المحبة التي مزمع أن يُعطيها الأب لإؤلئك الذين يخدمونه ستهزم الموت."
أجبتهُ عالماً أن له الكثير ليقوله، "أرجوك، قل لي كل شئ أُعطي لكَ لتقوله لي."
"لا يزال دمي يتكلم. لا يزال دم كل شهيد يتكلم. ستحيا رِسالتك بإستمرار إن وثقت في الحياة التي لك في الله أكثر من ثقتك في الحياة التي تعيشها على الأرض. لا تخاف الموت وستغلبه. أؤلئك الذين لا يخافون الموت ستكون لهم أعظم رسالة خلال الأزمنة التي تدخلونها حينما ينطلق الموت على الأرض."
فكرتُ بكل الحروب والمجاعات والكوارث التي جاءت على الأرض في هذا القرن الذي أعيشه. فسألتُ، "كم من المرات سيتمكن الموت من الإنطلاق؟" إستمر هابيل دون أن يجيبني، فأدركتُ أن كلامه سيجيبُ سؤالي.
"ذبيحة الدم قد عُمِلت لك. ثِق في قوة الصليب، لأنها أعظم من الحياة. حينما تثق بالصليب، لن تستطيعَ الموتَ. أؤلئك على الأرض لهم قوة لفترة من الوقت للقضاء على حياتك الأرضية، لكنهم لا يستطيعون القضاء عليك إن قبِلتَ الصليب.
"ستأتي وحدة عظيمة لشعب الرب الذي يسكن على الأرض. هذا سيحدث حينما تُصدر أحكام الرب على الأرض. أؤلئك الذين هم في وحدةٍ لن يتمكنوا فقط من إحتمال أحكامه بل سيزدهرون بسببها. ولحد ذلك الوقت سيستخدمُ الرب شعبه ليُنذروا الأرض. وبعد الإنذارات سيستخدمُ شعبه كعلامةٍ. وبسبب الخلاف والنزاع الناشئ في الظلمة، سيكون إتحاد شعبه علامةً ستراها كل الأرض. سيُعرفُ تلاميذه من محبتهم، والمحبة لا تخاف شيئاً. المحبة الحقيقية فقط تستطيع جلب إتحاد حقيقي. أؤلئك الذين يُحبون لن يسقطوا أبداً. المحبة الحقيقية لا تكبر برودة بل أنها تكبر في ذاتها."
المحبة تطلق حياة
جاء شخص أخر يشبه هابيل تماماً ووقف بجانبي.
قال، "أنا أدم. أُعطيتُ سلطة على كل الأرض، لكني أعطيتها للأثيم بإطاعتي الشر. الأن هو الذي يحكم في مكاني ومكانك. الأرضُ أُعطيت للإنسان، ولكن الأثيم أخذها. السلطة التي فقدتُها أُعيدتْ بالصليب. يسوع المسيح هو "أدم الأخير"، وهو قريباً سيستلمُ سلطته ويحكم. هو سيحكمُ عِبر البشرية لأنه أعطى الأرض للبشرية. أؤلئك الذين يحيون في زمانك سيُهيئون الأرض للرب ليَحكُم."
سألتهُ وأنا متفاجئ لرؤيته، لكني راغب في سماع كل شئ يريد قوله، "أرجوك، تكلم لي أكثر. كيف نُهيِّئ أنفسنا له؟"
قال، "في المحبة. عليكم أن تُحبوا الواحد الأخر. عليكم أن تُحبوا الأرض، عُليكم أن تحبوا الحياة. أطلقت خطيتي الموتَ الذي يتدفق مثل الأنهار على الأرض. محبتكم ستُطلِقُ أنهار الحياة. حينما يحكم الشرير، يكون الموتُ أقوى من الحياة، ويسود الموت على الحياة. حينما يحكم البِرُّ، تسود الحياة، وتكون الحياة أقوى من الموت. قريباً حياة إبن الله ستبتلعُ الموتَ الذي أُطلق من خلال العصيان. ليس أنه تحب المعيشة فقط، بل الحياة. الموتُ هو عدوكم. أنتَ دُعيت لتكونَ رسول الحياة.
"حينما يبدأ شعب الرب يُحِبُّ، فإن الرب سيستخدمهم ليُطلقوا أحكامه. ينبغي أن تكون أحكامه مرغوبة. العالم كله يئن ويكدح فيما ينتظر أحكام الرب، وحينما تأتي حينئذ سيتعلمُ العالمُ البِرَّ. وما يزمع الرب أن يفعله، سيفعله من خلال شعبه، وشعبه سيقف كما إيليا في الأيام الأخيرة. كلامهم سيُغلق السموات أو يُجلب المطر، سيتنبأون عن زلازل ومجاعات، وستحدثُ، كما أنهم سيُوقِفون الزلازل والمجاعات.
"حينما يطلِقونَ جيوشاً في السموات، جيوشٍ ستزحفُ على الأرض. حينما يُعيقون الجيوش، حينئذ سيكون سلامٌ. هُم سيقررون أين يُظهر الرب رحمةً وأين يُظهر غيظهُ. ستكون لهم هذه السلطة بسبب محبتهم، والذين يُحبون سيكونون واحداً معه. ما ستراه عِبر هذا الباب هو للمساعدة في إعداد نفسك لما هو مزمِعٌ أن يفعله الرب من خلال شعبه.
"أعلمُ السلطة. كما أعلم مسؤولية السلطة أيضاً. وبسبب السلطة العظيمة التي أُعطيت لي، فإني مسؤول عما يحدثُ على الأرض. مع ذلك بدأت نعمة الله تغطيني، وإفتداء الله العظيم سيبتلع غلطتي قريباً. سيُؤخذُ السلام من الأرض، لكنك دُعيتَ للمساعدة على إسترداده. السلام يسود في السماء، وإنك دُعيت لتجلُبَ السماء الى الأرض. أؤلئك الذين يثبتون في محضر الرب سيعرفون السلام وسينشرون السلام.
"ستهتز الأرض وترتعش. ستبدأ فترات العناء التي ستكون أعظم مما عُرِفت على الإطلاق في الإنتقال عِبر الأرض مثل أمواج البحر العظيمة. مع ذلك، لن يصيب العناء أؤلئك الذين يعرفون الرب. إذ سيصمدون أمام هيجان البحار ويقولون، "سلام، إهدأ" وستهدأ البحار. وسيكون حتى أدنى الصغار التابعين للرب مثل حِصنٍ عظيم للسلام سيصمد أمام كل ما هو قادم. سينكشف مجد الرب أولاً لشعبه ثم من خلالهم. حتى الخليقة ستُميِّزُ الرب في شعبه وتطيع شعبه مثل طاعتهم له.
"هذه السلطة كانت لي سابقاً، وستُعطى للبشرية ثانية. إستغلتُ سلطتي لأُحوِّل الجنة الى برية. سيستخدم الرب سلطته ليُحوِّل البرية الى جنةٍ ثانية. هذه هي السلطة التي يُعطيها لشعبه. إستخدمتُ سلطتي بصورة خاطئة وجاء الموت. عندما تُستخدمُ سلطة الرب في البِرِّ، فإنها ستُطلق حياة. إنتبه كيف تستخدم السلطة. فمع السلطة تأتي المسؤولية. أنت أيضاً بإمكانك أن تستخدمها بصورة خاطئة، لكنك لن تفعل ذلك إن أحببتَ. كل السماء تعرف أنَّ "المحبة لا تفشل أبداً."
سألتُ، "ماذا عن الزلازل والمجاعات وحتى الحروب التي قُلتَ أنها ستُطلق على الأرض؟ ألن تُطلِقَ هذه موتاً؟"
"كل الموت المزمعُ مجيئه على العالم سُمح به لإعداد الطريق للحياة. كل شئ زُرِعَ ينبغي حصاده، إن لم يطلب أؤلئك الذين زرعوا الشرَّ مناشدة الصليب في الروح والحق. جيش الصليب مزمعٌ أن ينطلق، وهو سيسير بقوة الصليب، حاملاً مُقترح الرحمةِ للجميع. أؤلئك الذين يرفضون رحمة الله قد رفضوا الحياة."
قلتُ، "هذه مسؤولية عظيمة. كيف نعرف متى رفضوا رحمته؟"
"العصيان يجلبُ موتاً، والطاعة تجلب حياة. عندما سِرتُ مع الله، علمني طرقهُ. وفيما كنت أسيرُ معه بدأت أعرفه. عليك أن تسير مع الله وتتعلم طرقه. سُلطتك هي سلطته، وعليك أن تكون واحِداً معه من أجل إستخدامها. أسلحة جيشه ليست جسدية، بل هي روحية وأكثر قوة من أية أسلحة أرضية. أعظمُ أسلحتك قوةً هي الحق والمحبة. حتى الحُكم الأخير للدمار هي محبة الله الممتدة في الرحمة.
"حينما يُرفضُ الحق الناطقُ في محبة، حينئذ يكون الموت قد أُختيرَ بدلاً عن الحياة. ستفهم هذا فيما تسير معي. ستتوصل الى إدراكٍ بأن الروح الذي أُعطي لك هو لجلب حياة وليس لجلب موتٍ. سيأتي وقت يكفُّ الناس عن حصاد ما زرعوه، أما أنت فعليك أن تعمل كل الأشياء في طاعة. جاء يسوع ليُعطي حياة. لم يرغب في هلاكِ أحدٍ، وهذا ما ينبغي أن تكون رغبتك أيضاً. لهذا السبب، عليك أن تُحب حتى أعدائك إن وجب إئتمانك بالسلطة التي يريد أن يعطيها لشعبه.
"الوقت قريب لإنجاز ما هو مكتوب. يُصلي شعبه ليُمنح له وقتاً أطول، وقد أعطاه لهم. على أية حال، قلة من الناس إستخدم الوقت بحكمةٍ. لديكَ وقت قليل بعد، ولكن قريباً لن يكون بعدُ تأخيرٌ في الوقت. الوقت قريب حينما يبدو الوقت نفسه مُسرعاً. كما هو مكتوب، حينما يأتي الرب، فإنه سيأتي سريعاً. على أية حال، لا ينبغي عليك أن تخاف من الأوقات. إن خفتَ الرب، فلست محتاجاً أن تخاف أيَّ شئ مما هو قادم على الأرض.
"كل ما هو مزمعٌ أن يأتي فهو أتٍ لكي تتمكن حكمة الرب من الهيمنة ثانية على الأرض كما هي في السماء. كل الشرِّ الذي زُرع في البشرية على وشك أن يتم حصاده. مع ذلك، الصلاح الذي زرعه الرب سيُحصد أيضاً. الطيبة أقوى من الشر. المحبة أقوى من الموت. سار الرب على الأرض لتدمير أعمال الشيطان، وسيُنهي الرب ما بدأه."
القوة والمحبة
فيما كان أدم يتكلم، كنتُ مأسوراً بمجده ووقاره. بدأتُ أتسائل إن كان قد عاش معظم حياته بعد السقوط من دون أن يخطئ ثانية لأنه بدا لي إنه نقيٌّ جداً. وعارفاً أفكاري غيّر الموضوع بإختصارٍ لكي يجيب عليها.
"عِشتُ فترة طويلة على الأرض لأن الخطية لم تتجذَّر فيَّ بعمقٍ. مع إني أخطأت، فقد كنت مخلوقاً لأسير مع الله، ورغبتي كانت لا تزال لأجله. لم أكن أعرف أعماق الخطيئة التي عرِفها الجيل التالي. وفيما كبرت الخطية، قصِرت الحياة، ولكن في كل جيل أؤلئك الذين يسيروا مع الله يلمسون الحياة الموجودة في الله. ولأن موسى سار مع الله بأمانة، أمكنه الإستمرار في حياته هذه إن لم يأخذه الرب. أنوخ سار مع الله بأمانة مما جعل الرب يأخذه معه أيضاً. لهذا السبب قال يسوع، "أنا القيامة والحياة، الذي يؤمن بي سيحيا حتى وإن مات، وكل من يحيا ويؤمن بي لن يموت أبداً."
"ما تراه فيَّ ليس مجرد فقدان الخطيئة، بل وجود الحياة التي كانت لي على الأرض. ما كنا عليه على الأرض سيبقى جزءاً مما نحن عليه الى الأبد. أستطيع أن أنظرَ الى كل الأخرين ههنا الذين هم جزء من السحابة العظيمة للشهود وأن أعرِفَ الكثير عن حياتهم على الارض."
قلتُ، "فأنتَ إذن جزء من السحابة العظيمة للشهود."
"نعم. قصتي هي جزء من الإنجيل الأبدي. زوجتي وأنا كنا أول من ذاق الخطية، وأول من نظر أطفالنا وهم يحصدون نتائج العصيان. نظرنا الموت ينتشر عِبر كل جيل، ونظرنا أيضاً الصليب ورأينا النصرة على الخطيئة.
"إفتخر الشيطان منذ الصليب في تفكيره أن يسوع قد يتمكن من إفتداء الناس لكنه لن يكون بإمكانه تغييرهم. خلال فترات الظلمة والشر الأعظم القادمِ، سيصمد شعب الرب كشهادة لكل الأزمنة بأن الرب لم يفتدي شعبه من الخطية فقط بل أيضاً أزال الخطية منهم. من خلالهم، سيزيل الخطية من الأرض كلها. سيعرُضُ هو الأن لجميع البشرية قوة بشريته الجديدة. لم يأتِ فقط لغفران الخطية بل ليُخلِّص البشرية من الخطية، وهو راجعٌ الى شعبٍ لم يُلطِّخهُ العالم. هذا سيحدث في أكثر الفترات صعوبة.
"خُلِقتُ لأُحِّب الرب وأُحِّب الأرض مثل كل الناس. إشمئزت من منظر أنهار العالم إذ صارت مجارير. إشمئزت أكثر من مشهد ما يحدث في عقل الإنسان. فلسفات عقل الإنسان الأن والتي تملأ تيارات في فكر الإنسان كريهة بقدر مياه بالوعة تملأ الأنهار. ولكن أنهار فكر الإنسان ستكون يوما ما نقية ثانية، مثل أنهار الأرض. ولحد الوصول الى ذلك الزمان، سيُبرهن الصلاح بأنه أقوى من الشر.
"لم يذهب الرب الى الصليب لكي يفتدي فقط، بل لكي يسترد أيضاً. مشى على الأرض كإنسان ليُري البشرية كيف ينبغي أن يعيشوا. وهو سيكشِفُ الأن نفسه من خلال مختاريه ليُريهم من أجل ماذا خُلقوا. هذا العرض لن يأتي من خلال القوة، بل من خلال المحبة. سيُعطيك الرب القوة لأنه كلي القدرة، والقوة هي أيضاً إعلانٌ عنه. رغم ذلك فإنه يستخدم قوته بالمحبة وعليك أن تفعل الشئ ذاته. حتى أحكامه أتية بالمحبة. حتى حُكمه النهائي للأرض سيكون رحمته النهائية."
نظرتُ الى أدم وهابيل ولوط ويونان فيما كانوا واقفين معاً. علمتُ أنه سيأخذني وقتٌ أبديٌّ لكي أفهم أعماق وحي إنجيل الله العظيم الذي تُمثله حياة كل واحد منهم. فعصيان أدم أعدَّت الطريق لطاعة هابيل، الذي لا يزال دمه يتكلم كنذير الخلاص. لوط البار لم يستطع إنقاذ مدينة، فيما إستطاع يونان غير البار فِعل ذلك. كما الأناجيل الأربعة، يبدو أنه لا نهاية الى الفِهم لما يمكن تعلُّمه منهم. وهذه أيضاً كانت دعوتي.
الباب
حاولت بكل جهد إستيعاب كل كلمة قالها لي هؤلاء الرجال. لم يقل لي الحكمة هكذا الكثير في مرة واحدة، ومع ذلك شعرت أن كل جملة كانت حاسمة، ولم أرِد نسيان أيَّ شئ. فكرت كم يكون جيداً أن تُنقش كلماته في حجر مثلما فعل لموسى وأن تُحمل كلمات الرب الى شعبه بطريقة يمكن حفظها بواسطتي دون لطخة. وعارفاً أفكاري، أجابهم الحكمة:
"هذا هو الفارق بين العهد القديم والجديد. أنتم ستكتبون كلماتي في كتاب وستُلهمون شعبي. رغم ذلك، فإن القوة الحقيقية لكلماتي يمكن رؤيتها فقط حينما تكون مكتوبة في قلوب شعبي. الرسالة الإنجيلية الحية هي أكثر قوة من رسائل مكتوبة على ورق أو صخر. ولأنكم لستم تكتبون الأيات المقدسة، فالكلمات التي تكتبونها هي التي تُمثلكم. مع ذلك، كُتبكم ستكون كما أرغبها أن تكون لأني أعددتكم لهذه المهمة. لن تكون كتبكم كاملة لأن الكمال لن يأتي الى الأرض حتى أجئ أنا. للوصول الى الكمال، ينبغي على الناس أن ينظروا إليَّ. مع ذلك، فإن شعبي هو الكتاب الذي أكتبه، والحكيم يستطيع أن يراني في الناس وفي أعمالهم.
"أبي أرسلني الى العالم لأنه يحب العالم، وأنا أُرسل شعبي الى العالم لأني أُحب العالم. كان بإمكاني أن أحكم على العالم بعد قيامتي، ولكن سُمح لطريق العالم بالإستمرار لكي يتم إختبار الأبرار العائدين لي وأن تنظر البشرية قوة ما فعلته على الصليب. فعلتُ ذلك بسبب المحبة. أنتم شهود محبتي. هذه هي وصيتي لكم: أحِبني وأحِبَّ قريبك. حينئذ فقط ستكون شهادتك صادقة. حتى حينما أمَرُكَ لتقول وصاياي، فإنه ينبغي أن تكون بمحبة.
"حياة كل شخص موجودة في كتابي، وحياتهم هي كتاب ستقرأه البشرية طوال الأبدية. تاريخ العالم هو مكتبةُ حِكمة الله. كفَّارتي هو برهان محبتنا، والصليب هو المحبة الأعظم لن تعرف البشرية مثيلها على الإطلاق. حتى الملائكة الذين يقفون قدام أبي أحبوا جداً قصة الكفَّارة، فهم أيضاً يتوقون للسكن مع الناس. تعجبوا حينما إختار الناس الشرَّ، إذ أنهم حتى في وسط الفردوس خُلقوا لأجل الإنسان. الأن، بسبب الكفَّارة، إستُردتْ صورة الله الملطخة وكُشفت بأكثر روعة للبشرية. لا يزال المجد في أوانٍ أرضية تجعل المجد أكثر سهولة لينظره أؤلئك الذين لهم عيون ليبصروا.
"هذه هي الخليقة الجديدة والتي هي أعظم من البشرية الأولى. من خلال خليقتي الجديدة، نعمل فردوساً جديداً أعظم من الفردوس الأول. كل رجل وإمراة وطفل يقبل كفَّارتي هو كتابٌ أكتبهُ وسيُقرأ الى الأبد. من خلال الخليقة الجديدة، سنسترُد أيضاً الخليقة السابقة، وستكون فردوساً أيضاً. سأسترِدُ كل الأشياء، وكل الشرِّ سيتم التغلب عليه بالصلاح.
"كنيستي هي الكتاب الذي أكتبه، وكل العالم مزمع أن يقرأه. أراد العالم لحد الأن قراءة الكتاب الذي كتبه إبليس عن كنيستي، لكني قريباً سأُطلق كتابي.
"إني مزمع على إطلاق رُسل اليوم الأخير. لدي العديد أمثال بولس ويوحنا وبطرس والأخرين. فللتهيئة لهم، أُرسل العديد أمثال يوحنا المعمدان الذي سيعلموهم أن يكرسوا أنفسهم لي ويضعوا الأساس للتوبة في حياتهم. هذه الرُّسل ستكون مثل يوحنا المعمدان. فكما كان الإبتهاج العظيم في حياة يوحنا أن يسمع صوت العريس، فلهذه الرُّسل تكريس واحد: أن يروا عروستي جاهزة لي. لهذا السبب، سأستخدمهم لبناء طرق عامة عِبر البرية وأنهار عِبر الصحاري. سيهدمون الأماكن العليا ويشيدون الأماكن المنخفضة. حينما تذهب عِبر هذا الباب، فإنك ستتقابل معهم.
"إني مزمع على إطلاق أنبياء اليوم الأخير. هم سيُحبونني وسيسيرون معي، كما فعل أخنوخ. سيَعرضوا قوتي ويُبرهنوا للعالم إني أنا وحدي الله الحقيقي. سيكون كل واحد منهم ينبوعاً نقياً تتدفق منه مياه حية. في فترات، سيكون مياههم حامياً لغرض التطهير، وفي فترات سيكون مياههم بارداً للإنعاش. كما سأُعطيهم أيضاً برقٌ في يدٍ ورعدٌ في اليد الأخرى. سيحلقونَ كالنسور فوق الأرض لكنهم سيهبطون على شعبي مثل الحمام لأنهم سيكرمون عائلتي. سيُباغتون مدنٍ كما تفعل الزوابع والزلازل، لكنهم سيمنحون نوراً الى الودعاء والمتضعين. حينما تذهب عِبر ذلك الباب، فإنك ستتقابل معهم.
"إني مزمع على إطلاق مبشري اليوم الأخير. سأُعطيهم كأس الإبتهاج لن يَنفُد أبداً. سيُشفونَ المرضى ويطردون الأرواح، سيُحبونني ويحبوا البِر، سيحملون صليبهم كل يوم، لن يعيشوا لأجل أنفسهم بل لأجلي. من خلالهم، سيعرف العالم إني حيٌّ وإني أُعطيتُ كل السلطة والقوة. هؤلاء هم الشجعان الذين سيهاجمون بوابات العدو ويشنون غارات على الأماكن المظلمة في الأرض، قادين العديد من الناس الى الخلاص. هؤلاء أيضاً هم خلف ذلك الباب، وأنت ستتقابل معهم.
"إني مزمع على إطلاق رعاتي الذين لهم قلبي للخراف. هؤلاء سيُطعمونَ خرافي لأنهم يحبونني. سيهتمون بكل واحد من صِغاري وكأنها مِلكهم، وسيُضحُّونَ بحياتهم لأجل خرافي. هذا هو الحب الذي يلمس قلوب الناس: حينما يضحي شعبي بحياته الواحد للأخر. حينئذ سيعرفني العالم. أعطيتهم زبدة الطعام لخدمة أهل بيتي. هؤلاء هم الأمناء الذين سأثق بهم لحراسة بيتي. هؤلاء هم أيضاً خلف ذلك الباب، وستتقابل معهم.
"إني مزمع على إطلاق معلمي اليوم الأخير على الأرض. سيعرفوني ويُعلِّموا شعبي ليعرفني. سيُحبون الحق. لن يتراجعوا أمام الظلمة، بل سيكشفونها ويصدّونها. سيفتحون الينابيع التي حفرها أبائكم، ويُقدِّموا مياه الحياة النقية. سيحملون أيضاً كنوز مصر ويستخدمونها لبناء أماكن سكني. ستلتقي بهم، خلف ذلك الباب."
وفيما كان الرب يتكلم، نظرت الى الباب. الأن، ولأول مرة أردت الدخول من خلاله. كل كلمة قالها الرب جلب رجاءً عظيماً في قلبي، أردت بكل إلحاح الإلتقاء بقسس اليوم الأخير.
"إنك تعرف في قلبك لسنوات عديدة أن هؤلاء قادمون. جلبتُكَ الى هنا لأُريك كيف تميزهم وتساعدهم في طريقهم."
فدخلت من خلال الباب.
السجن
وفجأة وجدتُ نفسي واقفاً في ساحة سجن كبيرة. كانت هناك أسوار هائلة لم أرَ مثلها أبداً. كانت ممتدة بقدر ما استطعت رؤيته وعالية بمئات الأقدام وسميكة جداً. كانت هناك أسيجة أخرى بأسلاك حادة قدام السور. تواجدتْ أبراج حراسة للمراقبة بين كل مئة قدم على قمة السور. إستطعت رؤية حراس في كل برج، لكنهم كانوا بعيدين عني فلم أتمكن من معرفة الكثير عنهم.
كان السجن رمادياً ومظلماً وكئيباً، بدا إنه يشير تماماً الى وجود عدد كبير من الناس في ساحة السجن. كان الناس جالسين في مجموعات بحسب نوعهم ومنتشرين على وسع الساحة. فكان الرجال السود البالغين في السن في مجموعة، والشباب السود في مجموعة أخرى. والشباب البيض في مجموعة منفصلة عن المسنين البيض الذين كانوا في مجموعة أخرى، كذلك الحال بالنسبة للنساء. وبدا لي أن كل جِنسٍ مشابه لنفسه على حدة. أؤلئك من ذوي الصفات المميزة كانوا منفصلين عن بعض في مجموعات، بإستثناء الصبيان. وما بين المجموعات، بدا لي العديد من الناس يتحركون دائرياً كقطيع ماشية. وإذ كنت أراقبهم، بدا لي أنهم كانوا يحاولون إيجاد هوياتهم الذاتية وذلك بإيجاد المجموعة التي كانت أكثر شبهاً لهم. على أية حال، كان واضحاً أن هذه المجموعات لم تكن تدع أيّ واحد ينضم إليها بسهولة.
وفيما تفرست جيداً في هؤلاء الناس، إستطعت الرؤية أن لدى الجميع جروحاً عميقة وندباً لجروح سابقة. بإستثناء الأطفال الذين بدا لي أن جميعهم عميان تقريباً ولم يكن بإمكانهم إلا الإبصار كفاية للبقاء في المجموعات الخاصة بهم. حتى في داخل مجموعاتهم الخاصة بهم، كانوا يحاولون بإستمرار أن يُبصروا الإختلافات التي تتواجد لدى الأخرين. وحينما كانوا يجدون إختلافاً صغيراً، كانوا يهجمون على ذاك المُختلف عنهم. بدا وكأن الجميع كانوا جياعاً وعطاشاً ومرضى.
إقتربتُ الى شخص مُسنٍّ وسألته لماذا الجميع في السجن. نظر إليَّ في دهشة، معلناً بكل يقين إنهم ليسوا في سجن، وكيف لي أن أسأل هكذا سؤال غبيٍّ. أشرتُ الى الأسيجة والحراس، فأجابني، "أيَّة أسيجة؟ أيَّ حراس؟" نظر إليَّ كما وكأني أهنته بصورة فظيعة، وعلمت إني لو سألته أي شئ أخر، لهجم عليَّ.
سألت إمرأة شابة ذات السؤال واستلمت ذات الإجابة. حينئذ أدركتُ أنهم كانوا بهكذا عمي حتى لم يكن بإمكانهم رؤية الأسيجة أو الحراس. لم يكن هؤلاء الناس يعرفوا أنهم كانوا في سجن.
الحارس
قررتُ أن أسال حارساً عن سبب تواجد هؤلاء الناس في السجن. وفيما سِرتُ بإتجاه الأسيجة، إستطعتُ رؤية ثقوب فيها وأنه من السهل التسلق من خلالها. حينما وصلت الى السور نفسه، وجدت أن بِناءه لم يكن منظماً حتى كان من السهل عليّ تسلقه. كان بإمكان كل واحدٍ منهم الفرار بسهولة، ولكن لم يحاول أحداً ذلك لأنهم لم يكونوا يعرفوا أنهم كانوا أسرى.
حينما وصلت الى قمة السور، إستطعت النظر لمسافة بعيدة ورأيت الشمس ساطعة ما وراء الأسوار. لم تكن الشمس تشرق في ساحة السجن بسبب علو السور والظل المخيَّم من قبل السحب. رأيت النيران من على بُعد في نهاية ساحة السجن حيث تجمع الأطفال. وشكَّل دخان النيران سحابة سميكة فوق الساحة بهيئة غيمة كئيبة لم تكن سوى ظِلاًّ للأسوار. وتسائلت يا ترى ما الذي إحترق.
مشيتُ على طول قمة السور حتى وصلت الى موقع حراسة. إندهشت لتواجد حارس مرتدياً زيّاً أنيقاً مع طوقٍ يدل على كونه خادماً لله أو كاهناً. لم يتفاجئ لرؤيتي، وأعتقدُ أنه تخمَّن بأني حارسٌ أخر.
سألتُ، "يا سيدي، لماذا هؤلاء الناس في السجن؟"
صدمهُ السؤال ورأيتُ خوفاً وارتياباً يغمره مثل حِرام.
أجابني، "أيَّ سجن؟ ما الذي تتكلم عنه؟"
فقلتُ وأنا شاعر بجرأة غريبة، "إنني أتكلم عن هؤلاء الناس في ساحة السجن." وإستمرت، "واضح أنك حارس السجن لأنك في بيت الحرس، ولكن لماذا ترتدي هكذا زيٍّ؟"
أجابني، "أنا لست حارس السجن! أنا خادمٌ للإنجيل. أنا لست حارسهم، أنا قائدهم الروحي. هذا ليس بيت الحرس، إنه بيت الرب! يا بُني إن كنتَ تفكرُ أن سؤالك هزلي، فإني لست أضحك!" مسك بمسدسه وبدا لي أنه حاضر ليطلق النار عليَّ.
أجبته وأنا شاعر أنه بدون شك سيستخدم مسدسه، "أرجوك أعذرني لإزعاجك،"
وفيما إبتعدتُ عنه، توقعتُ أن أسمع طلقاتٍ في أية لحظة. ولأن الشخص لم يشعر بأمانٍ فإني علمتُ بأنه سيطلق النار قبل أن يفكر أنه مهددٌ بالخطر. أستطيع القول أيضاً أنه كان وفيّاً. فقد كان فعلاً لا يعلم أنه كان حارساً.
معلمة المدرسة
مشيت على طول السور الى أن شعرت بأمانٍ بعد أن تخطيت مسافة ثم إلتفتُ لأنظر الكاهن. فرأيته يخطو نحو الخلف ونحو الأمام أمام بيت الحرس بادياً عليه القلق. فتسائلت لماذا أزعجته أسئلتي بهذا الشكل. كان واضحاً أن أسئلتي لم تنيره ليرى أيَّ شئ مختلفاً، بل بالأحرى جعلته أكثر تعرضاً للخطر وأكثر تشدداً.
وفيما مشيتُ، شعرت بشدة الحاجة لأيجاد ما يجري وفكرت كيف يمكنني أن أعيد أسئلتي بشكل أخر كي لا أُضايق الحارس التالي عندما أتكلم معه. وفيما إقتربتُ من بيت الحرس الأخر، تفاجئت ثانية لمظهر الحارس. لم يكن كاهناً أخر، بل شابة بعمر يقارب خمس وعشرون سنة.
فأردت الإستعلام، "يا أنسة، هل يمكنني أن أسألك بعض الأسئلة؟"
قالت بطريقة لطيفة، "بالطبع، بماذا أستطيع مساعدتك. هل أنت والِد أحد هذه الأطفال؟"
أجبتها عارفاً بطريقة ما أنه الجواب الذي ينبغي لي إعطائه، "كلا. أنا كاتب."
فكما توقعت جذب جوابي إنتباهها.
ولعدم رغبتي في عمل ذات الغلطة التي عملتها مع الكاهن بقولي له إنه واقفٌ في "بيت الحرس". سألت الأنسة الشابة لماذا كانت تقف في "ذلك المكان". كان جوابها فورياً، وبدا لي أنها تفاجئت لعدم معرفتي.
"أنا معلمة مدرسة، ألا تظن أنه شئ طبيعي أن أتواجد في مدرستي؟"
أجبتها مشيراً الى بيت الحرس، "فهذه إذن مدرستك،"
"نعم، إنني هنا منذ ثلاثة سنوات. قد أبقى هنا مدى حياتي. أُحب ما أفعله جداً."
كانت ملاحظتها الأخيرة بهكذا ألية حتى إني علمت بأني سأكتشف شيئاً إن أمكنني الضغط عليها.
"ماذا تُعلِّمين؟ يبدو أنك راغبة في قضاء بقية حياتك عاملة ذلك."
أجابت، "إني أُعلِّم علوم عامة ودراسات إجتماعية. إنه عملي لأُشكِّل الفلسفة ونظرة العالم لأذهان هذه الشبيبة. ما أُعلِّمه لهم سوف يُوجِّههم مدى حياتهم. وما الذي تكتبه أنت؟"
أجبتها وأنا مُتوقع سؤالها التالي، "كُتبٌ. أكتبُ كتب إرشادية،" وعلمتُ بطريقة ما إني لو قلتُ، "كتب مسيحية إرشادية،" لأنتهت محادثتنا. لكنه بدا عليها أنها مهتمة أكثر بعد هذه الإجابة.
قالت بلطف، "الإرشاد موضوعٌ مهم." وإستمرت، "تحدث تغييرات بهكذا سرعة بحيث يتوجب علينا إستخدام أدوات الإرشاد الصحيحة لتوجيه هذه التغييرات في الإتجاه الصحيح."
فسألت، "أيُّ إتجاه ذلك؟"
أجابتني فيما بدت متفاجئة لهكذا سؤال، "نحو الإزدهار الذي يأتي فقط من خلال السلام والأمان."
أجبتها، "لم أعني مضايقتك، لكني مهتمٌ بوجهة نظرك في هذا الموضوع. بحسب شعورك ما هي أفضل طريقة لتحقيق هذا السلام والأمان؟"
"من خلال التعليم بالطبع. نحن معاً على سفينة الأرض الفضائية وعلينا أن نتعاون معاً. إننا من خلال التعليم نساعد في تحرير أعداد كبيرة من الناس من إنسان الكهوف والفكر العشائري الى الفِهم إذ أننا نتشابه معاً وإن إشتركنا جميعاً لأجل المجتمع فإننا سنزدهر معاً."
أجبتها، "هذا مشجعٌ، ولكننا لا نتشابه. كما أنه مثيرٌ أن جميع الناس الموجودين هناك صاروا أكثر إنقساماً وإنفصالاً من أي وقت مضى. هل تعتقدين أنه سيأتي زمان يكون بالإمكان تعديل فلسفتك بعض الشئ؟"
نظرتْ إليَّ وهي مندهشة ومتهيجة، لكنها لم تدرك بالطبع ولو للحظة أن كلامي صائب.
وأخيراً أجابت، "يا سيدي أنت أعمى تماماً؟"
فأجبتها، "كلا، أعتقد إني أرى جيداً. أتيتُ للتو من السير ما بين الناس ولم أرى أبداً كهذا الإنقسام وهذه العداوة بين مجموعات الناس المختلفة. يبدو لي أن النزاع بينهم هو أسوأ من أي وقت مضى."
يمكنني القول أن كلامي هذا كان مثل صفعات على وجه هذه السيدة الشابة. كما وكأنه ليس في إمكانها أن تصدِّق أن شخصاً يمكنه قول هكذا أشياء، حتى لم يكن بإمكانها أن تصدِّق أن يكون بعض الصدق في كلامي. وفيما كنتُ أنظرها، يمكنني القول أنها كانت بهكذا عُمي حتى أنها بالكاد كانت تراني. تواجدتْ في هكذا برج عالٍ حتى أنه لم يكن بإمكانها بأي طريقة أن ترى الناس في الأسفل. لم تكن تعرف فعلاً عما كان يجري، لكنها كانت تفكر بكل إخلاص بأنها ترى كل شئ.
قالت بازدراءٍ واضح، "إننا نغيّر العالم.
إننا نغيّر الناس. إن كان لا يزال هناك أناس يتصرفون كوحوشٍ كتلك التي وصفتها أنت،
فإننا سنغيّرهم أيضاً. نحن سنسود. البشرية ستسود."
فعلّقتُ على كلامها، "إنها فعلاً مسؤولية لهكذا شابة،"
إزدادت هياجاً أكثر لتصريحي هذا، ولكن قبل أن تجيب، ظهرت إمرأتان كانت تسيران نحو باب بيت الحرسِ على قمة السور. كانت واحدة منهما سوداء اللون بدا أنها في الخمسينات من العمر والثانية بيضاء اللون ومرتدية ثوباً جميلاً بدا لي أنها في بداية الثلاثينات. كانا يتحدثان معاً فيما كان يسيران، وبدا عليهما أنهما واثقات في أنفسهما ووقورات. يمكنني القول أنه كان في إمكانهما الإبصار، وهذا واضح من كيفية وصولهما الى قمة السور.
ولدهشتي، أمسكت المعلمة الشابة مسدسها وخرجت من بيت الحرس لمقابلتهما، وواضح أنها لم ترِد إقتراب الإمرأتين أكثر. قدَّمت تحيتها بطريقة مَرَحٍ سطحية وبنوع من التشامخ بدا لي أنها تريد التأثير عليهما. ولدهشتي خافت الإمرأتان وصارا يحترمان تلك التي تقل عنهما سنوات عديدة.
قالت المرأة السوداء وهي تجمع شجاعتها، "أتينا لنسأل عن شئ يتعلمه أطفالنا لسنا نفهمه،"
أجابت المعلمة بنوع من التعاطف، "أوه، إني موقِنةٌ أن الكثير مما يتعلموه الأن لستم تفهمونه،"
إستمرت الإمرأتان تنظران الى مسدس المعلمة الذي كان تمسك به بطريقة جعلتهما ينتبهان بإستمرارٍ الى ذلك. كنتُ واقفاً على مقربة ومندهشاً لكل هذا المشهد. إلتفتت المعلمة ونظرت إليَّ بعصبية. يمكنني القول أنها كانت خائفة من أن أقول شيئاً للإمرأتان. وفيما وضعت يدها على زناد المسدس أمَرتني بالرحيل. رفعت الإمرأتان أعينها نحو الأعلى لتنظرا الى من كانت تتحدث، أدركتُ حينئذ أنهما لم يستطيعا رؤيتي. إذ أعماهما الخوف.
هتفتُ للإمرأتين مناشداً إياهما بأن يتشجعا ويصدقا ما شعرا به في قلبهما. نظرا بإتجاهي وكأنهما سمعا بعض الصوت. بدا لي أنهما فقدا القدرة على السمع أيضاً. إبتسمتْ المعلمة وهي تنظر ذلك. ثم صوبت المسدس نحوي ونفخت في الصفارة. شعرتُ وكأنها أدركتْ بأني أكثر الناس على قيد الحياة خطورة.
علمتُ أنه ليس عليَّ إنتظار مَن دعتهُ بصفارتها. كما أدركت بأني لو تراجعت قليلاً، لكنت في مأمن لكون هذه المعلمة الشابة عمياء جداً. وكنت صائباً، إذ انصرفتُ بسبب صراخها ونفخها للصفارة وفي النهاية صارت حانقة لدرجة أنها بدأت تطلق النار على الإمرأتين.
وفيما كنتُ واقفاً على قمة السور ما بين موقعي الحرس متسائلاً عن كل هذا، شعرتُ بحضور الحكمة.
"ينبغي أن ترجع الى ساحة السجن. سأكونُ معك. إعلم أن لديك رؤيا للفرار من أيِّ مكيدة أو سلاح. ولكن تذكر أنه بإمكان الخوف أن يعميك. فيما تسير في الإيمان فأنا معك، وستجد دوماً الطريق للسير. كما ينبغي أن تكون منتبهاً لتكشف فقط الرؤيا التي لك لأؤلئك الذين أقودك إليهم. الإبصار هو أكثر ما يخافه الحرس. أعلم أنك تريد أن تسألني الكثير من الأسئلة، ولكن سيتم الأجابة عليها بصورة أفضل مع الخبرة التي ستحرزها في حينه."
الرسول الشاب
نزلتُ من السور وبدأت أمشي في الساحة. وفيما كنت أجتاز الأسرى، تراءى لي أنهم ليسوا مبالين بي أبداً ولا بكل الإضطراب الذي جرى على السور. تذكرت حينئذ أنه ليس بإمكانهم النظر لحد تلك المسافة. وإذ برجلٍ أسود وقف في طريقي ونظر إليَّ نظرة حادة وفضولية.
قلنا معاً في اَنٍ واحد، "من أنت؟"
وفيما كنا واقفين ننظر أحدنا الأخر، قال أخيراً، "إسمي ستيفن. أستطيع النظر. ما الذي تريد أن تعرفه عني ما زلت لا تعرفه؟"
فسألته، "كيف بإمكاني معرفة أيَّ شئ عنك؟"
"الذي ساعدني لأُبصِرَ قال ذلك يوما ما، سيأتي أخرون ليسوا بأسرى. سيكون بإمكانهم أيضاً أن يُبصِروا، وهم سيقولون لنا من نحن وكيف يمكننا الفرار من هذا السجن."
بدأتُ أحتج إني لست أعرفه حينئذ تذكرت ما قاله لي الحكمة عن هؤلاء الذين سأُقابلهم عند إجتيازي الباب التالي.
فأجبتهُ، "أعرِفُكَ، وأعرف بعض الأشياء عنك. لكني أعترف بأن هذا السجن هو الأكثر غرابة رأته عيني على الإطلاق."
فأحتج قائلاً، "ولكن هذا هو السجن الوحيد!"
فسألتُ، "كيف تعرف ذلك إن كنتَ متواجداً هنا معظم حياتك؟"
"الذي ساعدني لأُبصِر قال لي ذلك. كما قال أن كل نفسٍ أُسِرت مسجونة هنا. قال لي الحقَّ دوماً، لذلك فإني أصدق كلامه."
سألتهُ ليس لأني أريد فقط معرفة من ساعده ليُبصِرَ بل أيضاً لأني مهتم لمعرفة كيف أنه السجن الذي وضع فيه كل أسير، "من هو هذا الذي ساعدك لتُبصِر؟"
"لم يقل لي إسمه الحقيقي، لكنه كان يدعو إسمه الحكمة."
فسألتُ، "الحكمة! كيف كان شكله؟"
"كان شاباً رياضياً أسود اللون. كان يُبصِرُ أفضلَ من أي واحد وبدا أنه يعرف كل واحد هنا. والغريب هو إني إلتقيت بأخرين هنا قالوا أنهم إلتقوا بالحكمة، ولكن وصف كل واحد كان مختلفاً عن الأخر. قال البعض إنه أبيض اللون وأخرين قالوا إنه إمرأة. إن لم يكن هناك الكثير من أمثاله فهو أستاذ في التنكُّرِ."
سألتُ، "هل يمكنك أن تأخذني إليه؟"
"أردتُ ذلك، ولكني لم أراه منذ زمن بعيد. أخشى أن يكون قد غادر أو ربما قد توفي. خرَّت عزيمتي جداً منذ رحيله. حتى أن رؤيتي بدأت تسوء تدريجياً الى أن رأيتك. حالما رأيتك، عرِفت أن كل شئ قاله لي كان صحيحاً. قال لي أنك تعرفه أيضاً، فلماذا تسألني عنه الكثير؟"
"أنا أعرفه فعلاً! فتشجع، صديقك ليس ميتاً. سأقول لك عن إسمه الحقيقي، ولكن قبل كل شئ عليَّ أن أسألك بعض الأسئلة."
"أعرِفُ أنك جدير بالثقة، وأعلم أنك أنت والكثيرين أمثالك من القادمين يريدون مقابلة أي واحد يستطيع الإبصار. أستطيع أن أخذك الى بعضٍ منهم. كما إني أعلم أنك أنتَ وغيرك قادمون لمساعدة الكثيرين من هؤلاء الأسرى ليُبصروا، لكني مندهشٌ لشئ واحد."
"ما هو؟"
"إنك أبيض اللون. لم أفكر أبداً أن الذين يأتون لمساعدتنا على الإبصار والتحرير يكون لونهم أبيضٌ."
أجبته، "إنني موقنٌ أنه سيأتي الكثيرون ممن هم أبيض اللون. أستطيع القول أن رؤيتك جديرة بالإعتبار، لذا فإني أعلم أنك تستطيع فِهم ما أريد قوله."
أهمية الرؤية
وفيما كنت أنظر الى ستيفن لأتأكد من أنه كان يستمع لي، تأثرت بمدى إنفتاحه وقابليته للتعلم، بصورة مغايرة تماماً للمعلمة التي كانت مثل عمره. فكرت فيما كنت مستمراً في كلامي، هذا الرجل سيكون معلماً حقيقياً.
"حينما نصل الى موقع الرؤيا الأساسية، حينئذ لن نحكم على الناس بلونِ جلدهم أو الجنس أو العمر. لن نحكم على الأخرين بحسب المظهر بل بالروح."
أجاب ستيفن وهو منذهلٌ قليلاً، "إنه يشبه ما تعودنا على سماعه من معلمينا،"
إستمرتُ قائلاً، "ولكن هناك فارق. حاولوا أن يجعلوكم تفكروا أننا متماثلين جميعاً، لكننا خُلقنا مختلفين عن بعضنا لقصد ما. سيأتي السلام الحقيقي فقط حينما نحترم الفروقات المتواجدة فينا. حينما نعرف فعلاً من نحن، حينئذ لن نكون أبداً تحت تهديد أؤلئك الذين هم مختلفين عنا. حينما نتحرر حينئذ نكون أحراراً لإظهار الكرامة والإحترام لأؤلئك الذين هم مختلفين عنا، وسنسعى دوماً للتعلم الواحد من الأخر، تماماً مثلما تفعل الأن معي."
أجاب ستيفن، "أنا فهمت. أرجو أن لا أكون قد ضايقتك بقولي إني كنت مندهشاً لكونك أبيض اللون."
"لا، لم أتضايق. إني أفهمك. إنني متشجع لأنك تستطيع أن تُميِّزني بالرغم من لون جلدي. ولكن تذكر، في كل وقت نفتح قلوبنا للتعلم من أؤلئك الذين هم مختلفين عنا، فإن رؤيتنا ستزداد. عينيك هي الأن أكثر إشراقاً من أولِ لقاء لنا."
فعلّق ستيفن، "كنت أفكر للتو كيف استيعدت الرؤيا التي لي بهكذا سرعة،"
فقلتُ، "أعلم الأن لماذا أتواجد هنا. ينبغي أن تضع في ذاكرتك أن الرؤيا التي لك هي أكثر ممتلكاتك أهمية. كل يوم عليك أن تفعل ما يساعدك على زيادة الرؤيا التي لك. إبتعد عن الناس والأشياء التي تجعلك تفقد رؤيتك."
"نعم، مثل مثبّطِ الهِمّة."
فقلتُ، "تماماً! تثبيط الهمة عادة هي بداية فقدان الرؤيا. لكي ننجز أهدافنا، علينا أن نقاوم تثبيط الهمة بأي شكل. فتثبيط الهمة يُعمي."
إستمر ستيفن، "حينما بدأتُ أُبصر، بدأت أشعر بأن لي هدفٌ، قد يكون هدف مهم. هل يمكنك مساعدتي لأعرف ما هو هدفي؟"
"نعم، أعتقد إني أستطيع ذلك. لنعرفَ هدفنا هو واحد من أعظم الطرق التي تُنمي رؤيتنا. كما أنه واحد من أعظم دفاعاتنا ضد أمور مثل تثبيط الهمة التي تدمر الرؤية. أعتقدُ أن هدفي الأساسي هنا هو مساعدتك ومساعدة الأخرين من الذين استعادوا الرؤية لمعرفة أهدافهم. ولكن أولاً نحتاج أن نتحدث عن شئ أكثر أهمية."
الكنز المدفون
حينما تكلم ستيفن، إستطعتُ سماع صوت الحكمة، لذلك علمتُ أن هذا الرجل الشاب قد تعلَّم من قبل الرب. كما علمت أيضاً أنه لم يعرف إسم الرب ويستصعب الإيمانَ أن إسم الحكمة هو يسوع. علمتُ إني أحتاج حكمةً لمجرد مشاركة إسم الحكمة معه. فكرتُ في الرسل والأنبياء والمبشرين والرعاة والمعلمين الذين قال لي الحكمة بأني سألتقي بهم حينما أدخل عِبر الباب. لم أحلم أبداً بأني سأقابلهم في مكان كهذا. وفيما رفعت نظري الى الأعداد العظيمة من الناس، شعرت بحضور الرب. كان معي حتى في كأبة هذا السجن الفظيع، كان الحماس يتدفق فيَّ. فكرتُ أن هذا هو ما كنت أعدُّ نفسي لأجله.
سألتُ، "ستيفن، ماذا ترى حينما تنظر الى هذه الأعداد الكبيرة من الناس؟"
فأجاب، "أنظر فوضى ويأس ومرارة وكراهية وظلمة."
أجبتهُ، "كلامك صحيح بالتأكيد، ولكن أنظر ثانية بعيون قلبك. إستخدم رؤيتك،"
فنظر لفترة طويلة ثم قال وهو متردد بعض الشئ، "أنظر الأن حقلاً عظيماً فيه كنزٌ مدفون. الكنز في كل مكانٍ وفي كل شكلٍ تقريباً."
أجبته، "هذا صحيح. كما أنه إعلان عن هدفك. أنت هو الباحث عن الكنوز. بعضاً من أعظم النفوس وقعوا في فخ هنا، وستساعد أنت في إيجادهم وتحريرهم."
"ولكن كيف سأجدهم، وكيف أُحرِّرهم في حين لستُ حراً؟"
"أنتَ تعرف الأن كيف تجدهم، صحيح أنك لن تكون قادراً على تحريرهم إلى أن تصبح حراً. فهذا هو درسك التالي. عليك أن تتذكر بأنك ستعرف دوماً هدفك حينما تنظر بعيني قلبك. ما تراه من داخلك سيكشف على الدوام هدفك."
"هل هكذا عرفت بأن أكون باحث كنوز؟"
"نعم، ولكن عليك أن تتحرر قبل أن تصبح ما خُلِقتَ لأن تكون." ثم سألته، "لماذا لم تهرب من هذه الثقوب الموجودة في السياج؟"
"حينما بدأت أُبصِرُ، رأيتُ الأسيجة والسور. كما رأيت الثقوب في الأسيجة ودخلت من خلالها. حينما وصلتُ الى السور، حاولت عدة مرات تسلقه، ولكن الخوف كان يتغلب عليَّ لأني أخاف الأماكن العالية. كما فكرتُ بأني إن إجتزت السور، سيُطلق عليَّ النار."
أجبتهُ، "هؤلاء الحراس لا يستطيعون النظر تقريباً. إنهم عميان تقريباً كبقية الناس هنا."
بدا أن كلامي هذا أدهش ستيفن، ولكن بإمكاني القول أنه فتح عينيه بشكل أكثر.
سألتُ، "هل ترى قمة السور؟"
"نعم، أستطيع رؤيته من هنا."
إستمرتُ في الكلام، "أريدك أن تتذكر هذا. تواجدتُ في أماكن عديدة. تستطيع أن تطلق عليها أسماء مثل عوالم أو ممالك مختلفة إن شئت. هناك مبدأ واحدٌ مهم رأيته صواباً في كل مكان، وعليك أن تتذكره بقية حياتك."
"ما هو؟"
"يمكنك السير دوماً بقدر ما تستطيع رؤيته. إن إستطعت رؤية قمة السور، يمكنك الوصول الى هناك. حينما تصل الى قمة السور، ستكون قادراً أن ترى أبعد مما رأيت من قبلٍ على الإطلاق. عليك أن تستمر في السير بقدر ما تستطيع رؤيته. لا تتوقف أبداً ما دمتَ لا تزال تستطيع رؤية نقطة أبعد."
أجاب في الحال، "فهمتُ. لكني لا أزال خائفاً من التسلق على ذلك السور. إنه عالٍ جداً! هل مضمون تسلقه؟"
النور
إلتفتَ ستيفن ونظر ثانية الى السور. قال وهو ينوح، "لا زلت أشعر بخوف عظيم. لا أعرف إن كنتُ أستطيع ذلك."
فقلتُ، "لديك رؤية ولكن يعوزك الإيمان. الرؤية والإيمان ينبغي أن يسيرا معاً. هناك سبب لضعف إيمانك."
"أرجوك قل لي ما هو! هل هناك شئٌ يساعد في نمو إيماني مثلما تنمو رؤيتي؟"
"نعم، الإيمان يأتي من المعرفة مَن هو الحكمة حقاً. ينبغي أن تعرف إسمه الحقيقي. فمعرفتك لإسمه سيعطيك إيمانٌ يكفي للإجتياز نحو الحرية. كلما تعرفت على إسمه بصورة أفضل كلما إستطعت التغلب بصورة أعظم على العقبات والحواجز في رحلتك. ستعرف إسمه يوما ما ستعرف إسمه لدرجة تكفي لإزاحة أيَّ جبل."
توسَّل ستيفن، "ما هو إسمه؟"
"إسمه يسوع."
نظر ستيفن الى الأرضية ثم الى الهواء وكأن الإرتياب بدأ يتغلب عليه. راقبته فيما كان النزاع متواصل ما بين قلبه وعقله. أخيراً نظر إليَّ ثانية، ففوجئتُ براحةٍ إذ كان لا يزال هناك رجاء في عينيه. فقد علمت إنه سمع لقلبه.
قال، "شككتُ في كلامك. في الواقع، كل هذا الوقت فيما كنتَ تتكلم، عرفت بطريقة ما أنك على وشك أن تقول ذلك. كما علمت أيضاً أنك تقول الحق. ولكن لي بعض الأسئلة. هل بإمكاني أن أسألها؟"
"طبعاً."
"تعرفتُ على أناس كثيرين إستخدموا إسم يسوع، ولكنهم ليسوا أحراراً. في الواقع، البعض ممن أعرفهم هم أكثر المقيدين هنا. لماذا؟"
"هذا سؤال جيد، كل الذي أستطيع قوله هو ما تعلمته في رحلتي. أعتقد أن كل قضية تختلف عن الأخرى، ولكن هناك الكثيرين ممن يعرفون إسمه، لكنهم لا يعرفونه. فبدلاً من أن يقتربوا أكثر إليه ويتغيروا بالنظر إليه كما هو فعلاً، فإنهم يحاولون جعله حسب صورتهم. معرفة إسم يسوع هو أكثر من مجرد معرفة كيف نلفظ إسمه أو كيف نقول إسمه. إنه معرفة مَن هو حقاً. هذا هو مصدر الإيمان الحقيقي."
كنتُ لا أزال أنظر الإرتياب في عيني ستيفن، لكنه كان إرتياباً من نوع أفضل، من النوع الذي يريد أن يؤمن مُفضِّلاً على النوع الذي لا يريد أن يؤمن. فاستمرتُ.
"هناك أخرين ممن يحبون يسوع حقاً بدأوا بإخلاص لمعرفته، لكنهم أيضاً بقوا أسرى. هؤلاء هم الذين سَمحوا بالجروح أو الأخطاء أن تعمل في معاناتهم وإرجاعهم. هؤلاء ذاقوا الحرية، لكنهم رجعوا الى السجن بسبب خيبة أملهم وفشلهم. بإمكانك تمييز هؤلاء بكل سهولة لأنهم يتكلمون دوماً عن الماضي بدلاً عن المستقبل. إن كانوا ما يزالوا يسيرون برؤيتهم، لما كانوا ينظرون دوماً الى الخلف."
علَّق ستيفن، "إلتقيتُ بالعديد من هؤلاء،"
فقلتُ له، "ينبغي أن تفهم شيئاً إن أردت جواباً على هذا السؤال. إن أردت أن تُنجز مقصدك، لا تستطيع أن تكون محبطاً أو متشجعاً أكثر مما ينبغي من قبل أؤلئك الذين يستخدمون إسم يسوع. حتى أعظم النفوس يمكنها أن تخيب أملنا في فترات لأنهم ما زالوا بشراً.
وإستمرت في الكلام، "العديد ممن يُشبهون أؤلئك الذين وصفتهم أنا يمكن أن يكونوا أعظم النفوس. يمكن إسترداد الرؤية والإيمان، حتى في أؤلئك الذين صاروا أكثر الناس إحباطاً وخيبة أملٍ. كباحثٍ للكنوز هذا هو عملك. لا نستطيع أن ننبذ أي إنسان، إنهم كنوزٌ للرب. على أية حال، لكي تعرفه حقاً وتسير في الإيمان الحق، ينبغي أن لا تحكم على الرب بشعبه، لا في الأفضل ولا في الأردأ."
قال، "كنتُ أفكر دوماً عن يسوع كإله الإنسان الأبيض. لم يبدو أنه فعل شيئاً لشعبنا."
"هو ليس إله الإنسان الأبيض، هو نفسه لم يكن أبيضاً! كما إنه ليس إله الإنسان الأسود. هو خلق الجميع وهو ربُّ الجميع. حينما تنظرهُ كإلهٍ لأيِّ مجموعة، فإنك قللتَ جداً مَن هو، كما
قللتَ جداً رؤيتكَ أيضاً."
الإيمان والطاعة
راقبتُ ستيفن بهدوء فيما كان يصارع أشياء أخرى في قلبه. إستمرتُ في الشعور بمحضر الحكمة، وعرفت أن بإمكانه أن يوضح كل الأشياء أكثر مني. أخيراً نظر إليَّ ستيفن ونورٌ في عينيه أسطعُ من ذي قبل قائلاً:
"أعلمُ أن جميع الأسئلة التي كنت أُصارِع معها لا علاقة لها بمَن هو يسوع، بل بما قال الناس عنه مَن هو. أعلم أن ما تقوله صادق. أعلم أن يسوع هو ذاك الذي أعطاني الرؤية وأنه الحكمة. ينبغي أن أجد بنفسي مَن هو. ينبغي أن أخدِمه. كما أعلم أنه أرسلكَ الى هنا لتساعدني لكي أبدأ الخدمة."
بدأتُ القول، "الحكمة هنا الأن. قد سمِعتَهُ أنتَ حينما تكلمتُ أنا، تماماً كما سمِعتُهُ أنا وهو يتكلم من خلالك. أنتَ تعرِفُ حقاً صوته. إنهُ معلمك. هو سيتكلم إليك من خلال مختلف الناس، بعض الأحيان من خلال أؤلئك الذين لا يعرفونه. كن مسرعاً للسماع والطاعة لِما يقوله. الإيمان والطاعة هما ذات الشئ. لا إيمانٌ حقيقي لك إن لم تطِع، فإن كان لك إيمان حقيقي فإنك ستطيع دوماً.
"أنتَ تقول أنك ستخدمه. هذا معناه أنك لن تعيش بعدُ لنفسك، بل له. في محضر الحكمة، ستعرف الفارق بين الصواب والخطأ. حينما تأتي لتعرف الحكمة، ستعرف أيضاً ما هو الشرُّ. ينبغي أن تُنكِرَ الشرَّ الذي فعلته في الماضي، كما تُنكِرَ ما قد يأتي لإغوائك في المستقبل.
"لن تستطيع العيش كالأخرين. إنك مَدعوٌّ لتكون جندي الصليب. حينما تقبَلُ إسمه وتقبَلُ الحق عن مَن هو، حينما يدخل ذلك النور العظيم في عينيك، حينما يفيض السلام والرِّضا نفسك كما حدث منذ دقائق، حينئذ ستولدُ ثانية وتبدأ حياة جديدة. الحكمة كان يتكلم إليك منذ زمن، ويُرشدك ويُعلِّمك، أما الأن فهو يعيش فيك. لن يتركك ثانية أبداً. لكنه ليسَ خادِمكَ، أنت خادِمَهُ."
قال ستيفن معترفاً، "إنني أشعر به. ولكن كيف سأُحبه إن لم
أراه ثانية!"
"تستيطع رؤيته بعيني قلبك في أيِّ وقت. هذه هي دعوتك أيضاً، بأن تراه أكثر
وضوحاً وتتبعه عن كثب. هذا هو القصد من هذه الرحلة. في رحلتِكَ ستتعلم عن إسمه وعن
قوة الصليب. حينما يتم تدريبُكَ، فإنك سترجع الى هنا في تلك القوة، وستساعد في
تحرير العديد من الأسرى الموجودين هنا."
"هل ستكون هنا؟"
"لا أعلمُ. لدي عمل هنا في بعض الأحيان، وأحيانٍ أخرى لدي عمل أعمله لمساعدة الأخرين في رحلتِهم. قد ألتقي بك ثانية في المكان الذي تذهب إليه. كما إني لا أزال في رحلتي. هذا جزءٌ منها. في رحلتك، ستجد العديد من الأبواب التي ينبغي إجتيازها. لن تعرف أبداً الى أين ستؤدي. قسماً منها ستُرجِعك ثانية الى هنا. قسماً أخر يمكن أن تقودك الى البرية التي ينبغي على الجميع عبورها. قسماً منها تقود الى إختبارات سماوية رائعة، وأنه مُغريٌ البحث عن تلك الأبواب، لكنها ليست دوماً الأبواب التي نحتاجها لتساعدنا على إنجاز مقاصدنا. لا تختار الأبواب حسب مظهرها، بل إسأل دوماً الحكمة لكي يساعدك."
إلتفت ستيفن الى السور. فرأيتُ إبتسامة على وجهه.
قال، "أستطيع تسلق السور الأن. بل إني متشوق لهذا التحدي. ينبغي أن أعترف بأني ما زلت أشعر بالخوف، ولكن لا يهم ذلك. أعلم إني أستطيع تسلقه، ولن أستطيع الإنتظار لرؤية ما خلفه. أعرِفُ إني حُرٌّ، لم أعد سجيناً بعد!"
مشيت مع ستيفن الى السياج الأول. تفاجئ حينما إكتشف أنه لم تكن هناك ثقوب في السياج فقط، بل ثقوب في كل ما كان يلمسه، إذ تفكك السياج كله بين يديه، عاملاً ثقوباً أخرى.
سألَ، "بماذا صُنِعتْ هذه الأسيجة؟"
فشرحت له، "في كل مرة يفُرُّ أحدٌ من خلالها، يُعمل ثقباً للأخرين ليجتازوا من خلاله. تستطيع أن تجتاز من خلال الثقوب المعمولة هنا أو تعمل واحداً بنفسك."
إختارَ ستيفن مكاناً في السياج كان سميكاً بِسلكٍ حادٍ، مدَّ ذراعيه وعبر من خلاله، فاتحاً ثقباً كبيراً عند عبوره. علمتُ أنه يوماً ما سيرجع الى هنا ويقود العديدين الى خارج هذا المكان من خلال الثقب الذي عَمِله الأن. كنت فرحاً وأنا أراقبه. شعرتُ بحضور الحكمة لدرجة إني علمتُ بأني سأراه إن أدرتُ وجهي. ففعلت، وكنت مُحِقاً. كان ممكناً رؤية الفرح العظيم الذي كنتُ أختبره في وجههِ أيضاً.
الحرية
وفيما وقفت بجنب الحكمة ناظراً ستيفن يعبر من خلال الأسيجة، هتفَ ستيفن، "ما المادة التي صُنع منها هذا السور؟"
"الخوف."
راقبتُ ستيفن فيما توقف ناظراً الى السور. كان السور هائلاًً. لم يستطِع العديد عبور الأسيجة، وعرفت أن ذلك كان إختباراً حاسماً لستيفن.
ومن دون النظر الى الخلف، هتفَ ثانية، "هل ستساعدني على تسلقه؟"
أجبتهُ، "لا أستطيع مساعدتك. إن حاولتُ مساعدتك، فإنه سيأخذ منك ضعف المسافة وسيصعب عليك أكثر. لكي تتغلب على مخاوفك، عليك أن تواجهها وحدك."
سمعتُ ستيفن يقول لنفسه، "كلما أنظر عالياً كلما يبدو الأمر أكثر صعوبة،"
"ستيفن، أنتَ فعلتَ أول غلطتك."
صرخَ مكتئباً وممتلئاً خوفاً، "ما الذي فعلته؟"
"توقفتَ."
"ماذا أفعل الأن؟ أشعر وكأن قدمي ثقيلة جداً على الحركة."
قلتُ، "أنظر الى الثقب الذي فعلته في الأسيجة. أنظر الأن الى قمة ذلك السور، وابدأ في السير. حينما تصل الى السور، إستمر في سيرك. لا تتوقف للراحة. لن تجد راحة بتعلُقِكَ على جانب السور، لذلك إستمر في التسلق حتى تصل الى القمة."
غمرتني الراحة إذ بدأ يتحرك نحو الأمام ثانية. كان يسير ببطء أكثر، لكنه كان يتحرك. حينما وصل الى السور، بدأ يتسلق عليه ببطء ولكن بثبات. حينما علمت أنه سينجح في عمله، ذهبت الى السور وتسلقته بسرعة لكي ألتقي به في الجهة الثانية.
علمتُ أن ستيفن سيكون عطشاناً، لذا إنتظرته عند جدول مياه. حينما وصل الى هناك، كان مندهشاً بعض الشئ لرؤيتي، ولكنه كان فرحاً جداً. كنتُ أنا أيضاً مندهشاً لرؤية التغيير الذي حصل فيه. لم تكن فقط عينيه الأكثر إشراقاً ووضوحاً من وقت مضى، بل سار أيضاً بثقة ونبل مذهل. كنت قد رأيته كجندي الصليب، لكني لم أكن قد رأيته كأمير عظيم مما يشير بكل وضوح أنه كان مَدعوّاً.
قلتُ، "قل لي عن ذلك،"
"كان صعباً الشروع في السير ثانية ومن ثم الإستمرار في السير. علمتُ إني إن توقفت، فإنه سيصعب عليَّ جداً الإستمرار ثانية. فكرت بأؤلئك الذين تكلمت عنهم، أؤلئك الذين عرِفوا إسم الرب، لكنهم لم يتسلقوا أبداً ذلك السور ليسيروا بالإيمان في إسمه. علمت إني من الممكن أن أصير واحداً منهم. قررت إني حتى لو وقعتُ، فإنه من الأفضل لي أن أموت عن أن أبقى في هذا السجن. أُفضِّلُ الموت على عدم رؤيتي لما يجري في هذه الجهة وعدم إنجازي الرحلة التي أنا مَدعوٌّ لإنجازها. كان أصعب جداً مما كنت أظن، لكنه مستحقٌ لأن أعمله."
"هيا، إشرب من هذا الجدول. ستجد كل الماء والطعام التي تحتاجه للرحلة. ستكون متواجدة دوماً حينما تحتاجها فعلاً. دع الجوع والعطش يجعلك تتحرك. حينما تجد شراباً منعشاً، إسترِح ما دام الإنعاش موجوداً، ثم إستمر في السير."
شرب بسرعة ثم وقف، تواقاً للسيرِ.
قلتُ "لن أراك ثانية لفترة من الوقت، فهنالك بعض الأشياء ينبغي أن أقولها لك الأن ستساعدك في الرحلة."
نظر إليَّ ستيفن نظرة مركزة ومشرقة. فكرتُ أن أؤلئك الذين يعرفون أعظم عبودية هم أكثر الناس الذين يحبون الحرية. أرشدته لينظر الى أعلى جبل بإمكاننا رؤيته.
إستمرت في الكلام، "عليك أن تتسلق ذلك الجبل. حينما تصل الى القمة، أنظر بقدر ما إستطاعت عينيك رؤيته. رَكِّز جيداً على ما تراه، وابحث عن الطريق الذي يقودك الى المكان الذي تذهب إليه. إعمل خريطة عن الطريق في ذهنك. فهناك مَدعوٌّ أنت للذهاب."
أجابَ، "فهمتُ. ولكن هل من الممكن أن يُرى من أحد تلك الجبال المنخفضة؟ لست بخائفٍ بعد من التسلق، لكني تواقٌ لأستمر في رحلتي."
"يمكنك رؤية أماكن من هذه الجبال المنخفضة والوصول الى تلك الأماكن بأكثر سرعة. يمكنك إختيار ذلك. سيأخذُ وقتاً أطول ويكون تسلق ذلك الجبل العالي أكثر صعوبة، لكنك ستكون قادراً من هناك لرؤيةٍ أبعد ورؤية شئ بشكلٍ أفضل. كما أن الرحلة من الجبل العالي ستكون أكثر صعوبة وستأخذ وقتاً أطول. أنت حرٌّ، يمكنك إختيار أيّاً من الرحلتين."
سأل ستيفن، "هل تضع دوماً نصب عينيك على الجبل الأعلى، أليس كذلك؟"
أجبته، "أعلمُ الأن أن ذلك دوماً هو الأفضل، لكني لا أستطيع القول إني كنتُ أختار دوماً الجبل الأعلى. في أحوال كثيرة إخترت الطريق الأسهل والأسرع، وندمت دوماً حينما فعلت ذلك. أؤمِنُ الأن أنه من الحكمة دوماً إختيار الجبل الأعلى للتسلق. إني أعلم أن الكنز الأعظم متواجد دوماً في نهاية الرحلة الأكثرِ صعوبة. أعتقد بأنك أيضاً ذاك النوع من الباحثين عن الكنوز. لقد تغلبتَ على خوف عظيم. الأن هو وقتك للسير في إيمان عظيم."
قال، "أعلم أن ما تقوله حقٌّ، وأعلم في قلبي أنه ينبغي أن أتسلق الجبل الأعلى الأن وإلا سأختار دوماً ذلك الجبل الذي هو أقل من قدرتي. إني تواق جداً الأن للسير والوصول الى هدفي."
أجبته، "الإيمان والصبر يسيران معاً. نفاذ الصبر هو في الحقيقة إحتياجٌ الى الإيمان. لن يقودك أبداً نفاذ الصبر الى الأهداف السامية لله. من الممكن أن يكون الصلاح العدو الأعظم للجودة. حان وقتك لتأسيس نمطٍ لحياتك لكي تختار دوماً الأعلى والأفضل. هذا هو الطريق للبقاء قريباً من الحكمة."
سأل ستيفن وهو جالس على صخرة، حكيماً في إختياره لأن يكون صبوراً ومستلماً كل ما يحتاج معرفته قبل مغادرته، "هل لديك شيئاً أخر يُفترض فيك أن تقوله لي قبل ذهابي؟"
فكرتُ أنه الأن قد يعرِفَ الحكمة أفضل مما أعرفه أنا.
إنذار
"هناك حكمةٌ أخرى ليست حكمة الله، وهناك واحدٌ أخر يُسمّي نفسه "حكمة". ليس هو حكمة، إنه عدونا. قد يكون صعبٌ تمييزه لأنه يحاول أن يظهر مثل الحكمة، وهو جيد في عمله هذا. فهو يأتي كملاك نور، وهو عادة يجلبُ الحقَّ. سيأخذ شِكلَ حقٍّ وله حكمة، أخذ مني وقت طويل لأتمكن تمييزه من الحقِّ والحكمة. تعلمتُ أنه ممكن أن أنخدِع به إن بدأت للحظة واحدة التفكير عكس ذلك. كان الحكمة قد قال لي أنه ليس بإمكاننا أبداً أن نتفوق على العدو في الدهاء، دفاعنا هو أن نتعلم أولاً كيف نميّزه ثم مقاومته."
إتسعتْ عيني ستيفن حينما شعر بتلك المعرفة فتدخل قائلاً، "أعلم عمن تتكلم أنت!"
قلتُ، "إلتقيتُ بالعديد من الناس في السجن ممن يتبعونَ ذاك. كانوا يتكلمون دوماً عن حكمة أعلى، وعن معرفة أعلى. كانوا يبدون أنهم أناس نبلاء ومنصفين، لكنهم كانوا ملطخين بالفساد. كلما تكلمت إليهم عن الحكمة، كانوا يقولون أنهم يعرفون "الحكمة" أيضاً، وأنه "مُرشدهم الداخلي". على أية حال، حينما إستمعت إليهم، لم أشعر بإني منقاد الى الحرية كما قالوا، بل بالأحرى الى أكثر عبودية في ذلك السجن. كنت أشعر بالظلمة حولهم، ليس مثل النور الذي أشعره حينما تكلمتُ مع الحكمة. عرفت أنهم ليسوا ذات الشئ."
إستمرتُ في الكلام، "الحكمة الحقيقية هو يسوع. أنت تعرف ذلك الأن. الحكمة الحقيقية هي أن تبحث عنه. أيَّ حكمة لا تقودك الى يسوع هي حكمة مزيفة. يسوع سيُحرِّرك دوماً. الحكمة المزيفة ستقودك دوماً الى العبودية. على أية حال، تشبه الحكمة الحقيقية في أكثر الأحيان العبودية في البداية، والعبودية عادة تشبه الحرية في البداية."
قال ستيفن وهو ينوح، "لن يكون الأمر سهلاً، أليس كذلك؟"
"كلا، لن يكون الأمر سهلاً، وليس من المفترض أن يكون كذلك. الشك ليس مثل الفِطنة الحقيقية، ولكن إن أردت أن تشكَّ في شئ، فشكَّ في شئ يبدو سهلاً. لم أجد بعدُ "سهلاً" الدخول عِبر أي باب أو من أي طريق بدا صحيحاً. أخِذاً الطريق السهل قد يكون الطريق الأكثر ضمانٍ ليكون مُضِلاً. أنتَ دُعيت كجندي، وعليك أن تحارب. في هذا الوقت العالم كله موجود في قوة "الحكمة" المزيفة، وعليك أن تهزم العالم لتنجز هدفك."
أشار ستيفن، "كان عليّ أن أفعل أشياء كانت أصعب من أي شئ فعلته سابقاً. لكنك على صواب، إنه صعب، ولكن مُستحِقٌ عمله. لم أعرف أبداً هكذا فرحٍ وهكذا إرتياحٍ وهكذا رجاء. الحرية صعبة. صعبٌ عليَّ إختيار أي جبل أتسلقه. أنذاك علمت أنه كان بإمكاني الإختيار أن لا أتسلق ذلك السور. شعرتُ وكأن الخوف لذاك الإختيار كان السور نفسه في داخلي. ولكن حين عملت ذلك الإختيار، علمتُ بأني سأفعله حتى أصل فوق السور. ولكن هل صار ذلك التسلق أسهلاً من وقتٍ مضى؟"
قلتُ، "لا أعتقد ذلك، ولكن بطريقة ما صار "الصعب" مُسِرّاً أكثر. لن تكون هناك نصرةٌ بدون معركة، وكلما كانت المعركة عظيمة كلما كان النصر عظيماً. كلما تختبر نصرة أكثر، كلما تصير تواقاً الى المعارك، وترتفع بأكثر علوٍّ لمجابهة معارك أعظم. ما يجعلُ الأمر سهلاً أن الرب يقودنا دوماً الى النصرة. إن بقيتَ قريباً منه، لن تفشل أبداً. بعد كل معركة، وبعد كل إمتحان، فإنك ستقترب أكثر منه وتعرفه بشكل أفضل."
سأل ستيفن، "هل سأشعر بتلك الظلمة حينما يحاول ¢الحكمة¢ المزيفة خِداعي؟"
أجبته، "لا أعرف. لا أعرف إن كانت الظلمة تأتي حينما يخدعنا لنفكر في أنفسنا. حينما خدعَ أول رجل وإمرأة ليأكلا من شجرة معرفة الخير والشر، فإن أول شئ فعلاه هو النظر الى أنفسهما. في حال إستطاع "الحكمة" المزيف أن يجعلنا نفكر في أنفسنا، فإن سقوطنا في العبودية أكيدٌ. يحاول المخادع دائماً أن يجعلك تبحث عن نفسك. الدعوة لإنجاز هدفنا ليست لأجل أنفسنا، ولكن لأجل الرب ولأجل شعبه."
سألني ستيفن، "هل تمكن أحدٌ من الوصول الى هدفه دون أن يُخدعَ؟"
أجبته، "لا أعتقد ذلك. حتى بولس الرسول إعترف بأنه أُحبِطَ من قبل الشيطان. بطرس خُدِعَ عدة مرات كما هو مكتوبٌ، ولسنا نعلم كم من المرات ليس مكتوباً عنه. ولكن لا تقلق أكثر مما ينبغي لكونِك مخدوعٌ. ففي الحقيقة هذه واحدة من مكائده الكبيرة. فهو يصرف الكثيرين عن غايتهم بجعلهم يخافون كثيراً من قوته ليتمكن من خِداعهم بدلاً من أن يؤمنوا بقوة الروح القدس الذي يقودهم الى كل الحقِّ. أؤلئك الذين سقطوا في مكيدته لم يسقطوا فقط في العبودية المتزايدة تجاه الخوف، بل إنهم سيهاجمون أيَّ واحدٍ يسير في الحرية المصاحبة للإيمان. إني موقنٌ كفاية أنك لن تصل الى قمة ذلك الجبل قبل أن ينصبوا لك كميناً."
سأل ستيفن وهو مرتبك قليلاً، "وهل يعرفون إسم يسوع؟ بالتأكيد كانوا يعرفون إسمه ليتمكنوا من إجتياز ذلك السور والوصول لهكذا مسافة. أقصد، ألم يعرفوا حقاً إسمه ولو مرة واحدة؟"
قلتُ، "إني موقنٌ أنهم فعلوا ذلك. ولكن قف وأنظر من خلال الوادي الذي أمامك حول كل جبل. ماذا ترى؟"
أجاب ستيفن، "يُشبه سجناً صغيراً. يبدو وكأنه يتواجد الكثير من السجون مثل الذي خرجتُ منه؟"
قلتُ، "لهذا السبب تفاجئتُ حينما قلتَ لي أن الحكمة قال أن هذا كان السجن الوحيد، ولكن بعد وجودي هناك لفترة قصيرة فهمت ما كان يعنيه الحكمة. أنظر الى الأسوار العالية. أنظر الى الأسيجة. كلها متشابهة. إن قُبض عليك في الطريق، فإنهم لن يجلبوك الى هنا ثانية. إنهم يعرفون أنك ستختار الموت على أن تفعل ذلك، لكنهم سيأخذونك الى أحد السجون الأخرى. حينما تقترب إليها يصعب عليك من الخارج أن تراها سجون، ولكن من الداخل فإنها متشابهة جميعاً، وضِعَ فيها أناس في مجموعات وسُجِنوا بحسب مخاوفهم."
قال ستيفن، "إني سعيد أنك أظهرتهم لي. حتى إني لم أرى سجون حينما كنت أنظر بهذا الإتجاه من قمة السور أو حينما كنت أبحث عن جبل لأتسلقه. هل تعتقد بأنه ستُنصب لي فِخاخٌ مرات عديدة من قبل أؤلئك الذين سيحاولون القبض علي ووضعي في أحد السجون؟ وأن أؤلئك الناس سيستخدمون إسم يسوع؟"
أجبتهُ، "الرب نفسه حذَّر في المكتوبِ أنه في الأيام الأخيرة سيأتي العديد في إسم الرب، يدَّعي كل واحد منهم أنه فعلاً المسيح، حتى أنهم سيخدعون الكثيرين. صدقني، هناك الكثيرين أمثال ذلك، ولست أُصدِّق أن يعرف معظمهم أنهم مُخادعين. بإمكاني أن أقول لك عن ميزة رأيتها في أؤلئك الذين إلتقيت بهم، لقد غادروا فيما كانوا في رحلتهم. يتطلب إيمانٌ لتستطيع الإستمرار، وهم إختاروا أن يتبعوا الخوف بدلاً عن الإيمان. صاروا يفكرون أن الخوف هو إيمانٌ وصاروا ينظرون أسوار الخوف المحيطة بسجونهم أنها حصون الحقِّ. الخوف سيفعل ذلك في رؤيتك ويجعلك تنظر الحصون بتلك الطريقة. قلة من أؤلئك الناس ليسوا أوفياء. فمعظمهم مخلصين، لكنهم منخدعين بواحد من أقوى الضلالات على الإطلاق، هو خوف الضلال."
قال، "هل ينبغي عليَّ محاربتهم؟"
أجبته، "أفهمُ سؤالك وأنا بنفسي سألته مرات عديدة. إنهم يدمرون إيمان العديد
من الناس ويعملون ضرراً أكثر الى المقيمين مؤقتاً مما تفعله جميع الأديان والطوائف
معاً. سيأتي زمان حين تزال كل أحجار العثرة، لكنها في الوقت الحالي، هي أيضاً،
تخدم هدفاً بجعلها الطريق أصعباً."
إستمرتُ في الكلام، "الحكمة يريد أن يكون أصعباً؟ فهو الأن بهكذا صعوبة لمجرد النضال ضد مخاوفنا. لماذا يريد الرب أن يجعله أصعباً بجعلنا نناضل أيضاً ضد جميع الناس المخيفة؟"
وتابعتُ، "الرحلة ستكون إما سهلة أو صعبة حسب ما يريده هو. هذه الحياة هي رحلة مؤقتة تُستخدم لتهيئة أؤلئك الذين سيحكمون مع الرب في الزمان الأتي كأبناء وبنات العليِّ الى الأبد. كل تجربة هي لغرض تغييرنا نحو صورته. ينبغي أن نتعلم أحد الأشياء المهمة في هذه الرحلة هو أن لا نُبدِّد أي تجربة، بل نستغلها كفرص لنا. إن كان طريقك أكثر صعوبة، فالسبب هو في عُلوِ دعوتِكَ."
ضرورة التدريب
سمعنا صوتاً، "دُعي العديد، ولكن أُختير القليل. سيأتي العديدون الى وليمة الزفاف، ولكن القليلون سيكونوا العروس."
إلتفتنا لننظر الحكمة واقفاً خلفنا. بدا كشابٍ رياضي كما عرِفه ستيفن، واستمر قائلاً.
"أركض في السباق المُعدِّ لك، وستكون المكافأة أعظم من أن تدركها في هذا الوقت. أنت تعرف مدى التدريب لإعدادك للسباق. درِّب نفسك للبِرِّ. أنا دعوتُ الجميع للركض، ولكن القليلون ركضوا لهدف الفوز. درِّب نفسك لتفوز."
ثم غادر.
سألَ ستيفن، "لماذا غادر؟"
"قال كل ما هو مطلوبٌ قوله في هذا الوقت. تكلم إليك عن التدريب. إستلم ذلك كأكثر الكلمة أهمية تخصك في هذا الوقت."
"تدريب. تعوّدتُ أن أكره هذه الكلمة!"
"تكلم إليك عن السباق. هل كنتَ متسابقاً؟"
"نعم، إني سريع في الركض. كنت دوماً أسرعُ متسابق في مدرستي وعُرِضَ عليَّ مُنحةٌ للركض في جامعةٍ رفيعة المستوى."
"أستطيع أن أفهم أنك لم تقبل المنحة."
"لا لم أقبلها."
"هل كان السبب أنه يعوزك التهذيب لعدم ذهابك الى الكلية؟"
"لا. كان السبب ..."
صمتَ ستيفن طويلاً فيما كان ينظر الى قدميه ثم قال، "نعم، من المحتمل أن يكون هو السبب."
"لا تقلق على ذلك الأن. على أية حال، عليك أن تدركَ شيئاً. معظم الذين من المحتمل أن يكونوا الأفضل في أي حقلٍ أو مهنة لا يصيروا أبداً من الناجحين الكبار لعَوزهم شئ واحد، هو التهذيب. ما تفعله الأن هو أهم بكثير من حلبة سباق أو كلية. كان التهذيب بكل وضوح نقطة ضعفك وكلَّفك الكثير لحد الأن، ولكن في المسيح كل الأشياء صارت جديدة. فيه تلك الأشياء التي كانت أعظم ضعفاتك قد صارت أعظم قوتك. أنت الأن تلميذه. وهذا معناه أنك ذاك المُدرَّبُ."
"أعلم أنك تقول الحق، وأعلم أن هذا السباق بالذات لا أريد أن أخسره."
"هل ترى الطريق الذي يقودك الى الجبل؟"
"نعم."
"إسمه التهذيب. إبقى فيه إن أردتَ الوصول الى القمة."
الجيش
وفجأة، كنتُ واقفاً على جبل عالٍ يشرف على سهل عظيم. كان أمامي جيش يزحف على جبهة واسعة. تواجدت هناك إثنا عشر فرقة عسكرية في الطليعة واقفة بكل رشاقة ومكونة من أعداد غفيرة من الجنود. كانت الفرق منقسمة كما أظن الى أفواج وكتائب وسرايا وزُمر نظامية. كانت الفُرق مميزة براياتها والأفواج مميزة بألوان بذلاتها النظامية المختلفة.
كانت الكتائب والسرايا والزُمر النظامية مميزة بأشياء مثل الأحزمة أو كتفية السترة التي إختلفت بين تلك المجموعات. كان الجميع يرتدون الدروع المصقولة بلون فضي، والتروس بلون ذهبي خالص، والأسلحة بلوني الفضة والذهب. كانت الرايات عالية بطول 30 الى 40 قدم. وفيما كان الجيش يخطو كانت دروعه وأسلحته تلمع بنور الشمس كالبرق، ورفرفة الرايات ودوسة أحذيتهم كقصف الرعد. لم أتصور أن الأرض شهدت أي شئ مثل هذا قبلاً.
حينما كنتُ قريباً كفاية لأنظر وجوههم، رأيتهم رجالاً ونساءً، كباراً وصغاراً من كل جنسٍ. تواجد تصميم رهيب على وجوههم، ومع ذلك لم يبدو التوتر عليهم. كانت الحرب في الهواء، لكني إستطعت أن أشعر بتواجد سلام عميق بين المراتب عرِفتُ أنه لا أحد منهم كان يخاف المعركة التي كانوا يزحفون نحوها. كان الجو الروحي الذي شعرت به وأنا قريباً منهم رائعاً كمظهرهم.
نظرت الى زيَّاتهم، كانت الألوان متألقة. كان كل جندي يرتدي شارات وأوسِمةٍ. كان الجنرالات والأمراء من ذوي المراتب العليا يسيرون بين المراتب مع الأخرين. مع أنه كان واضحاً أن أؤلئك من ذوي المراتب العليا هم المسؤولين، لكنه لم يبدو على أحدٍ منهم أنه كان حساساً بإفراط لمَرتبته. مِن أمِرِ المرتبة الأعلى الى الأدنى، بدا على جميعهم أنهم أعزَّ الأصدقاء. بدا لي الجيش بأنه مُدرَّب بشكل لا مثيل له، مع ذلك بدا عليه أنه عائلة كبيرة.
فيما كنت أتأملهم، لم يبدو عليهم الأنانية، ليس لأنهم يفتقدون هويتهم، ولكن لأنهم كانوا جميعاً على يقينٍ مَن هم وما الذي كانوا يفعلونه. لم يكونوا مفتخرين بأنفسهم ولا باحثين عن إعترافٍ بهم. لم أكتشف طموح أو إفتخار في أيِّ من المراتب. صعقتُ لرؤية هكذا عددٍ كبير فريدٍ من نوعه، ومع ذلك في إنسجام تام وسائراً في خطوات مثالية. كنتُ موقناً أن الأرض لم تشهد هكذا جيش على الإطلاق.
ثم وجدتُ نفسي خلف الفرق الأمامية ناظراً الى مجموعة كبيرة مكونة من مئات الفرق. كل فرقة منها كانت مختلفة في الحجم، فيها الفرق الصغيرة مكونة من ألفي جندي والفرق الكبيرة بمئات الألاف. مع أن هذه المجموعة لم تكن رشيقة وملونة مثل الأولى لكنها كانت جيشاً رهيباً بسبب حجمه. كان لهذه المجموعة رايات أيضاً، لكنها لم تكن كبيرة ومثيرة مثل تلك التي في حوزة المجموعة الأولى. كان جميعهم مرتدياً بزّاً عسكرياً مع مراتبٍ، لكني كنتُ منذهلاً لأن العديد منهم لم يكن مرتدياً دروعاً كاملة ولم يكن للعديد منهم أسلحة. كما أن الدروع والأسلحة التي كانت في حوزتهم لم تكن مصقولة ولا متألقة مثل المجموعة الأولى.
فيما حدقتُ جيداً بأؤلئك المتواجدين في هذه المراتب، إستطعتُ النظر أنه لدى الجميع تصميم وهدف، ولكن لم يكن لهم ذات الهدف كما في المجموعة الأولى. فهؤلاء بدو أكثر إدراكاً لمراتبهم ومراتب الذين حولهم. شعرتُ أن ذلك كان يصرف إنتباههم مانعاً إياهم من التركيز على الهدف. كما شعرتُ بوجود طموحٍ وغيرةٍ بين المراتب، وهذا بالذات ما كان يُلهيهم أكثر. مع ذلك، شعرتُ أن لا يزال لهذه المجموعة الثانية تكريس وهدف أكثر من أي جيش على الأرض. كما أنه كان أيضاً جيشاً قوياً جداً. خلف هذه المجموعة الثانية، كانت مجموعة ثالثة تخطو خلف المجموعتين الأوليتين، لكني لست متأكداً إن كان بإمكانها رؤية المجموعات التي قدامهم. هذه المجموعة كانت أكبر بعدةِ مراتٍ من الجيش الأول والثاني معاً، وبدا عليه متكوناً من ملايين وملايين. فيما كنت أنظره من على بعد، كان هذا الجيش يتحرك في إتجاهات مختلفة مثل سربِ طيور عظيمٍ، مكتسحاً طريقاً ثم ماضياً في طريقٍ أخر، لم يكن يتحرك لمسافة طويلة في إتجاه مستقيم. وبسبب هذا التحرك الغريب، كان ينحرف أكثر فأكثر عن الجيشين الأولين.
وفيما إقتربتُ أكثر، رأيت أن هؤلاء الجنود يرتدون بزّات مُمزّقة وبألوان رمادية كئيبة لم تكن ملساء ولا نظيفة. كل واحد منهم كان ملطخاً بالدم ومجروحاً. كان القليل منهم يحاول السير، ولكن معظمهم كان يسير في طريق عام خلف الذين يسيرون أمامهم. كان القتال يندلع بإستمرار في المراتب مسبباً إصابات للعديد منهم. كان بعض الجنود يحاول البقاء خلف الرايات المهترية والمنتشرة بين مراتبهم. مع ذلك، لم يكن حتى للذين كانوا قريبين من الرايات هوية واضحة لكونهم منساقين بإستمرار من راية الى أخرى.
في الجيش الثالث، كنت مندهشاً لتواجد مرتبتين فقط، الجنرالات والعسكر. كان القليل منهم يرتدي قطعة درع، ولم أرَ أيَّ سلاح بإستثناء أسلحة وهمية يحملها الجنرالات. كان الجنرالات يتباهون بها وكأنها جعلت منهم شيئاً إستثنائياً، ولكن حتى أؤلئك من ذوي المراتب كان بإمكانهم القول أن تلك الأسلحة لم تكن حقيقية. أحزنني ذلك لأنه كان واضحاً أن أؤلئك من ذوي المراتب كانوا يرغبون بشدة إيجاد شخص حقيقيٍّ يمكنهم إتباعه.
لم يبدو هناك أيِّ طموح سوى المتواجد بين الجنرالات. لم يكن ذلك بسبب الأنانية كما في الجيش الأول، بل بسبب عناية قليلة. فكرتُ أنه على الأقل سيكون الطموح الموجود في المجموعة الثانية أفضل بكثير من الإرتباك السائد في هذه المجموعة. بدا على الجنرالات هنا أن لديهم رغبة أكبر في التحدث عن أنفسهم ومحاربة الواحد الأخر، وهذا ما كانت المجموعات الصغيرة تفعله بإستمرار حول الرايات. إستطعتُ أن أنظر بعدئذ أن المعارك ضمن المراتب التي أدت الى الجرف العظيم، كان سببها التغيرات الغريبة في الإرشادات التي كانت تصدرها هذه المجموعة من وقتٍ الى أخر.
فيما كنتُ أنظر الى الملايين في المجموعة الأخيرة، شعرتُ أنه حتى بأعدادهم العظيمة، لم تضِف فعلاً أية قوة الى الجيش، بل بالأحرى أضعفوه. ينبغي عادة في كل معركة حقيقية أن يوجه الجيش نظره الى المسؤولية بدلاً عن المنفعة. فلمجرد المساعدة في الطعام والحماية ستكون التكلفة أكثر في المصادر من أية قيمة يمكن إضافتها الى قدرة الجيش للقتال. فكرتُ بأن العسكر في المجموعة الأولى أو الثانية جديرون بالأعتبار أكثر من العديد من جنرالات المجموعة الثالثة. لم أستطع أن أفهم السبب في سماح المجموعتين الأوليتين لهذه المجموعة الثالثة أن تصنف خلفهما. بكل وضوح لم يكونوا جنوداً بمعنى الكلمة.
حكمة صفورة
وجدت نفسي في الحال على جبل حيث تمكنت من رؤية الجيش بكامله. وفيما كنت أراقب، لاحظت أن السَهلَ كان جافاً ومُغبراً قدام الجيش، ولكن حال عبور الفرق الإثني عشر الأولى، صارت الأرض خضراء داكنة بأشجار تُعطي ظِلاً وتحمل ثماراً وجداول مياه نقية تتدفق في كل مكان من اليابسة. كان الجيش يسترد الأرض. فكرتُ عن مدى إختلاف هذا عما يحدث عند عبور أحد جيوش العالم بلدٍ ما. فإنهم سيَسلبون وينهبون حتى يُجرِّدوا البلد مما له تماماً في كل مكان يأتون إليه.
راقبتُ فيما كانت المجموعة الثانية تعبر ذلك المكان. رفعوا الجسور والعديد من الأبنية ولكن لم يكن المكان متروكاً على هيئتهِ كما كان قبل عبورهم. إذ لم يكن العشب أخضراً كما في السابق، كما أن الجداول كانت طينية وأُخِذت الكثير من الثمار.
ثم رأيتُ ما قد حدث فيما كانت المجموعة الثالثة تعبر ذلك المكان. إذ كان العشب إما منزوعاً أو مُداساً بأقدامٍ حتى دخل في الأرض وإستصعب رؤيته. وما بقي من الأشجار جُرِّد من الأوراق والثمار. كانت الجداول ملوثة، والجسور مكسورة غير قابلة للعبور، وتُركت الأبنية خراباً. بدا لي أن هذه المجموعة خرَّبت ما بقي صالحاً بعد عبور المجموعتين الأولى والثانية. وفيما كنت أراقبهم، بدأ الغضب ينبع من داخلي.
شعرتُ بالحكمة واقفاً بجانبي. لم يقل أي شئ منذ فترة طويلة، لكني إستطعت أن أشعر بأنه هو أيضاً كان غاضباً.
وأخيراً قال، "الأنانية تُخرِّب. جئت لأُعطي حياة وأُعطيها بوفرة. حتى حينما ينضج جيشي، سيكون هناك الكثيرون مِمَن يدعون إسمي ويتبعون أؤلئك الذين يتبعوني، لكنهم لا يعرفوني ولا يمشون في طرقي. هؤلاء يُخرِّبون ثمار أؤلئك الذين يتبعونني. وبسبب ذلك، فإن العالم لا يعرفُ ما إذا شعبي بركةً أم لعنة."
وفيما قال الحكمة ذلك، شعرتُ بحماوة هائلة خارجة منه، وإزدادت حدتها حتى صارت موجعة بحيث كان صعباً عليّ التركيز في ما كان يقوله. كما إني كنتُ أعرف بأني أشعر بما يشعر به وأن ذلك جزءاً مهماً من الرسالة التي كان ينقلها لي. هذا الوجع كان إئتلاف ألامه على الأرض وغضبه على الأنانية المتواجدة في هذا الجيش. كانت كِلا المشاعر شديدة لدرجة إني شعرت كما وكأنها طُمِغتْ عليَّ.
فيما إستمر غضب الرب في إزدياد، شعرتُ أن الربَّ سيُدمِّر الجيش بأكمله. ثم تذكرتُ كيف أن الرب إلتقى موسى حينما كان موسى في طريقه الى مصر مطيعاً الرب. قصَدَ الرب أن يميته الى أن ختنت زوجته صفورة إبنهما. لم أفهم ذلك حتى الأن. لأن الختانُ يتكلم عن إزالة جسدية أو طبيعة جسدية، هذا الحدث مع موسى كان كنُبوّةٍ تنذرُ بخطية عالي الكاهن، الذي جلب لعنةً على نفسه وهزيمةً لأسرائيل بسبب فشله في تأديب إبنيه.
صرختُ، "يا رب، أنهِض الذين لهم حكمة صفورة!"
إستمر الإشتعال وغمرني تصميم عميق لأمضي الى قادة هذا الجيش العظيم وأقول لهم قصة صفورة وبأنه ينبغي على كل واحدٍ في جيش الرب أن يُختنَ في قلبه. ينبغي أن تُنتزعَ الطبيعة الجسدية. علمتُ أنهم لو ساروا أبعد من ذلك دون أن يُعملَ ذلك، فإن الجيش بأكمله سيُدمَّر من قبل الرب نفسه، تماماً مثلما كان الرب على وشك أن يقتل موسى حينما كان راجعاً الى مصر.
ثم وجدتُ نفسي واقفاً في قاعة الحكم أمام كرسي الدينونة. كان الرب لا يزال يظهر كالحكمة، ولكني لم أره أبداً بهكذا رهبة ولا كلماته التي كان ينطق بها بهكذا ثقل، إذ قال:
"رأيتَ هذا الجيش في قلبك في العديد من المرات. القادة الذين أُفوِّضهم الأن سيقودون هذا الجيش. إني أُرسِلك الى العديد من هؤلاء القادة. ما الذي ستقوله لهم؟"
"يا ربُّ، هذا جيش عظيم، لكني لا زلت حزيناً على حالة المجموعة الثالثة. لستُ أفهم كيف سُمح لهم بأن يكونوا جزءاً من جيشك. أريد أن أقول أنه قبل أن يسيروا الى أبعدَ مما هم فيه، ينبغي على الجيش الأول والثاني أن يرجعا ويُشتِّتا هذه المجموعة الثالثة. إنهم فعلاً ليسوا بأكثر من حشدٍ عظيم من الرَّعاع."
قال، "ما رأيتهُ اليوم لا يزال موجوداً في المستقبل. الخدام الذين مزمع أنا على إطلاقهم سيجمعون هذا الجيش ويُجهِّزونه ليكونوا جميعاً كما رأيتَ. في هذا الوقت، تقريباً جيشي بأكمله هو في حالة المجموعة الثالثة. كيف يُمكنني أن أسمحَ بإقصائها؟"
صعقتُ لكلامه هذا، مع إني علمتُ إني لم أرَ مطلقاً أي شعبٍ للرب حالته جيدة كما المجموعة الثانية.
قلت، "يا ربُّ، أعلمُ إني شعرتُ بغضبك على المجموعة الثالثة. إن كان تقريباً معظم جيشك الأن في تلك الحالة، فإني بكل بساطة شاكرٌ أنك لم تُدمِّرنا جميعاً. حينما كنتُ أنظر الى هذه المجموعة الثالثة، شعرتُ أن حالتها البائسة سببه إفتقار التدريب والتجهيز والرؤية، إضافة الى إخفاق قبول الصليب الذي يَختنُ القلوب. أُصدِّق أنه عليَّ الذهاب إليهم برسالة عن صفورة، لكنهم يحتاجون أيضاً ضباط وأمراء لتدريبهم."
إستمر الحكمة، "تذكر الجيش الأول الذي رأيتهُ قدام الجبل. هم أيضاً لم يكونوا مستعدين للمعركة، ولكن حينما بدأت المعركة، أؤلئك الذين لم يكونوا مستعدين فروا. على أية حال، رجع الكثيرون وعليهم دروعهم واستُبدلت أوهامهم بالحق. تغيرت أيضاً المجموعتين الأوليتين في هذا الجيش بسبب المعارك التي أيقظتهم الى حالتهم الحقيقية. ثم صرخوا إليَّ فأرسلت رعاتي إليهم ممن هم حسب قلبي.
"جميع رعاتي هم مثل داود الملك. ليسوا مرتزقة يسعون الى مكان لهم أو الى مركز، بل سيبذلون أنفسهم من أجل شعبي. كما أنهم لا يعرفون الخوف في الصراع ضد أعدائي وهم أنقياء في عبادتهم لي. إني مزمع أن أطلق هؤلاء الرعاة. ينبغي عليك الرجوع برسالة صفورة. الوقت أتٍ قريباً حين لن أحتمل أؤلئك الذين يسعون لأن يُحسَبوا مع شعبي، الذين لا يَختنون قلوبهم. ينبغي أن تنذرهم عن غضبي الشديد.
"كما إني أُرسلك راجعاً لتسير مع الأنبياء الذين أُطلقهم مثل صموئيل ليسكبوا الزيت على رعاتي الحقيقيين. يُعتبر الكثيرين منهم اليوم بأنهم الأدنى من بين إخوتهم، لكنك ستجدهم يخدمون كرعاة أوفياء لقطعانهم الصغيرة، إنهم فعلةٌ أمناء لكل ما أعطيته لهم. هم الأمناء الذين دعوتهم ليكونوا ملوكاً. سأئتَمِنُ لهؤلاء بسلطتي. سيُعِدّون شعبي في النهاية للمعركة العظيمة."
فتسائلتُ في قلبي، إن كنا الأن في حالة المجموعة الثالثة، ما الذي كان ينبغي أن يُعمل بالجنرالات الذين لم يبدو أنهم جنرالات حقيقيين على الإطلاق؟
أجاب الرب، "أنت على صواب، إنهم ليسوا بجنرالات حقيقيين. لم أُعيّنهم أنا، بل عَيَّنوا أنفسهم بأنفسهم. مع ذلك، سيتغير البعض منهم وسأجعلهم جنرالات. وأخرين سيصيروا ضباطاً نافعين. على أية حال، معظمهم سيَفرُّ في بداية المعركة، ولن تراهم بعد ذلك ثانية.
"تذكر هذا: في فترة ما كل واحدٍ من المجموعتين الأوليتين كان جزءاً من المجموعة الثالثة. حينما تذهب برسالة صفورة مُعلناً بأني لن أحتمل بعدُ جسديةَ شعبي، أؤلئك الذين دعوتهم فعلاً والذين هم مكرسين لطاعتي لن يفروا من خِتاني بل سيصمدوا ضد الجسدية في المعسكر، لذلك لن أضطر على جلب الدينونة عليهم. رعاتي هم المسوؤلين عن حالة خرافي. جنرالاتي هم المسؤولين عن حالة جنودي. أؤلئك الذين دعوتهم سيأخذون هذه المسؤولية لأنهم يحبوني ويحبون شعبي ويحبون البِرِّ."
قائد الجنود
ثم لم أعد بعدُ أمام كرسي الدينونة، بل على جبلٍ يشرف على الجيش ثانية. كان الحكمة واقفاً بجانبي. بدا عليه الحزم، لكني لم أعد أشعر بالوجع والغضب الذي شعرت به قبلاً.
بدأ الحكمة قائلاً، "سمحتُ لك لترى قليلاً عن المستقبل. إني أُرسلك الى أؤلئك المدعوين ليُعِدُّوا جيشي ويقودونه. أؤلئك هم الذين يقاتلون في المعركة على الجبل. أؤلئك هم الذين إلتقوا بجيش المُشتَكِ وبقوا أمناء. أؤلئك هم الذين إعتنوا بشعبي وحافظوا عليه مُجازفين بحياتهم. إنهم دُعيوا ليكونوا قادةً في جيشي الذي سيحارب في المعركة العظيمة عند النهاية وسيصمدوا بدون خوف ضد كل قوات الظلمة.
"كما ترى، هذا الجيش يتقدم، ولكن سيكون هناك وقتٌ حيث سيُعسِكر. الإقامة الوقتية في معسكر ضرورية مثل السير. إنه وقت التخطيط والتدريب وصقل الخبرات وحَدِّ الإسلحة. كما إنه الوقت للذين في المجموعة الأولى بالسير ضمن المجموعة الثانية وعلى قادة المجموعة الثانية السير ضمن المجموعة الثالثة، لإيجاد أؤلئك الممكن دعوتهم الى المستوى التالي. إفعل هذا ما دمت تستطيع ذلك لأن الوقت قريبٌ حين تُنجز رؤيا يوحنا 11: 1-2، والذين يريدون أن يدعو بإسمي لكنهم لا يسيرون في طرقي فإنهم سيُداسون تحت القدم. سيكون جيشي قبل المعركة العظيمة الأخيرة مقدساً كما أنا قدوسٌ. سأزيل أؤلئك الذين لم تُختن قلوبهم كذلك القادة الذين لا يدعمون بِرّي. حين يبدأ القتال في المعركة الأخيرة لن يكون هناك مجموعة ثالثة كما تراها هنا.
"حينما يخيّم جيشي في معسكر، سيكون معظم الوقت قد تبدد. فكما أقودُ شعبي الى الأمام بهدفٍ واضح، هكذا أيضاً حينما أدعو جيشي ليخيّم في معسكر، فهناك قصدٌ. قوة الجيش الذي يزحف ستتحدد بنوعية معسكره. حينما يحين الوقت ليتوقف ويخيّم الجيش في أوانه، فالقصد هو لكي يتعلم شعبي طرقي. فالجيشُ جيشٌ سواء كان في معركة أم في سلام. ينبغي أن تتعلم كيف تخيّم في معسكر وكيف تسير وكيف تقاتل. لن تفعل أيّ واحدٍ منها جيداً إن لم تفعلها معاً جيداً.
"ينبغي أن يكون جيشي جاهزاً ليفعل كل واحدٍ فيه في أوانه وفي غير أوانه. قد تفكر أنه حان الوقت للسير، لكني سأُرشِدك لتخيّم في معسكرٍ لأني أرى أشياء لا يمكنك رؤيتها أبداً، حتى من مكان الرؤية هذا. إن تتبعني فإنك ستفعل دوماً الشئ المناسب في الوقت المناسب، مع أنه قد لا يكون مناسباً لكَ. تذكر إني قائد الجنود.
"تصميم جيش ما سيتحدّد بنُبل مُهِمّتهِ ومدى الجودة في إعداد هذه المهمة ومدى الجودة في قيادته. هذا الجيش سيتقدم بأفضل المهامِ نُبلاً قد أُعطيت للإنسان على الإطلاق. على أية حال، القليل من شعبي قد جُهِّزَ لمَهامِهم، أما أؤلئك الذين يقودون شعبي الأن فإنهم يتبعون رغبات أنفسهم. سأُقيمَ الأن قادة سيقومون بتدريب وتجهيز شعبي. سيتبعني هؤلاء دوماً لأني أنا قائد الجنود.
"تختبر الكثير من الجيوش إنتصارات وهزائم. يتقدم جيشي منذ قرون عديدة. كانت له أيضاً إنتصارات عديدة وهزائم عديدة. خسر جيشي العديد من المعارك لأنه هاجم العدو في وقت لم أعطِه الأمر بذلك. أخرين هُزموا لأنهم هاجموا العدو بأناسٍ غير مدربين. معظم هؤلاء القادة فعلوا ذلك لأنهم كانوا يسعون لتمجيد أنفسهم. كما كتب بولس الرسول عن أؤلئك في زمانه. "إنهم جميعاً يسعون لمنافعهم الذاتية."
"كان لقادة أخرون مصالحي في قلوبهم فسعوا بصدقٍ الى النصرة على الشر لأجل إسمي، لكنهم لم يُهذِبوا شعوبهم جيداً، ولم يسيروا معي كحكمة لهم. لكن ذلك سيتغير الأن. أنا سأكون قائد الجنود. لا تضعف عزيمتك بالطريقة التي يظهر فيها شعبي الأن، ولكن تذكر ما سينتجُ عنهم. سأُقيم الأن قادة سيتقدموا حينما أُعطيهم الأوامر. حينما يتبعني جيشي، فإنه سينتصر في كل معركة. حينما يخيّم في معسكر، فإنه سيعرف محضري، وسينمو قوة في طرقي.
"سيأتي زمان في المستقبل حين ترى شعبي بالضبط كما هو الأن. في ذلك الوقت، ستشعر بغضبي المُتَّقد. إعلم أنه لن أحتمل بعد أؤلئك الباقين في وضعية المجموعة الثالثة. بعدئذ سأوقف سير الجيش كله الى أن يتأدب أؤلئك الذين في هذه المجموعة ليصيروا جنوداً أو يتشتتوا. سأُودِّب أؤلئك في المجموعة الثانية لكي يطرحوا طموحهم الشرير ويعيشوا لي ولِحقّي. ثم سيتقدم جيشي، ليس للتدمير، بل لإعطاء حياة. سأكون في وسطهم لأجعل أعدائي يُداسونَ تحت قدمي جيشي. إني قادمٌ لأكون قائداً للجنود!"
المدينة
ثم وقفتُ على جبل أخر يُشرف على مدينة. كان مجد المدينة يفوق أي شئ رأيته أو تصورته قبلاً. فيما كانت كل الأبنية والبيوت فريدة وجميلة، كان كل واحدٍ منها ملفتاً للنظر، ومتناسقة جميعها الواحد مع الأخر كما الحقول المحاطة والجبال والمياه. كانت بشكلٍ وكأن المدينة نامية مثل شجرة بدلاً عن أن تكون بِناءً. شعرت بأني أنظرُ الى شئ كان مبنياً من قبل جنسٍ لم يسقط بل سارَ في بِرِّ ونقاوة أدم وحواء منذ البداية.
كانت إحدى المميزات الظاهرة في المدينة هي الكمية الهائلة من زجاج النوافذ في كل مبنى أو منزل. كان الزجاج شفافاً وصافياً وكانت النوافذ والأبواب موضوعة بشكلٍ حتى شعرت بأني لست فقط مُرحباً به في كل منزل، بل مَدعُوّاً. وكانت الحالة وكأنه ليس هناك شئٌ مخفيٌّ، إذ لم يكن هناك خطرٌ من سرقة أي شئ. بعدئذ نظرتُ الى الناس في المدينة. بدو لي أنهم مألوفين، لكني علمت في نفس الوقت بأني لم ألتقِ بأيِّ واحد منهم. كانوا مثل تصوري لأدم قبل سقوطه. كانت عيون كل واحدٍ منهم مشرقة مما يشير تقريباً على إدراكهم الشامل، لهم من العمق الفكري أبعد بكثير حتى من أفضل شخصٍ متقد الذكاء عرفته على الإطلاق. كنت أعلم أن ذلك كان نتيجة ترتيبٍ وسلام خالٍ تماماً من الإرباك أو الشكِّ، أو ربما إرباكُ الشكِّ. لم يكن هناك طموح لأن كل واحد منهم كان واثقاً من نفسه وكان الجميع فرحين بما هم فيه وما يفعلونه. ولأن كل واحد منهم كان حراً فإن الجميع كانوا ودودين تماماً. بدا الفقر أو المرض أموراً لا يُمكن تصديقها هناك.
نظرتُ الى شوارع المدينة. كان هناك شوارع عامة رئيسية في مركز المدينة وكانت جميعها تسير في ذات الإتجاه، وتواجد العديد من شوارع أصغر تربط تلك الشوارع العامة. فيما كنت أنظرُ الى أحد كبار الشوارع العامة مُنِحت لي المعرفة عن حقيقة القداسة. وحين نظرتُ الى شارع عام أخر عرِفتُ حقيقة الشفاء. وفيما نظرتُ الى شارع عام أخر بدأت أدرك أشياء عن الحُكم. وناظراً الى كل شارع كنتُ أدرك حقيقة مختلفة. ثم أدركت أن كل شارع عام هو طريق الى تلك الحقيقة. وبدا على جميع الناس السائرين والساكنين على كل شارع أنهم يُعرِضون حقيقة ذلك الشارع.
إلتفتَ انتباهي الى العديد من تلك الشوارع التي تربط الشوارع العامة. فيما نظرتُ الى كل واحد منها، شعرت بأنها تمنحني ثمر الروح: مثل المحبة أو الفرح أو السلام أو الصبر. هذه إنما أتت كمشاعرٍ بدلاً عن الفِهم الذي جاءني حينما كنتُ أنظر الى الشوارع العامة.
لاحظتُ أنه فيما كانت بعضٌ من تلك الشوارع مرتبطة بكل شارع عام، كان بعضٌ من الشوارع العامة مرتبطاً بها واحد أو اثنين من الشوارع الصغيرة، فمثلاً، إستطعتُ الوصول الى شارع العام للقداسة بالسير على شارع المحبة. إستطعتُ الوصول الى الشارع العام للحُكم بالسير على شارع المحبة أو الفرح. على أية حال، كان الشارع العام للنعمة مرتبطاً مع كل الشوارع. وللوصول الى أي شارع عام للحقِّ، كان عليَّ السير على طريق مُلقبٌ حسب ثمر الروح.
كانت الناس تسير على الشوارع العامة والشوارع الصغيرة، فيما كان البعض جالساً على حاشيتها. كان البعض في منازله على شارع أو على شارع عام، وأخرين كانوا يبنون بيوتاً عليها. أؤلئك الذين كانوا يعيشون في المنازل كانوا يُقدِّمون الطعام والشراب بإستمرار لهؤلاء السائرين أو الجالسين. ثم لاحظتُ أنه لم تكن هناك مطاعم أو فنادق في المدينة. وللوقت أدركت أنه لا أحد منهم كان محتاجاً إليها لان كل منزل كان مركزاً للضيافة والشفاء.
كان كل بيت تقريباً مفتوحاً للمسافرين. تلك التي لم تكن مفتوحةً كانت تستخدم لأغراض خاصة، مثل التدريس أو الشفاء طويل الأمد. تسائلتُ لماذا يحتاج أيَّ واحد حتى الى شفاء ههنا، ولكن لاحقاً أُظهر لي السبب. مع ذلك لم أستطع تصوّرَ أي مكانٍ أخر أكثر روعة من هذه الخدمة العظيمة في الضيافة والمساعدة أو الشفاء، حتى تلك المبنية على الشارع العام للحُكم التي بدت مكانا لمعظم النشاطات. بسبب ذلك، حتى الشارع العام للحُكم كان جذاباً. كان واضحاً أن كل شارع لم يكن مأموناً فقط بل مرغوباً فيه أكثر من أي شارع أو شارع عام رأيته على الإطلاق حتى في المتنزهات الرئيسية. كانت المدينة أكثر روعة من أي مدينة خيالية يمكن أن يتخيلها الفلاسفة.
جذب إنتباهي ثانية شارع العام للحُكم. بدا لي وكأنه أقل الشوارع العامة سَفراً، لكنه صار الان الأكثر نشاطاً. ثم رأيت أن السبب هو في كون الشوارع الأخرى والشوارع الرئيسية تصب في هذا الشارع. على أية حال، حتى شارع العام للحكم صار مركز نشاط، ولكن كان الناس ما يزالوا مترددين في الدخول فيه.
نظرتُ نحو نهاية الشارع العام للحُكم، إستطعت رؤيته فقد كان منحدراً يلتقي عند نهايته بشارع عام مما يجعله مطوقاً، ولكن بعمق ومجد. علمت أنه إن تمكن الناس من رؤية نهاية هذا الشارع لأزداد السير فيه كثيراً. ثم أدركتُ بأني انجذبت الى هذا الشارع لتواجد ذات الشعور كما للقاعة العظيمة للحُكم. علمتُ أن هذا كان الشارع الذي قادني لمعرفة الرب كحاكمٍ بارٍ.
عربون السلام
تسائلتُ إن كانت المدينةُ سماءٌ أم أورشليم الجديدة. ثم لاحظتُ أنه بالرغم من تواجد منزلة رفيعة لهؤلاء الناس أكثر بكثير من أي إنسان رأيته على الأرض، إلا أنه لم يكن لهم المجد أو المنزلة كأؤلئك المتواجدين حتى في المناصب الأدنى في قاعة الحُكم. كنت مندهشاً لذلك حينما شعرت بالحكمة واقفاً بجانبي ثانية.
بدأ الكلام، "هؤلاء هم ذات الناس الذين رأيتهم في جيشي. المدينة والجيش كِلاهما ذات الشئ. كان لقادتي القادمين رؤيا لجيشي ومدينتي. إنني أبني كِلاهما، وسأستخدم القادة الذين أُعِدَّهم الأن لإتمام ما بدأته منذ أجيالٍ عديدة. سيصير جنرالاتي بارعون في بناء المدينة، وهم سيكونون جنرالات في الجيش. كِلاهما ذات الناس.
"يوما ما، لن تكون هناك حاجة للجيش بعد، لكن هذه المدينة ستدوم الى الأبد. ينبغي أن تُعِدَّ الجيش للمعارك الحالية، ولكن إبني كل ما تبنيه للمستقبل.
"هناك مستقبلٌ للأرض. بعد صدور أحكامي سيكون هناك مستقبل مجيد. إني مزمع لأظهر المستقبل لشعبي لكي يكون المستقبل في قلوبهم. كما كتب سليمان، ¢كل شئ فعله الله سيبقى الى الأبد¢، فيما يصير شعبي مثلي، فإنهم سيبنون ما قد يدوم الى الأبد. سيفعلون كل ما يستطيعونه بسلامٍ للزمان الحالي ورؤيا للمستقبل. المدينة التي أبنيها لتدوم الى الأبد ستُبنى على الحق في قلوب الناس. سيدومُ حقي وأؤلئك الذين يسيرون في الحق سيخلفوا ثماراً حيث ستبقى.
"إني أتٍ الى الأرض في شعبي كحكمة لأبني مدينتي. ستملأ معرفة الحق مدينتي، ولكن الحكمة ستبنيها. الحكمة الأتية على بَناءيَّ ستجعل العالم مندهشاً لمدينتي أكثر بكثير من إندهاشه للمدينة التي بناها سليمان. عَبَدَ الناس حكمتهم منذ أكلهم أولاً من شجرة المعرفة. حكمةُ العالم على وشك أن تصير باهتة قدام حكمتي التي سأكشِفها من خلال مدينتي. حينئذ سيخزى أؤلئك الذين يعبدون أيَّ حكمة أخرى. كل ما فعله سليمان كان نُبوّةٌ لما أنا مزمع على بنائه.
"في كل ما رأيته عن المدينة التي أبنيها أنا، إنما أعطيتكَ لمحة سطحية. سترى أكثر من وقت لأخر، ولكن في الوقت الحالي عليك أن ترى شيئاً واحداً. ما الذي جذب إنتباهك أكثر عن هذه المدينة؟"
أجبته، "الشئ الوحيد الذي كان بارزاً هو الإنسجام. فكل شئ في المدينة كان منسجماً بدقة، وكل المدينة كانت منسجمة تماماً في بيئتها،"
إستمر الرب، "الرباط المثالي للسلام هو المحبة. سيكون في مدينتي وحدة. في كل ما خلقته، تواجد إنسجام. كل الأشياء مترابطة معاً فيَّ. كل شئ أفعله أنا في الأرض هو لإسترداد الإنسجام الأصلي ما بين أبي وخليقته وما بين جميع البشرية. حينما تعيش البشرية في إنسجام معي، ستكون الأرض في إنسجام معه، ولن يكون هناك بعدُ زلازل أو فيضانات أو عواصف. جئتُ لأجلِبَ سلاماً على الأرض."
فيما كان يتكلم، علمتُ بأني كنتُ أنظر الى المستقبل، تماماً كما حدث ونظرتُ الجيش. كما علمتُ أن ما قاله عن البناء بسلام في الوقت الحالي ورؤيا عن المستقبل كان ضرورياً أيضاً للإنسجام الذي رأيته. كان الزمن أيضاً جزءاً من خليقته التي علينا أن نتلائم فيها. ثم أدار الحكمة وجهي لأنظر مباشرة في عينيه وقال، "أُحِبُّ خليقتي. أُحِبُّ بهائم الحقول وأسماك البحر. سأسترد كل الأشياء كما كان مقصوداً أن تكون، ولكن ينبغي أولاً أن أسترد البشرية. لم أتي فقط لأفتدي بل لأسترِد أيضاً. لتكونَ أنت جُزءاً من خدمة الإسترداد لا ينبغي عليك مجرد أن تنظر الأخرين كما هم، بل كما ينبغي أن يكونوا. مثل حزقيال، عليك أن تنظر كيف أنه حتى أجفَّ العظام صائرة كجيش عظيم جداً. ينبغي أن تتنبأ حياةً للعظام الى أن تصبح الجيش الذي دعوته لأن يكون. ثم سيتقدم جيشي. حينما يتقدم جيشي فإنه سيسترد ولا يُدمِّر. سيحارب الشر، كما أنه سيبني مدينة البِرِّ.
"كل كنوز الأرض لن تستطيع الموازنة مع قيمة نفسٍ واحدة. إنني أبني مدينتي في قلوب الناس بقلوب الناس. أؤلئك الذين يحتفظون بحكمة عظيمة، أي معرفة كنوز الأبدية، سيُستخدموا لبناء مدينتي. ستعرفُ بَناءيَّ بهذه الحكمة، فهم لا يُوجهون أذهانهم نحو أشياء أرضية، بل نحو كنوز السماء. بسبب ذلك، سيجلب العالم ثروته الى مدينتي مثلما فعلوا في زمان سليمان.
"إني مزمعٌ أن أطلق بَناءيَّ الحكماء. ينبغي أن تسير معهم، وينبغي عليهم أن يسيروا معاً. كل شارع من الشوارع العامة والشوارع الصغيرة التي رأيتها في هذه المدينة سيبدأ كحِصنِ حقٍّ في الأرض. كل حِصنٍ سيصمد ضد قوات الظلمة، ولن يكون بإمكان هذه القوات الصمود ضدهم. كل واحدٍ سيكون مثل جبل بأنهارٍ تتدفق منه لتروي الأرض. كل واحد سيكون مدينة ملجأ وملاذٍ لكل الذين يبحثون عني. لا سلاح يُشَكَّلُ ضدهم سينجح، ولا سلاح أُعطيه لهم سيفشل."
بَناءيَّ الرب
فيما تكلم الحكمة إنفتحت عيني لأنظر وادياً كان أجمل وادٍ رأيتهُ على الإطلاق. كانت الجبال التي تشكل الوادي مع الوادي نفسه أكثر إخضراراً من أي أخضرار إستطعتُ تذكرهُ. كانت الصخور مثل حصون مصنوعة من الفضة، والأشجار فريدة من نوعها وممتلئة ثماراً. كان هناك نهر في المنتصف تصب فيه جداول من كل جبل حوله. كان الماء يتلالأ بلون أزرق لم أرى مثيله على الإطلاق وذي جمال يضاهي لون السماء. كل ورقة عشب كانت مثالية. كان الوادي ممتلئاً بكل أنواع الحيوانات التي بدت أنها الأفضل في سلالاتها بدون أمراضٍ أو ندبٍ. متوافقة تماماً مع الوادي ومع أحدها الأخر. لم أرَ هكذا مكان جذاب على الأرض أبداً.
تسائلت إن كنتُ أنظر بستان عدن، ثم رأيت بعض الجنود مرتدين دروعاً كاملة وهم يقومون بمسحٍ للوادي. وجنود أخرين كانوا يتعقبون كل جدول وصولاً الى النهر، ثم يتعقبون النهر الى المكان الذي فيه كان الجنود الأولين يقومون بالمسحِ. في البداية لم أكن أفكر أن الجنود يتوافقون مع ذلك المكان أبداً، ولكن لسبب ما صرت مطمئناً لأجلهم لأني بطريقة ما علمت أن مكانهم من المفترض أن يكون هناك.
نظرتُ الى الجنود. كانوا خشِنين بدت عليهم قساوة المعركة، مع ذلك كانوا لطفاء ممكن التحدث إليهم. كانوا عنيفين وموطَّدي العزم، ومع ذلك تراءى لي أنهم في سلام تام. كانوا جديين ومتسمين بالإعتدال، مع ذلك ممتلئين فرحاً وسريعي الضحك. فكرت أنه مع أن المعركة رهيبة دائماً، فإن كان عليَّ الذهاب الى المعركة، فإنه ليست هناك مجموعة جنود أخرى أود المحاربة بجانبها.
لاحظتُ أن دروعهم التي بدت وكأنها عُمِلت خصيصاً لهم، تلائمهم بشكل تام حتى أنهم كانوا يسيرون وكأنهم ليسوا مرتدين أي دروع على الإطلاق. أستطيع القول أنها كانت خفيفة ومع ذلك كانت أقوى من أي دروع رأيتها على الإطلاق. كما أن الدروع بدت لتكون متحدة بشكل كامل مع ألوان الماء والجبال والسماء الزرقاء، وبسرعة أدركتُ أنها كانت إنعكاس تلك الألوان في نقاوة لم أرَ مثيلها على الإطلاق. كانت فضية الدرعِ وكأنها عائدة لعالم خيالي، أعمقُ وأنقى من أي شئ فضيٍّ موجود على الأرض. وفيما كنت متسائلاً عمن يكون هؤلاء الجنود، بدأ الرب بالكلام:
"في بيت أبي منازل عديدة. هؤلاء هم بَناءيَّ. كل بيت لي سيكون حِصنٌ منهُ سأُرسل جيشي. سينطلق البعض كفرسان للمحاربة من أجل الفقراء والمضطهَدين، فيما سينطلق أخرون كمجموعات صغيرة سيشِنّوا غارات على معاقل العدو ويستردوا الغنائم. سينطلق البعض لغزو مدنٍ سيحكم عليها حقِّي وبِرِّي، وسينضم البعض الأخر الى جيوش من الحصون الأخرى لتحرير جميع الأمم مستخدماً حقِّي ومحبتي وقوتي.
"ليست هذه الحصون فقط لحماية شعبي، بل للتعبئة وللتدريب ولإرسال جيشي في كل مكان من الأرض. سيأتي قريباً الزمان الأكثر ظلمة، ولكن لن يتواجد شعبي مُختبِأً. سينطلقوا ليغزو الشرَّ بالخير. سيغزون ليس محبةً لحياتهم ولو لحدِّ الموت ولأجل محبتهم الأخرين أكثر من محبتهم لحياتهم. سيكون هؤلاء شجعاناً لا يعرفون الخوف، الذين سأُرسلهم قبل رجوعي.
"حتى النُبوات عن قدومهم تصيب قلوب أعدائي بالذعر. لا يهاب هؤلاء الشجعان شيئاً. سيحبون الناس. المحبة هي أكثرة قوة من الخوف، وستكسر محبتهم قوة الخوف التي حجزت البشرية في عبودية منذ البداية. ولأنهم أُختيروا لأن يموتوا كل يوم، فإن الخوف من الموت لا قدرة له عليهم، مما سيُعطيهم قوة على أعدائهم الذين الخوف هو قوتهم. مُتُّ مرة، لكني الأن حيٌّ الى الأبد، وأؤلئك الذين يعرفوني ليس بإمكانهم أن يخافوا الموت. لذلك، فالذين يعرفونني سيتبعونني أينما أذهب.
"كل منزل من منازلي سيكون في وادٍ مثل هذا. إنه حيٌّ بالحياة الموجودة في الأرض قبل السقوط لأنه هنا جلبتْ قوة إفتدائي حياة حقيقية ثانيةً. ستتواجد منازلي فقط حيثما تتدفق جداولي معاً لتصب في جدول واحدٍ. سيأتي بَناءيِّ من كل جدول، لكنهم سيعملون معاً. فكما تحتاج منازلٍ فخمة الى أصحاب حرف يدوية مختلفة، هكذا بيتي أيضاً. فقط حينما يعملون معاً يستطيعون بناء بيتي.
"كما ترى في هؤلاء، سيكون لبَناءيَّ حكمة لتكملة مسحِ الأماكن قبل البدء في البناء. سيتوافق كل منزل من منازلي تماماً في المنطقة المخصصة له، ليس بحسب المقاييس البشرية، بل بحسب مقاييسي. أول خبرة يُطوِّرها بَناءيَّ هي خبرة مسح الأراضي. ينبغي أن يعرفوا المنطقة لأني وضعت تصميم المنطقة لشعبي. حينما تَبني بحكمتي، سيتوافق ما تبنيه مع المنطقة."
ثم وجدتُ نفسي واقفاً عند أحد الجداول في الوادي. بدأت أتعقبه لحد قمة الجبل. وفيما كنت مقترباً الى القمة، بدأت أسمع أصواتاً عالية ومرعبة. حينما رأيت ما وراء الوادي، إستطعت رؤية حروب وزلازل عظيمة تمزِّقُ الأرض، وعواصف ونيران طوَّقت الوادي تماماً. كان ذلك وكأني واقفٌ على الحدود ما بين السماء والجحيم، ناظراً الجحيم نفسه. بطريقة ما عرفت أن الجحيم كله عاجز على إنتهاك حرمة الوادي، ولكن المنظر كان فظيعاً، إلتفتُ لأهرب راجعاً الى الوادي. ثم شعرت بالحكمة واقفاً بجانبي.
"هذا هو المكان الذي ينبغي أن تعيش فيه، ما بين الأموات والأحياء. لا تخف، بل أؤمن. كنتَ ضعيفاً، لكني معك الأن، لذلك كن شجاعاً وقوياً. لا ينبغي أن يحكم عليك الخوف، لا تفعل أيَّ شئ عن خوفٍ. إفعل ما تفعله عن محبة وستنتصر دائماً. المحبة هو مصدر القوة. المحبة
ستسود في النهاية. شَجِّع بَناءيَّ بهذه الكلمات."
كلمات الحياة
ثم وجدتُ نفسي راجعاً الى القاعة العظيمة للحُكم وواقفاً أمام ذات الباب ثانيةً. كنت لا أزال مذهولاً بعض الشئ لما رأيته على حاشية الوادي، ولكن كلمات الرب كانت لا تزال تدوي في أذني. "المحبة، المحبة"، رددتُ ذلك مرةً تلو الأخرى قائلاً. "ينبغي أن لا أنسى قوة المحبة. هناك سلام تام في المحبة. هناك شجاعة في المحبة. هناك قوة في المحبة."
نظرتُ الى الباب. علمت أنه الباب لكنيسة الرب. علمتُ أن الحصون التي تكلم عنها الحكمة هي كنائس وأنشطة. بدأت أفكرُ في بعض الطوائف الكنسية والأنشطة التي أعرف أنها تُعِدُّ نفسها الأن لما كنتُ أراه. بدأت أفكرُ بالمسَّاحين الروحيين الذين كنتُ أعرفهم لكني لم أفكر أبداً عنهم بهذه الطريقة قبلاً. ثم تراءى لي وكأن معظمهم مرهقين من المعركة لدرجة أنهم كانوا يحاولون بكل جهدهم البقاء على قيد الحياة، حتى أنهم كانوا في يأسهم يقاتلون الواحد مع الأخر. فكرت في المعركة التي إنتشبت على الجبل. إستخدم العدو المسيحيين للهجوم على المسيحيين الأخرين الذين كانوا يحاولون التسلق على الجبل. ومع أن تلك المعركة أُحرز فيها النصر أخيراً وتحرَّر معظم المسيحيين من قوة المُشتكِ، لكني علمتُ أنه يستلزم وقتاً طويلاً لتلتئم الجراحات الناتجة عن تلك المعارك. ولأن الكثيرين كانوا تحت تأثير المُشتكِ لفترة طويلة حتى أن تأثيره كان لا يزال جزءاً من طبيعتهم لتوجيه التُهم، وسيتطلبُ وقتٌ قبل أن تتجدد أذهانهم. علمتُ أنه لا يزال أمام الكنيسة طريقاً طويلاً لكي تكون متحدةً.
فكرتُ في نفسي، من أين نبدأ؟ ما الذي أستطيع أن أفعله إن دخلت من ذلك الباب؟
أجابني الحكمة، "ليس عليك أن تبدأ، قد أُكمِل. أنا أنجزتُ وحدة شعبي على الصليب. مع أنه يبدو وكأن العدو يسود منذ الصليب، لكنه في الواقع يعمل في الخطة التي وضعها أبي وأنا منذ البدء. حينما تكرِز عن الصليب وتعيش بقوته، فإنك ستفعل مشيئتي. أؤلئك الذين يخدموني ولا يخدمون طموحاتهم الشخصية سيعرفوا قريباً الواحد الأخر ويتحدوا معاً. أؤلئك الذين لهم خوف الله فعلاً ليس عليهم أن يخافوا أيَّ شئ على الأرض. أؤلئك الذين يخافونني لن يخيف الواحد الأخر، بل يحب الواحد الأخر ويجلسوا معاً على مائدتي.
"دعوتكَ لترى، وسوف ترى كيف ستأتي مملكتي. إبليس سيُطرَحُ الى الأرض وسيأتي الى الأرض بغيظ عظيم. ولكن لا تخافوا غيظه، لأني أنا أيضاً مزمعٌ أن أُظهر غيظي ضد كل الإثم. سيعرف الأثيم وكل من يتبعه غيظي قريباً. ينبغي أن ترى هذه الأشياء، ولكن ليس عليك أن تخافها لأني أسكن وسط شعبي وأنا أعظمُ من الجميع. وفيما تنظرني فإنك لن تخاف. إن خُفتَ، فلأنك لا تنظرني.
"حينما يتَّحد الشر في الجنس البشري تماماً مع الأثيم، ستأتي على الأرض محنة عظيمة لفترة. بعدئذ ستدركُ كل البشرية وكل الخليقة عبث ومأساة العصيان. في ذات الوقت، سيكون شعبي متحداً معي تماماً، وسيصمد نوري العظيم ضد الظلمة العظيمة. أؤلئك الذين يسيرون في عصيان سيسقطون في الظلمة العميقة. أؤلئك الذين يسيرون في طاعة سيتألقون كنجوم السماء.
"التواضع والطاعة سيقودان إليَّ دوماً، فيما تأتي إليَّ ستنظر ويجلو لك مجدي. السموات والأرض مزمعان أن ينظرا الفارق بين النور والظلمة. أنتَ دُعيتَ لتعيش ما بين الظلمة والنور من أجل أن تدعو الذين يعيشون في الظلمة للمجئ الى النور. حتى في هذا الوقت لستُ راغباً في هلاك أيِّ إنسانٍ."
إستصعبَ عليَّ في المجد الذي كان يحيط بنا أن أتذكر الظلمة والأحداث المريعة التي كنتُ شاهداً عليها للتو. فكرت في الفارق ما بين مجد الرب وأُبَهةِ وعظمةِ الإنسان.
فهتفتُ، "كم ضئيلون وجديرون بالشفقة نحن! إن أُعطيتْ لكل البشرية لمحة عن كرسي دينونتك لتاب الجميع سريعاً. يا رب، لماذا لا تُظهر نفسك للعالم كي لا يتوجب عليه إحتمالَ هذا الشرِّ؟ لن يختار أحدٌ الشر إن إستطاعوا رؤيتك كما أنت."
"سأكشفُ نفسي حينما يمتد الشرُّ في كل طرقه بصورة كاملة، ثم سأُظهرُ نفسي الى العالم. ففيما يكشف الأثيم نفسه من خلال الناس الساقطين، سأُكشفُ أنا من خلال الناس المُستردين. ثم سيراني العالم، ليس مجرد المجد الذي لي في السماء، بل مجدي الذي يصمدُ ضد الظلمة. مجدي هو أكثر مما تنظره ههنا، إنه طبيعتي. بعد أن أكشف طبيعتي في شعبي، سأرجعُ في المجد الذي لي هنا. الى ذلك الحين، فإني سأبحث عن أؤلئك الذين سيتبعوني لأنهم يحبوني ويحبون الحق، ليس لمجرد محبتهم لهذا المجد والقوة.
"أؤلئك الذين إختاروا أن يطيعوا حينما يتمرد العالم كله فإنهم سيكونوا جديرين في الورثة معي. أؤلئك سيكونوا مستحقين ليحكموا معي ورؤية مجدي والمشاركة فيه. أؤلئك هم الذين لا يعيشون لأجل أنفسهم، بل لأجلي. بعض من عظماء أؤلئك الإخوة العائدين لي على وشك ان ينكشفوا. وهم سيقفون مع الحق ضد الظلمة العظيمة. سيبقوا راسخين عِبر أعظم التجارب. جلبتُكَ الى هنا وأُرسِلكَ راجعاً لتشجعهم على الصمود وأن لا يخافوا لأن زمن خلاصهم قد إقترب.
"كما أُرسِلكَ راجعاً لتُحذِّر أؤلئك العظماء. نظر إبليس مجد أبي ونظر الربوات التي تخدمه، ومع ذلك سقط. سقطَ لأنه بدأ يثق في المجد والقوة التي شاركها معه الأب بدلاً من الوثوق في الأب نفسه. أؤلئك الذين سيُؤتمنوا بالقوة والمجد حيث أُشارِكها معهم في تلك الأوقات، ينبغي أن لا يضعوا ثقتهم في القوة أو المجد، بل يضعونها فيَّ. ليس الإيمان الحقيقي أبداً في نفسِكَ أو في حكمتك أو في القوة التي أعطيتها لكَ. الإيمان الحقيقي هو فيَّ.
"فيما تنمو في الإيمان الحقيقي الموجود فيَّ، فإنك ستنمو في الإعتماد عليَّ، وستثق بنفسك بصورة أقل. أؤلئك الذين بدأوا الوثوق في أنفسهم لن تكون لهم القدرة على حملِ ثُقل قوتي أو مجدي، قد يسقطوا كما حدث مع الأثيم. قوتي في الضعف تكمل، ولكن ينبغي أن لا تنسى أبداً أنك في نفسِكَ إنسانٌ ضعيف، وبنفسِكَ إنسان أحمقٌ.
"أؤلئك الذين هم جديرون للحُكم معي في الزمان القادم سيُبرهنوا ذلك بمعيشتهم في الظلمة وضعفات الجسد البشري، ومع ذلك سيخدموني ويثقوا فيَّ. سينحني حتى أعظم الملائكة بكل فرحٍ قدام أؤلئك الذين تم إختبارهم بهذه الطريقة. تعجبت الملائكة حينما شاهد الرجال والنساء المُعذبينَ القليل جداً من المجد الموجود هنا وبقوا ثابتين فيَّ وفي حقّي في فترات الظلمة. أؤلئك جديرون لأن يُدعوَ إخوتي وأن يُدعوَ أبناء وبنات أبي.
"يظهر الحق على الأرض في أغلب الأحيان ضعيفاً وسهلٌ إنهزامهُ. أؤلئك الذين يشاهدون من هنا يعرفون أن حقي يسود دوماً. قد تأخر الوقت الذي فيه أقف وأجلب أحكامي على الأرض لكي يتمكن إخوتي من برهنة محبتهم لي بوقوفهم مع الحق مهما كانت الكلفة. سيسود حقي وطيبتي طوال الأبدية، كذلك أيضاً جميع الذين سيأتون إليَّ لمحبتهم للحق. أؤلئك سيتألقون كالنجوم التي صُنِعت تكريماً لهم."
فيما كان الحكمة مستمرٌ في كلامه، وجدت نفسي وكأني إغتسلتُ تحت دُش ماء حيٍّ. في أوقاتٍ كنت خجلاً لأني حتى في وجودي في محضر مجده، كنتُ بليداً وسهل الإلهاءِ هنا مثلما كنت على الأرض. لكني الأن فيما هو يكلمني، غسلتني كلماته حتى أصبحتُ حادَّ الذهن لدرجة تفوق نطاق الإنتعاش العقلي. وكلما إزداد إغتسالي كلما بدت كلماته وكأنها تنفجر بتألق طاهر. ليس فقط إني رأيتُ مجده، بل شعرتُ بمجده في داخلي. في محضره، لم أسمع الحق فحسب بل إمتصتُ الحقَّ.
العروس المحبوبة
الشعور بأني اغتسلت بكلمات الرب كان أكثر روعة من أن أصفها، ولكن ذلك كان مألوفاً. أعلم إنني كنتُ أشعر بذلك حينما أستمعُ الى وعظة ممسوحة من أشخاص وجِدوا في محضر الرب. لم يكن ذلك ذلك شعورٌ بالسكرِ، بل العكس تماماً. فبدلاً من البلادة في الأحاسيس، كان الإسراع بها. في محضره، شعرتُ بأن ألاف من أجزاء المعلومات التي جمعتها على مدى سنوات طويلة كانت جميعها مرتبطة ببعضها لأجل إعطاء معنى عميق وشامل لكل شئ قاله لي. في هذه الطريقة، كل فكرةٍ أصبحت مثل دعامة قوية للمعرفة في ذهني. ثم أصبحت ميالاً لشعوري بعمق المحبة لكل حقٍّ.
عندما تكلم الرب، شعرت بتحرُّرِ طاقة جعلتني قادراً على رؤية كل حقٍّ بعمقٍ أعظم عن السابق على الإطلاق. لم تنقل إليَّ كلماته معلومات بل حياة. هذه الإستنارة العظيمة كانت مشابهة لما إختبرته بعد أن صممت أن لا أحاول إخفاء أيِّ شئ حينما وقفت أمام كرسي الدينونة. وكلما كنت أفتح قلبي أكثر لكلماته لكشفِ أي ظلمةٍ فيَّ ولأجل تغييري، كلما زادت قوة إختراق كلماته في داخلي.
لم يعطني الرب مجرد معلوماتٍ حينما تكلم، بل بطريقة ما أعاد تنظيم عقلي وقلبي لكي تكون هذه الحقائق أساساً للفهم، ومن ثم يُطلِق الفِهم محبةً للحقِّ. فمثلاً، كان لدي بحسب فكري فِهم راسخ عن الكنيسة كعروس المسيح. وفيما كان يتكلم عن الخدمات الكنسية التي أُطلِقت لتهيئة العروس، رأيتُ في قلبي وكأني أعرف كل كنيسة. وللوقت أصبحت أكثر من مجرد كونها مجموعة أناس، بل أصبحوا محبوبته. شعرت بعاطفة جياشة فيَّ لمساعدتهم في تهيئتها له. لوى الإشمئزاز من الخطية والدعارة مع العالم ركبتي فيما كنت أنظرُ ما فعلتهُ بشعب الرب. علمتُ أن ما كنت أشعرُ به كان يشعر به الرب.
إنسكب عليَّ حقَّهُ الذي إغتسلني. كان الإغتسال الذي شعرتُ به أكثر روعة من تصوري. كان تقريباً وكأني عشتُ حياتي في بالوعة وأُعطيتُ الأن دُشّاً ساخِناً.
أمسكني حقُّ الإغتسال بهكذا قوة حتى إني أردت بشدة الرجوع الى الأرض ومشاركته مع شعبه.
إستمر الحكمة، "إني مزمع على إطلاق قوة الحقِّ الممسوح لإغتسال شعبي. ستتطهر عروستي من كل نجاساتها. سأُرسل رُسلي الذين سيكونون لهيب نار، مشتعلين بغيرةٍ لقداستي وقداسة شعبي."
فيما تكلم، شعرتُ بعمقِ وقوةِ رسالة القداسة. فعلمتُ بدون جدلٍ أن قوة الحق ستُنجِزُ ذلك. كان رؤية العروس المتألقة التي يستحقها جداً يشتعل في قلبي. أردت بكل هيام مشاركة ذلك مع شعبه ليضعوا تماماً نصب أعينهم على تهيئة أنفسهم له. لم أستطع أن أدرك فِعل أي شئ ثانية دون أن يكون ذلك هدفي.
بدأ يتكلم عن حصونِ الحقِّ والبِرِّ. وفيما كان يتكلم، رأيتُ رعايا الكنائس الذين كانوا مألوفين لدي وكيف كانوا ينازعون. صرِتُ مثقلاً بعبءٍ أكثر من ذي قبل لأجلهم لكي يتشددوا بحقِّ الرب. علمت أنهم كانوا ضعفاء لأنهم لم يسيروا في الحق. صار الحزن الذي شعرت فيه من أجلهم أكثر مما إستطعت إحتمالهُ.
فهتفتُ، "لماذا لا يسيرون في الحق؟"
وضّح الحكمة، "بدأتَ تشعرُ بالعبءِ الذي شعرَ به نحميا حينما سمع أن أورشليم كانت حزينة لأن جدرانها كانت محطمة. إني أنقلُ الى رُسلي النار ليروا عروستي مغتسلة، كما أنقلُ إليهم عبء نحميا لينظروا إسترداد جدران الخلاص. بعدئذ لن يعاني شعبي أسى فيما بعد.
"رأيتَ شعبي كجيشي ومدينتي وعروستي. الأن لست تنظرها فقط، بل تشعر بها أيضاً. فقط حينما يصدر حقي من القلب حينئذ له القوة في تغيير الناس. ينبغي أن تأتي المياه الحية من أعماق الإنسان، أي من القلب. تماماً مثلا شعرت حقي يُطهِّرك، هكذا أجعلُ رُسلي لهب نار يتكلمون الحق، ليس فقط لِمَنحِ فِهمٍ، بل مع القوة لتغيير قلوب الناس. الحق الذي أُرسله ليس فقط لتبكيت الناس على خطيتهم بل سيغتسلهم من خطيتهم."
حتى وهو مستمر في كلامه، نشأت في داخلي غيرةٌ عظيمة لعمل شئ. بدأت المخططات الإلهية تأتيني فعرفتُ أنها ستساعد شعبه. لم أستطع إمساك نفسي عن البدء بالعمل. أؤمن الأن أنه حتى العظام الأكثر يبوسة ستصير جيشاً عظيماً جداً! في محضر الحكمة، ليس هناك شئ مستحيل. لم تكن لي مشكلة في التصديق بأن كنيسته ستصير عروساً دون لطخة أو جعدة، أو أنها ستصير مدينة عظيمة، شامِخةً كحِصنٍ للحق ينظرها العالم بأكمله. لم يكن لدي أيّ شك أن شعبه، مع كونه ضعيفاً ومهزوماً كما يبدو الأن، على وشك أن يكون جيشاً للحقِّ لا تصمد أمامه أية قوة للظلمة. وشاعراً بقوة الحق التي لم أشعر بها قبلاً، علمتُ أن قوته كانت أقوى بكثير من الظلمة.
كلمات الحياة
في محضره، شعرتُ وكأنه بإمكاني التكلم عن رؤية إستلمتها عن عروسته وعن تغييرٍ في كل من سمِعها. بدا لي أنه بإمكاني التكلم الى معظم رعية الكنيسة المنهزمة بهكذا قوة لدرجة يصيروا سريعاً حِصناً عظيماً للحق. علمتُ أيضاً أنه على الأرض، لم تكن لكلماتي تلك القوة.
قاطعني الحكمة، "ستكون لكلماتكَ هذه القوة حينما تثبت فيَّ. لم أدعوك لتكرزَ عني. دعوتكَ لتكون صوتاً أتمكن التحدث من خلاله. فيما تثبت فيَّ وكلماتي تثبت فيك ستُنتج ثماراً ستبقى فيك. بكلمتي، خُلِقتْ الخليقة، وبكلمتي ستُخلق الخليقة الجديدة فيك وفي شعبي. كلماتي روحٌ وحياة. كلماتي تُعطي حياة. لستَ مدعواً لمجرد الكرازة عني، بل لتدعني أُعلِّمُ من خلالك. فيما تمكث في محضري، ستكون كلماتك كلماتي، وستكون لها قوة."
فكرتُ في شئ قالته مَركَريت براونينك مرةً، "كل شجيرة عُليق ملتهبة بنارِ الله، ولكن أؤلئك الذين يُبصرونها فقط يخلعون أحذيتهم. أما البقية فستلتقط ثمر العُليق."
قلت، "يا رب، أريد أن أراك في كل شئ،"
فإستجاب لي، "سأُعطي رُسلي الرؤية ليُبصِروا قصدي في كل الأشياء. سأجعل رُسلي لهب نار كتلك التي ظهرت في شجيرة العُليق المتقدة. ستستقر ناري عليهم، لكنهم لن يُلتَهموا بها. حينئذ ستندهش البشرية لهذا المشهد العظيم ويلتفتوا لينظروا إليه. سأتكلم من خلال رُسلي داعياً شعبي الى معرفة مصيره والنهوض كالمحررين الذين دعوتهم لأن يكونوا."
ثم شعرتُ بإنجذابٍ نحو الباب. فاقتربت إليه وإستطعت رؤية الكتابة. لم أرى قبلاً كتابة مثلها. كانت مكتوبة بذهب خالصٍ، وبطريقة ما كانت الكتابة حيَّة. فبدأت أقرأها:
لأن فيه خُلِق كل شئ ما في السموات وما على الأرض، منظوراً وغير منظورٍ، سواء كان عروشاً أم سيادات أم رياسات أم سلاطين، كل الأشياء به وله خُلقت. الذي هو قبل كل الأشياء، وفيه إتحدت كل الأشياء. وهو رأس الجسد، أي الكنيسة، الذي هو البداية، بِكرٌ من الأموات، ليكون جديراً لأخذ المكان الأول في كل شئ. لأنه فيه سُرَّ الأب جداً أن يَحلَّ كل المِلءِ فيه، وأن يصالح من خلاله كل الأشياء لنفسه، جالباً سلاماً بدم صليبه، من خلاله، سواء ما على الأرض أو ما في السماء. ومع أنكم كنتم قبلاً أجنبيين وأعداء في الفكر، منهمكين في أعمال شريرة، فقد صالحكم الأن في جسد بشريته بالموت، ليُقدِّمكم أمامه قديسين بلا لوم ولا شكوى. إن إستمرتم فعلاً ثابتين وراسخين في الإيمان، ولم تتراجعوا عن رجاء الإنجيل الذي سمعتموه، والذي ننادي به في كل الخليقة تحت السماء، الذي له، أنا بولس، صرت خادماً. أفرح أنا الأن في ألامي لأجلكم، وأُقدِّم في جسدي مساهمتي بالنيابة عن جسده، الذي هو الكنيسة، في مِلءِ ما تعتازه شدائد المسيح.
لهذه الكنيسة صرت خادماً حسب تدبير الله الذي مُنح لي لأجل فائدتكم لإنجاز كلمة الله تماماً، هذا هو السر الذي أُخفي منذ الدهور ومنذ الأجيال الماضية، قد أُظهِر الأن لقديسيه، الذي أراد الله أن يُعرِّفهم ما هو غِنى مجدُ هذا السر في الأمم، الذي هو المسيح فيكم، رجاء المجد.
ونحن ننادي به، مُنذرينَ كل إنسان ومعلمينَ كل إنسان بكل حكمةٍ لكي نُقدِّم كل إنسانٍ كاملاً في المسيح. ولهذا الهدف أعمل أنا أيضاً، مجاهداً بحسب قوته التي تعمل كثيراً في داخلي (كولوسي 1: 16 ¨C 29)
وإذ قرأتُ هذه الكلمات، وكأنها مثل حقن دم في إنسان، كانت كل كلمة من الله أكثر قيمة من كنوز الأرض! فكرتُ، الى متى أسمح لنفسي أن أكون محمولاً بهموم العالم في الوقت الذي أملك كلمات الله. بدأت أفكرُ عن مدى الإستحقاق في إجتياز الأرض لسماعِ وعظة ممسوحة، لكني كنت في بعض الأحيان كسولاً بحيث لم أرِد سياقة سيارتي داخل المدينة. كنت مرتعباً لشدة إهمالي لكلمته فيما كنتُ واقفاً أمام الباب. هتفتُ، "يا رب، أنا متأسف جداً،"
وإذ قلتُ ذلك، إنفتح الباب. وفيما حدث ذلك، فكرتُ مليّاً كيف بدا الباب كئيباً وغير جذابٍ من على بعدٍ، لكنه عن قرب كان أكثر إتقاناً وجمالاً من أي باب على الإطلاق. فكرت أنه هكذا يحكم الناس على الكنيسة، وكيف كنتُ بنفسي في أغلب الأحيان أحكمُ عليها. أحببتُ الله لفترة طويلة، لكني أخفقتُ في محبة شعبه بالطريقة التي توجب علي ذلك.
"هكذا توبة ستفتح لك الباب لتتقدم نحو الهدف الذي دعوتك لأجله. لا تستطيع أن تُنجِز هدفك بعيداً عن شعبي. دعوتُ شعبي ليكونَ واحداً، والأن حان الوقت ليحدث ذلك. بعيداً عنهم، لا تستطيع أن تحيا ما رأيته في رؤيتك. عليك الأن الإنتقال من رؤية الطريق ومعرفة الحق لتكون إناءً لحياتي. لن تستطيع أن تفعل ذلك بعيداً عن شعبي. الأب قد أعطاك محبته لي، من أجل أن تكون محبته فيك، مثلما طلبتُ منه. الأن سأُعطيك محبتي لشعبي. ينبغي على رُسلي أن ينظروا شعبي كما أفعل وأن يحبونه كما أفعل. فيما تُحِبُّ كلمتي حقاً سينفتح لك الباب الى حيث مقصدك."
لم تلمس كلماته عقلي فقط، بل قلبي أيضاً. شعرتُ بكل كلمة قالها. فمجرد سماعي عن المحبة التي تكلم عنها تجاه شعبه نقل تلك المحبة إليَّ. تلك كانت المحبة الأعظم تختلف عن أي محبة شعرت بها على الإطلاق، لكنها كانت أيضاً مألوفة وقد كنت قد إختبرتها الى درجة ما عند سماعي وعظات ممسوحة. فكرتُ كيف إني في حماقتي كنت أقول في أغلب الأحيان أنه لن يكون هناك وعظة في السماء، ولكني أشعر الأن أنه لا يمكن أن تكون سماء بدون وعظات. حتى إني بدأت أتوق لكرازة كلمته.
"نعم سيكون هناك وعظات وتعليم في السماء. قصتي ستُقال طوال الأبدية، لهذا السبب يدعى الإنجيل الأبدي. أنا الكلمة وأنا الحق، وكلمات الحق ستملأ الخليقة الى الأبد. ستفرح كل الخليقة بكلمات حقِّي كما تفعل أنت أيضاً. حتى الملائكة يُحبون أن يستمعوا الى شهاداتكم، وسوف يسمعونها. سيُحِبُّ المُفتدون على الدوام أن يقولوا ويستمعوا الى قصص كفَّارتي. ولكن عليك الأن أن تقولها لأؤلئك الذين يمكثون في الظلمة. ستُحرِّر كلمة شهادتك الكثيرين. أؤلئك الذين يحبونني يُحبون كلمتي، يحبون قرائتها ويحبون سماعها. قد أُعطيتَ الحق الذي سيجعل الناس أحراراً، والتي هي كلمتي في قلبك. تقدَّم بكلمتي. تقدَّم وسترى قوة كلمتي."
المَنَّ
دخلتُ عبر الباب. حينما فعلت ذلك، إنذهلت إذ أن كل المجد الذي تواجدتُ فيه قبلاً قد إختفى. ساد هناك ظلام وعفونة، وكأنه قَبو قديم. كان محبطاً، لكني كنت ما أزال أشعر بقوة الكلمات التي قالها لي الرب، وقد نفعتني.
قال صوت من وسط الظلمة، "ما تشعر به هو مِسحة الروح القدس،"
سألتُ، "من أنتَ؟"
"هل عليك أن تسأل؟"
لم يكن الصوت كصوت الحكمة تماماً، لكنه كان صوتاً مألوفاً أخر. مع ذلك، علمت أنه كان الحكمة. تكيفت عيني تدريجياً على الظلام وكنت مندهشاً لرؤية صديقي القديم، النسر الأبيض، إذ بدأ الكلام.
"إنه يحيا فيك، لذا بإمكانك أن تثبت في كل ما اختبرته هنا تماماً كما فعلتَ في محضر الرب هنا. أعلم أنك صرتَ مدمناً الى محضره، وهذا صواب، ولكن عليك أن تتعلم هنا في أن تميزه في عدة أشكال. أولاً ينبغي أن تُميّز صوته في قلبك وبعدئذ حين يتكلم من خلال الأخرين.
"هذا ما تعرفه أنتَ قبلاً، واختبرته من وقت لأخر، ولكن ليس كما ينبغي أن تعرفه الأن. لن يكون أبداً بعيداً عنك ويمكنك أن تجده دوماً بسهولة. سيقودك دوماً الى الحق. فقط بالروح القدس يمكنك أن ترى وتعرف أيَّ شئ أو أيَّ واحدٍ بالطريقة التي هم فيها فعلاً. في الأزمنة التي أمامنا، سنُفنى إن لم نتبعه عن كثب."
فقلتُ، "أنا أعلم أن ذلك صحيح لأني سمعت الحكمة يتكلم من خلالي. هل أنت هنا لتريني الطريق؟ إنني بالكاد أُبصِرُ في هذا المكان."
أجابني،
"سأتي إليك من وقت لأخر لأقول لك عن إشارات الطريق التي ستدعك تعرف أنك ما
زلت على الطريق الصحيح، ولكن يجب أن يقودك الروح القدس. أنا أيضاً سأساعدك لتدرك
كيف يقودك في أماكنٍ مختلفة، ولكن ينبغي أولاً أن أقول لك عن المَنَّ لكي تستطيع
أن تحيا."
فقلتُ، "المَنَّ! هل تعني مثل المَنَّ التي أكله الإسرائيليون في البرية؟ هل
هذا ما نأكله هنا؟"
أجابني،"كل الذين ساروا مع الله عاشوا عليه منذ البداية. المَنَّ الذي أكله الإسرائيليون فيما كانوا في البرية كان نُبوَّة. سيعطيك الرب المَنَّ الطازج كل يوم. فكما غطى الرب الأرض بالمَنَّ كل يوم لأجل إسرائيل فيما كانوا في البرية، يغطي الأرض كل يوم شعبه بالحق. في كل طريقٍ تلتفت إليه ستجده. حتى في وسط الظلمة والكأبة، كلمته ستحيط بك، وستتمكن من جمعه. هؤلاء الذين طُرحوا في السجون الداخلية سيستقيظون ليجدونه كل يوم. هؤلاء الذين يعيشون في القصور الفخمة سيجدونه أيضاً كل يوم. ولكن مَنَّ الرب رقيقٌ وخفيف كالندى، وبسهولة يُداس عليه. ينبغي أن تكون رقيقاً وخفيف القلب لكي تراه."
الرسالة الحيّة
إستمر النسر في كلامه، "يتكلم الرب كل يوم الى كل فرد من شعبه. لا يستطيعون العيش بالخبز وحده، بل ينبغي أن تكون لديهم الكلمات التي تخرج من فمه. هذه ليست الكلمات التي تكلمها في الماضي، بل أنها الكلمات التي يتكلمها إليهم يومياً."
"الكثيرون ضعفاء لأنهم لا يعلمون كيف يجمعون المَنَّ الذي يعطيه الرب لهم كل يوم. إنهم يضلِّون لأنهم لا يعرفون صوته. لكن شعبه يعرف صوته، ويتبعوه لأنهم يميزون صوته. المَنَّ هو خبز الحياة الذي يُعطى لكل فرد من شعبه كل يوم. عليك أن تعرف كيف تُميّزه، وأن تساعد شعبه أن يُميِّزه. حينما يذوقونه كما تذوقهُ أنت الأن، فإنهم سيبحثون عنه كل يوم بمثابرة. لا تقلق عن تدخير الطعام أو الماء، بل تعلّم أن تُبصِر وتتناول المّنَّ الذي يعطيه الرب يومياً. هذا سيحفظك حينما تخفق بقية الأشياء.
"ما كُتب في الكتاب المقدس هو اللحم الذي يعطيه لنا الرب، ولكن المَنَّ وجِدَ في رسالته الحيَّة، أي في شعبه. سيتكلم إليك كل يوم من خلال شعبه. ينبغي أن تفتح قلبك الى الطريقة التي يتواجد فيها الرب في شعبه إن وجب عليك تناول المَنَّ السماوي. فما قاله لأورشليم، قاله لنا: ¢لن تروني الى أن تقولوا، مبارك هو ذاك الأتي بإسم الرب!¢ فذلك كان يتكلم عنه حينما سار على الأرض، كما يتكلم عن الطريق الذي يمشي فيه الرب على الأرض الأن من خلال شعبه. فيما تكبر محبتنا للمَنَّ، تكبر محبتنا لبعضنا البعض. إن كبِرتَ في المحبة، فالمَنَّ الذي يقدمه لك الرب لن يكون أبداً مذاقه عتيقاً أو تافهاً لك، بل سيكون جديداً كل صباح.
"مَنَّ الرب قد يأتيك من خلال كلمات صديق قريب أو من أحد أفراد شعبه الذي عاش في زمانٍ قبلك فيما تتأمل في كتاباتهم. كما سيتكلم إليك من خلال أؤلئك الذين لا يعرفونه، لكنك ستعرف أنه أرسلهم إليك. ستميّز مَنَّ الرب حينما تتخطى الى أبعدٍ حين تحاول سماع كلماته وتطلب سماع الكلمة، فهي الرب نفسه. ليس فقط سماع كلماته، بل سماع صوته الذي سيقودك في الطريق الذي ينبغي عليك الذهاب فيه. الكثيرين يعيدون الكلمات التي قالها الربُّ، ولكن مَنَّه هو الكلمة التي يتكلمها الأن.
"نحتاج الى لحم مُركَّزٍ كما هو مكتوب في الكتاب المقدس لكي نبني أنفسنا ويكون لنا الإناء لجمع مَنَّه. تقوَّى على اللحم لكلمته المكتوبة، ولكن أيضاً نمّي مذاقك لمَنَّه. اللحم لكلمته المكتوبة ستبنينا وتُعِدّنا لما هو قادم، ولكن ستسندنا المَنَّ لما هو أتٍ علينا.
"الكلمات التي قيلتْ لك من قبل القديسين في قاعة الحكم كانت مَنَّ مِن الرب. كما أن شعبه مَنَّه للعالم. المَنَّ هو خبز الحياة، هو الكلمات الحية التي يتكلمها الى شعبه يومياً والتي تُقال من خلال شعبه. ما هو مكتوب قد دوِّنَ ولا يمكن تغييره. فالمكتوب هو مرساةٌ لنفوسنا. على أية حال، كتاب الحياة ما زال مكتوباً. والرب يكتب فصلاً جديداً في كتاب الحياة عن كل نفس تأتي إليه."
نصر أم هزيمة
"المكتوب في الكتاب المقدس هو مُسوَّدة لمكان إقامته الذي يبنيه وسط الناس. المكتوبُ هو الشهادة عن الطريق التي يعمل فيها الرب من خلال الرجال والنساء الذين إفتدائهم. شعبه هم الأواني لكلمته الحية وهم شهود للعالم بأن كلماته ليست مجرد تاريخ، بل ما تزال حية ولا تزال تعطي حياة. إن أردت معرفة كلماته، عليك أن تعرف كِلا المكتوبُ ومَنَّ الربِّ. المكتوبُ هو خططه الأبدية التي لن تتغير والتي ينبغي أن نعرفها لنسير في طرقه. أما مَنَّهُ فسيعطيكَ القوة لتسير كل يوم. وهذا صار لكي تكون لنا شِركة مع بعضنا.
واستمر النسر، "إن سرنا في النور كما هو في النور، فلنا شِركة مع أحدنا الأخر العديد من رسله لا يعرفون بعدُ أنهم إستُخدِموا بهذه الطريقة. لا يعرفون في أغلب الأحيان متى يتكلم من خلالهم. وأؤلئك الذين يتكلم إليهم نادراً ما يُميِّزون صوته. ينبغي أن يتغير كل هذا. شعبه مَدعُوٌّ ليكون في وحدةٍ معه في كل ما يعمله، ولكن لا يتواجد إلا القليل ممن يعرفون صوته. لذلك فهم نادراً ما يتبعونه في الطريق الذي يريد أن يقودهم فيها. فهو يريد الأن أن يعرِفَ كل شعبه متى يتكلم من خلالهم أو إليهم. تماماً كما محادثة موثوقة بين جنرال عسكري وجنوده يمكنها تقرير نتائج معركة، هكذا قوة محادثته مع شعبه ستقرر نصرتهم أم هزيمتهم في الأيام القادمة.
"إنه يُعِدُّ الأن العديد من رُسله الذين سينطلقوا برسائله. كما أنهم سيُعلِّمون شعبه ليعرف صوته ويعرفَ طرقه. ينبغي أن تستقبل رُسله كما وكأنك تستقبل الرب نفسه. سيُقرِّرُ نجاحُ خِدمتهم نهوضَ أم سقوط العديد من شعبه."
فكرتُ للحظة أنه إن كان يُرسِلهم الرب، فبالتأكيد لن يكونوا بحاجة الى مساعدة. لكن ذلك جلب توبيخاً صارماً من النسر، الذي إستطاع أيضاً تمييز أفكاري.
"لا تفكر بتلك الطريقة! سقط العديد من شعبه بسبب ذلك الوهم! يستطيع الرب أن يفعل كل شئ بدوننا، لكنه إختارنا لنعملها من خلالنا. نحن تجهيزاته الواحد للأخر. الرب أرسل ¢المُساعِد¢ ليحيا في شعبه، لذلك فهو ينوي لشعبه أن يستلموا مساعدتهم من خلال أحدهم الأخر. لا تنسى ذلك أبداً. لهذا السبب يُعطينا مَنَّنا من خلال أحدنا الأخر. فهو صمم كل شئ لكي يتوجب علينا محبته فوق كل شئ، ولكن علينا أيضاً أن نحب الواحد الأخر. نحتاجه أكثر من كل شئ، لكننا نحتاج أيضاً الواحد للأخر. بهذه الطريقة، نحتفظ بتواضعنا لكي يثق بنا بنعمته وقوته."
أجبته، "إني متأسف. فأنا أعلم كل ذلك جيداً، ولكني أميل الى نسيانه بعض الأوقات."
قال النسر، "الأوقات التي نسيتَ فيها هذا كانت أكثر كلفة عليك مما تحتاج الى معرفته في هذا الوقت، لكن إن نسيت هذا في المستقبل فسيكون أكثر كلفة مما ستتمكن من إحتماله. نحن نحتاج الى الربِّ أكثر من كل شئ، لكننا أيضاً نحتاج الى جميع شعبه. ففي شعبه سنكتشف ¢المُساعِد¢، ذاك يقودنا الى كل الحق والذي يقودنا الى الإبن.
"الرب يُطلق الأن رُسله. سيكون البعض مُسنين وحكماء. وسيكون البعض شباباً ذو خبرة قليلة، لكنهم سيعرفون صوته. كما أن العدو سيُطلِقُ رُسله لزرع الإرباك. هذا أيضاً جزء من تدريبنا. سينخدع البعض بِرُسل العدو لبعض الوقت، وسيعاني البعض خسارةً بسببهم، لكن أؤلئك الذين يحبون الرب وحقه لن ينخدعوا بهم لفترة طويلة. أؤلئك الذين يحبون الرب وحقه سيعرفون الحق. أؤلئك الذين إنخدعوا لفترةٍ سيتعلَّمون من ذلك، وسيعملون على كشف المُخادعين في الأيام القادمة.
"بعضاً من الذين كانوا أكثر إنخداعاً في السابق صاروا الأقوى في الحق بسبب حكمتهم. الحكمة هي أن تعرفُ صوته وتتبعه. أؤلئك ليس من السهل صرف إنتباهِهم عنه ثانية. لا تحكم على الأخرين بسبب ماضيهم، بل بما صاروا عليه. أؤلئك الذين تبِعوا الحكمة ستتغير ضعفاتهم الى نقاط قوة. ليس هناك من هو أقوى أو أكثر جدارة بالأهمية من أؤلئك الذين يعرفون صوته ويتبعونه.
"ينبغي علينا أن لا نتوقف عن تشجيع شعبه لمعرفة صوته. ينبغي علينا أن نطلب من أنبيائه أن يواجهوا ويكشفوا الأنبياء الكذبة. علينا أن نحمِل هذه الرسالة الى النهاية. أُرسلنا لنساعد في بناء وسائل إتصالات الرب مع أؤلئك الذين سيكونون جنوده في المعركة العظيمة القادمة. ينبغي على جميع شعبه معرفة صوته. سيباغتنا الوقت حينما ينخدع كل الذين لا يعرفون صوته من قبل الظلمة. أؤلئك الذي يعرفون صوته بسبب معرفتهم للرب لن ينخدعوا."
فيما كان النسر يتكلم، إستمرت كلماته في إغتسالي تماماً مثلما فعلتْ حينما أتت في محضر الحكمة. لم أستطع رؤية الرب، لكني كنت أعلم أنه حاضر وأنه هو الذي كان يكلمني. مع أني لم أستطع رؤيته في ذلك المكان، إلا أنه كان لي صفاء عظيم في الذهن أمكنني إدراك ذلك. كنتُ دوماً أشعر أنه لدي ذاكرة ضعيفة جداً، ومع أن الرب كان يقول الأن أكثر مما قاله لي سابقاً، بدا لي وكأني أستطيع أن أتذكر كل كلمة قالها، حتى حينما كانت تأتي من خلال شخص أخر. حينئذ علمتُ أن هذه كانت قوة الروح القدس التي جلبت كل الأشياء الى ذاكرتي. في الربِّ، سواءً ناظراً الى الماضي أو الى المستقبل فهذا لا يختلف عن النظر الى الوقت الحاضر. فيما كنتُ أفكر بذلك، إستمر النسر في كلامه:
"هذا المكان يبدو عتيقاً وقديماً بسبب قلة الهواء المنعش الداخل فيه لفترة طويلة. أنتَ وجدتَ الباب ودخلت فيه. ذات الباب الذي قادك الى هذا المكان يمكن أن يقودك راجعاً الى قاعة الحكم. ما الذي إستلمته في قاعة الحكم؟"
أجبتهُ، "حِكمة وفِهم،"
أجاب النسر، "بكلمةٍ واحدةٍ، أنتَ إستلمتَ نِعمةً. عرش الحُكم هو أيضاً عرش النعمة. تستطيع بكل جرأةٍ الذهاب الى هناك في أي وقتٍ."
حينما قال ذلك، إلتفتُ لأنظر الباب الذي كان خلفي. إستطعتُ الأن رؤية جماله، فقد كان أعظم مما رأيته حينما دخلتُ قاعة الحكم. فتحتهُ ودخلت من خلاله ثانية.
الدعوة
نظرتُ الى الحكمة، فأدار وجهي لأتمكن ثانية من النظر الى القاعة العظيمة. فجفلتُ لرؤية الواقفين خلفي إذ كانوا جميع الذين كنتُ قد إلتقيتُ بهم سابقاً هناك. وفوجئت بزيادة تألقهم أكثر مما مضى.
قال الحكمة، "لم يتغيروا. أنتَ الذي تغيرت. إنفتحتْ عيونك لترى أكثر مما إستطعت رؤيته سابقاً. كلما إستطعتَ رؤيتي بوضوح أكثر، كلما ستكون قادراً على رؤيتي في الأخرين."
نظرتُ نحو بولس الرسول. كان فخماً يفوق الوصف. كانت له سلطة ووقار عظيم، لكنه في نفس الوقت كان منعماً بالتواضع حتى إني موقِنٌ أن أحقر قرويٍّ أو خاطئ سيشعر بالراحة تماماً حين يقترب إليه. غمرتني الرغبة في أن أكون مثله. ثم نظرت الى الأخرين وشعرت وكأنهم جميعاً أكثر عائلة وأصدقاء تماسكاً على الإطلاق. يستحيل عليّ الوصف كم أحببتهم وكم أحبوني. ليست هناك رِفقة على الأرض تقارن بها، ولكن الأفضل ما على الأرض بطريقة ما هو تذوقٌّ مبدئي لما هو هناك. ليس هناك تصنّع أو إفتخار بالنفس أو ألقابٍ. كل واحد يعرف الأخر تماماً، والمحبة كانت مصدرُ كل فكر. بدت الأبدية مع هذه العائلة بأنها أفضل مما كنت أتصور على الإطلاق. أردتُ بإلحاحٍ أخذهم جميعاً معي، لكني علمت أنه ليس بإمكانهم مغادرة أماكنهم الحالية.
أجاب الحكمة ثانية لأفكاري، "سيكونونَ معك كما أنا معك. تذكر، إنهم سحابة الشهود العظيمة. حتى عندما لا تراهم فإنهم أقرب إليك أكثر مما هم الأن. كل الذين خدموني منذ البداية هم جسد واحد، وهم أيضاً سيكونون معك لِما هو أتٍ، ولكني سأكون فيك."
تسائلت كيف أن أي شئ إختبرناه في الأبدية قد يكون أفضل مما هو موجود هنا في قاعة الحكم. أتى الحكم من كل فكرٍ صار متجلياً. فلم يكن حكمٌ لعقوبة بل تحرير، في حال عدم وجود محاولةٌ لإخفاء أي شئ. أتت الحرية مع كل شئ كان منيراً لذلك كانت هناك رغبة لكل قلب متصدع لأن ينكشف. كانت المحبة هكذا عظيمة لدرجة إني عرفتُ أن كل شئ سيتغطى ويصبح صحيحاً.
إستمر الحكمة، "كل شئ تشعرُ به في محضري هو حقيقي. التقارب والمحبة التي إختبرتها هنا مع إخوتك هي حقيقية. أنتم جميعاً واحِداً فيَّ، وستكبر في هذه المحبة فيما تكبر فيَّ. وفيما تفعل ذلك، فإن ذات المحبة ستساعد الأخرين للدخول في الحرية التي إختبرتها هنا. حينما يقبل شعبي الذي يسير على الأرض حُكمي المُنصِف، فإنهم سوف يسيرون في حرية ستجعلني قادراً أن ألمس العالم بمحبتي.
"ليست رغبتي أن يهلك أحد أو أن يعاني فقداناً حينما يأتون الى هنا. رغبتي أن الجميع يحكموا على أنفسهم كي لا يتوجب عليَّ أن أحكم عليهم. لهذا السبب فإن أحكامي مزمعة على المجئ الى الأرض. إنها أتية في أمواج متزايدة، لكي ما يؤمن العالم ويتوب. كل صوتِ بوق سيكون مدوياً أكثر من الذي سبقه. فهو عمل رُسلي أن يساعدوا العالم لأن يفهم صوت الأبواق.
"تذكر أن الذين ينبغي عليَّ السير معهم على الأرض هم أيضاً أعضاء جسدي. لم يتمجدوا بعد، ولكن ينبغي أن تراهم فيما هم مدعوين لأن يكونوا، وليس كما يبدونَ الأن. ينبغي أن تحبهم وترى فيهم السلطة والنعمة التي تراها الأن في المتواجدين هنا. تذكر أن أؤلئك الذين تسير معهم على الأرض ينظرونك كما تنظرهم. ينبغي عليك أن تتعلم أن لا تنظر إليهم بحسب مظهرهم الحالي، بل تنظر ما سيصيرون عليه.
"فقط أؤلئك الذين يَحيون بأحكامي ويمكثون معي كحكمتهم أنا يستطيعون رؤية سلطتي في الأخرين. مع ذلك، لا تجاهد لتجعل الناس يَرون سلطتي فيك. لا تقلق كيف ينظر إليك الأخرون ما أنت عليه، إعتنِ فقط في أن تميز الأخرين كما هم وتراني فيهم. حينما تصبح قلقاً بخصوص كيف يراك الأخرون، ستفقد سلطتك. حينما تصبح السلطة هدفك، ستبدأ في فقدان السلطة الحقيقية. أنتَ تعرف الخدمة والسلطة التي أعطيتها لك، لذلك لا تسأل الناس أن يدعوك بحسب مركزك، بل بإسمك. ثم سأجعلُ إسمك أعظم من مركزكَ.
"في مملكتي، السلطة تأتي مِن مَن أنتَ، وليس ما هو لقبُكَ. خِدمتك هي عملك، وليست مرتبتك. تكتسب المرتبة هنا بالإتضاع والخدمة والمحبة. فالشماس الذي يُحِبُّ أكثر هو أعلى من الرسول الذي يحب أقل. قد يستخدم الأنبياء على الأرض لِهَزِّ الأمم، أما هنا فيُعرَفون بمحبتهم. هذه هي أيضاً دعوتك، بأن تحب بمحبتي وتخدم بقلبي. ثم سنكون واحداً."
العبادة في الروح
فيما كنتُ أستمعُ الى الحكمة، إستصعب عليَّ إدراك أي فردٍ، حتى هذه السحابة العظيمة من الشهود، لأن يكون تواقاً لسلطة أو منصب في محضره. بدا لي أنه في كل لحظة قضيتها هنا، كان تعظم الرب أكثر فأكثر في المجد والسلطة، وعلمت أن رؤيتي عنه كانت لا تزال محدودة. فكما أن الكون يتمدد بسرعة وليس هناك إدراك لإتساعه، هكذا سيتمدد الإعلان عن الربِّ طوال الأبدية.
سألته، "كيف يمكن أن يُمثِّلك أيُّ إنسان على الإطلاق؟"
"حينما يُحرِّك أبي أصبعه الصغير، يرتعد الكون كله. لكي تهزَّ الأمم بكلمات لن يترك ذلك إنطباعاً على أحدٍ ممن يمكثون هنا. ولكن حين يُظهِرُ حتى الأقل من بين إخوتي على الأرض محبة، فذلك يجلب إبتهاجاً لقلب أبي. حينما تغني الى أبي حتى أكثر الكنيسة إتضاعاً بمحبةٍ حقيقية في قلوبهم، فإنه يُسكِتُ السماءَ كلها ليستمع إليهم. هو يعرف أنه ليس أحد يستطيع أن يتمالك نفسه سوى أن يعبدوا الرب حينما ينظرون مجده هنا، ولكن حينما يغني إليه أؤلئك الذين يحيون في ظلمة دامسة وصعوبة بقلوب حقيقية، فإن ذلك يلمس قلبه أكثر من قدرة جميع ربوات السماء لفعل ذلك.
"في العديد من المرات، نغمة حزينة من الأرض سببت بكاءَ فرحٍ لجميع السماء وهم ناظرين أبي قد لمسته النغمة. قلة من القديسين تناضل للتعبير عن هيامهم بالرب مما جعلت الرب في كثير من المرات يبكي. في كل مرة أنظر إخوتي يلمسون أبي بعبادة صادقة، تجعل الألم والحزن الذي عرِفته على الصليب يبدو ثمناً صغيراً توجب دفعه. لا شئ يجلب لي إبتهاجاً أكثر من عبادتكم لأبي. ذهبت الى الصليب لكي تتمكنوا من عبادته من خلالي. ففي هذه العبادة، أنتم وأبي وأنا جميعنا واحِدٌ."
في كل ما اختبرته لحد الأن، كانت العاطفة الصادرة عن الرب فيما كان يتحدث إليَّ أعظم من أيِّ شئ إختبرته على الإطلاق. كان صوته هادئاً، ولكن ما قاله لي عن العبادة جاء من داخل أعماقه فقد كان أكثر مما إستطعت إحتماله. علمتُ إني كنت أسمع أعظم محبةٍ لإبن الله، وهي رؤية إبتهاج أبيه. بإمكان العبادة الحقيقية الأتية من المؤمنين المُعِدّين للقتال والمناضلين على الأرض أن يكون تأثيرها أكبر من أي شئ أخر.
لأول مرة، أردتُ للوقت مغادرة ذلك المكان، حتى مع كل أمجاده، لمجرد إيجاد مدخلٍ حتى ولو الى خدمة صغيرة من الأكثر كأبة على وجه الأرض. كنتُ مغموراً بهذه الحقيقة أنه بإمكاننا أن نلمس الأب. فردٌ واحد يعبد الرب من الأرض خلال هذه الفترات المظلمة تعني أكثر للأب من الملايين الملايين الذين يعبدونه في السماء. بإمكاننا أن نلمس قلب الأب من على الأرض في هذا الوقت وكأنه ليس لنا أبداً القدرة على فعل ذلك ثانية! فوجئت بهذا الشئ حتى إني لم أدرك كيف سقطت مطروحاً على الأرض. بعدئذ دخلتُ وكأنه في نوم عميق.
رأيتُ الأب. كان هناك ملايين وملايين يخدمونه. كان مجده بهكذا عظمة وقوة حضوره بهكذا رهبة حتى إني شعرت أن كل الأرض لا تقاس حتى بحبةِ رملٍ قدامه. حينما سمعتُ مرة صوته، شعرت كذرّةٍ واقفة قدام الشمس، لكني حينما رأيته، علمت أن الشمس كانت كذرّةٍ قدامه. كانت المَجرَّات كستائر حوله. كان ردائه مؤلفاً من ملايين وملايين من النجوم الحيّة. كل شئ في محضره كان حيّاً: عرشه وتاجه وصولجانه. علمت أنه بإمكاني المكوث قدامه الى الأبد وعدم الإكتفاء من الإعجاب. لم يكن هناك هدفٌ أعظم في الكون من عبادته.
ثم إعتزم الأب على شئ واحدٍ. توقفت السماء كلها وصارت تراقب. كان الأب ينظر الصليب. محبة الإبن لأبيه التي لا زالت تعصرني من خلال كل الألم والظلمة التي جاءت عليهِ لمستْ الأبُ بهكذا عمقٍ حتى أنه بدأ يهتز. حينما فعل ذلك، إهتزت السماء والأرض. حينما غلق الأب عينيه، زادت السماء والأرض ظلاماً. كان إنفعال الأب بهكذا عظمة حتى إني لم أفكر إني سأتمكن من البقاء على قيد الحياة إن نظرت ذلك المشهد أكثر من اللحظات الوجيزة التي نظرته فيها.
ثم وجدت نفسي في مكانٍ مختلف، ناظراً خدمة عبادةٍ في بناية كنيسة صغيرة. فكما يحدث في إختبار نبويٍّ، بدا لي وكأني أعرف كل شئ عن كل واحدٍ في غرفة الكنيسة المناضلة. كان الجميع يختبرون تجارب قاسية في حياتهم، لكنهم لم يكونوا يفكروا بها. لم يكونوا يصلوا من أجل إحتياجاتهم. كان الجميع يحاولون تنظيم أغاني حمدٍ الى الرب. كانوا سعداء وفرحهم كان صادقاً.
رأيت السماء، وكل السماء كانت تبكي. ثم رأيت الأب ثانية وعلمت لماذا كانت السماء تبكي. كانت تبكي بسبب الدموع في عيني الأب. هذه الجماعة الصغيرة التي بدت منسحقة والمكونة من أفراد مناضلين حرّكت الربُّ بهكذا عمقٍ حتى جعلته يبكي. لم تكن دموع الألم بل دموع الفرح. حينما رأيت المحبة التي شعر بها الأب تجاه أؤلئك القلة من العابدين، لم أستطع كبح دموعي.
لم يشدُّني شئ مما إختبرته أكثر من ذلك المشهد. كانت عبادة الرب على الأرض أكثر مرغوبة لي من السكن في كل مجد السماء. علمت إني أُعطيت رسالة تساعد في تهيئة القديسين للمعارك المتبقية على الارض، ولكن لم يعني ذلك شيئاً لي الأن مقارنة بمحاولة إبلاغهم كيف يمكننا أن نلمس الأب. فالعبادة الصادقة التي يُظهرها أكثر المؤمنين إتضاعاً على الأرض قد تجلب فرحاً لكل السماء، ولكن حتى أكثر من ذلك، قد تلمسُ الأب. لهذا السبب يفضل الملائكة أن تُعطى لهم وصاية على مؤمنٍ واحد على الأرض عن أن يُعطوا سلطة على مجرّات نجوم متعددة.
رأيت يسوع واقفاً بجانب الأب. وناظراً الى فرح الأب فيما كان يُراقب الجلسة الصغيرة للصلاة. ثم التفتَ إليَّ وقال، "هذا هو السبب لذهابي الى الصليب. فإعطاءَ أبي فرحاً ولو للحظة واحدة يُستَحقُ كل شئ. بإمكان عبادتكَ أن تجعله فرحاً كل يوم. حين تكون عبادتك وسط الصعوبات فإنها تلمسه أكثر من جميع عابديه في السماء. هنا، حيث يُرى مجده، لا تستطيع الملائكة من إمساك أنفسها عن عبادته. حينما تعبدونه دون رؤية مجده في وسط تجاربكم، هذه هي العبادة بالروح والحق. الأب يبحث لنفسه عن هكذا عابدين. لا تضيعوا تجاربكم دون أن تستفيدوا منها. إعبدوا الأب، ليس لِما تريدون إستلامهُ، بل لجلب فرحٍ له. لن تستطيع أبداً أن تكون أقوى من جلبكَ فرحاً له، لأن فرح الرب هو قوتكم."
الخطية
ثم وجدتُ نفسي واقفاً بجانب الحكمة ثانية. لم أسمعه يتكلم منذ فترة، لكني لم أكن محتاجاً الى كلام. ما احتجت إليه هو أن أدع ما رأيته لأن تتشبع به نفسي. كنت أجاهد الى سبر غور العمل العظيم الذي أُعطي لنا لنكون من عابدي الأب. الشمس بالنسبة له كانت كذرّةٍ والمجرات كحبةِ رمل. مع ذلك كان يستمع الى صلواتنا، مبتهجاً بنا بإستمرار وهو ينظرنا، وكنتُ موقناً أنه كثيراً ما كان حزيناً لأجلنا. كان أكبر بكثير عما يستطيع عقلُ إنسان تصوره، لكني كنت أعلم أيضاً أنه أكثر الكائنات عاطفةً في الكون كله. بإمكاننا لمسَ الله! كل إنسانٍ له القدرة أن يجعل الربَّ فرِحاً أم متألماً. كنتُ أعرفُ ذلك لاهوتياً، لكني الأن عرفت ذلك بطريقة بددت الأهمية الظاهرية لكل شئ أخر.
ليست هناك طريقة أتمكن بكلمات أن أُبلِّغكم ذلك على الإطلاق، لكني علمتُ أنه عليَّ أن أقضي الزمان الذي أُعطي لي على الأرض لكي أعبده. كان ذلك وكأنه إعلانٌ جديد: إذ بإمكاني فعلاً جلبَ فرحٍ لله! بإمكاني جلب فرحٍ ليسوع! أدركُ ما كان يعنيه الرب حينما قال أنه لهذا السبب ذهب الى الصليب. كل تضحيةٍ تُستحق ذلك لمجرَّد لمس قلبه للحظة. لم أرِد إضاعة ثانيةٍ أخرى حينما علمتُ أنه بإمكاني أن أقضيها في عبادته. كان واضحاً أيضاً أنه كلما تعظمت التجارب أو الظلمة نتيجة العبادة، كلما تلمسه أكثر. وهذا ما جعلني راغباً لتقبُّل تجاربٍ كي أتمكن من عبادته من خلالها.
في ذات الوقت، شعرتُ مثل أيوب حينما قال أنه بالرغم من أنه عرِف الرب سابقاً بسماع الأُذنِ، فإنه حينما رأه تاب في الغبار والرماد. كنتُ مثل فيليبس الذي كان مع يسوع لفترة طويلة ومع ذلك لم يكن يعرف أنه كان ينظر الأب من خلاله. يا ترى ما مدى تعجب الملائكة من غباوتنا! ثم تكلم الحكمة ثانية:
"تذكر أنه حتى الأدنى من صغاري له الإمكانية أن يلمسُ قلب الأب. ذلك وحده يجعل أهميتهم أعظم من أي ثمن. كنتُ سأذهب الى الصليب ثانية من أجل واحدٍ فقط من هؤلاء. كما إني أشعر بألامكم. أعلم عن تجاربكم لأننا نشاركها معاً. أشعر بفرحٍ وألمِ كل نفسٍ. لهذا السبب لا زلت أتشفع بإستمرار من أجلكم جميعاً. سيأتي زمان حين تُمسحُ كل الدموعِ من كل عين. سيأتي زمان حين يُعرفُ الفرح ثانية. الى ذلك الحين، سيُستخدم الألم. لا تبددوا تجاربكم. إذ في وسط تجاربكم ستأتي أعظم العبادة وأعظم تعبير لإيمانكم الذي يَسُرّنا.
"ينبغي أن تراني في قلبك، وينبغي أن تراني في الأخرين. ينبغي أن تراني في العظائم والصغائر. فكما أظهرُ مختلفاً في كل واحدٍ من الذين يقفون أمامك الأن، سأتي إليك في أناس مختلفين. سأتي إليك في ظروفٍ مختلفة. هدفكَ الأعظم هو أن تُميّزني وتسمع صوتي وتتبعني."
فيما إلتفتُ لأنظر نحو الحكمة، لكنه لم يعد موجوداً هناك. إستطعت أن أشعر به في كل مكان، لكني لم أستطع رؤيته. ثم إلتفتُ الى الوراء ناظراً الشهود الذين كانوا واقفين خلفي. لقد كان واقفاً هناك. لم أستطع رؤيته، لكني بطريقة أكثر عمقاً مما كنت أعرفها سابقاً، إذ كان متواجداً في كل واحد منهم.
فيما بدأ الإصلاحي يتكلم، كان صوت الإصلاحي لكني إستطعت سماع صوت الحكمة فيه فيما كان يتكلم إليَّ مباشرة.
"إنه دوماً فينا. إنه فيك. إنه في أؤلئك الذين ينبغي عليك الرجوع اليهم. سيظهر لك من وقت لأخر لك ثانية، ولكن ينبغي أن تعرف ذلك حينما لا تراه في حال ظهوره، تستطيع أن تُميّزه بصورة أفضل في مكان إقامته، أي في شعبه. إنه الحكمة. هو يعرف كيف، متى، ومِن خلال مَن يتكلم إليك. فالذين يتكلم خلالهم إليك هم جزءٌ من الرسالة. تذكر ما قاله لك حينما بكى على أورشليم: ¢من الأن وبعد لن ترينني حتى تقولي: مبارك الأتي في إسم الرب.¢ لن تراه إلا إن تمكنت من رؤيته في أؤلئك الذين يُرسلهم إليك."
أجبتهُ، "من السهل لي أن أراه وأسمعه فيك. لكنه ليس بتلك السهولة مع أؤلئك الذين هم على الأرض الذين لم يتمجدوا بعد."
قاطعني أنجلو، "لم يكن القصد أن يكون الأمر سهلاً هناك. للبحث عنه هو دعوةُ الملوك الذين يحكمون معه. أؤلئك الذين يحبونه ويحبون الحق سيبحثون عنه أكثر من بحثهم عن أعظم الكنوز أو الإنتصارات."
خاضعاً له
تكلم شخصٌ لم أستطع تمييزه وهو متقدمٌ نحو الأمام. "الدعوة الأعظم هي أن تخضع للرب تماماً، وهذا ينبغي معرفته"
ثم قال لي عن إسمه. صعقتُ لتواجد هذا الشخص في رفقة القديسين. كان من المنتصرين العظماء، لكني كنت أصدِّق دوماً أنه فعل ضرراً أكثر لإسم المسيح من أيِّ واحدٍ أخر.
إستمر في الكلام، "أنا أيضاً وجدتُ نعمة الصليب قبل نهاية وقتي. لستَ فقط راجعاً لكي تنتصر لأجله، بل لكي يهزِمكُ هو. حين تُكرِّس نفسك دوماً بإستسلامك له، فإنه سيستخدمك لتنتصر في إسمه. الإنتصار الحقيقي هو أن تأسر قلوب الناس بالحق الذي يجعلهم أحراراً. أؤلئك الذين يتبعونه عن كثب سيُستخدموا بشكلٍ أكثر لإخضاع الأكثرين وسيكونوا أعظم الملوك. على الأرض، أؤلئك نادراً ما يدركوا أنهم إنتصروا على أي شئ. ولن يروا ما أنجزوه فعلاً حتى يصلوا الى هنا. أؤلئك الذين يَدَّخِرون كنوزاً عظيمة على الأرض، فإنه حتى الكنوز التي يمكن إعتبارها روحية، لن يحرزوا إلا على القليل هنا."
قال بولس، "على الأرض لن تستطيع كيل الكنوز الأبدية. حينما توفيتُ، بدا لي وكأن كل ما أعطيت حياتي لبنائه على الأرض قد تهدم. الكنائس التي أعطيتُ حياتي لنهظتها قد سقطت في الإرتداد، حتى أقرب أصدقائي قلبوا ضدي. حتى إني في أيامي الأخيرة شعرتُ بكوني خائباً."
إستمر الفاتح العظيم في الكلام، "نعم، حتى حينما حسبتُ بولس كأبٍ روحي، كما يفعل معظمنا ههنا. فإنه معظم الذين خرجوا سالمين من المعركة العظيمة سيكونوا من المنتصرين في النهاية لأنهم كانوا أوفياء للوقوف مع الحق. لن تقيس الثمر الروحي الحقيقي بصورة صحيحة فيما أنت على الأرض. بإمكانك فقط قياس نجاحك الحقيقي بمدى قدرتك على النظر الى الرب بوضوحٍ أكثر، بمدى معرفتك لصوته، وبمدى محبتك للإخوة."
ثم تكلم بولس ثانية، "لأشهر عديدة قبل إعدامي، شعرتُ وكأني خائب. على أية حال، في يوم إعدامي تذكرتُ إستفانوس الذي رأيته يموت عند قدمي لسنواتٍ مضت. ذِكرى النور الذي كان في وجهه في ذلك اليوم ساعدني لأتحمل تجاربٍ كثيرة. شعرت دوماً أنه بطريقة ما مات لأجلي لكي أتمكن من رؤية النور الحقيقي. علمتُ إني لو توفيت مثل إستفانوس، حتى وإن كان كل ما فعلته لا جدوى منه، فذلك إنما ضمانٌ لي بأن حياتي لن تذهب سُدى. كنت شاكراً جداً بأني فعلاً كنتُ أموت من أجل الإنجيل، حتى وإن لم تبدو خدمتي قد أنجزتْ الكثير.
"وفيما إنكشف هذا الإعلان لي، إنكشفت النعمة، فكانت أيامي الأخيرة على الأرض الأكثر روعة على الإطلاق. ثم أدركتُ فيما كنتُ أعيش وبصدقٍ كنتُ أحاول أن أموت يومياً عن رغباتي من أجل خدمة الإنجيل، وفي كل وقت كنتُ أنكر نفسي، كانت هناك بذور أبدية تُزرع مع إني لم أستطع رؤيتها في العالم المؤقتِ. وبتواجدي هنا، أستطيع الأن أن أدرك أن ذلك حقيقي بالتأكيد. عليك أن لا تحاولَ الحُكمَ بالثمرِ الذي تراه على الأرض، بل إفعل ما ينبغي أن تفعله لكونه صحيحاً.
"مع ذلك، أكثر من إنتاجك للثمر، فإن دعوتك ينبغي أن تكون لمعرفة الرب. إن بحثت عنه فإنك ستجده دائماً. فهو قريب على الدوام لأولئك الذين يقتربون إليه. يرغب العديد من الناس محضره، لكنهم لا يقتربون إليه. ينبغي أن تفعل أكثر من أن ترغبه. عليك أن تطلبه. هذا جزء من دعوتك. ليس هناك هدف أعظم. ستقاس نصرتك بمدى بحثك. ستكون بقربه على الدوام بحسب إرادتك. ستكون نصرتك في الحياة بحسب رغبتك إليه."
ثم رفع بولس يده ووجهها نحوي. "أُعطيت الكثير، فسيُطلب منك الكثير. حتى وإن دفنتَ العديد من المواهب التي أودِعت إليك، فإنه يمكنك أن تنجز أكثر بكثير من الأخرين، لكنك ستخفق في مُهِمَّتِك. ينبغي أن لا تقيس نفسك أبداً مع الأخرين، بل واصل السعي، باحثاً عنه بشكل أكثر. ورغم ذلك، مع كل المجد الذي سينكشف لك، لا تنزع ذاك الرداء عنك!"
الزرع والحصاد
نظرتُ الى رداء التواضع الذي كان يشير إليه. في كل ذلك المجد الذي كنت أنظره الأن، بدا لونه الكئيب متضاعفاً. كنتُ مرتعباً إذ وجدت نفسي بهكذا ردائة في محضرهم. أزحتهُ لأنظر الدرع تحته، حينئذ رأيت الدرع أكثر تألقاً مما رأيته سابقاً. كان متألقاً جداً وكلما زدت في إزاحة الرداء، كلما بهت لون المجموعة التي كانت قدامي بسبب سطوع الدرع. على أية حال، صرت أشعر بإرتباكٍ أقل لسطوع درعي المشرق. ثم قررتُ نزع الرداء كله فيما تواجدت هناك كي لا أشعر على الأقل بأني مُشمئزٌّ منه وأنا في محضر هكذا مجد.
كان هناك سكوتٌ، ثم وقفتُ هادئاً لعدة لحظات. لم أكن قادراً على رؤية أي شئ بسبب إشراق درعي. لم أفهم لماذا لم يكن بإمكاني السماع أيضاً. ثم دعوتُ الحكمة.
سمعتُ صوته، "ضع ردائك عليك،"
ففعلتُ كما قال لي ثم بدأتُ أنظر بدون وضوح شكل القاعة العظيمة ثانية. فقلتُ، "يا رب، ماذا حدث لكل واحدٍ؟ لماذا كلُ واحدٍ منهم مُعتمٍ بهذا الشكل؟"
"لا تستطيع رؤية شئ هنا دون إرتدائك ذلك الرداء."
فأحتجتُ شاعراً بيأس فظيع، "لكني أرتديه الأن، وما زلت غير قادر على النظر جيداً،"
"في كل وقتٍ تنزع الإتضاع عنك ستكون عمياناً للنور الحقيقي، وستحتاج الى وقتٍ لتكون قادراً على النظر ثانية."
مع إني بدأتُ أنظر المجد ثانية، لكنه لم يكن شيئاً مقارنة للسابق. رجعتْ رؤيتي ثانية، ولكن ببطء شديد. كنتُ حزيناً لدرجة لا يمكن وصفها بكلمات.
سألتُ، "أين بولس. أنا أعلم أنه كان مزمعاً أن يقول لي شيئاً مهماً."
"حينما نزعت ردائك، غادر كل الذين كانوا هنا."
"لماذا؟ لماذا يغادرون لمجرد نزعي الرداء؟ كنت مرتبكاً لمظهري. هل أزعجهم ذلك؟"
"لا لم ينزعجوا. علموا أنه لن يكون بإمكانك أن تراني أو تسمعني من خلالهم بدون الرداء، لذلك كان عليهم الرجوع الى أماكنهم."
صرتُ أكثر حزناً لسماع تلك العبارة.
فقلتُ، "يا رب، أنا أعلم أن ما أرادوا قوله لي كان مهماً جداً. هل سيرجعون؟"
"صحيح أنه فاتك إعلان مهمٌ بنزعك لردائك. كان الرداء سيساعدك، ولكن إن تعلمتَ الدرس أن لا تنزع الرداء ثانية على الإطلاق، خاصة للسبب الذي دفعك لفعل ذلك، فإنك تكونَ قد تعلمتَ درساً مهماً أخر."
توسلتُ، "يا رب، أعتقد إني تعلمت ذلك الدرس. لست أتذكر إني شعرت بهكذا رداءة على الإطلاق. ألا يستطيعون العودة الأن والمشاركة بما لديهم لأجلي."
"كل الحقِّ وكل الحكمةِ أتية مني. أتكلمُ من خلال الناس لأن الناس الذين أتكلم من خلالهم هم جزء من الرسالة. إن بقيتَ متضعاً يكفي لإرتداء ردائك، فإني سأتمكن من التكلم إليك في مجد. متى نزعت الرداء عنك، فإنك ستصبح عمياناً وأصماً روحياً. سأتكلم دوماً إليك إن دعوتني، ولكن ينبغي أن أُغيّر الطريقة التي أتكلم بها إليك.
"لستُ أفعل ذلك لمعاقبتك، ولكن لمساعدتك على إستلام رؤيتك بأكثر سرعةٍ. سأُعطيك الرسالة التي كنتُ مزمعاً إعطائها من خلال هذه الشهود، ولكن ينبغي أن تُعطى من خلال أعدائكَ. ستأتي الرسالة مع ضيقات وعليك أن تنحني جداً لكي تستلمها. هذه هي الطريقة الوحيدة التي فيها ستستلم رؤيتك ثانية بالسرعة التي تحتاجها. لأن ما هو أتٍ، ينبغي أن تكون قادراً على رؤيته.
الإنكسار
لا يُحتملُ الحزن الذي شعرتُ به. علمتُ أن ما بإمكاني إستلامه بهكذا طريقة مجيدة إنما يأتي من خلال ضيقات شديدة، بل الأسوأ من ذلك هو أن المجد العظيم الذي شاهدته قبل بضع دقائق إنما هو مُعتمٌ الأن كثيراً.
ناشدته، "يا رب، إني متأسف لما فعلتُ. أعلم الأن كم كان خطأً. فإن وجع هذه الغلطة صعب جداً إحتماله. أليست هناك طريقة لأكون مغفوراً وأستلم رؤيتي ثانية؟ لا يبدو صواباً أن لحظةً واحدة مِن الإفتخار تؤدي الى هكذا دمار،"
"أنت مغفورٌ. ليس هناك شئ تستحق عليه العقاب. لقد دفعتُ الثمن لهذه الخطية ولبقية الخطايا. إنك تحيا بنعمتي. ليس ذلك بسبب ناموس البِرِّ. فبسبب نعمتي توجد عواقب للخطية. ينبغي أن تحصد ما تزرعه وإلا فإنه ليس بإمكاني إئتمانك بسلطتي. حينما أخذ إبليس خطوته الأولى الى الأنانية والإفتخار، تبعته حشود من ملائكتي الذين إئتمنتهم لسلطته. حينما سقط أدم، عانت حشود كثيرة. فلأؤلئك الذين أعطيهم هكذا سلطة، تتواجد مسؤولية مماثلة. ليست هناك سلطة حقيقية بدون مسؤولية. المسؤولية تعني أن الأخرين سيُعاقبوا إن انحرفت أنتَ. فللأخطاء عواقب.
"كلما أُعطيت سلطة أكثر، كلما كان بإمكانك إما أن تُعين أو تسئ الى الأخرين بأعمالك. فإزالة عواقب أعمالك ستكون بنزع المسؤولية الحقيقية. أنتَ جزءٌ من الخليقة الجديدة التي هي أسمى بكثير من الخليقة الأولى. أؤلئك الذين دُعيوا ليحكموا معي قد أُعطوا أعظم مسؤولية من الجميع. قد دُعيوا الى مركزٍ أعلى مما كان يشغلها إبليس. فهو كان ملاكاً عظيماً، لكنه لم يكن إبناً. قد دُعيتَ لتكون وارثاً مشتركاً معي. فكل حياتك، مع الضيقات والإعلانات، هي جميعاً لقصد تعليمك مسؤولية السلطة.
"لكل درسٍ ينبغي أن تتعلمه، هناك طريقة سهلة أو أكثر صعوبة. تستطيع أن تتضِع بنفسك بسقوطك على صخرة وإنكسارك، أو أن الصخرة تقع عليك وتسحقك مُحوِلةً إياك الى مسحوق. في كِلا الطريقتين، النتيجة النهائية هي الإنكسار، أي الإتضاع. سبَّب الإفتخارُ السقوطَ الأول مِن النعمة، وسبَّب في معظم السقوط منذ ذلك الحين. ينتج عن الإفتخار دوماً مأساة وظلمة ومعاناة. فلأجلك ولأجل أؤلئك الذين دُعيت لخدمتهم بسلطتك، لن أساوِمَ على التأديب الذي ينبغي أن تتعلمه بحصادك ما زرعته.
"تباهى أدوناي لأن والده، داود الملك، لم يؤدِّبه. تذمَّر سليمان لكونه لم يستطع الإفلات من أي شئ بدون تأديب والده. مع أن سليمان فكّر أنه لم يعامل بإنصافٍ إلا أن داود لم يكن ظالماً. فقد كان داود يعلم أن سليمان كان مدعواً ليكون ملكاً. أؤلئك الذين يستلمون تأديباً أكثر هم المَدعوين ليسيروا في سلطة أعظم.
"كنتَ مَعمِياً لأنك خرجتَ من الإتضاع وبدأت تتجه نحو الإفتخار. لا يمكن للإتضاع أن يجلب إرباكاً. حينما بدأتَ تشعر بالإرباك، ذلك لأنك بدأت تتحرك في الإفتخار. دع الإرباك ليكون تحذيراً بأنك إنحرفت عن الحكمة. لا تدع الإرباك يسيطر على أعمالك. إن حدث ذلك، فإنك ستسقط الى مدى أكبر. تعلَّم أن تقبل كل فرصةٍ لإتضاعك، عالماًَ إني سأكون حينئذ قادراً أن أئتمِنك بسلطة أكبر.
"لا تتباهى في قوتك، بل في ضعفاتك. إن تكلمت جهاراً أكثر عن إخفاقك من أجل مساعدة الأخرين، فسأكون أكثر جهاراً لعرضِ إنتصاراتك. ¢لأن كل من يَرفع نفسه سيتضع، وكل من يتضع نفسه سيُرفع.¢"
عرفتُ أن كل ما قاله كان صحيحاً. فأنا بنفسي كرزت ذات الرسالة مرات عديدة. فكرتُ كيف أن بولس حذَّر تيموثاوس لأن ينتبه لتعليمه، فشعرت بأني محتاج الى رسائلي أكثر من الذين أكرز إليهم. كنتُ خجلاً بسبب الدرع المشرق الذي كنت أرتديه أكثر من الرداء المتواضع. سحبتُ الرداء الى الداخل بأكثر شدة. حينما فعلت ذلك، زاد إشراق عيني وكبرت رؤيتي بروعة أكثر، مع أنها كانت لا تزال بعيدة مما كانت عليه قبلاً.
إلتفتُ لأنظر الباب. كنتُ خائفاً من دخوله ثانية، على الأقل حتى أستلم رؤيتي بصورة أكثر.
قال الحكمة، "ينبغي أن تذهبَ الأن،"
سألتُ، "ما الذي في الجهة الأخرى؟"
أجاب، "مكانك المقصود،"
كنت أعلم أنه عليَّ الذهاب. كنت لا أزال متأسفاً لعدم إمكاني دخول الباب ثانية بالرؤية التي كانت لي سابقاً لأني علمتُ الأن مدى الظلمة المتواجدة في الجهة الأخرى، لإني سأكون أكثر إعتماداً على الأخرين لفترة من الوقت، لذا فكرتُ وعاهدت نفسي بأن أثق في الرب وليس برؤيتي. وفي الحال أشرقت عيني بصورة أكثر. فبدأتُ أنظر ثانية الى القاعة العظيمة لأرى إن كانت مشرقة كما كانت في السابق، ولكني قررت عدم فعل ذلك. كنتُ مُصمماً أنه من الأفضل الأن أن لا أنظر الى الوراء. ثم ظهر الحكمة بجانبي، وكان متألقاً كما في السابق. تنظمت عيني للنور بسرعة حتى إني تمكنت من النظر إليه. لم يقل شيئاً، لكني إكتسبت شجاعة عظيمة وأنا أنظره. مع ذلك، كنت لا أزال أشعر بالندم لأني لم أسمع كل الرسالة التي كنتُ على وشك إستلامها من سحابة الشهود.
"إن تحول الندم للوصول الى حلٍّ، ستكون التجربة أسهل بكثير. حينئذ حينما يظهر أعدائك لتمجيد أنفسهم عليك، فإنك ستكبر أكثر في السلطة للهيمنة على أعدائي."
حينما نظرتُ ثانية الى الباب، أصابتني دهشة. رأيت ما كان على الباب بصورة أكثر مما رأيته في السابق، ففكرت للحظة بأني أتواجد عند باب مختلف. بدا لي أن الباب كبِرَ في جماله مختلفاً عن بقية الأبواب التي رأيتها قبلاً، حتى في هذا العالم. كان مكتوبٌ عليه ألقابٌ مجيدة بالذهب والفضة. كان هناك مجوهرات جميلة لم أعرفها، لكنها كانت جذابة جداً لدرجة إستصعب عليَّ صرف النظر عنها. كانت جميعها حيَّة. ثم أدركتُ أن الباب بأكمله كان حيّاً.
فيما كنت أتفرسُ في الباب، وضع الحكمة يده على كتفي وقال، "هذا هو الباب الى منزلي." حين قال ذلك، فهمتُ في الحال أن الإنجذاب الذي شعرت به تجاه هذا الباب كان ذات الإنجذاب الذي شعرت به حينما نظرت الى الحكمة. بطريقة ما عرفت أنه الحكمة بنفسه. فكرت ملياً، كيف بالإمكان أن شيئاً بهكذا جمال يبدو عادياً وكئيباً. أجاب الرب سؤالي الذي لم أتفوه به.
"لا تستطيع رؤية منزلي كما هو الى أن تراني في شعبي. وإذ بدأتَ تسمعني فعلاً من خلال شعبي قبل خلعك لردائك، كانت عينيك مفتوحتان لتنظر منزلي كما هو. هناك يُرى مجد أعظم مما تستطيع رؤيته الأن. هذا هو الباب، لكن هناك أشياء أخرى. حينما ترجع الى عالمك الذي يخصك، هذا هو ما ينبغي أن تفتش عنه. هذا هو ما ينبغي أن تقود شعبي إليه. هذا هو ما ينبغي أن تجاهد من أجله، وهذا هو ما ينبغي أن تساعد لبناءه: منزلي."
فيما كانت يد الحكمة عليَّ، مشيتُ نحو الباب. لم ينفتح الباب، لكني عبرت من منتصفه. لا أستطيع أن أُصدِّق أنَّ هناك لغة بشرية تستطيع أن تصف ما شعرت به عند عبوري من خلاله. رأيتُ مجد كل الدهور في لحظة واحدة. رأيتُ الأرض والسماء كواحِدٍ. رأيتُ ربوات الملائكة، ورأيتُ ربوات من الشعوب والتي كانت أكثر تألقاً من أي ملاك رأيته. كانوا جميعاً يخدمون في منزله.
أعرف الأن الدعوة. مع إني عانيتُ الكثير، لكني علمت أن تفويضي قد بدأ الأن.